الفصل الثالث

الشعور

يشمل الشعور نطاق اللذة والألم بأكمله. وهو عنصرٌ جوهريٌّ في كل فعل مدرك. وإلا فإنه إذا لم تحصل لذةٌ مِنْ فعل الفعل ولا ألمٌ مِنْ تركه، وبعبارة أخرى: إذا لم يكن هناك تأثر متصل بالفعل؛ فلا فِعْل على الإطلاق.

وعلى ذلك فيمكن أن ينعت الشعور بأنه مصدرُ الفعل. بما أَنَّ كل الأفعال إنما تنشأ من رغبة في سد حاجة الشعور، ومن هنا نتبين خطورةَ أمر «التأثُّر» المشار إليه في التربية.

والشعورُ أهم البواعث على تنبه الإرادة كترقب لذة مثلًا أو خشية خوف، وعلى ذلك فالشعورُ عاملٌ خطيرٌ في التربية الأخلاقية؛ إذ لا يخفى أَنَّ نُشُوء العادات واختيار الإنسان منهجًا بعينه من مناهج السلوك على اختلافها إنما يكون تبعًا لِلَّذَّة أو الألم الذي يصحب الفعل.

(١) نمو الشعور

إن سد حاجة نوع بعينه من أنواع الشعور لا يترك العقل على نفس الحالة التي كان عليها بالضبط قبل قيام الشعور بالنفس، بل تبقى من الفعل إثارة يصبح العقل بها مهيأً إلى الميل للفعل مرة ثانية على نحو ما فعل أول مرة، وكلما كانت الفتراتُ بين سد حاجة الشعور مرة وأخرى متدارَكة كان الميل إلى انتحاء ذلك النحو من الفعل أعظمَ. مثال ذلك: إذا نحن كنا في ظروف توجه فيها التفاتنا بلا انقطاع إلى المحزنات؛ تَمَلَكَّنَا الحزن بل ربما استقر في أنفسنا المرض وكذلك الأمر في الكآبة والغضب والطاعة وغير ذلك. نعم إن كثيرًا من أمرها فطريٌّ ولكن توفيرها أو استئصالها ممكنٌ بالترويض والمعالجة.

والشعور أو الإحساس يُصبح مصاحبًا لنوع الجهد الموقظ، فإذا كان الإحساس لذيذًا كان الفعل المصاحبُ له مقبولًا، والعكس بالعكس. فإذا أردنا على ذلك أن نحبب المدرسة ومعلميها وعملها إلى طفل من الأطفال؛ فالواجبُ أن يعمل على إزالة كل ما كان منها غيرَ مقبول، ويترتب على ذلك أَنَّ العقوبات — وإن وجب فيها الإيلام — يجب أن توقَع بحيث لا يبصرها كل تلاميذ المدرسة إلا إذا كان لضرورة لازبة؛ لأنه ينشأُ مِنْ شُهُود توقيع العقاب آلام المدح والثناء، فيصحبهما شعورٌ لذيذٌ، فيجب إذن أن يكونا علانيةً.

(٢) أقسام الشعور

يمكن تقسيم الشعور إلى ما يأتي:
  • (١)
    شعور ذاتي ويشمل:
    • (أ)

      شعور الحواس؛ «أي الشهوات» منبهات الحاجة العضوية، ويشمل الإحساس بالبرودة، والدفء، والجوع والعطش وأمثال ذلك، وهذه قد تنقلب «ولوعًا باللذات».

    • (ب)

      الميل إلى الإجهاد العضلي «حب النشاط» الذي قد ينقلب «ولوعًا بالقوة».

    • (جـ)
      الانفعالات النفسية، وهي بواعث النفرة كالخوف والحسد والغضب والمنافسة وغير ذلك، وتسمى هذه الإحساسات أحيانًا «بالإحساسات الاجتماعية»؛ لأن من يفرط فيها عرضة لاعتزال الجماعة وهذه الإحساسات قد تكون:
      • (١)

        موجهة إلى ما هو ماض كالغضب: وهذا قد ينقلب ضغنا.

