الفصل الأول

السُّهرَورْدي … حياته وآثاره

تمهيد

إن شهاب الدين السُّهرَورْدي؛ هذه الشعلة الإشراقية العرفانية التي أخمدت بسرعة، بفعل الدس والتآمر والتعصب البغيض، لم يَنضب زيتها ويجفَّ بجفاف جسده، بل لا يزال وميضه الروحي، وذوقه العرفاني، يتردد صداه في قلوب عارفيه حتى هذا اليوم، وسيدوم خالدًا أبديًّا يجمع بين النظر والشعور إلى ما لا نهاية، كظلٍّ نوراني يمتد بفيئه ليرسم صورة حقيقية رائعة لأسمى معاني العرفان في ثوب الفلسفة والتأمل الفلسفي.

علاوة على ذلك، فإنه لا يمكن أن يتجاهل الكثير من الباحثين والمفكرين أن السُّهرَورْدي قد قدم لنا مذهبًا فلسفيًّا إنسانيًّا كاملًا؛ حيث ناقش فيه قضايا الفلسفة من خلال المنظومة الرئيسية لها: الله-الكون-الإنسان، فيقدم مفهومه لكلٍّ منها، ومفهومه لعلاقة كلٍّ منها بالآخر، شأنه في ذلك شأن أيِّ فليسوف. وهو في ذلك يقف على قدم المساواة مع أمثال أرسطو وأفلاطون.

ومذهب السُّهرَورْدي الفلسفي — شأن أي مذهب فلسفي آخر — فيه جانب التأثر بما سبقه، وفيه جانب النقد ومحاولة تقديم الجديد.

ومن هذا المنطلق نُحاول في هذا الفصل أن نكشف النقاب عن حياة السُّهرَورْدي وآثاره، وذلك على النحو التالي:

أولًا: اسمه ولقبه

يرى معظم المؤرخين والمترجمين أن شهاب الدين السُّهرَورْدي هو «أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك»، غير أنَّ «ابن أبي أصيبعة» ذكر أن اسم السُّهرَورْدي هو «عمر» دون أن يذكر اسم أبيه.١ وقد لاحظ «نللينو» Nallino هذا الخطأ الذي وقع فيه «ابن أبي أصيبعة»، ووصفه بالسهو الشنيع والغلط الفظيع.٢ أما ياقوت الحموي فيقول إنَّ «اسم السُّهرَورْدي هو أحمد»، وإنَّ كنيته هي «أبو الفتوح».٣
ولكن ابن خلكان يُشير إلى أن الاسم الصحيح هو «أبو الفتوح يحيى بن حبش بن أميرك»، ثم يَضبط هذا الاسم ضبطًا لغويًّا لما عسى أن يَلتبس في هذا الاسم من ألفاظ غريبة أو عجيبة قد يصعب نطقها أو فهمها؛ فيذكر أن لفظ «حَبَشَ» بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة والشين المعجمة. وقال عن لفظ «أَمِيرَك» إنه بفتح الهمزة وبعدها ميم مكسورة، ثم ياء مُثنَّاة من تحتها ساكنة وبعدها راء مفتوحة، ثم كاف، وهو اسم أعجمي معناه «أمير» وهو تصغير «أمير»؛ لأنَّ الكاف التي تلحق بآخر الاسم هي للتصغير.٤
ويُلقَّب السُّهرَورْدي بالمؤيد بالملكوت؛ وذلك لما عرف عنه من العلوم الإلهية والأسرار الربانية التي رمَز الحُكَماء إليها، وأشار الأنبياء إليها، ولما أُيِّد به مِن قوة التعبير عن هذه الأسرار وتلك العلوم في كتابه العظيم «حكمة الإشراق».٥ ويُلقب أيضًا ﺑ «خالق البرايا»؛ وذلك لما كان يُظهره في الحال من العجائب. ويرى الشَّهرَزُوري أن واحدًا رأى السُّهرَورْدي في المنام، فقال له الأخير: «لا تُسمُّوني بخالق البرايا.»٦
ولما كان السُّهرَورْدي قد قُتل بأمر السلطان صلاح الدين الأيوبي سنة ٥٨٦ﻫ/ ١١٩٣م، فلهذا السبب أطلق عليه المؤرخون لقب «الشيخ المقتول»؛ وذلك تمييزًا له عن غيره ممَّن يشتركون معه في النسبة إلى سُهرَورْد؛ فثمة علماء ثلاثة يُعرفون باسم السُّهرَورْدي وهم:
  • (١)

