الفصل الثاني

السياسة تتولى زمام السيطرة

كانت عبارة «السياسة تتولى زمام السيطرة» شعارًا ماويًّا معروفًا لتذكير الثوار الثقافيين بأن الاختيار السياسي الصحيح وقوة الإرادة لتطبيقه من شأنه أن يقيم حركتهم أو يهدمها. وهناك ثلاث سمات في الأدوات القياسية للسياسة الصينية ساهمت في عزلها عن الممارسات الغربية.

السمة الأولى أن الحزب الشيوعي كان يحكم بدون أي تحديات جادة، ليستمتعوا بذلك بتفوق لوَّث التمييز المنهجي الذي وضعه الغرب بين الحزب والدولة. لقد كانت الصين تفتقر لرئيس دولة يقف في صف الثورة الثقافية، ولم يَبدُ ذلك مهمًّا. فعلى الرغم من الخطاب البلاغي للثورة الثقافية والفوضى المصدق عليها من قبل الدولة، استمر الحزب الشيوعي في التوسع والانتشار، ليزداد عدد أعضائه من ١٨ مليونًا في عام ١٩٦٦ إلى ٣٤ مليونًا في عام ١٩٧٦. غير أن الخوف من تأثير البرجوازية أغلق المنظمات التابعة للحزب المخصصة للشباب والمرأة، وأغلقت الأحزاب الديمقراطية الثمانية المزعومة التي كانت تشارك الشيوعيين الحكم ظاهريًّا.

السمة الثانية أن الحزب كثيرًا ما كان يتجه لأساليب بيروقراطية من الطراز الأول، لا سيما الحملات الجماهيرية التي كانت تنظَّم خارج الهيئات الحكومية الطبيعية، والتي كانت تحشد المسئولين والناشطين والمواطنين العاديين لتحقيق هدف بعينه. وقد شملت هذه الحملات أهدافًا متباينة مثل محو أمية المرأة، أو الإصلاح الزراعي، أو القضاء على البلهارسيا (وهو مرض كبدي معدٍ ينتشر في جنوب الصين)، أو كتابة الشعر، أو بناء مصاهر الأفنية الخلفية للصلب خلال مشروع القفزة الكبرى إلى الأمام. كانت الحملات تجيد تسخير الموارد، ولكنها لم تكن بارعة للدرجة في توزيعها، كما قد توحي المصطلحات العسكرية. لقد كانت أكثر ملاءمة لبعض المهام عن غيرها، ولكنها تركت البيروقراطية — عمدًا — في حالة من التحفز والدفاعية. وفي بعض النواحي كانت الثورة الثقافية نفسها حملة ممتدة تألَّفت من حركات أصغر لها بؤرة تركيز أضيق.

أما السمة الثالثة، فتتمثل في قيام الحزب بوضع نظام لتصنيف المواطنين الصينيين وفقًا لمكانتهم السياسية. ويرجع أصل نشأة هذا النظام إلى حملات الإصلاح الزراعي الكبرى التي صاحبت الثورة، عندما كان الحزب بحاجة إلى معرفة ملاك الأراضي من الفلاحين الذين لا يملكون أية أراضٍ حتى يتسنى مصادرة الموارد من مجموعة لمنحها للأخرى. أصبحت التصنيفات رسمية وبيروقراطية، ولكن بتداعيات مهمة بشكل واضح. وبعد الإصلاح الزراعي، تم تجميد التصنيفات الطبقية، ثم ورِّثت للأبناء بعد ذلك. وجاءت حملات سياسية لاحقة عززت هذه التصنيفات؛ إذ اتجه الحزب «للفلاحين المعدمين» أو أبنائهم لدعمهم ومساعدتهم، فيما نظروا شزرًا لمن كانوا يومًا ما ملاك أراضٍ وأبنائهم. وأضيفت تصنيفات أخرى بناء على المكانة السياسية وليس على أساس الموقف الاقتصادي السابق. وعندما بدأت الثورة الثقافية، تألفت «العناصر الخمسة السوداء» من أصحاب الأراضي، والفلاحين الأثرياء، ومعارضي الثورة (الذين قاوموا الحكم الشيوعي)، والعناصر الفاسدة (الذين ارتكبوا جرائم)، واليمينيين (الذين راحوا ضحية لحملة عام ١٩٥٧ ضد منتقدي الحزب).

تقدم الثورة الثقافية موسوعة لمعالم السياسة الصينية، بما في ذلك المثالية، والشغب، والمؤامرات، والشبكات الاجتماعية، والروتين البيروقراطي، والسجن السياسي، والعرائض، والرشاوى، والمال الانتخابي، والدراما، وصفقات الغرف الخلفية، والانقلابات العسكرية. وكان لهذه الممارسات أثرها في تضخيم وتشويه النظم السياسية الروتينية العادية في الصين. ولعل من الموضوعات التي توضح مدى التعقيد السياسي الذي اتسمت به الحقبة: التصنُّع، وتأليه ماو، والتمرد، والنظام، والحزبية.

(١) التصنُّع

كانت سياسات الثورة الثقافية متصنِّعة بشكل مخجل؛ فقد كان الممثلون الشعبيون للحركة يتخذون وضعًا معينًا لترك تأثير درامي على مسرح التاريخ. فمع اكتساب الحركة قوة جاذبة، أكد ماو تسي تونج ذو الاثنين والسبعين عامًا على حيويته وعلى أواصر العلاقة التي تربطه بالشباب من خلال جولة سباحة روَّج لها ترويجًا مكثفًا في نهر يانجتسي بمقاطعة ووهان، ليقفز خلفه سريعًا ملايين الشباب في الماء تقليدًا له. وبعد سلسلة من المؤتمرات الشعبية لملايين من الحرس الأحمر في ميدان تيانامين، والتي حظيت بتنظيم دقيق، رفض بعض الشباب المشاركين غسل أيديهم التي لامست الزعيم، في مشهد مؤثر. وكان ماو يدعو مؤيديه للعمل من خلال إشارات مهيبة ومبالغة، مثل ارتداء شارة الحرس الأحمر وكتابة «ملصقه ذي الأحرف الكبيرة» تقليدًا لمئات الآلاف من الإعلانات الثورية التي كان شباب الثوار يلصقونها على الحوائط في الأماكن العامة.

