مقدمة عامة عن الاضطهاد العنصري وخرافاته١

من البديهي أن الناس لا يتشابهون كليةً في المظهر، فهناك تنوعات مختلفة في الصفات الظاهرية الطبيعية، تنتقل جميعها، أو بعضها من الأب إلى الابن. أما ما نسميه «أجناسًا بشرية» فليست إلا مجموعات بشرية متفقة نسبيًّا في تلك الصفات الطبيعية الظاهرية. ولا تختلف هذه الأجناس في المظهر فقط، ولكنها تختلف عادةً في مستويات التطور والتقدم، فبعضها يتمتع بكل خيرات المدنية المتقدمة، على حين تخلف البعض عن هذا المستوى بدرجات متفاوتة، وهذه الحقيقة هي المنبع، والأصل لنظريات التفرقة العنصرية في كل مراحل تطورها.

وفي «العهد القديم» نجد اعتقادًا بأن الاختلافات الجسمانية والعقلية بين الأفراد وبين المجموعات على السواء؛ اختلافاتٌ ترجع إلى المولد، وأنها اختلافات موروثة، لا تتغير، ويشتمل «سفر التكوين» على عبارات تفترض — فيما يبدو — انحطاط جماعات معينة بالنسبة لغيرها، مثال ذلك: «ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لإخوته» هذا إلى جانب أن نوعًا من التفوق البيولوجي قد تضمنه التأكيد بأن يَهْوه Jehovah قد عقد عهدًا مع إبراهيم و«نسله.»

ومن ناحية أخرى نجد في «العهد الجديد» مسألة أخوَّة بني الإنسان في العالم تتعارض تمامًا مع وجهة النظر الواردة في العهد القديم.

والحقيقة أن أكثر الأديان لا تبالي بالاختلافات الجسمانية الفردية، وتعد الناس جميعًا إخوة متساوين في نظر الله.

وكانت المسيحية — وإن لم يشمل هذا كل المسيحيين — تعارض التفرقة العنصرية منذ البداية، فقد قال القديس بولس: «لا يهودي، ولا يوناني، ولا عبد، ولا حر؛ فإنهم جميعًا واحد في المسيح يسوع» وقال أيضًا: «لقد خلق «الله» من دمٍ واحدٍ جميعَ الأمم؛ لكي يعيشوا فوق سطح الأرض.»

ويمكننا، أيضًا، أن نتذكر أن واحدًا من الملوك المجوس الثلاثة كان زنجيًّا، وقد عارض البابا بيوس الحادي عشر النظريات العنصرية. وفي عام ١٩٣٨ دمغ الفاتيكان كل الحركات العنصرية على أنها خروجٌ على العقيدة المسيحية روحًا ومذهبًا، وأكثر من هذا فإن دور الكنيسة والقديسين في إسداء البركات السماوية تشمل الأجناس البيضاء، والصفراء، والسوداء اللون، كما أن الحواريين الاثني عشر كلهم كانوا من العنصر السامي، وكذلك كانت العذراء مريم أم يسوع المسيح.

ويتخذ الإسلام موقفًا مماثلًا للمسيحية؛ فالمسلمون لم يُظهروا إطلاقًا أيَّ تعصب عنصري أو عدم تسامح مع أية مجموعة بشرية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه كانت هناك مواقفُ منافيةٌ للتسامح العنصري منذ أقدم العصور، ولدينا على ذلك أمثلة كثيرة للمواقف المناهضة للتسامح العنصري. وأقدم إشارة للتمييز اللوني ضد الزنوج لوحةٌ أقيمت بأمر الفرعون سنوسرت الثالث (١٨٨٧–١٨٤٩ق.م) عند الجندل الثاني على النيل. ولكن يبدو أن هذه اللوحة قد أقيمت بدوافع سياسية أكثر منها دوافع النظرية العنصرية، وقد جاء في هذه اللوحة:
الحدود الجنوبية، أقيمت في السنة الثامنة من عهد الملك سنوسرت الثالث ملك مصر العليا ومصر السفلى، والذي له الحياة خلال كل الدهور، لا تسمح لأي زنجي بعبور هذه الحدود، سواء بطريق الماء، أو الأرض، سواء في السفن، أو مع قطعانه. إلا لغرض التجارة، أو للشراء في المحطات، والزنوج الذين يعبرون الحدود بهذه الصفة سيُعاملون بكل كرم، ولكن لن يُسمح لأي زنجي في المستقبل — وإلى الأبد — أن يتعدى نقطة «هيه» Heh بواسطة السفن.

