نتائج الدراسة

بعد هذه الجولة من دراستنا للعلاقة بين المنطق والتصوف في تراثنا الفكري «السُّهرَورْدي المقتول نموذجًا»، نود أن نشير إلى أهم النتائج التي توصلنا إليها، وذلك على النحو التالي:
  • (١)

    لا شك أن المنطق الإشراقي عند السُّهرَورْدي قد انطلق من نزعة إنسانية شاملة ترمي إلى إحياء الحكمة العتيقة التي ما زال أئمة فارس والهند ومصر وقدماء اليونان إلى أفلاطون يدورون عليها ويستخرجون منها حكمتهم؛ فحاول السُّهرَورْدي من خلال حكمة الإشراق أن يجمع كل التيارات الكبرى في الفكر الشرقي واليوناني في نظام متناسق داخل الحضارة العربية، وذلك بالبحث عن منهج شامل يجمع بين الكشف والبحث، وتجلى ذلك في موقفه من المنطق الأرسطي؛ فقد قبله بشكل عام، وعده إحدى رياضيات المتصوفة الإشراقية، ومن ثم حاول أن يطبعه بطابعه الإشراقي، جاعلًا من المنطق الأرسطي سلمًا صاعدًا إلى عالم الإشراق؛ فالطريقة البحثية الخالصة مرحلة أولى تؤدي إلى التأمل المباشر في الحقائق المعقولة، وهذه الطريقة البحثية الخالصة، برغم قصورها، إلا أنها طريقة حسنة لمن لم تهبط عليه «سوانح نورانية»، لكن عقلًا دون سند يسنده لا يجدر الوثوق به.

  • (٢)

    لقد كشف لنا المنطق الإشراقي عند السُّهرَورْدي المقتول أن منهج الصوفية لا يتعارض مع منهج المناطقة؛ فمنهج الصوفية في نظره يقوم على تجاوز ثنائية الذات والموضوع، لرؤية الوحدة الكامنة خلف هذه الثنائية وخلف التعدد الظاهر من خلال النور الإلهي، ولا يعني ذلك أن الأشياء تتوحد، بل يرى العارف الوحدة كامنة وراء الأشياء جميعًا، ولذا رفض اعتبار المنطق والعقل وسائط بين الذاتين الإلهية والإنسانية، وذلك لا يعني أن الصوفية قد أنكروا دور العقل والمنطق في عملية المعرفة، بل الكثير منهم أقرَّ به، ولكن ضمن نطاق عالم الكثرة والتعدد؛ فالمنطق العقلي منطق كثرة وتعدد لا منطق وحدة واتصال، ولذا رأينا السُّهرَورْدي، ومن بعده عبد الحق بن سبعين، يعرضان في كتبهما للمنطق الأرسطي لبيان قدرته في التوصل للحقيقة، ثم يعقبانه بالنقد عندما يتجاوز قدرته وعالمه؛ فهذه المعرفة لا تخضع في دلالتها ولا في طريقها إلا لاعتبار واحد هو اعتبار التجربة الداخلية.

  • (٣)

    إن النزعة الإشراقية التي ينطلق منها السُّهرَورْدي قد صبغت نقده للمنطق الأرسطي ببعد صوفي يتبدى من خلال محاولته دمج المنطق الأرسطي من خلال منظومته الإشراقية، وإعطائه دورًا مهمًّا ممهدًا لعملية الإشراق.

  • (٤)

    إن مسيرتنا خلال هذا البحث كشفت لنا عن أن السُّهرَورْدي لم يبدأ مشائيًّا، ثم انتهى إشراقيًّا أو العكس بالعكس، بل إنه سار في الاتجاهين معًا منذ ريعان الصبا، ثم راح أحد الاتجاهين يغلب على الآخر في سياق التأليف وهو دون الثلاثين؛ فبرز الاتجاه الإشراقي في الرسائل على حساب الاتجاه المشائي، وبخلاف ما حصل في الكتب الأرسطية حتى توحد معًا في «حكمة الإشراق» الذي لا يخلو من منهجية الفلاسفة وطرقهم في معالجة أبواب المنطق والميتافيزيقا، على كون السُّهرَورْدي لا يباحث فيه إلا أصحابه الإشراقيين.