      • (٢)

        موجهة إلى ما هو حاضر كالنفور: وهذا قد ينقلب رغبة في الانتقام.

      • (٣)

        موجهة الي ما هو مستقبل كالخوف: وهذا قد ينقلب ريبة.

        فعلى المعلم أن يعمل على استئصال هذه الإحساسات.

  • (٢)
    شعور غير ذاتي ويشمل:
    • (أ)

      إحساسات اجتماعية، وهي بواعثُ التجاذُب، كالعطف والمحبة والود والشفقة. كل هذه الإحساسات صالحةٌ داعيةٌ أهلها إلى التآلف؛ ولذلك يجب على المعلم أن يدعو إليها.

    • (ب)
      الإحساسات العامة أو الشعور الحقيقي وهو يشمل:
      • (١)

        الشعور العقلي أو التعجب؛ أي الشعور بالحاجة إلى العلم الداعي إلى البحث عن الحقيقة.

      • (٢)

        الشعور الحسني، أو الإعجاب والشعور بالجمال.

      • (٣)

        الشعور الأدبي أو الاحترام والشعور بالواجب وحب الفضيلة، وداعي تقديس الذات الإلهية.

يتدرَّج الشعور على النسق المتقدم، فالشعور الذاتي أولًا؛ لأنه أدنى مراتب الإحساسات، والإحساسات التي يتصلُ أمرها بالثواب والعقاب.

الملحوظ في الأطفال سرعة الانتقال من عاطفةٍ إلى أُخرى. لذلك كان أسهل على المعلم أن يُثير في قُلُوبهم إحساساتهم مِنْ أَنْ يحرك إرادتهم. بذلك يستطيع أن يُشرب أفئدتهم حُبَّ الاستقامة والنُّبل؛ لأن الأمر الذي يصحبه انفعالٌ نفسانيٌّ يَرْسَخُ في الذاكرة رسوخًا تامًّا، ومن هنا كان الخطيب الذي يهيج على نسق منطقي الشعور أبلغ من سواه.

وإذ كان الأطفال أقرب إلى التأثُّر من الكبار فهم أقربُ إلى إجابة السؤال إذا استصرخ بإحساساتهم الراقية وشعورهم الكريم من الكبار؛ لأنهم لا يكونون إذ ذاك قد حسبوا لنتائج كل فعل حسابه ولا تدبروه كما هو حال الكبار.

(٣) حب الثناء وخوف التقريع

أمران فِطْرِيَّان في الأطفال جميعًا. وهما مِنْ أقوى أسباب حُسن السلوك.

على أَنَّ استعمال هذين الأمرين يحتاجُ إلى الحذر من جانب الوالد والمعلم، وإلا فإنَّ استعمالها إلى حَدٍّ بعيد أو مع التحيز وقلة العدل يَذهب بحسن أثرهما؛ لذلك ينبغي أن يراعَى في استعمالهما الحق والاعتدال، فلا يصح مدح الطفل لمجرد حصوله على حسن اقتدار فطري بل يجب أن يستبقى المدح للتفوق في الأعمال ولنبيل الجهد.

وكذلك لا يصح تعنيفُهُ لمجرد أنه غير حاصل على حُسن اقتدار فطري، بل يستبقى ذلك له إذا هو لم يَستعمل مواهبه الفطرية كما يجب، على أَنَّ فَرْطَ المدح والثناء يؤدِّي بالطفل في الغالب إلى الصلف ولكن مهما يكن من الأمر فإن تجاوُز حد الاعتدال في المدح خيرٌ من القصور عنه. هذا وإن الجد في البحث عن أخطاء الطفل واكتشافها وتأنيبه عليها لا يلائم خلة العطف التي لا مندوحةَ من وُجُودها بين المعلم وتلميذه، ولذلك يجب تَجَنُّبُها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