كذلك كان الإغريق القدامى منذ ألفي عام يعتبرون كل الناس ما عداهم «برابرة»، ويقول هيرودوت: إن الفرس بدورهم كانوا يعتقدون أنهم أرقى كثيرًا بالنسبة لمن عداهم من البشر.

وقد حاول الفيلسوف اليوناني أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م) أن يبرر طموح الإغريق لسيادة العالم وزعامته، فنادى بنظرية أكد فيها أن جماعات معينة تولد حرة بالطبيعة، وجماعات أخرى تولد لكي تكون عبيدًا. (وسنرى فيما بعد أن هذه النظرية قد استُخدمت في القرن السادس عشر لتبرير استرقاق الزنوج، والهنود الحمر في أمريكا)، وعلى العكس من نظرية أرسطو نجد أن شيشيرون الروماني يعتقد أن «الناس يختلفون في المعرفة، ولكنهم جميعًا يتساوون في القدرة على التعلم، وأنه لا يوجد جنس من الأجناس لا يستطيع الوصول إلى الحكمة إذا كان العقل له رائدًا.»

والواضح أن الأفكار الخاصة بتفوق أو انحطاط الشعوب أو مجموعات بشرية؛ هي أفكارٌ عرضة للتغيير على الدوام، ويكفي للتدليل على ذلك أن نسجل رأي شيشيرون عن جماعات الكلت التي كانت تسكن بريطانيا في وقته، فقد وصفهم وهو يناقض نفسه في كتاب إلى أثيكوس بأنهم يتميزون «بالغباء وعدم القدرة على التعلُّم.»

وقد أوضح كونراد Conrad في قصته «قلب الظلام Heart of Darkness» الغموض، والأسرار البدائية التي كانت تلف أفريقيا، والتي أخذت تتكشف للأوربيين ببطء في نهاية القرن التاسع عشر. هذه المشاعر التي يرويها كونراد تماثل نفس المشاعر التي كانت تراود ربابنة السفن الرومانية القادمين من مراكز الحضارة المزدهرة في حوض البحر المتوسط، حين وصولهم إلى ضفاف نهر التيمز الملفوف في إطار البدائية منذ ١٩٠٠ سنة مضت. وهي أيضًا نفس المشاعر التي كانت تنتاب نُبلاء روما حين يجوبون أنحاء بريطانيا، لقد كانوا يشعرون «بالرغبة الجامحة في الهرب، واحتقار شديد، واستسلام، وكره عميق»، وهذا هو بعينه ما يعتري موظفي المستعمرات الحاليين من مشاعر في أثناء إقامتهم في المستعمرات، ولا نجد في هذا المجال داعيًا للإطالة في شرح الاحتقار، والازدراء الذي كان يكنه النبلاء النورمنديون للشعب السكسوني المغلوب على أمره في بريطانيا، وشرح كيف كان أجداد أكثر الأُمم فخارًا وخيلاء في عصرنا هذا (الإنجليز) يعاملون بالازدراء، والاحتقار. وعلى كل حال فهذه لم تكن أحد مظاهر النظرية العنصرية بمعناها الدقيق، وكذلك لم تكن العداوة بين المسلمين والمسيحيين قائمة على أساس تفرقة عنصرية؛ فإن الكره والنفور الناجمين عن اختلاف مستويات الحضارة، والعقائد الدينية أدنى أن يكون ذلك صفة من الصفات البشرية من أن يكون أحقادًا قائمة على أُسس الوراثة.