  • (٥)

    لقد تميز السُّهرَورْدي في منطقه الإشراقي بتعدد وتنوع المصادر التي استقى منها فكره؛ فتيارات متعددة وأفكار مختلفة — سواء دينية وفلسفية وصوفية ومذاهب اليونان والفرس القديمة — أسهمت في تكوين مذهبه، وتجلت مهارته في حبك مختلف الاتجاهات والتيارات في نسق متكامل، من خلال محاولته التوفيق بين الاتجاه البحثي العقلي والاتجاه الكشفي الصوفي في منهج واحد يبدأ من العقل ويترقى صاعدًا حتى يصل إلى مرحلة الكشف والإشراق.

  • (٦)

    إن فكرة الإشراق عند السُّهرَورْدي قامت على أساس من الاستدلال البحثي العقلي، وهو ما أكده السُّهرَورْدي نفسه في حكمة الإشراق، حين أعلن أن الأساس الفلسفي لديه يمثل مرحلة أولى ممهدة لمرحلة الإشراق؛ فالإشراق يستند إلى أساس فكري ونظري، وطالبه ينبغي أن يكون قد قطع عقبات العلم والبحث.

  • (٧)

    إن السُّهرَورْدي لم يرفض فلسفة أرسطو والاتجاهات الفلسفية العقلية والبحثية، وإنما أبقى عليها على اعتبار أنها مرحلة أولى ممهدة للحكمة الحقيقية، ومقدمة لما يليها، وأداة العلم في هذه الفلسفة، ألا وهو المنطق، إنما يمثل مرحلة نحو عالم الإشراق؛ فمنطق أرسطو صحيح في عالم الكثرة، وأما عالم الوحدة فيحتاج إلى منطق آخر؛ منطق المحقق كما يسميه ابن سبعين، أو المنطق الإشراقي كما يسميه السُّهرَورْدي؛ حيث صرح بأنه يمثل الآلة الواقية للفكر، والتي تتسم بأنها مضبوطة بضوابط قليلة العدد كثيرة الفوائد، وهي كافية للذكي ولطالب الإشراق، بيد أن قصور المنطق اليوناني عن الوصول إلى المعرفة الحقة، جعل السُّهرَورْدي يعمد إلى نقده، ومحاولة إصلاحه ليتلاءم مع منحاه الإشراقي.

  • (٨)

    إن السُّهرَورْدي نظر إلى منطقه الإشراقي على أنه يمثل ناحيتين؛ الأولى، وهي اعتباره مرحلة ضرورية ممهدة للإشراق، يبدأ من خلاله العقل بالتمرس على المجردات والمعقولات المنطقية، ويترقى شيئًا فشيئًا من عالم الحس والمادة إلى عالم المعقولات والمجردات؛ حتى يصبح مهيًّأً لمعاينة الأنوار المجردة وتلقي الإشراق منها. والثانية، لما كان المنطق في طريق الإشراق، وجب تجاوزه للانتقال إلى ما بعده، ولذا كان لا بد من نقده، ومحاولة إصلاحه ليتفق مع رؤية السُّهرَورْدي الإشراقية.

  • (٩)

    عندما بدأ السُّهرَورْدي في القسم الأول من كتاب حكمة الإشراق بالبحث في «أسس الفكر» من حيث المعايير المنطقية، وذلك ليرى إمكانية التوصل إلى الحقيقة من خلال هذه المعايير العقلية، وعندما اكتشف أنها لا تفيد في الوصول إلى الحقائق الثابتة والدائمة التي ينشدها، لجأ إلى نقدها وحاول إصلاحها لتصبح صالحة كمرحلة نحو عالم الموجودات الحقيقية، عالم الأنوار والمجردات، وهو ما عرض له بالفعل في القسم الثاني من الكتاب حين تناول نظرية الأنوار ومراتبها وما يتعلق بها من مباحث كوسمولوجية وطبيعية.

  • (١٠)

    إن محاولة السُّهرَورْدي لتجاوز الصعوبات التي وجدها في الحد الأرسطي، وخاصة ما يتعلق منها بالمفاهيم التصورية العقلية، وجد أن المعرفة تقال على ثلاثة أوجه: أولها المعرفة الحسية المباشرة، وثانيها الكشف والعيان، والمعرفة بالمعنى الثالث هي إدراك التصورات العقلية عن طريق التعريف، فهو لم يرفض المنطق بداية، ولم يرفض الطريق العقلي وفكرة الحد بشكل كامل، وإنما عمل على تعديلها لتتفق مع فكره الإشراقي.