وفيما بعد، عندما أراد ماو كبح جماح الحرس الأحمر، قدَّم بكل فخر ومباهاة هدية من ثمار المانجو لأعضاء فريق دعاية من العمال، وهو مؤسسة جديدة أنشئت لاستعادة النظام من خلال فرض السلام على الجماعات الطلابية المتحاربة. كانت المانجو، التي قُدِّمت لماو من قِبَل زوار باكستانيين، إشارة إلى أنه بحلول عام ١٩٦٨، صار الزعيم يقدِّر أفراد الطبقة العاملة الذين يعتمد عليهم تقديرًا أعلى بكثير من الطلاب المفتقرين للنضج. وقد شملت النشوة المنظمة للحظة محاولات روَّج لها بشكل جيد لحفظ الفاكهة حتى يمكن تقديرها وتعظيمها للأبد، مثلما كان مسيحيو العصور الوسطى يقدسون عظام القديس.

كان لمثل هذا التصنُّع هدف عملي تمثَّل في نشر رسائل سياسية شاملة في مجتمع لا يحظى سوى بوسائل محدودة للتواصل، وغالبًا ما كانت وسائل الإعلام فيه، والتي سيطر عليها الحزب، تبدو مملة ورتيبة. وقد شجَّعت الكثير من الأحداث التي تم تنظيمها على النحو الأمثل أشكالًا جديدة للمشاركة من قِبَل الشباب، الذين كانوا يحيون حياة سياسية سلبية ونظامية، وكان التواصل معهم يتم عن طريق الرواد الصغار (بالنسبة للطلاب في سن المرحلة الابتدائية) الذين كانوا حينئذ موصومين، أو اتحاد الشباب الشيوعي (بالنسبة لطلاب المرحلة الثانوية) الأكثر انغلاقًا. وقد قام الحرس الأحمر بإعادة تمثيل المسيرة الطويلة التي قام بها الجيش الأحمر بين عامي ١٩٣٤-١٩٣٥، مستنسخين رحلة مقدسة ربطتهم بشكل أقوى بالزعيم ماو وذكرى الثورة. كان هناك طقوس إذلال علني للمسئولين المطاح بهم، والذين كانوا يُجبرون على الوقوف لفترات طويلة مرتدين في بعض الأحيان قبعات طويلة ولافتات، وكانوا يتعرضون لإساءات لفظية وأحيانًا جسدية. لم يكن الهدف هو تحطيم نفوذ العتاة فحسب، وإنما أيضًا أن يثبت لدى الثوار الشباب أنهم قد تم تمكينهم.

fig2
شكل ٢-١: ماو تسي تونج يرتدي شارة الحرس الأحمر لإظهار دعمه لشباب الثوار.1

لم يقتصر الجمهور المحب لإيماءات الثورة الثقافية الدرامية على الشباب الصينيين، بل امتد ليشمل النخب السياسية نفسها. فقد ساعدت حرارة العروض على إرسال رسالة إلى أعضاء النخبة المذبذبين بأنه لا بد من عدم مقاومة الحركة. إن جميع الدول توظف الطقوس، والتقاليد السياسية للصين غنية باستخدام الدراما التمثيلية. فالكثير من الفلاحين الثائرين الذين ثاروا على الأباطرة السابقين كانوا يرتدون ملابس الأوبرا بينما يقدمون أنفسهم لمؤيدي سلالاتهم الحاكمة الجديدة المزعومة، مما أوحى بوجود خط مُنفِذ بين الدراما التمثيلية والحركة السياسية.

غير أن الجانب المتصنع للثورة الثقافية كان يعني ما هو أكثر بكثير من مجرد التلاعب. فقد كانت الحركة الماوية تعكس وتحفز أحداثًا شديدة الدرامية بكل الأشكال، وتعد المؤامرة، والخيانة، والإنقاذ، والتمرد من بين الأفكار الرائعة لأي نوع من الفنون. والكثير من الحلقات المستحوذة على الانتباه لدراما الثورة الثقافية كانت تؤدى بقليل من التوجيه، إن وجد، وهو ما كان يتعارض في الغالب مع تفضيلات مديري المسرح الماوي.

كانت قضية لين بياو، على سبيل المثال، مثيرة ودرامية، ولكن ليس بالطرق المرغوبة لدى الماويين. فعندما أراد ماو بشكل واضح أن يضع بعض القيود على السلطة السياسية للجيش، رأى لين، خليفة ماو المفترض، نفوذه ينهار؛ فقام إما بتنظيم مؤامرة اغتيال حمقاء وانقلاب عسكري، أو أن ابنه (وهو الأكثر منطقية)، لين ليجو، قد قام بذلك نيابة عنه. وعلى الأرجح أن لين بياو لم يكن يعرف الكثير عما كان يحاك له، وربما يكون قد تم تخديره عندما تم وضعه على متن طائرة تحطمت في منغوليا في ١٣ سبتمبر ١٩٧١.

ولا تكمن الدراما في المؤامرة التي حيكت من قِبَل معسكر لين، وإفصاح ابنة لين عن المخطط لرئيس الوزراء شو إن لاي فحسب، ولكن أيضًا في التعامل الرسمي مع الحادث. وقد صُدم ماو ومجموعة الثورة الثقافية وانتابهم القلق خشية أن يحطم نبأ الحادث ثقة ملايين الصينيين في الثورة الثقافية. ومع قيام ماو بتطهير الرتب العليا في جيش التحرير الشعبي، ظهر مستوى الفوضى السياسية من خلال إلغاء العرض العسكري والاحتفال بالعيد القومي الذي يوافق الأول من أكتوبر (١٩٧١)، في واقعة لم يسبق لها مثيل.

أصبحت الدراما متمثلة في غياب دراما منظمة؛ إذ حاول الثوار الثقافيون تلفيق تفسير يوضح كيف أمكن «لأقرب رفاق ماو في السلاح» أن يخونوه. فقامت جهات السلطة المركزية بإعداد وثائق حاولت شرح الفضيحة، ولكن ربما ليس بالدهاء الذي فسَّرت به لجنة وارين في الولايات المتحدة حادث اغتيال جون إف كينيدي. فلم يتم إطلاع أحد في الأسبوع الأول سوى أعضاء المكتب السياسي، فيما انتظر المواطنون العاديون لما يقرب من عام، عندما انتشر الخبر عبر جميع أنحاء البلاد عبر نظام متطور وسري لتسريب المعلومات. وحدث ما كان ماو يخشاه؛ فقد اعتبر المؤيدون المتحمسون للثورة الثقافية قضية لين بياو هي تاريخ تحررهم من الأوهام. وفي هذه الحالة، عملت الدراما على إحباط التأييد للثورة الثقافية بدلًا من استثارة متحمسين جدد لقضيتها.