وعلى الرغم من كل هذه المظاهر من الكره والأحقاد فإنه يمكن لنا أن نؤكد أن النظرية العنصرية لم تكتمل مظهرًا، ومخبرًا قبل القرن الخامس عشر؛ لأنه قبل ذلك التاريخ كان تقسيم الإنسان قائمًا على أساس المسيحيين، والكفرة (أو المسلمين والكفرة) أكثر من انقسامه أجناسًا متعارضة، والحقيقة أن الانقسام على أساس ديني أكثر إنسانية؛ لأنه في الإمكان دائمًا عبور الهوة التي تفصل، وتفرِّق بين الأديان، أما الهوة البيولوجية التي تفصل بين الأجناس فلا يمكن عبورها.

ومنذ بداية استعمار إفريقية واكتشاف أمريكا وطريق الهند عبر المحيط الهادي، بدأت نظرات العنصر واللون تزداد انتشارًا، ويُمكننا تعليلُ هذه الظاهرة بأسباب تتعلق برغبة هذه الدول الاستعمارية في تنمية اقتصادياتها، أو انطلاق الروحِ الاستعماريِّ، أو غير ذلك من الأسباب.

وقد حاول السنيور چوان دي سيبو لڨيدا Juan Ginés de Sepulveda عام ١٥٥٠ تبرير العبودية، والرق على أساس نظرية أرسطو، فنادى بانحطاط الهنود الحمر، وفسادهم الطبيعي الوراثي، مؤكدًا أنهم مخلوقات غير منطقية أو معقولة. وأنهم يختلفون عن الإسبان بقدر اختلاف الوحشية عن الوداعة، والقردة عن بني الإنسان.
ومن الطبيعي أنه كان هناك من يعتنق نظريات إنسانية مناهضة للعنصرية، ومن بينهم دي لاس كازاس Fray Bartolemé de las Casas الذي كافح دون ملل من أجل المُناداة بتساوي كل شعوب العالم في الصفات الإنسانية، داحضًا فكرة وجود أنصاف بشر، كلُّ مهمتهم في الحياة التي خطها لهم القدر، أن يفعلوا ما يأمر به الآخرون.
وإننا لنجد أن أُسس التقسيم الاجتماعي في أمريكا اللاتينية قائمًا على أساس التمييز العنصري، فهناك الإنسان الممتاز مثل الكريول Creoles،٢ ثم يأتي بعده في الترتيب الخلاسيون،٣ ثم الهنود الحمر ثم الزنوج.٤ وإذا نظرنا إلى الأمر من الناحية النظرية البحتة فإننا نجد أن القانون لا يعترف بهذه التقسيمات الطبقية القائمة على أساس العنصرية، ولكن القانون لا يُحترم في عصرنا الحالي كما كان غير محترم في الماضي.
وقد كتب مونتاني Montaigne (١٥٣٣–١٥٩٢م) عن الهنود الحمر الذين يسكنون البرازيل فقال: «ليس في هذه الأمة ما يمكن أن نصفه بالوحشية، أو البربرية اللهم إلا أن كلًّا منا يَسِمُ ما هو غريب عن عادات شعبه بالبربرية.» وقد حذا بعض مشاهير المفكرين حذو مونتاني في القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، وكان من بين هؤلاء فولتير Voltaire (١٦٩٤–١٧٧٨م)، وروسو J. J. Rousseau (١٧١٢–١٧٧٨م)، وبفون Buffon (١٧٠٦–١٧٨٨م)، وقد أيد هؤلاء بإصرار وعزم الوحدة الجوهرية للطبيعة الإنسانية، ومن ثم المساواة المطلقة لبني البشر أجمعين، وفي المعسكر المقابل نجد هيوم D. Hume (١٧١١–١٧٧٦م)، الذي كتب قائلًا: «إنني أميل إلى الاعتقاد بأن الزنوج أحط بالطبيعة من العناصر البيضاء.» وكان رينان Renan (١٨٢٣–١٨٩٢م)، واحدًا من الذين رفضوا التسليم بنظرية تساوي البشر، كما حارب تين Taine (١٨٢٨–١٨٩٣م) هذه النظرية، وأنكر أن «الإغريق والبرابرة والهندوس ورجال عصر النهضة ورجال القرن الثامن متحدو النشأة (ومتساوون في البشرية).»