  • (١١)

    إن السُّهرَورْدي لا يُقصي المنطق العقلي بشكل كامل من اتجاهه الإشراقي، وإنما يسعى لتوظيفه واستخدامه، ولكن بعد أن يتم تعديله وإصلاحه ليتفق مع الاتجاه الإشراقي، والذي يعده طريقًا أضبط وأنظم وأقل إتعابًا؛ فهو يبدأ من المجاهدات والرياضات الصوفية في محاولة للتخلص من علائق المادة؛ فالبداية من الجزئي الواقعي، ولكن بهدف تخطيه وتجاوزه نحو عالم المعقولات والمجردات والأنوار؛ فهو ترقٍّ من مرحلة دنيا في ترتيب الموجودات إلى درجة أعلى؛ فالطريقة البحثية تؤدي إلى التأمل المباشر في الحقائق المعقولة، فيصبح بذلك سلمًا صاعدًا نحو عالم الإشراق.

  • (١٢)

    إن السُّهرَورْدي بعد أن أسس التعريفات على الحس الظاهر والموجودات الجزئية الواقعية، بدأ في القضايا بما يشبه العروج خطوة خطوة نحو المجردات والكليات، وذلك من خلال آلية منطقية عمل من خلالها على رد القضايا الجزئية، والتي تتصف بالوجود الواقعي، إلى قضايا كلية، والقضايا الكلية قضايا ذهنية عقلية مجردة، فنجد أننا ننتقل هنا من الجزئي إلى الكلي؛ أي من المحسوس إلى المجرد، وكذلك الأمر في القضايا السالبة عمل على ردها إلى قضايا موجبة؛ إذ إن المعرفة الإشراقية معرفة إيجابية لا سلبية، والنفس البشرية في عملية المعرفة ليست متلقية سلبية، بل هي ذاتها نور تشرق على الموضوع فتنيره، وأما القضايا الممكنة فيردها إلى الضروري؛ إذ ليست المعرفة الحقيقية بالمعرفة الممكنة المتشكك فيها، وإنما هي معرفة يقينية ضرورية لا شك أو ظن يشوبها.

  • (١٣)

    إن السُّهرَورْدي، على الرغم من رفضه للقضايا السلبية والجزئية، إلا أنه يذكرها، ولعل ذلك ربما يكون عائدًا إلى الدور التعليمي التربوي الذي نشده في المنطق، أو لعله لم يكن قد تحرر بشكل كامل من التأثيرات المشائية في محاولة إصلاح المنطق، ولا أدل على ذلك من أنا نجده في جميع المباحث المنطقية، ما قبل منها وما رفض، يسير وفق الترتيب المعهود في الكتب المشائية ككتب ابن سينا والساوي وغيرهما دون أن يخرج عن هذا الترتيب المشائي المعهود.

  • (١٤)

    إذا تأملنا ما قام به السُّهرَورْدي في قسم المنطق في كتابه حكمة الإشراق، نجد أنه يُعد المنطق نوعًا من الرياضة الصوفية المهيئة لعملية الإشراق من خلال تمرس الذهن والعقل في الأمور المجردة الكلية، وهذا ما ظهر واضحًا من خلال الانتقال نحو القضية البتاتة؛ القضية الموجبة الضرورية؛ فالسالك في نظر السُّهرَورْدي يبدأ بالتعلق بالنور المحسوس، ثم ينتقل إلى إدراك أن النور المعقول أولى باسم النور من المحسوس، ثم ينتقل إلى مشاهدة الأنوار، ويصل إلى قمة هذه الأنوار، وهو الله حقيقة الحقائق. هذا العروج الروحي أو النفسي من عالم المادة والحس نحو عالم المجردات والمعقولات يظهر بوضوح في التغييرات التي قام بها السُّهرَورْدي على مبحث القضايا؛ إذ حاول التخلص من علائق المادة عن طريق التخلص من القضايا الوجودية المرتبطة بالمادة والحس، والارتفاع نحو المعقولات والمجردات؛ أي القضايا الكلية في المنطق.

  • (١٥)

    إن السُّهرَورْدي قد قام بقفزة كبيرة أحدثت فجوة لا يمكن تجاوزها بين ما قدمه في التعريفات من عودة إلى الظواهر والمحسوسات، ثم الانتقال المفاجئ في مبحث القضايا من الجزئي إلى الكلي، فلم يحافظ على وحدة الفكرة، كما طرحها في البداية؛ إذ كان الظاهر والحس هو المرجع هناك، وهنا أصبح الكلي والمجرد هو الأساس؛ فالسُّهرَورْدي لم يتابع ما بدأه في التعريفات من الاستناد إلى الواقع في المعرفة، وإنما كان الواقع لديه درجة أو مقام من مقامات المعرفة، يبدأ العقل بالمعرفة الحسية المباشرة ليترقى منها نحو المعرفة المجردة.