    ضياء الدين أبو النجيب عبد القاهر السُّهرَورْدي، المتوفَّى سنة ٦٣٠ﻫ الموافق ١١٦٧م أو سنة ١١٦٨م.

  • (٢)

    شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عمويه، مؤلف عوارف المعارف، سنة ٦٣٢ﻫ، الموافق سنة ١٢٣٤ أو ١٢٣٥م.

  • (٣)
    محمد بن عمر، ابن الشيخ شهاب الدين — المتقدم مباشرة — صاحب زاد المسافر في التصوُّف.٧
غير أنَّ «أحمد أمين» يرى أنه ربما لقب ﺑ «الشيخ المقتول»؛ إيماءً بأنه قتل استحقاقًا لهذا القتل، وإلا كان لُقِّب بالشهيد، وأنه أشاع في «حلب» تعاليمه الفلسفية ورأيَه في الحلول، وأن الله والعالم شيء واحد، وتصريحه بذلك ألَّب الفقهاء والشَّعب عليه، فاضطرَّ الملك الظاهر بن صلاح الدين حاكم حلب أن يتخلى عن حمايته، فقُتل عام «٥٨٦ه»، وهو في السادسة والثلاثين من عمره.٨
ويرجع «الأب جومس نولجانس» أن علَّة لقب السُّهرَورْدي بالشيخ المقتول يرجع إلى أنه الاسم الذي تعوَّد عليه الناس فسمَّوه به، ولأنه لم يمت موتًا عاديًّا، وإنما مات مقتولًا، ولهذا يكون اللقب الذي تعود الناس تسميته به (المقتول) يشير إلى أن موته لم يُعتبر دليلًا على الإيمان الحقيقي الذي يتَّسم به الشهداء، وإنما مات كافرًا، مُدانًا من السلطات الدينية.٩
وهنا يتَّضح أن السُّهرَورْدي إذا كان قد لُقِّب بالشيخ المقتول، فذلك لما تواتر عليه جمهور المؤرخين، أما تلاميذه وأتباعه فإنهم يُطلقون عليه لقب «الشهيد»؛ حيث اعتبروه شهيد الفكر والعقيدة الإشراقية.١٠

ثانيًا: المولد والنشأة

في منتصف القرن السادس الهجري ولد شهاب الدين السُّهرَورْدي المقتول عام ٥٤٩ﻫ الموافق ١١٥٣م في «سهرورد»، وهي بضم أوله وسكون ثانيه وفتح الراء والواو وسكون الراء، ودال مُهملة، وهي بلدة قريبة من زنجان بالجبال.١١
على أنه ليس من الممكن الآن تحديد موقعها بدقة، لكن إذا أردنا تحديد موقعها في العهد القديم، فيمكن القول بأنها كانت تقع في الشمال الغربي من إيران في ميديا القديمة، وهي مدينة كانت مزدهرة إبان الاضطرابات المغولية.١٢
وبخصوص المولد والنشأة، يعطينا المؤرخون والمترجمون طائفة قليلة من المعلومات التي لا خطر لها ولا غناء فيها، والتي لا تكفي لإظهارنا على صورة واضحة لحياة السُّهرَورْدي في طفولته وصباه، ولعل كل ما نعرفه عنه أنه ولد في سهرورد، وأن تاريخ مولده يقع بين سنة ٥٤٥ﻫ (الموافق ١١٥٠م)، وسنة ٥٥٠ﻫ (الموافق ١١٥٥م)، وأنه قضى حياته الأولى بتلك البلدة القريبة من زنجان، وهي «سُهرَورْد»، وهنالك تلقى أول ما تلقى من ثقافات دينية وفلسفية أو تصوفية. أما على مَن تلقى هذه الثقافات؟ وما مبلغ وقوفه عليها وتحصيله لها؟ وما الخصائص العِلمية وغير العِلمية التي امتازت بها بيئته المنزلية من ناحية، وبيئته الاجتماعية من ناحية أخرى؟ ومَن أبوه؟ وما مكانة هذا الأب؟ وما أثره في تنشئة ابنه، وتثقيفه وتوجيهه؟١٣ فكلُّ ذلك أمور لا يكاد الباحث يظفر بها أو يقف على بعضها فيما بين يديه من المراجع، حتى الشَّهرَزُوري، تلميذ السُّهرَورْدي المباشر وشارح مؤلفاته، لا يُخبرنا في ترجمته المطولة بإجابات شافية عن هذه الاستفسارات.
ولعل صغر سنِّ هذا الفيلسوف الصوفي وكثرة أسفاره كانا من العوامل التي قيَّضَت نطاق انتشار علمه، أو ذيوع صيته، فلم يحفل بتتبع نشأته الأولى.١٤