وعلى الرغم من الأثر الأدبي لبعض المفكرين فإن التمييز العنصري تطور إلى نظام مذهبي منتظم في خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد كانت هناك حقًّا فترة قصيرة نسبيًّا كان الاتجاه فيها إلى التقليل من التمييز العنصري، أو إلغائه نتيجة لانتشار مبادئ الثورتين الفرنسية والأمريكية، ونجاح حملة محاربة الرق في إنجلترا. ولكن رد الفعل الذي نجم عن عودة المَلَكية إلى فرنسا، والانقلاب الصناعي في أوربا في بداية القرن الماضي؛ كان له أثر مباشر ومضاعفات كلها تناهض، وتعارض فكرة تساوي الأجناس. وقد فتح اختراع آلات الغزل والنسيج آفاقًا واسعة في التسويق أمام أصحاب مصانع القطن، وسيطر القطن على الاقتصاد، خصوصًا في الولايات الجنوبية من الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت النتيجة ازدياد الطلب على الأيدي العاملة من العبيد؛ وبذلك تحولت العبودية تلقائيًّا إلى نظام مقدس في منطقة القطن الأمريكي، بعد أن كانت قد بدأت في التفكك، وتأخذ طريقها إلى الزوال.

ولتأييد هذا النظام الخاص والدفاع عنه ابتكر المفكرون وعلماء الاجتماع في الولايات الجنوبية أسطورةً كاملةً شبه علمية، خصصها أصحابها للدفاع عن تبرير حالة مناقضة تمامًا للمعتقدات الديموقراطية التي كانوا يؤمنون بها. ولتهدئة الخواطر كان لا بد من إغراء الناس لحملهم على الاعتقاد بأن الزنجيَّ ليس أحط من الرجل الأبيض فحسْب، بل إنه أيضًا لا يختلف إلا بقدر يسير عن الحيوان.

وقد رَحَّبَ البيض، أشد الترحيب، بنظرية دارون Darwin الخاصة ببقاء الأصلح، واعتبروها قضية تؤيد وتدعم سياسة التوسع والعدوان على حساب الشعوب «المنحطة»، وقد جاءت نظرية دارون في الوقت الذي كانت الدول الكبرى فيه منشغلة بتأسيس إمبراطورياتها الاستعمارية، فساعدت الرجل الأبيض على تبرير أعماله بالنسبة لنفسه، وأمام غيره من بقية البشر.

وبناء على ذلك اعتقد الأبيض أن استعباد، أو إفناء المجموعات البشرية «المنحطة» بواسطة الرصاص الأوربي ليس إلا تنفيذًا لنظرية استبدال مجتمعات راقية بأخرى منحطة. وقد استُغلت النظرية العنصرية في مجالات السياسة الدولية لتبرير الأعمال العدوانية؛ لأن المعتدي قد تخلص بواسطة هذه النظرية، من كل الاعتبارات الإنسانية تجاه الأجانب الذين ينتمون إلى الأجناس «المنحطة» التي كانت توضع في مصاف الحيوان، أو أعلى منه قليلًا.

وقد مارست الشعوب في نزاعها مع بعضها البعض فكرة أن للأقوى — بفضل تفوقه من الناحيتين البيولوجية والعلمية — الحقَّ في تحطيم الأضعف.

وليس من العدل أن نوجه اللوم إلى دارون، كما فعل البعض، ولا أن نتهمه بأنه هو الذي قَدَّمَ للعالم هذه النظرية الكريهة التي لا تتسم بالطابع الإنساني. والحقيقة أن تطور الجماعات الملونة، وتقدمها بحيث أصبحت منافسًا خطيرًا في سوق العمل، ومطالبتها بالمميزات الاجتماعية التي تعدها الأجناس البيضاء حقًّا وراثيًّا لها دون غيرها من الأجناس؛ هو السبب الذي أدى بهذه الأجناس البيضاء إلى البحث عن قناع تُخفي وراءه المادية الاقتصادية البحتة التي تدعوهم إلى إنكار حق الشعوب «المنحطة» في أي نصيب من المميزات التي تتمتع بها.