  • (١٦)

    إن ما قدمه السُّهرَورْدي في باب القياس لم يأت فيه بجديد وإن تغيرت بعض مباحثه نتيجة التغييرات التي قام بها في مبحث القصايا؛ فظهر مبحث القياس لديه كاستمرار آلي لمبحث القضايا، وهو يتعامل مع نتائج آرائه في القضايا بشكل منطقي بحت، ولم يظهر أثر الإشراق في هذا المبحث، إلا إذا اعتُبرت عمليات رد أشكال القياس إلى الشكل الأول هي استمرار لفكرة رد القضايا؛ أي عودة إلى المصدر الأول الذي صدر عنه كل شيء؛ فهدفه من عرض القياس، وما قام به من إصلاحات، بحسب رأيه، تمنح أشكال القياس القدرة على إنتاج قضايا كلية موجبة ضرورية؛ فحتى عن طريق القياس حاول الانتقال نحو الكلي الموجب الضروري، ولو بدأ من جزئي أو سالب أو ممكن أو غير ذلك مما يشوبه النقص في درجة الوجود، ولكنه يملك إمكانية الترقي نحو الكلي الموجب الضروري.

  • (١٧)

    إن السُّهرَورْدي أراد أن يعيد سبك الحدود والمفاهيم والقضايا بشكل يخدم رؤيته لموقع المنطق من بنائه الفكري، إلا أنه رغم هذا النقد الذي قدمه، ومحاولة الإصلاح التي قام بها، لم يستطع الخروج عن نطاق هذا المنطق، بل بقي أمينًا له في معظم مباحثه، وإن كنا قد نجد أثرًا للإشراق في مباحث الحد والقضايا، إلا أننا وجدنا أن آراءه في القياس بقيت امتدادًا منطقيًّا لآرائه في القضايا دون خروج عن قواعد القياس، بل سار بالقضايا إلى نتائجها المنطقية في القياس.

  • (١٨)

    إن ما قام به السُّهرَورْدي قد يكون جزءًا من مشروع أكبر لم يكتمل بسبب مقتله وهو في مقتبل عمره، غير أننا لا يمكن أن نحكم على ما كان يمكن أن ينجز، وإنما نقيِّم ما تم إنجازه فعليًّا.

  • (١٩)

    لقد كشفت لنا مسيرتنا خلال هذه الدراسة أن السُّهرَورْدي كان أول صوفي تصدَّى للفلسفة المشائية في القرن السادس الهجري، وذلك حين أعرب في كتابه حكمة الإشراق عن تبرُّمه بها، ونزوعه إلى الفلسفة الإشراقية، وهذا يعني أنه كان صوفيًّا أكثر من كونه فيلسوفًا، على أنه يضع الفلسفة والتصوف في علاقة خاصة لا توجد عند غيره، كما أن الفكر الإنساني في نظره غير قادر وحده على امتلاك المعرفة التامة، ولا بد أن يستعين بالتجربة الداخلية والذوق الباطني، كما أن الاختبار الروحي لا يزدهر، ويثمر إلا إذا تأسس على العلم والفلسفة. إن رؤية السُّهرَورْدي هذه جعلته موسوعي النزعة، لا يقنع بكتاب، ولا يقتصر على شيخ، ولا يتقيد بفلسفة، وقد جمع بين حكمة الفرس واليونان وكهنة مصر وبراهمة الهند، وآخى بين أفلاطون وزرادشت، وبين فيثاغورس وهرمس.

  • (٢٠)

    إذا كان ابن سينا قد ذكر في كتابه منطق المشرقيين أن الحكمة المشائية هي حكمة العوام، وأنه في سبيله إلى الحديث عن حكمة الخواص. وبالرغم من صدق السُّهرَورْدي المقتول من أن ابن سينا لم يحصل على منابع هذه، فإن ابن سينا في رسائله وضع لبنة في بناء هذا الأساس، وهي رسائله: «حي بن يقظان» و«رسالة الطير» و«سالمان وأبسال» و«رسالة في العشق». ولم تغب هذه الرسائل عن خواطر متصوفة الفرس، فكتب فريد الدين العطار «منطق الطير»، ونظم عبد الرحمن الجامي «سالمان وأبسال».