ثالثًا: رحلاته

كان السُّهرَورْدي كثير السفر والترحال والتنقُّل في مختلف الأقطار، فلقد كان السفر من بعض هواياته؛١٥ فلا يكاد ينزل ببلدة جديدة حتى يبحث عن العلماء والحكماء، ويأخذ عنهم علمهم، وعن الحكماء حكمتهم، ويصاحب الصوفية، ويُجالسهم، ويأخذ نفسه بالتجريد وسلوك طريقتهم من رياضات ومجاهدات كانت سبيله إلى ما أشرقت به نفسه من أنوار المكاشفات.١٦
فقد حدثنا الشَّهرَزُوري ما نصه: «كان قدس الله روحه كثير الجولان والطوفان في البلدان، شديد الشوق إلى تحصيل مشارك له في علومه، ولم يحصل له. قال في آخر «المطارحات»: ها هو ذا قد بلغت سني تقريبًا ثلاثين سنة، وأكثر عمري في الأسفار والاستخبار والتفحُّص عن مشارك مطلع على العلوم، ولم أجد من عنده خبر عن العلوم الشريفة، ولا مَن يؤمن بها، وأكثر العجب من ذلك.»١٧
والبلاد التي سافر إليها السُّهرَورْدي لا تتجاوز كما أخبرنا المؤرخون والمترجمون بلاد الشام، وبلاد الروم. وقد حدثنا الشَّهرَزُوري أيضًا عن السُّهرَورْدي في موضع آخر، فقال ما نصه: «… وسافر في صغره في طلب العلم والحكمة إلى مراغة، واشتغاله بها على يد «مجد الدين الجيلي»، في أصفهان، وبلَغَني أنه قرأ هناك بصائر ابن سهلان الساوي على الظهير الفارسي، والله أعلم بذلك، إلا أن كتبه تدلُّ على أنه فكَّر في البصائر كثيرًا، وسافر إلى نواحٍ متعددة، وصحب الصوفية، واستفاد منهم، وحصل لنفسه ملَكة الاستقلال بالفكر والانفراد، ثم اشتغل بنفسه بالرياضات والخلوات والأفكار، حتى وصل إلى غايات مقامات الحكماء ونهايات مكاشفات الأولياء.»١٨

من هذا النص يتَّضح لنا أن السُّهرَورْدي قد أخذ العلم في بداية حياته على يد «مجد الدين الجيلي»، أستاذ فخر الدين الرازي، ثم سافر بعد ذلك إلى أصفهان، وأصفهان إحدى المدن الكبرى التي استقرَّ فيها «ابن سينا» وقتًا غير قصير، واتخذ فيها قسطًا كبيرًا من موسوعته الفلسفية الكبرى «الشفاء»، وكان له فيها تلاميذ وأتباع تعاقَبُوا إلى أن رآهم السُّهرَورْدي، واطمأنَّ إلى صحبتهم، واتخذ منهم أصدقاء أولع بهم. وفي أصفهان قرأ السُّهرَورْدي «بصائر ابن سهلان الساوي» المتوفَّى سنة ٤٥٠ﻫ الموافق سنة ١٠٦٠م.