أما على مستوى سياسيي النخبة، فقد جلبت الثورة الثقافية دمارًا شخصيًّا وسياسيًّا لثلاثة من المطالبين بخلافة ماو، كان أولهم الرئيس ليو شاوشي، الذي انحدرت به الظروف من وريث محتمل لماو إلى الموت وحيدًا في عام ١٩٦٩ بسبب الإهمال الطبي. وكان في الوفاة البشعة للين بياو في عام ١٩٧١ تذكرة للجميع بأن الدراما السياسية للصين لم تتبع سيناريو مُحكمًا رغم كل شيء. أما الخليفة الثالث، فهو الراديكالي المدني وانج هونج وين، الذي رُقِّي «بسرعة الصاروخ» في سن الثامنة والثلاثين إلى نائب لرئيس الحزب، لتتم الإطاحة به بواسطة وزير الداخلية، هوا جوفينج، ويتم القبض عليه لاحقًا كأحد أفراد «عصابة الأربعة».

(٢) تأليه ماو

مع تزايد نفوذ ماو، أصبحت كلماته، وأفعاله، وصورته، مشربة بقدسية أشبه بالتأليه، حتى في عام ١٩٦٣، كان في إنتاج الجيش ﻟ «الكتاب الأحمر الصغير» الذي يضم مقتطفات من كتابات ماو، نذيرًا بشيء غير عادي. كذلك أعيد نشر أعمال ليو شاوشي من أجل الدراسة السياسية، ولكن توزيع أعمال ماو أصبح بمثابة تسونامي أيديولوجي. وكان كتاب «الأعمال الكاملة» المكون من أربعة مجلدات، من الأدوات الشهيرة في حفلات تقديم الجوائز للعاملين المثاليين، ومع خضوع الرفاهيات البرجوازية للمناقشة والتساؤل، أصبحت تقدم كهدية لحديثي الزواج. وقد تنوعت نسخ كتابات ماو بحسب الطبقة الموجهة إليها. فالطبعة الموجهة للموظفين الحكوميين من كتاب «قراءات مختارة من أعمال ماو تسي تونج» كانت أطول مرتين من الطبعة الموجهة للعمال والفلاحين، والتي كانت تحوى مقالات أقصر والمزيد من الحواشي التوضيحية. كذلك قدَّم الكتاب الأحمر الصغير اقتباسات بليغة تم ترتيبها بشكل عملي بحسب الموضوع لتقديم مادة خصبة لأي معلق، سواء أكان هاويًا أو محترفًا. وكان الحرس الأحمر يحملون نسخهم من الكتاب الأحمر الصغير كمرجع عملي في متناول اليد. حتى القادة الأقوياء كانوا يلوِّحون بكتبهم في المؤتمرات الجماهيرية الحاشدة، وكانوا يقتبسون أقوال ماو باستمرار، ولكن مع إضافة فارق سياسي تمثيلي طفيف. وكان الزعيم يتقاضى عمولات على أعماله، استخدمها فيما يبدو كتمويل للرشاوى السياسية، فيما يعد تمويلًا ذاتيًّا لبعض جوانب تأليهه.

وقع النشيد الوطني للصين، «أنشودة المتطوعين»، في غياهب المجهول مع كاتب كلماته تيان هان، وكان البديل غير الرسمي له هو «الشرق أحمر»، وهي قصيدة غنائية مأخوذة من لحن شعبي من شمال الصين:

الشرق أحمر، والشمس عالية في السماء.
لقد أنجبت الصين ماو تسي تونج.
إنه يعمل من أجل سعادة الشعب، وهو
المنقذ الأعظم للأمة الصينية.

وقد انهارت شعبية هذه الأغنية بعد عام ١٩٤٩. بل إن ماو ربما يكون قد فكر أنها بعيدة كل البعد عن التواضع، وتمثِّل أيضًا استخفافًا لا داعي له بالقادة الشيوعيين الآخرين. ولكنها عادت بدافع انتقامي في عام ١٩٦٦؛ إذ كانت تُغنَّى في اللقاءات المفتوحة، وتُبثُّ عبر مكبرات الصوت في الشوارع، وفي عام ١٩٧٠ تم بثها إلى أنحاء البسيطة كافة من أول قمر صناعي أطلقته الصين.

كانت الأغنية الأولى الأخرى للثورة الثقافية هي أغنية بوتييه ودي جيتر «نشيد الأممية»، التي لُحنت في عام ١٨٨٨، وهو النشيد الراديكالي الذي تغنَّى به الفوضويون، والشيوعيون، والديمقراطيون الاجتماعيون في جميع أنحاء العالم. وقد ترجمه تشو تشيو باي، رئيس الحزب الشيوعي في أواخر العشرينيات من القرن العشرين إلى اللغة الصينية. وخلال الثورة الثقافية، لم يلفت أحد الانتباه إلى التناقض بين «الشرق أحمر» والمقطع الثاني من «نشيد الأممية»:

لم يكن هناك يومًا أي منقذ للعالم
ولا آلهة، ولا أباطرة يُعتمد عليهم.
ولكي نصنع سعادة البشر
لا بد أن نعتمد على أنفسنا!

تنافست المؤسسات لإظهار ولائها لماو؛ فقامت الصحف بطباعة كلمات الزعيم بالمداد الأحمر، وكان من الممكن أن يؤدي سوء استخدام عدد الأمس من الجريدة بطرق قد توحي بازدراء تلك الكلمات المقدسة إلى نقد سياسي خطير. وكانت شارات ماو، التي كانت تُنتَج بالملايين، سرعان ما يتم جمعها وتداولها، وكأن اقتناء الكثير من الشارات قد يُظهر قناعة ثورية. كذلك كانت «رقصات الولاء» تمثِّل الموقف السياسي للشخص. وظهرت أغنيات جديدة كان من ضمنها مجموعة وضعت مقولات ماو على ألحان مناسبة. وكان صدى صيحات «يعيش الزعيم ماو» يدوي في الساحات العامة. وعززت الجرائد السينمائية، واللوحات، والملصقات، والتماثيل من تأليه ماو. وقد كانت الصين غارقة في المنحوتات التي تجسد الزعيم. كانت بعض هذه الأعمال ضخمة، وعلى الرغم من أنها لم تكن مثيرة للانتباه كعمل فني، فقد كان الهدف من ضخامتها هو الترويع أو التخويف. وهناك تماثيل أخرى نصفية أصغر لقائد الصين. وقد كان عرض صورته، سواء من قِبَل مدينة أو من قِبَل فرد، دلالة على الولاء والالتزام الخارجي — على الأقل — بسياساته.

