الزنوج

هم قبائل كثيرة مسماة بأسماء مختلفة، ولكل قبيلة رئيس يليق أن يُطلق عليه اسم ملك؛ لأنه نافذ الكلمة مطاع الأمر مهاب من مرءوسيه، يدبر أمورهم وينظر في شكواهم. وقد كانوا قبلًا متمتعين بالحرية والاستقلال، يسرحون ويمرحون كما تشتهي نفوسهم، وظلوا كذلك حتى داهمهم البوير بالأسلحة النارية التي كانوا يجهلونها، فحاربوهم المرة بعد المرة، حتى سلبوا استقلالهم وملكوا بلادهم، وحرموا عليهم السكنى في داخل المدن، فإذا دخلوها لقضاء حاجة فلا يُؤذن لهم بدخولها بثيابهم الرثة؛ ولذلك كانوا يبتاعون ملابس الجند القديمة ليلبسوها حين دخولهم إليها، وقد حُرِّم عليهم أيضًا المشي على أرصفة الشوارع، بل يسيرون في وسطها، وعليهم أن يلزموا منازلهم من الساعة التاسعة مساءً، ويُوجد لهذه الغاية جرس في كل مدينة يُسمى بجرس الزنوج، يُقرع في الساعة المذكورة لتنبيههم بالتزام مساكنهم، فيلبُّون دقَّاته مطيعين. ويجتمع سكان كل كرال١ معًا في المساء، ويغنُّون بأصوات مزعجة تصدِّع الآذان.

وكذلك يقضون أيام أعيادهم بالرقص والطرب، وكل سكان كرال يذبحون في كل يوم عيد «بقرة»، ويفعلون ذلك بطعنها بالحراب في مواضع مختلفة حتى يسيل دمها وتفارقها روحها، وبعد ذلك يقسمونها بجلدها، وكل منهم يأخذ نصيبه ويشويه على النار، ويأكله مع أفراد عائلته. والساكنون منهم في خارج المدن يصنعون بيوتهم كالأكواخ، فتارةً يصنعونها من البوص وطورًا من الخيزران، ويسقفونها بتراب الطَّفل بعد عجنه بالماء. أما القاطنون في المدن؛ فأكثرهم يبنون مساكنهم بصناديق السردين الفارغة بعد ملئها بالتراب؛ لتحمل صدمات الزوابع والأمطار. أما ملابسهم فلا يهتمون بها مطلقًا، وهم في غالب الأحيان عراة إلا رءوسهم، فإنهم يغطونها بأي شيء، ويكثرون من الحلقات في آذانهم وأيديهم وأعناقهم وأرجلهم، ومتى لبس أحدهم ثوبًا فلا ينزعه عنه حتى يبلى.

ومنهم قبائل تُسمى قبائل الكفرة، تعتقد بالأرواح، ومن عاداتهم أنه إذا مرض أحدهم مرضًا خطرًا يأخذ أهل المريض بقرة مسنَّة من عند أحد أقاربه؛ ليذبحها ضحية للأرواح، وبعد ذبحها يأخذون دمها ويحفظونه في وعاء ويضعونه في عشة مقفلة، ثم يفرقون على الجيران لحمها، فيأخذونه ساكتين؛ لئلا يزعجوا الأرواح المطالبة بشفاء المريض، ثم تذهب الأبكار، ويأتين بفروع الزيتون، ويضعنها على اللحم المراد توزيعه، وعلى كل مدعو أن يقدم تقدمة صغيرة زرًّا كان أو قطعة من الحديد ونحو ذلك ثم يبدأ بالأكل، وبعد ذلك يحملون العظام بكل احتراس ويضعونها في العشة التي وُضع فيها الدم، ويضعون عليها أغصان الزيتون التي كانت على اللحم، ثم يحرقون العشة وفي ظنهم أن الدخان المتصاعد يسر الأرواح، وإذا تُوفي المريض ظنوا أن الأرواح غاضبة. ومن عاداتهم استيلاء الابن الأكبر على جميع نساء والده بعد وفاة هذا الأخير. والنساء في قبائل الزولس يعملن في فلاحة الأرض، وعلى الرجل أن يلاحظ المواشي فقط. ويقضي الرجال أوقاتهم في الصيد والتدخين، وإذا كانوا في سفر فعلى النساء حمل جميع الأحمال، حتى أولادهن، وهن عند رجالهن كالحيوانات، وللتدخين عند هؤلاء القبائل مزية عظيمة، لكل منهم قصبة مصنوعة من قرن البقر، يبطنونه بما يمنع احتراقه، ويوقدون فيه نوعًا من الكتان البري، فعله كفعل الأفيون، يسبب لهم سعالًا قويًّا يمكث بضع دقائق.

أما لغتهم فإنها كثيرة الأمثال والحكايات، يقضون الليالي في سردها، ويتوارثون ذلك أبًا عن جد. أما قبائل البازوتس فقد كانوا في غاية التوحش، ولكنهم خطَوا خطوة طويلة في سبيل التمدن. وبلادهم حافلة بالسكان، وأكثرهم يتجر في الصوف ويبنون منازلهم بالطوب والأحجار. ويدين كثير منهم بديانتهم القديمة، وهي عبادة الإله «باريني»، ويعتقدون أن له علاقة مع أرواح الأموات، ويصدقون بالخرافات التي لا يقبلها العقل. ويحل عند بعض القبائل قتل العجائز والمقعدين والمصابين بالأمراض العضالة التي لا سبيل إلى الشفاء منها.

ومن مصائبهم الكبرى إنكار الحكومة عليهم حق امتلاك شبر واحد من الأرض، وإذا أراد أحدهم أن يشتري قطعة للاسترزاق منها، يقصد أحد البوير ويستعير اسمه ويشتري الأرض، ويسجلها باسمه، فإذا كان البويري صاحب ذمة عاش العبد في مأمن من غدره، أما إذا وسوس له شيطان الطمع طرد العبد من أرضه واستولى عليها غنيمةً باردة، فيتركها العبد بحالة تفتت الأكباد، ولا يجد مسلِّيًا إلا البكاء ولا ملجأ غير الشقاء، وماذا يفعل وباب العدل مغلق في وجهه والمحاكم لا تسمع له شكوى ولا تجيب له نداءً؟!

١  كرال يُطلق على جملة مساكن من مساكن الزنوج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