وكتاب البصائر النصيرية من أجواد أنواع التلخيصات لمنطق الشفاء لابن سينا، كما أن السُّهرَورْدي، وهو بأصفهان، خاطب الفكر السينوي؛ فكتب له رسالة «بستان القلوب»، كما ترجم «رسالة الطير» لابن سينا إلى اللغة الفارسية.١٩
كما اتَّصل السُّهرَورْدي بالشيخ «فخر الدين المارديني»، وكانت بينهما صداقات واجتماعات، كما أخبرنا بذلك ابن أبي أصيبعة٢٠ حيث استفاد السُّهرَورْدي من اتصاله به في تكوين مذهبه المشائي الذي عرض له في «التلويحات واللمحات والمقامات والمطارحات وهياكل النور …» إلخ.
ثم يذكر الشَّهرَزُوري أن السُّهرَورْدي سافر إلى مناطق مُتعددة لطلب العلم دون أن يذكر اسمها بالتفصيل، غير أنه أشار إلى أن السُّهرَورْدي كان يفضل الإقامة ﺑ «ديار بكر»، وقد اتَّصل بأمير خربوط «عماد الدين قرة أرسلان» حاكم ديار بكر، وأهدى إليه كتابه «الألواح العمادية».٢١
ويذهب «ماسينون» Massignon إلى أن السُّهرَورْدي أسس مدرسة إشراقية في بلاط هذا الأمير.٢٢ غير أن كتابات المؤرخين والمترجمين لم تؤيد هذا الرأي؛ حيث إن صغر سنِّه وكثرة أسفاره لا تجعلنا نعتقد أنه كان لديه من الوقت ما يسمح له بتكوين مدرسة فلسفية، ولا سيما وأنَّ إقامته في الأناضول عند الأمير أرسلان لم تَطُل؛ لأنَّ الشيخ كان كثير السفر، ميالًا إلى التجوال.٢٣
على أن حياة التجوال التي كان يحياها السُّهرَورْدي لم تقف به عند البلاد التي أشار المؤرخون والمترجمون إلى أنه قد دخلها، وأفاد منها ما أفاد من ثقافات، واتصل فيها بمن اتصل من شخصيات، وإنما هي قد امتدَّت به إلى الشام؛ حيث قدم مدينة حلب سنة ٥٧٩ﻫ، كما يقول «ابن أبي أصيبعة»،٢٤ وهي آخر البلاد التي سافر إليها، وفيها قُتل بسبب معتقداته الفلسفية.

رابعًا: مأساته

يُحدثنا الشَّهرَزُوري بما قاله «فخر الدين المارديني» ما نصه: «ولما فارقنا السُّهرَورْدي من الشرق، وتوجه إلى حلب، وناظَرَ فيها الفقهاء، ولم يُجاره أحد؛ فكَثُر تشنيعهم عليه، فاستحضره الملك الظاهر، واستحضر الأكابر والفُضلاء المتفنِّنة لسماع ما يجري بينهم من المباحث، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحَسُن موقعه عند الملك الظاهر، وقرَّبه وصار مكينًا عنده مختصًّا به؛ فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيَّروها إلى دمشق إلى صلاح الدين، وقالوا له: إن بقيَ أفسد اعتقاد الملك، وإن أُطلق أفسد أي ناحية سلك، وزادوا عليه أشياء كثيرة؛ فبعث إلى الملك الظاهر يقول بخطِّ القاضي: «إن هذا الشهاب لا بد من قتله، ولا سبيل إلى إطلاقه بوجه».»٢٥
من هذا النص يتضح لنا أن السُّهرَورْدي عندما جاء إلى حلب، نزل المدرسة الحلاوية، وحضر درس شيخها الشريف «افتخار الدين»، كما أخبرنا بذلك ابن أبي أصيبعة،٢٦ فأدناه إليه وقرب مجلسه منه، وأظهر فضله للناس، وعرف مكانه فيهم، على أن ما ظهَر من فضل السُّهرَورْدي وعلمه، وما أظهره من براعة في المناظرة، وإفحام في الحجاج، وما كان له من منزلة كبرى عند الشيخ افتخار الدين، كل أولئك قد أحنق عليه الفقهاء، وأوغر صدورهم، فجعلهم يرجفون به ويُشنِّعون عليه، الأمر الذي ترتب عليه أن استحضره الملك الظاهر بن صلاح الدين، وصاحب حلب في ذلك الحين، وعقد له مجلسًا من الفقهاء والمتكلِّمين يُباحثونه ويناظرونه، فيظهر عليهم بحججه، وإذا بالملك يقربه، ويُقبل عليه ويتخصَّص به، وإذا بالحانقين عليه والضائقين به من الفقهاء يزداد حنقهم وغيظهم، وإذ هم يرمونه بالإلحاد والزندقة، ويكتبون إلى الملك الناصر صلاح الدين يحذرونه من فساد عقيدة ابنه الظاهر بصحبته للشهاب السُّهرَورْدي، ومن فساد عقائد الناس إن هو أبقى عليه، فلم يكن من صلاح الدين إلا أن كتب إلى ابنه الظاهر يأمره بقتل السُّهرَورْدي، ويشدد عليه في ذلك ويُؤكده، وما هي إلا أن استفتى فقهاء حلب في أمره فأفتوا بقتله.