في عام ١٩٦٦، حاز ماو سلطة معنوية هائلة على الشعب الصيني؛ فقد آمن الناس بأن أفعاله كانت بدافع تحقيق الخير للصين، والثورة، والاشتراكية. وقد نما تأليه ماو من منطلق هذا التبجيل التلقائي، والذي استغله الراديكاليون من أجل مصالح سياسية. ربما يكون ماو قد فكر أن هذا الإعجاب الشعبي هو استحقاق له، أو ربما يكون فقط قد أدرك فائدته في سحق خصومه، ولم يفعل الكثير من أجل منع حتى أكثر مظاهر تأليه ماو سفورًا أو الحط من شأنها. وعندما تمت الاستعانة بالهالة الضبابية التي اكتنفت تأليه ماو من أجل أهداف سياسية آنية، تقلَّصت سلطته المعنوية؛ فشتان الفرق بين أن يحارب ماو المثالي من أجل ثورة مثالية، وبين أن يقوم بطرد ليو شاوشي الفاسد من الحزب الشيوعي باعتباره منشقًّا.

fig3
شكل ٢-٢: المسئولون يتعهدون بالولاء لماو تسي تونج بالتلويح بالكتاب الأحمر الصغير الذي يحوي مقولاته. وخلف ماو بمسافة قصيرة يسير رئيس الوزراء شو إن لاي ووزير الدفاع لين بياو. ويزيد لين في إظهار ولائه بارتداء شارة ماو.1

في أحد العروض الغنائية الراقصة الخاصة بالثورة الثقافية في شيان، تم إهداء المؤدِّين تمثالًا نصفيًّا من الجبس لماو. وكانت تلك الهدية في سنوات الكتاب الأحمر الصغير والمؤتمرات الجماهيرية الحاشدة ترمز إلى الحماس الثوري المشترك. بعد أن نزل المؤدون خلف الستار، انزلق التمثال من بين أصابع أحد الموسيقيين ليسقط على الأرض حطامًا. لقد تحطم رأس ماو، أكثر ينابيع الحكم الثورية إجلالًا وتمجيدًا، وتحول إلى كومة من الشظايا الجبسية. صُدم المؤدُّون من التحطم المفاجئ لصورة الزعيم وانتهاك حرمتها، إلى جانب خطر الاتهامات السياسية الخطيرة التي ستوجَّه لهم. وفي صمت تام، تجمَّعوا في دائرة وجعلوا يسحقون حطام رأس ماو بأقدامهم ليتحول إلى تراب، وأدركوا أنهم قد أصبحوا شركاء في اتفاق غير معلن لإخفاء فعلتهم السرية.

لعل من أحد جوانب القيود المفروضة ذاتيًّا في الاحتفاء بماو، والتي تبدو مستغربة للغربيين، هو حرص الصينيين الشديد على تجنب صيغة «ماوية». فعلى الرغم مما هو بادٍ من أن مصطلحَي ماوية وماوي يعبران عن روح العصر، فقد تفاداهما الصينيون تفضيلًا للمصطلح الأقل ملاءمة «فكر ماو تسي تونج». كان مصطلح فكر ماو تسي تونج، الذي يعد مصطلحًا غير وافٍ في الصينية والإنجليزية على حد سواء، نوعًا من القيود؛ إذ يقاوم بشكل محدود التأكيد على أن ماو قد أسس «مذهبًا» جديدًا على غرار الماركسية أو اللينينية. وكان في هذا المصطلح الأقل ملاءمة إشارة إلى أن الأمر لا يتعدى كون ماو قد ورث الماركسية واللينينية وعمل على تطويرهما. ولكن لا يسعنا هنا إلا أن نرى قدرًا كبيرًا من التواضع؛ لأن فكر ماو تسي تونج كان يُعرف عادة بأنه «قنبلة ذرية روحانية».

شكَّلت الإدارة القائمة على تأليه ماو عالمها السياسي الخاص؛ فقد بنى لين بياو نفوذه السياسي الشخصي على استغلال صورة ماو. على سبيل المثال، حملت العديد من تماثيل ماو نقوشًا برونزية بخط يد لين بياو تمتدح «المعلم العظيم، والقائد العظيم، والحاكم العظيم، وقائد الدفة العظيم.» وبعد وفاته والتشهير به، لم يعد مسموحًا للين بالمشاركة في إشعاع وتألق الزعيم، وتم محو نقوشه. ومع اتخاذ الثورة الثقافية منحًى أكثر محافظة، تم أيضًا تعديل «فكر ماو تسي تونج» ليوائم احتياجات سياسية أقل ثورية. وكان بالإمكان التنقيب عن كتابات ماو الغزيرة بحثًا عن ذخيرة معلوماتية لإضفاء شرعية على البيروقراطية الحاكمة وكذلك دعم شباب الثوار.

انحسر تأليه ماو في السبعينيات تزامنًا مع انحسار الاستخدام الفعال للدراما من قبل ماو. فمع تدهور صحة ماو، أصبحت كلماته مبهمة وغامضة أكثر منها ملهمة. وركزت إحدى الحملات التي انطلقت في عام ١٩٧٥ على رواية «حافة الماء»، وهي رواية كلاسيكية عمرها خمسمائة عام تدور حول قُطاع الطرق الفلاحين. وفي تعليق مرتجل، قال ماو تسي تونج إن هذه الرواية المحببة إليه أبرزت مثالًا سلبيًّا ﻟ «أنصار الاستسلام». واستشهد بكلمات ماو في افتتاحيات الصحف، وبدأ مثقفو الأمة، الذين لم يزالوا يترنحون من صدمة السنوات الأولى للثورة الثقافية، في إجراء تحليلات موجعة للرواية، باحثين عن أدلة أو إشارات لتحديد السياسي الذي تمثِّله كل شخصية من شخصيات الثوار من الفلاحين. لم يكن ماو يتجه لمرحلة الخرف، ولكنه كان مصابًا بمياه بيضاء على العين، مما جعل القراءة مهمة صعبة، فأدلى بملحوظته لأكاديمي شاب مكلَّف بالقراءة له بصوت عالٍ. غير أن التعليق نُقل واستُخدم بشكل أخرق من قبل راديكاليي الثورة الثقافية.