ولهذا السبب تقبلت هذه العناصر البيضاء، ببالغ الرضا، نظريةَ دارون البيولوجية، ثم بسطت النظرية، وحَرَّفَتْها، وعدلتها لتنطبق على مصالحها الخاصة. وبذلك أخرجت إلى الوجود ما سمته «الدارونية الاجتماعية»، وعلى أساسها بنت حقها فيما اختصته لنفسها من ميزات اجتماعية واقتصادية، وهذه الدارونية الاجتماعية شيء لا يمت بأية صلة إلى مبادئ دارون البيولوجية البحتة، وقد أدخل هربرت سبنسر H. Spencer (١٨٢٠–١٩٠٣م) فكرة «بقاء الأصلح» في علم الاجتماع، كما استخدمت الفكرة نفسها للدفاع عن نظرية نيتشه Nietzsche (١٨٤٤–١٩٠٠م)، الخاصة ﺑ «السوبرمان»، أو الإنسان المتفوق، وقد اعتُبرت هذه الكلمة مرادفة لكلمة «الأصلح» في الدارونية.

وبهذه الطريقة أُسيء استخدام التقدم الذي أحرزه علم الحياة، لكي يكون حلًّا بسيطًا له مظهر علمي خَدَّاع لتهدئة الدسائس والهواجس حول المسلك الإنساني نحو الأجناس الملونة. وعلى أي الحالات، فإن الفروق بين العلم والخرافة رقيقةٌ يسهل اختراقها. وهذا هو ما حدث تمامًا في هذه الحالة.

ومن الواضح أن وراثة المظاهر الجدية، والنفسانية تؤثر على المظهر الخارجي، والسلوك الإنساني، ولكن هذا لا يؤيد جدل أصحاب النظرية العنصرية في نقطتين: الأولى: مسألة أن الوراثة البيولوجية هي العامل الوحيد المهم. والثانية: أن الوراثة الاجتماعية حقيقة كما هي الحال في الوراثة الفردية.

ومن الممكن أن تُصبح النظرية العنصرية أكثرَ خطورة حينما تُطبق على التكوين الاجتماعي داخل المجتمع الواحد. وخطورتها هنا أكبر بكثير من خطورة تطبيقها على أجناس ومجموعات جنسية مختلفة، وعلى سبيل المثال يذكر أريك سوخسلاند Suehsland، في أرشيف الأجناس وبيولوجية المجتمع Archiv für Rassen und Gesellschafts Biologie. أن الأفراد الفاشلين في الحياة (الذين تنقصهم وسائل المعيشة في الضواحي المترفة الغنية) هم بالضرورة العناصرُ المنحطة جنسيًّا من بين مجموع الشعب، في حين أن الأثرياء هم العناصر الراقية من ناحية التكوين الجنسي. ومن ثم فإن عملية دَكِّ، وتدمير الأحياء الفقيرة بالقنابل تُصبح نوعًا من أنواع الاختيار «الطبيعي» وتجلب معها تحسين الأجناس، ويتضح من هذا المثال أن المسألة ليست مسألة أجناس بيضاء ضد أُخرى سوداء، أو سلالات نوردية (شمالية) ضد سلالات غير آرية. إنها تصبح مسألة إيجاد دعامة شبه بيولوجية لاضطهاد الطبقة البورجوازية لطبقة الفقراء البروليتاريين، والواضح هنا — ودون الالتجاء إلى الإسهاب في الأدلة — أن التمييز العنصري أو الاضطهاد الطبقي في هذه الحالة، وغيرها من الحالات، يُخفي وراءه تناقضًا اجتماعيًّا اقتصاديًّا، وعلى الرغم من أن كاريل Alexis carrel (في كتابه «الإنسان ذلك المجهول» Man the Unknown) لا يذهب بعيدًا عن مذهب سوخسلاند، إلا أنه يرى أن البروليتارية والعاطلين هم أفرادٌ منحطون بالوراثة … أُناس فقدوا، بحكم الأصل، القوةَ على الكفاح فهبطوا إلى المستوى الذي يصبح معه الكفاح أمرًا غير ضروري. هكذا يرى كاريل، وكأن البروليتارية لا تجابه في كل ساعة من ساعات النهار بكفاح أشد مرارة من كفاح الأثرياء.
ويرى برينان Prenant أن هناك احتمالًا قد يكون الشغل الشاغل لكثير من أصحاب نظريات التفوُّق الجنسي، وليس هذا الاحتمال هو تقويم أساس تتحكم فيها عوامل الجنس والسلالة، وهي بذلك تتحدد مرة واحدة منذ البداية ولا تقبل التغيير، ومثل هذا الحتم البيولوجي غير القابل للتغيير بواسطة العمل الاجتماعي يحلل المجتمع من كل مسئولياته؛ ذلك أن قوانين الوراثة ستحتم ما يصير إليه كل فرد منذ مولده، فقد يصير رجلًا عظيمًا، أو رأسماليًا، أو خبيرًا فنيًّا، أو عضوًا من أعضاء الطبقة العاملة الفقيرة، أو عاطلًا دون أن يكون هناك من يستطيع عمل أي شيء ذي أثر في تغيير أو منع ما يصير إليه حتمًا.