والواقع أن هذه الحملة على السُّهرَورْدي تدعو إلى التساؤل: هل هي وليدة خصومة شخصية وتبايُن في الميول والطباع، أم ثمرة خلاف مذهبي؟

في الحقيقة ذهب بعض المستشرقين، من أمثال ماكس هورتن M. Horten وغيره، إلى أن مقتل السُّهرَورْدي يَرجع إلى أسباب سياسية. يقول «هورتن» ما نصه: «إن مذهب السُّهرَورْدي يَنطوي على إحياء المذهب الإسماعيلي القائل بأنَّ أبناء عَليٍّ هم صور للتجلِّي الإلهي، ولهذا أُعتبر ثائرًا سياسيًّا يعمل على قلب النظام، وكان مصيره كمصير الحلاج من قبل.»٢٧
ويُوافِق بعض الباحثين على هذا الرأي؛ فنجد الدكتور عبد الرحمن بدوي يقول إنه «لولا اتصال السُّهرَورْدي بالملك الظاهر، وما خشيَه السلطان من تأثير هذه الصِّلة على المذهب السنِّي الذي كان يمثله صلاح الدين، لظل السُّهرَورْدي طليقًا حرًّا يفكر كما يشاء. ونفس ما حدث ﻟ «السُّهرَورْدي» حدث للحلاج من قبل، فلولا أن الحلاج قد زج بنفسه في التيارات السياسية المضطربة في عصره ومصره بين الشيعة والحنابلة، واتصاله برجال السياسة، لما حدث له شيء مما حدث من تعذيب أو صلب. أما أن تكون أسباب اتهامه هي مسائل ترجع إلى آرائه، فلم يكن إلا تُكَأة استند إليها السلطان فحسب، وإن في وُسعِه أن يجد غيرها ليُنكِّل به كما فعل لو لم توجد هذه الآراء.»٢٨
وإذا كان بعض المُستشرقين والباحثين يرجع حادث مقتل السُّهرَورْدي إلى أسباب سياسية، فإن هناك أسبابًا أخرى يجب ألا نغفل عنها، وهي أنَّ جرأة السُّهرَورْدي وقسوته على معارضيه هي التي جنت عليه، وهذا الشَّهرَزُوري تلميذ السُّهرَورْدي أقوى شاهد إثبات؛ حيث فصَّل القول في هذا تفصيلًا تامًّا، وأظهرنا على أن السُّهرَورْدي كان يُصرِّح في البحوث بعقائد الحكماء، لأنه كان صارمًا في جدله، مُفحمًا في حجته، لا يأخذ خصومه في هوادة، ولا يُخاطبهم في لين.٢٩
هذا بالإضافة إلى ما كان يظهره بقوة روح القدس، وما نسب إليه من العظائم، وأنه ادَّعى النبوة، فكل ذلك كان سببًا في أن يَجمع الفقهاء أمرهم على تكفيره وإباحة دمه، والحكم عليه بالقتل. ولكن الشَّهرَزُوري يرى أن السُّهرَورْدي بريء من ذلك.٣٠
من هذا يتبيَّن لنا أن جرأة السُّهرَورْدي وتهوره وقلَّة تحفظه من الأسباب التي جنت عليه؛ فمن يَدري فلعل السُّهرَورْدي لو أنه اصطنع كثيرًا أو قليلًا من التحفُّظ والاعتدال، وأمسك عن كثير أو قليل من تصريحاته وعباراته، لكان للفقهاء معه شأن آخر؟ ولكنه وقد أطلق نفسه على سجيتها، وأطلق لأذواقه وأفكاره ومذاهبه كل حريتها، لم يَستطِع أن يكون غير ما كان، ولا أن يقول غير ما قال، ولم يستطع الفقهاء إلا أن يُحرجوه ويَدحضوا مزاعمه وينسبوه إلى الكفر والضلال ويفتوا بقتله.٣١
ويَنفرِد العماد الأصفهاني، الذي كان مُعاصرًا ﻟ «السُّهرَورْدي»، بإيراد القصة الكاملة لمقتله فيقول ما نصُّه: «في سنة ٥٨٨ﻫ، قتل شهاب الدين السُّهرَورْدي وتلميذه شمس الدين بقلعة حلب. أخذ بعد أيام، وكان فقهاء حلب قد تعصَّبوا عليه، ما خلا الفقيهَين «ابني جهيل» فإنهما قالا: هذا رجل فقيه، ومُناظراته في القلعة ليس بحسن، ينزل إلى الجامع ويجتمع لهم، ويُعقد له مجلس في الخلاف معه، وقالوا له: أنت قلت في تصانيفك «إن الله قادر على أن يخلق نبيًّا»، وهذا مُستحيل، فقال لهم: ما حدٌّ لقدرته، أليس القادر إذا أراد شيئًا لا يَمتنع عليه؟ قالوا: بلى، قال: فالله قادر على كل شيء، قالوا: إلا على خلق نبيٍّ فإنه مُستحيل، قال: فهل يستحيل مطلقًا أم لا؟ قالوا: كفرت، وعملوا له أسبابًا لأنه بالجملة كان عنده نقص عقل لا علم، ومن جملته أنه سمَّى نفسه المؤيَّد بالملكوت.»٣٢