وجاء زلزال تانجشان الكبير الذي وقع في عام ١٩٧٦ ليقتل أكثر من ربع مليون نسمة، وكان شكلًا آخر من أشكال الدراما غير المخطط لها. ورآه البعض فألًا حسنًا، فيما رآه البعض كارثة بدت نذير شؤم. وفي كلتا الحالتين، لم يكن بالإمكان السيطرة على المشهد أو إخفاؤه بدعوات «تعميق النقد لدنج شياو بينج بشأن أعمال الإغاثة».

(٣) التمرد

بغض النظر عن مدى التكلف في إيماءات قادة الصين، لا يجب أن يتخيل أحد أن ماو قد استحضر الثورة الثقافية من العدم بإشارة من إصبعه. لقد أطلقت الثورة الثقافية المرارة المتراكمة منذ عام ١٩٤٩، وساهمت التوترات الممتدة في انقسام النخبة السياسية بشأن الكيفية التي يجب أن تتعامل بها الصين مع إرثها الثوري وأعباء التنمية الاقتصادية. وقد كانت هذه التوترات ملموسة من قبل المواطنين الآخرين، إن لم تكن تبدو واضحة أحيانًا. وتسارعت وتيرة هذه التوترات مع تفاعلها مع العوامل الديموغرافية. فقد كان للسلام والرخاء أثرهما في زيادة أعداد الشباب الصيني، والانتشار السريع للمدارس كان يعني أن أعدادًا كبيرة من الشباب متعلمون ويطمحون لوظائف جيدة في مجالات بعيدة عن الزراعة. ولكن ثورة ١٩٤٩ نصبت مجموعة من القادة الشبان نسبيًّا. ومع ذلك ظل أغلب القادة في أماكنهم يعترضون سبيل فرص الترقي الوظيفي للجيل الأصغر. في الوقت نفسه، كانت المدارس والجامعات تعج بالمواطنين المحبطين والتعساء بشكل عام، على أثر حملة عام ١٩٥٧ المناهضة لليمينيين التي استهدفت المعلمين باعتبارهم «عناصر يمينية».

وهكذا كان من السهل على الماويين تعبئة الشباب في بداية الثورة الثقافية؛ فشارك معظم شباب الحضر الصينيين. وكانت الغالبية العظمى من الحرس الأحمر من طلاب المرحلة الثانوية. ويوجد فئة عمرية معينة من سكان الحضر الصينيين اليوم كانوا من الحرس الأحمر بشكل شبه مؤكد؛ فعضو الحرس الأحمر ذو الستة عشر عامًا ولد في عام ١٩٥٠. لم يكن تنظيمهم من قبل الدولة، ولكنهم وُجدوا بشكل عفوي، ليقوم الماويون بعد ذلك بتوسيع نطاق دعمهم السياسي، مما مكن الحركة من الانتشار بشكل أسرع.

كان من أحد أدوات الدعاية لدى الحرس الأحمر «الملصقات ذات الأحرف الكبيرة»، وهي مقالات سياسية في حجم الملصق كان يتم تعليقها على أحد الحوائط العامة. كان من الممكن أن تكون الملصقات ذات الأحرف الكبيرة عبارة عن مجادلات، أو إعلانات، أو مكاشفات عن السلوك السياسي السابق للمسئولين قيد الهجوم. وغالبًا ما كان الحرس الأحمر يلجئون للحلفاء الراديكاليين في الحزب من أجل تسريب الوثائق والمعلومات حسبما كتبوا. وقد كتب ماو تسي تونج معلقته ذات الأحرف الكبيرة — «اقصفوا المقار الرئيسية» — للتشديد على دعمه لحركة الحرس الأحمر الوليدة. وقبل ذلك بفترة طويلة، كانت المعلقات تدعم بصحف ومجلات الحرس الأحمر، المليئة بالبيانات الصحفية، والتي كانت خارج سيطرة الإعلام الذي يديره الحزب الذي كان لا يزال تحت سطوة المحافظين. كانت المعلومات التي يتم إفشاؤها دقيقة بشكل عام، يصاحبها تسجيلات لاجتماعات على مستوى رفيع واقتباسات غزيرة من الخطب التي تم إطلاق سراحها من ملفات الحزب. وكانت هذه المواد غالبًا ما تُقطع من سياقها أو تُعطى أسوأ تأويل ممكن، ولكن لم تكن تزيَّف هكذا ببساطة.

كانت مشاركة الحرس الأحمر عملًا سياسيًّا، ولكنها أيضًا كانت شكلًا من أشكال تمرد المراهقين، مما أتاح فرصًا لخبرات وتجارب كانت ستصبح ممنوعة. ولتيسير عملية «تبادل الخبرات الثورية»، قامت شبكة السكك الحديدية الصينية بتوفير وسائل انتقال مجانية للحرس الأحمر في خريف عام ١٩٦٦. وقد مكَّنت «السياحة الثورية» الشباب من السفر لأول مرة، وزيارة مدن بعيدة باسم الثورة. كانت نشوة الشباب هي الحالة المبدئية المسيطرة، دعمتها لغة صارمة ذات طابع عسكري؛ إذ كان الأعضاء السابقين لاتحاد الشباب المنحل في ذلك الوقت يعيدون تصور أنفسهم في تنظيمات على غرار «مجموعات مقاومة الراية الحمراء» و«محاربي ١٦ مايو الثوريين». وأحيانًا ما كانت مثل هذه المسميات المهيبة قناعًا يخفي تحته مجرد مجموعات صغيرة من الأصدقاء يجمعهم اهتمام مشترك بالرياضة أو الراديو. وكانوا يقوون عزيمتهم بواحد من الاقتباسات المفضلة لدى ماو من رواية «حلم الغرفة الحمراء»: «من لا يخشى الموت من ألف جرح، لديه الجرأة على طرح الإمبراطور من على صهوة جواده.»