وعلى كل حال فإنه لا مجال للشك في أن التمييز العنصري يمثل ناحية واحدة من المشكلة الكبرى، وهي: الاضطهاد والتمييز الاجتماعي.

إن فكرة الجنس مليئةٌ بالقوة العاطفية لدرجة أنه من الصعوبة بمكان دراسة أهميتها، وما لها من خطورة دراسة موضوعية في ارتباطها بالمشكلات الاجتماعية، فليس ثَمَّة أساس علمي على الإطلاق لتصنيف الأجناس تصنيفًا عامًّا على أساس من الرقي النسبي. وعلى هذا: فإن التمييز الجنسي وخرافاته وأساطيره ليست إلا وسائل لإيجاد كبش فداء حين تتهدد الأخطار مركز بعض الأفراد، أو تماسك بعض الجماعات.

فالأفراد الذين يختلفون في المظاهر الجسمية عن بقية المجموع هم، بلا شك، أسهل الأهداف للأعمال العدوانية. ومن الناحية النفسية نرى أن «الشعور بالذنب» يزول إذا أُسبغ على العدوان رداء من «المظهر العلمي» في شكل نظرية تُثبت أن الجماعة التي وقعت فريسة العدوان (كبش الفداء) جماعةٌ «منحطة»، أو «مؤذية»، وعادة نرى أن مثل هذا «العدوان» يوجه إما إلى الأقليات، وإما ضد مجموعات كبيرة من المستعبدين الضعفاء.

وهذا العرض الموجز لأصل وتطور التمييز العنصري وأساطيره، وما قيل تبريرًا له، ما هو إلا مقدمة للتحليل التفصيلي لبعض أساطير وخرافات الجنس الأكثر شيوعًا وأهمية. وإنا لنأمل أن نُوضِّحَ فساد وخطأ هذه النظريات التي تستند إلى دعائمَ شبه بيولوجية، وهي الدعائم التي أُقيمت ذرًّا للرماد في العيون؛ حتى لا تبصر أغراضها وسياستها المتعسفة الخفية.

١  استفدنا كثيرًا في التدليل على أمثلة الاضطهاد العنصري بالكتاب الممتاز الذي ألفه سير آلن بيرنز Sir Alan Burns، وعنوانه «التحيُّز اللوني» Colour Prejudice London 1948 ويحتوي هذا الكتاب على كثير من المقتبسات المهمة من كتب أو مجلات ليست في متناول يدي. ونظرًا لطبيعة هذه المجموعة من كتيبات منظمة اليونسكو من حيث صغر حجمها فقد استحال عليَّ كثرة استعمال الهامش وتدوين المصادر التي أنقل عنها، فإنني أنتهز هذه الفرصة لأُعرب عن الدَّين الذي أدين به للسير ألن بيرنزوجزيل الامتنان لتفضله بالسماح لي بالاستفادة من علمه الغزير.
٢  الكريول هم الأوربيون المولودون في أمريكا من آباء وأمهات أوربيات، وذلك تمييزًا لهم عن الأوربيين المهاجرين إلى أمريكا والمولودين أصلًا في أوربا. (المترجم)
٣  العنصر الخلاسي هو ما دخل في أصوله أب أو أم أوربي، والباقي هندي أحمر أو عنصر آخر من العناصر الوطنية في أمريكا اللاتينية. (المترجم)
٤  الزنوج أصلًا من إفريقيا واستوردهم تجار الرقيق إلى أمريكا للعمل في المزارع. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