وإذا كان السُّهرَورْدي قد قُتل بالفعل، فكيف نفذ فيه حكم القتل؟ وعلى أي وجه قتل؟

اختلفت الروايات وتضاربت الأقوال في هذا الموضوع، فنجد أن الشَّهرَزُوري يقول: «… ورانت الناس مُختلفين في قتله، فزعم بعضهم أنه سجن ومنع الطعام.» وبعضهم يقول: «منع نفسه حتى مات.» وبعضهم يقول: «خنق بوتر.» وبعضهم يقول بسيف، وقيل إنه «حط في القلعة وأحرق.»٣٣
كما يُخبرنا ابن أبي أصيبعة؛ حيث يقول: «ولما بلغ الشهاب السُّهرَورْدي ذلك (نبأ قتله)، وأيقن أنه مقتول وليس جهة إلى الإفراج عنه، اختار أن يترك في مكان مُنفرد، ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى؛ ففعل به ذلك.»٣٤
من هذين النصَّين يتَّضح أنه لا يمكن أن نرجح كيف قتل السُّهرَورْدي، غير أنه يمكن القول مع «هنري كوربان»، بأنه قتل بطريقة سرية.٣٥ أما عن معرفة التاريخ الذي وقع فيه حادثة القتل، فنجد أن المؤرخين والمترجمين يختلفون في إيراد وفاته، إلا أن الاختلاف ليس كبيرًا؛ فهو لا يتعدى سنتي ٥٨٦ﻫ و٥٨٨ﻫ؛ فنجد أن الشَّهرَزُوري يذكر ٥٨٦ﻫ على أنها السنة التي قتل فيها أستاذه،٣٦ وكذلك العماد الأصفهاني يذكر حادث مقتله ٥٨٨ﻫ.٣٧
إلا أن معظم الباحثين والمؤرخين والمترجمين يُرجِّحون من بين هذه التواريخ جميعًا ٥٨٧ﻫ٣٨ وهو يوافق ٢٩ يوليو سنة ١١٩١م٣٩ يعني أن عمره كان حينئذ ٣٦ عامًا بالتقويم العربي القمري، ويُلاحظ أن تاريخ وفاته سابق على التاريخ الذي مات فيه ابن رشد، وذلك بسبع سنين.