انبثق قدر من العنف الأحمق للثورة الثقافية في بداياتها من حقيقة أن البلاد قد سُلِّمت فيما يبدو لعصابات من طلاب المرحلة الثانوية، دون أن يجرؤ أحد على كبح جماحهم خوفًا من شبهة معاداة الثورة. وقد شهد شهرا أغسطس وسبتمبر من عام ١٩٦٦ حالة هياج من قبل الحرس الأحمر، تخللها بحث عاصف عن أعداء خياليين. ففي بكين، أغارت فرق من الحرس الأحمر على أكثر من ١٠٠ ألف منزل بحثًا عن مواد رجعية معادية، وأجبروا المثقفين وبعضًا ممن كانت لهم مصادمات سابقة مع النظام على إصدار انتقادات ذاتية. وقام بعض أفراد الحرس الأحمر بضرب الناس بأبازيم الأحزمة، وتعذيبهم بالماء المغلي. وقد مات ١٧٠٠ شخص في بكين، فيما قضي سكرتير حزب تيانجين، وقائد أسطول بحر الصين الشرقي، ووزير صناعة الفحم نحبهم بعد اجتماعات النقد. وكان هناك حالات انتحار مشهورة بعد اعتداءات الضرب التي قام بها الحرس الأحمر، كان من ضمنها حادث انتحار الروائي المعروف لاو شه. وكان المسئولون المحنكون المعروفون من أشد المطلوبين لحضور طقوس اجتماعات النقد، حيث كانت الحشود الثورية تعبِّر عن كراهيتها للقادة الذين تعرضوا للتطهير. وقد اقتيد نائب رئيس الوزراء، بو ييبو، رئيس المفوضية الاقتصادية الحكومية، لمائة جلسة من جلسات النضال. ولعدم قدرة زوجته على تحمل التوتر والإجهاد، قتلت نفسها. غير أن الغالبية العظمى من الحرس الأحمر الذي يقدَّر أفراده بالملايين لم يتسموا بالعنف، والكثير منهم كانوا يجهرون بمعارضتهم للعنف، وإن كان بتأثير مختلط.

ومع اعتبار المشاركة شبه الشمولية للحرس الأحمر، فليس من المستغرب أن يحدث بينهم انقسامات داخلية خطيرة؛ فقد كان الجميع يدَّعون «الثورية»، بما في ذلك أبناء المسئولين الذين استهدفتهم الهجمة الماوية. واعتمدت إحدى الوحدات سيئة السمعة التابعة للحرس الأحمر، وهي وحدة «المقار الرئيسية للحراك الموحد» نظرية «وراثية» في هذا الصدد، فقد زُعِم أن أبناء العمال، والفلاحين الفقراء، والكوادر الثورية، ثوريون بالفطرة، بينما لا يمكن أبدًا لأبناء الرأسماليين وملاك الأراضي التغلب على أصلهم الملوث. وقد تجنبت نظرية الوراثة بإتقان وعناية دعوات ماو للتركيز على «أتباع الطريق الرأسمالي» داخل الحزب بصرف الأنظار إلى أعداء الثورة الذين دُحروا بالفعل. تم قمع نظرية الوراثة، لكن ظلت النزعة للتضحية بمن هم في موضع هجوم أو نقد. وقد كان هذا يعني لبعض الشباب الصيني «رسم حد فاصل واضح» بينهم وبين أفراد عائلاتهم ممن لديهم خلفية طبقية سيئة، أو تاريخ سياسي معقد (كابن عم في تايوان أو مجند في جيش الكومنتانج). وكان هذا يعني للجميع تقريبًا أن أعضاء «الفئات الخمس السوداء» (ملاك الأراضي، والفلاحين الأثرياء، والمعادين للثورة، والعناصر الفاسدة، واليمينيين) قد عُزلوا، حتى وإن لم يتعرضوا فعليًّا للإذلال والإساءة.

لمع نجم الحرس الأحمر خلال فترة قصيرة. وكان «أغسطس الأحمر» من عام ١٩٦٦ هو أوج تألقهم، حينما وقع معظم أعمال العنف ضد المعلمين والمسئولين. وقد اقتصر تدمير المنشآت الثقافية والغارات على منازل الأثرياء على الأيام الأولى للثورة الثقافية. وبقدر شناعة أعمال العنف، فقد خبت جذوة هذه الهجمة الاستهلالية العنيفة للثورة الثقافية سريعًا؛ إذ جاهدت السلطات الماوية بقوة لتحجيم هذه الهجمات العلنية. ومن ثم لا يجب أن نتخيل أن هذا العقد كان عقد اغتيالات واعتداءات بالضرب. وعلى الرغم من أن معظم الحرس الأحمر لم يكن يعتدي على الناس بالضرب، فإن هؤلاء الذين اتسموا بالعنف وجهوا غضبهم بعد ذلك ضد فصائل الحرس الأحمر المعادية. فكان الحرس الأحمر يصنع الأسلحة، أو يستولي على البنادق من الجيش، بما في ذلك الأسلحة الروسية أثناء عبورها إلى فيتنام. وبحلول عام ١٩٦٨، انتهت هذه المرحلة من الثورة الثقافية. وتم إرسال سكان المدن من الشباب إلى الريف «للتعلم من الفقراء وفلاحي الطبقة الدنيا».

لم يكن التمرد قاصرًا على الحرس الأحمر؛ فقد انضم صغار المسئولين إلى ركب المتمردين بأعداد كبيرة، إلى جانب الكثير ممن كان لهم عداوات مع سياسات السنوات السبع عشرة. واستخدم ناشطون من طبقات العاملين المؤقتين، الذين حُرموا من الامتيازات الكاملة للعاملين الدائمين، الثورة الثقافية للمطالبة بتعويضهم. وعلى الرغم من إخفاقهم، فقد انزعجت السلطات من إمكانية حدوث اضطرابات على مستوى المصانع. وفيما بعد، عندما يئس القادة الماويون من حلفائهم من الطلاب، قاموا بزرع مجموعة من المتمردين من الطبقة العاملة الذين سيكونون متزنين سياسيًّا.

ولا ينبغي أن ننبذ رغبة هؤلاء المتمردين تفضيلًا للديمقراطية الراديكالية، فهم لم يسعوا للديمقراطية الإجرائية على الطريقة الغربية، بما تحويه من نظم تصويت دقيقة وضمانات لحقوق الإنسان. لقد كانت حركة مضادة للاستبداد والفاشية، وربما كانت أعظم تجارب الصين في الديمقراطية التشاركية، وتطلعت لديمقراطية نتائج، لا إجراءات.

(٤) التهذيب

يسهم شعار «السياسة تتولى زمام السيطرة» في تهذيب وضبط التمرد، وكذلك إلهامه. لقد فوجئ ماو بمدى عنف الحرس الأحمر، فقد كان الحرس الأحمر أداة سياسية خرقاء: فهم حديثو السن، وجامحون، ومن الصعب توزيعهم بأي قدر من الدقة.