  • (٢١)

    إذا كان السُّهرَورْدي قد انطلق من نزعة كلية شاملة ترمي لإحياء المعرفة الصوفية اللدنية وتكوين تيار فكري إنساني ومنهج موحد يجمع بين العقل والقلب، إلا أنه يختلف عن ابن تيمية الذي انطلق من نزعة عملية واقعية تستند إلى أساس لاهوتي إسلامي يتداخل فيها التناول العقلي مع إرادة الدفاع عن الأصول وحراسة العقائد من خطر المناطقة الذين اتهموه بالزندقة؛ لذا انطلق ابن تيمية من الواقع والمحسوس، ممهدًا بذلك السبيل لنقد نظرية الاستدلالات في صورتها البرهانية، طارحًا ما يراه أولى بالاتباع.

  • (٢٢)

    إن السُّهرَورْدي في نقده للحدود والقضايا والقياس كان بحاجة إلى إعادة صياغة المقدمات لتصبح مهيأة لينطلق منها نحو الإشراق، فتركز نقده للقضايا، وجاء القياس لديه وكأنه تحصيل حاصل؛ إذ إن التغييرات التي أجريت على القضايا فرضت نفسها على القياس.

  • (٢٣)

    إن مسيرتنا خلال هذا البحث كشفت لنا عن حقيقة مهمة، وهي أن السُّهرَورْدي بقي مجهولًا لفترة طويلة في العالم العربي، إلى أن قام الكثير من المستشرقين من أمثال «هنري كوربان» و«لويس ماسينون» و«ماكس هورتن» وغيرهم بنشر وتحقيق الكثير من أعماله، ودراستها بشكل مفصل، وهذا ما ساعد على إلقاء الضوء على السُّهرَورْدي الذي امتد أثره قرونًا طويلة، وخاصة في فارس، غير أن هذه الدراسات كانت غالبًا ما تركز على الجانب الإلهي من فكره المتعلق بالإشراق وفكرة النور، فتم بذلك تجاهل الجانب المنطقي من هذا الفكر، والذي تكمن أهميته في قدرة السُّهرَورْدي البارعة في توظيف كل ما يقع عليه لخدمة فكره الإشراقي، بما في ذلك المنطق ذاته، وعلى هذا الأساس بنى نقده للمنطق الأرسطي، محاولًا إعطاءه دورًا في عملية الكشف والإشراق.

  • (٢٤)

    إذا كان السُّهرَورْدي قد رد المقولات العشر إلى خمس، وهي الجوهر والكمية والكيفية والإضافة والحركة، وعدَّ متى وأين والملك أنواعًا من الإضافة، وأن يفعل وأن ينفعل أنواعًا من الحركة، وهذه المحاولات من قبل السُّهرَورْدي، وإن كانت قد سبقت المنطق الأوروبي الحديث في نظرنا، إلا أن عملية الاختصار والرد تلك للمقولات ليست بجديدة؛ فالمتكلمون، واستنادًا إلى رؤيتهم المختلفة للوجود، والتي لا تقبل فكرة الهيولى والصورة، أخذوا بفكرة الجزء الذي لا يتجزأ؛ فنتج عن ذلك مفهوم مختلف للمقولات، وإذا كان ابن سينا وغيره من الفلاسفة العرب قد أخذوا بالمقولات العشر، إلا أن أنصار نظرية الجوهر الفرد من المتكلمين أثناء رفضهم للصورة والهيولى الأرسطية، حاولوا أن يُكوِّنوا العالم من جواهر فردة، يخلقها الله دون انقطاع، وهي منفصلة دائمًا، ولا يكون في تلاقيها أي مركب، وبالتالي ليس هناك ثمة خط ولا سطح ولا كم متصل ولا منفصل ولا زمان ولا إضافة، وكل ما هنالك جواهر فردة، متحركة باستمرار؛ فالمقولات في عرف أنصار نظرية الجوهر الفرد ثلاثة لا عشرة، وهي الجوهر وأعراضه التي يجمعها الكيف، والأين الذي يتحرك فيه.

  • (٢٥)

    لقد كشفت لنا مسيرتنا خلال هذا البحث أن القضية البتاتة برأي السُّهرَورْدي تمتلك ثلاث خصائص: القضية الكلية، ثم القضية الموجبة، ثم القضية الضرورية، والهدف من عمليات الرد هذه، كما أعلن السُّهرَورْدي، أنه في العلوم الحقيقية لا يُطْلَب البرهنة على قضايا جزئية أو سالبة، وإنما العلوم الحقيقية تطلب الكلي البات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