خامسًا: حياته الفكرية

يعتبر السُّهرَورْدي أول من تصدى للفلسفة المشائية في القرن السادس الهجري، فقد أعرب في مصنفاته عن تبرمه بالفلسفة المشَّائية وحرصه على تخطيها بالاتجاه نحو فلسفة إشراقية تنم عن أعماق شجونه الفكرية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن السُّهرَورْدي متصوف قبل أن يكون فيلسوفًا، وقد انتهى من فلسفته إلى حكمة الإشراق التي تدل على مذهبه الحقيقي، وقد تفلسف غيره من مُتصوِّفي الإسلام، ولكن أحدًا منهم لم يربط الفلسفة بالتصوف مثلما فعل، فهو يضع الفلسفة والتصوف في علاقة خاصة لا نجدها إلا عنده، وهو يُميِّز بين نوعين من الحكمة مُتقابلين: «الحكمة البحثية» المعتمدة على التحليل والتركيب والاستدلال البرهاني، وتهدف إلى الوصول إلى الحقيقة، وهي حكمة الفلاسفة، حكمة الإشراقيين، وليس ثمَّة تعارض حقيقي بين الحكمتين، وإنما هو تعارض ظاهري؛ لأنَّ الإشراقي الحقيقي هو الذي يُتقن الحكمة البحثية، وينفذ في الوقت نفسه إلى أسرار الحكمة الذوقية.٤٠
وفي هذا يُحدثنا الشَّهرَزُوري ما نصه: «جمع (يعني السُّهرَورْدي) بين الحكمتين، أعني الذوقية والبحثية. أما الذوقية فشهد له بالتبريز فيها كلُّ من سلك سبيل الله عز وجل، وراض نفسه بالأذكار المتوالية، والمُجاهَدات المتتالية، رافضًا عن نفسه التشاغل بالعالم. طالبًا بهمته العالمية مشاهدة العالم الروحاني، فإذا استقر قراره وتهتك بالسير الحثيث إلى معاينة المجردات أستاره، حتى ظفر لمعرفة نفسه، ونظر بعقله إلى ربه، ثم وقف بعد هذا على كلامه، فلتعلَم جيدًا أنه كان في المكاشفات الربانية آية، والمُشاهدات الرُّوحانية نهاية، لا يعرف غوره إلا الأقلون، ولا يَنال شأوه إلا الراسخون. وأما الحكمة البحثية فإنه أحكم شأنها وشيد أركانها وتميز عن المعاني الصحيحة البارزة اللطيفة بالعبارات الرشيقة الوجيزة، وأتقنَها ورآها، لا سيما في الكتاب المعروف ﺑ «المشارع والمطارحات»، فإنه استوفى فيه بحوث المتقدِّمين والمتأخِّرين، وتفحص فيه معتقد الحكماء الأقدمين، وأكثر تلك البحوث والمُتناقِضات، والأسئلة والإيرادات، من تصرُّفات ذهنه ومكنون علمه، وذلك يدلل على قوته في الفن البحثي والعلم الرسمي، واعلم أن قيم كلامه ومعرفة أسراره مشكل جدًّا على من لا يسلك طريقته.»٤١
وهذا الجمع المحكم بين الحكمتين «الذوقية والبحثية»، يدلُّ دلالة واضحة على مظاهر الأصالة في التفكير عند السُّهرَورْدي؛ فبحسب النظرية السُّهرَورْدية أن المجهود الفكري للنفس الإنسانية، لا يحقق لها الغاية المرجوة، التي هي المعرفة التامة، إلا بالتجربة الداخلية والذوق الباطني، كما أن الاختبار الرُّوحي بدوره، لا يَزدهِر ويرسخ وينتج ثمراته المطلوبة، إلا إذا قام على أساس ثابت من العلم والفلسفة.٤٢
وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن النظرية السُّهرَورْدية تدعو إلى «حشد» كل ضروب العهد — بما فيها الإسلام — لشرح «روحية الإشراق» بنقل اعتبار التوجيه للإسلام في المجتمع الإسلامي إلى روحيته الإشراقية.٤٣
وهذه المُحاوَلة تبيَّن لنا أن السُّهرَورْدي كان موسوعي النزعة، لا يقنع بكتاب، ولا يقف عند شيخ، ويأبى إلا أن يضمَّ الحكماء بعضهم إلى بعض، سواء أكانوا شرقيين أو غربيين، وكأنما كان يطبق الحديث القائل: «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها»، فجمع بين حكماء الفرس واليونان، وبين كهنة مصر وبراهمة الهند، وآخى بين أفلاطون وزرادشت، وبين فيثاغورس وهرمس، وشاء أن يضم الروحانيين بعضهم إلى بعض دون تَفرقة بين جنس ووطن.٤٤
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى استطاع أن يُنبهنا إلى دراسة المنطق والفلسفة، وما لهما من قيمة كبرى وخطر عظيم وأثر كبير في إعداد طلاب الحكمة وتثقيفهم؛ فهو يرى أنه لا بد لطالب العلم والمعرفة من أن يُلمَّ إلمامًا تامًّا بالفلسفة الأرسطية والمنطق والرياضيات والتصوف، وأن يخلص نفسه من شوائب الهوى والشهوة؛ بحيث يستطيع أن يُنمي تدريجيًّا هذه الحاسة التي تُحقِّق وتصحح ما يأخذه العقل على أنه نظري خالص، والتي تُعرف عند الصوفية باسم الذوق. فإنَّ العقل الذي يعمل وحده دون أن يكون له عون أو مؤيد من الذوق لا يصحُّ أن يوثق فيه ثقة مطلقة أو يطمأن إليه اطمئنانًا لا شبهة فيه ولا غبار عليه؛ ومن ثم كان السُّهرَورْدي حريصًا على أن يؤيد العقل بالذوق.٤٥