ظهر نموذج متميز للاستيلاء على السلطة في يناير من عام ١٩٦٧، بتأسيس «كوميون شنغهاي». كان واضحًا أن هذا المشروع الذي استمر لمدة شهر لتجميع البروليتاريين في شنغهاي قد استُوحي من كوميون باريس الذي أنشئ عام ١٨٧١. وقد صنع قاعدة سياسية لثلاثة سياسيين راديكاليين: مسئول الدعاية تشانج تشون شياو، والناقد الأدبي ياو ون يوان، ومسئول الأمن الصناعي وانج هونج ون، الذين أدينوا فيما بعد مع جيانج تشينج ضمن عصابة الأربعة.

وبشكل سريع نوعًا ما، استُبدل نموذج كوميون شنغهاي بنموذج ثانٍ شمل جميع أنحاء البلاد، وهو «اللجنة الثورية». أولت اللجان الثورية أهمية حقيقية لمشكلة الوحدة؛ فقد كانوا منظمين في «تحالف ثلاثي» مكوَّن من المنظمات الجماهيرية، وممثلي الجيش، والمسئولين المحنكين الذين يدينون بالولاء للثورة الثقافية. وكان الجيش هو المنوط بمهمة التنفيذ في التفاوض حول هذه الصفقات، وعمل بصبر لإيجاد مجموعات ملائمة من المتمردين الراديكاليين وكوادر محنكة مقبولة لتشكيل حكومة محلية ماوية جديدة. وحتى مع مشاركة الجيش، كانت المهمة شاقة للغاية؛ إذ كانت الثورة الثقافية قد أطلقت قوى اجتماعية ثبت أن من الصعب احتواءها. وقد شملت هذه القوى المنافسات المحلية، أو الطموح الجامح، أو الغرور السياسي. ففي إحدى مناطق التبت، واجه أحد التحالفات متاعب بسبب راهبة غير متزنة تعرضت لزيارات من إحدى الآلهة وأمرت الأتباع المسلحين الذين قاموا بدورهم بتقطيع أذرع وأرجل أعدائهم المتعصبين.

بدأ الجيش استعادة النظام بالتفاوض على إقامة سلام محلى في كل إقليم. فضَّل الجيش في البداية التزام الحياد، ولكن استمرار العنف والفوضى استدرجه في النهاية بشكل أعمق للتدخل في الإدارة المحلية. ولعل من إحدى اللحظات الحاسمة الأزمة التي وقعت في صيف عام ١٩٦٧ في ووهان، حيث اندلعت حرب شبه أهلية، وعندما حاول قائد بكين التفاوض، تم اختطافه مما استوجب إنقاذه بواسطة قوات محمولة جوًّا. ووقعت معارك مسلحة أخرى بين آلاف المدنيين الشباب، كان من شأنها كسر حاجز التردد لدى الجيش. وأصبح لمعظم الأقاليم لجان ثورية جديدة بحلول صيف عام ١٩٦٨.

شارك الجيش في الثورة الثقافية بحذر شديد من خلال توفير حرس مسلح للمنشآت النووية وغيرها من منشآت الأبحاث العسكرية، وكذلك للمعالم الأثرية الثقافية المهددة من قِبَل المخربين التابعين للحرس الأحمر. وعندما شرع الحرس الأحمر في تسليح أنفسهم بأسلحة تم الاستيلاء عليها من قطارات متجهة إلى فيتنام، تبدد تردد الجيش. وبحلول صيف عام ١٩٦٨، تحول صبر الجيش إلى شراسة، حين قام بسحق مجموعات الحرس الأحمر غير الراغبة في الانصياع لقيادتها.

لم تأتِ أشد أشكال العنف للثورة الثقافية من وحشية الحرس الأحمر، ولكن من القمع الماوي للمنظمات الجماهيرية التي وُجدت بشكل عفوي. ففي نهاية عام ١٩٦٧، نظَّمت مجموعة الثورة الثقافية تحقيقًا في مؤامرة مزيفة أُطلق عليها «مؤامرة ١٦ مايو»، وقد أدى هذا إلى اعتقال كبار الساسة الراديكاليين بتهمة مؤامرة لم يكن لها وجود مطلقًا. ومع انتقال الحملة إلى المستوى الإقليمي، خضع ملايين للتحقيق وقتل عشرات الآلاف. وانطلقت حملة مشابهة ﻟ «تطهير المناصب العليا» قتلت المزيد؛ إذ تم تمحيص التاريخ السياسي والعائلي بحثًا عن الخطايا السياسية. كان ضربًا من العذاب أن يكون لك علاقات بالصينيين المغتربين بالخارج، أو شقيقة متزوجة من عائلة رأسمالية سابقًا. وتعكس هذه الوحشية بشكل جزئي السيطرة الهزيلة من قِبَل قادة الصين الجدد المقترنة باندفاعهم في القضاء على خصومهم المحتملين من أجل مناصبهم الجديدة. وعزَّزت اللجان الثورية الجديدة نفوذها بتفكيك منظمات السياسة الجماهيرية، مبتدئة بالمنظمات التي قاومت شرعيتها. ووقعت الكثير من أعمال العنف في المقاطعات الريفية، حيث كان العنف أقل وضوحًا عن عنف الحرس الأحمر في بدايته. فقد لاحظ مواطنو هونج كونج، على سبيل المثال، جثثًا طافية على المجرى المائي في اتجاه مصب نهر اللؤلؤ. غير أن العنف ضد الراديكاليين، في رأي كثير من المراقبين، ربما بدا أقل أهمية مقارنة بالعنف الذي مورس ضد المثقفين والمسئولين.

وقد اتخذ التهذيب أشكالًا أقل عنفًا بالنسبة لغالبية الناس؛ فقد أصبحت دراسة السياسة ذات طابع رسمي إلى حد كبير، إذ أصبح الجميع مطالبين بحفظ النصوص، وعقد مناقشات جماعية مصغرة، وتأليف مفكرات عامة عما يحرزونه من تقدم أيديولوجي. وقد قامت مثل هذه الممارسات على ثقافة قديمة من النقد والنقد الذاتي كان يتوقع فيها من الناس أن يقدموا اعترافًا طقسيًّا بمثالبهم ونقائصهم السياسية. وقد أصبح هذا فنًّا أدائيًّا أيضًا، ولكن كان له أصول كونفوشية من حيث عدم الاهتمام بالروح الداخلية والتركيز على السلوك الفعلي.

fig4
شكل ٢-٣: عند حل حركة الحرس الأحمر التي أنهكها الشقاق والعصبية، جسد هذا الملصق نموذجًا مثاليًّا لاثنين من العمال يحضان على الوحدة بصمود وإخلاص من خلال دراسة أعمال ماو تسي تونج: «انبذوا الفرقة، قطِّعوا الأيادي السوداء! وحِّدوا الثورات البروليتارية!»1

(٥) اللجوء للعلاقات الشخصية

كان كل فصيل من فصائل الثورة الثقافية يرفع راية ماو تسي تونج، مما أوحى بوجود وحدة على السطح على الرغم من واقع تمزُّق إلى نزاعات متعصبة يسودها قدر هائل من الشك وعدم اليقين. وظهرت الأخطار عندما راح الانتهازيون يبحثون عن الفرصة المثلى لحصد المكاسب، وبات المواطنون يُضطهدون لخلفياتهم المشكوك فيها سياسيًّا.

ومع تمزق المؤسسات الطبيعية، اتجه المواطنون من جميع المستويات بشكل متزايد إلى العلاقات الشخصية بحثًا عن الأمان. وقد كانت العلاقات القائمة على النسب، أو الموطن الأصلي المشترك، أو التعليم، أو الخبرة المهنية موجودة بالفعل في جميع السياسات، وقد لعبت هذه العلاقات دورًا استثنائيًّا في الصين لفترة طويلة، على الرغم من جهود الدولة في أن تستبدل بها معايير «موضوعية» ونزيهة. فقد قُوَّض الخطاب البلاغي للثورة الثقافية بفعل انعدام ثقتها في المؤسسات العادية، وهو ربما ما مثَّل ضمانة لفكرة أن العلاقات الشخصية قد جاءت لتسيطر.

وقد قويت التحالفات الشخصية بين أهل النخبة بعد صدمتَي قضية لين بياو وتدهور صحة ماو. حتى إذا كانت الصلات الشخصية ليس لها دور فعلي، فإن معظم الصينيين يسلِّمون بأن لها دورًا، وسوف يفسرون أبسط التطورات المحلية أو القومية بسرد الصلات بين الأشخاص ومن يعرف من. على سبيل المثال، جاءت جيانج تشينج ومسئول الأمن بالحزب كانج شينج من نفس المقاطعة بإقليم شاندونج. فهل كان محل الميلاد المشترك هذا أهم من أي منصب سياسي مشترك؟ كثير من الصينيين يعتقدون ذلك، ويذهبون إلى أن ذلك قد جعل تحالفهما الأيديولوجي على الأقل قائمًا على أساس أكثر صلابة.

كان البحث عن الأمان الشخصي على نفس الدرجة من القوة بين المواطنين العاديين، خاصة في ظل حالة التشاؤم والاستخفاف الجديدة التي سادت في أعقاب وفاة لين بياو. فقد أصبحت الهدايا والرشاوى وليس التعصب السياسي (أو بجانب إعلان الحماس السياسي) وسيلة لتأمين الحصول على ميزة ما من «باب خلفي»، من الحصول على مسكن أفضل إلى الرعاية الطبية المتخصصة، أو من أجل نقل طفل من أطفال المدن من العمل بالزراعة وإعادته إلى المدينة.

اتخذت السياسة منحى بذيئًا وكريهًا حتى بالنسبة للماويين الملتزمين؛ فقد جعلت القلاقل والاضطرابات فكرة الانتقام تطفو على السطح، مما منح رواية ألكسندر دوماس «كونت دي مونت كريستو» الصادرة عام ١٨٤٤، والتي تدور حول الانتقام، قاعدةً عريضة من القراء في حقبة لم يحظَ فيها الفن الغربي بالكثير من الاستحسان والقبول. والحق أن العنوان الصيني للرواية (سجل العرفان والثأر لمونت كريستو) يزيد من جاذبيتها لدى جمهور ينشد الأمان في عالم فاسد وغير موثوق. فالكونت، الذي يُدعى إدموند دانتس، يستعيد حقه، ساخرًا من الافتراض المسبق بأن القوانين الغربية تتفوق أخلاقيًّا على شبكة العلاقات الشخصية في الشرق.

ربما كانت جيانج تشينج طموحة وصعبة المراس، ولكن ماو اعتمد عليها لأنه لم يكن يثق ثقة كاملة في أي شخص خارج نطاقه الشخصي. وعلى كل أخطائها، فقد كانت وفية. وكما قالت أثناء محاكمتها: «كل شيء فعلتُهُ كان بناء على توجيه من الزعيم ماو. لقد كنت كلبه الوفي؛ أيما شيء يأمرني بعضِّه، عضضته.» وفي السبعينيات لجأ ماو أيضًا لابن أخ له، هو ماو يوان شين، الذي أصبح مسئولًا بارزًا في الإقليم الصناعي الحيوي لياونينج.

في نهاية الثورة الثقافية، وعقب الضربات المتتالية التي وُجِّهت ضد المؤسسات السياسية التقليدية، عمل قادة انقلاب ما بعد ماو في الأساس انطلاقًا من رغبتهم في التخلص من منافسيهم، ولكنهم عملوا أيضًا انطلاقًا من رغبتهم في التخلص من القلق. فعلى الرغم من أنهم كانوا يحوزون الأغلبية في المكتب السياسي، فقد كانوا يخشون احتمالية توجيه الأغلبية في اللجنة المركزية دعمها لجيانج تشينج وحلفائها في أية مواجهة حاسمة قد تحدث. وفي خضم دفاعهم عن تصرفهم، أسس المتآمرون شبكة علاقات شخصية، هي «عصابة الأربعة»، والتي كان أساسها مقلقَلًا نوعًا ما على أرض الواقع. لم تكن تلك عصابة بالمعنى المفهوم؛ إذ كان ثلاثة من أفرادها الأربعة لا يدعمون حتى وانج هونج ون أمام هوا جوفينج ليكون خليفة ماو، ولكن البعض حزنوا لرؤية جيانج تشينج المستبدة تزاح، فيما أصبح الأربعة، إلى جانب جنرالات لين بياو، كباش الفداء العلنية للثورة الثقافية.

هوامش

(1) White Lotus Gallery.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