سادسًا: آثاره

لقد كان لمصير السُّهرَورْدي أثره في أن يظل إنتاجه الفلسفي مختفيًا لبعض الوقت، نظرًا لما شاع عنه من مروق في الدين، إلا أنَّ تلامذته قد اهتموا بتتبع أخباره، وعلى الأخص الشَّهرَزُوري٤٦ الذي ذكر في ترجمته لمصنفات السُّهرَورْدي تسعة وأربعين كتابًا ورسالة، فضلًا عما ذكره مِن مُصنفات منثورة ومنظومة تصور عبقرية السُّهرَورْدي في النثر والنظم. ولم تصل إلينا مُعظَم تلك الآثار والمصنفات التي يُعدِّدها الشَّهرَزُوري ﻟ «السُّهرَورْدي»، اللهم إلا كتب ورسائل نشر أقلها وما يزال أكثرها مخطوطًا حتى الآن، وتُوجد منه نسخ خطية تختلف كثرة وقلة في مكتبات الشرق والغرب، يضاف إلى هذا أن صحة نسبة بعض ما يذكره الشَّهرَزُوري إلى السُّهرَورْدي ما يزال في حاجة ماسة إلى تحقيق وموازنة تكشف عن وجه الحق فيها.

ومهما يكن من شيء، فإنَّ إثبات الشَّهرَزُوري لمصنفات السُّهرَورْدي يمكن أن يعد إثباتًا كليًّا، إذا قيس إلى ثبوت غيره من المؤرخين والمترجمين، من أمثال ابن أبي أصيبعة، وابن خلكان، وياقوت الحموي، وحاجي خليفة، والتي من أخص خصائصها أنها جزئية ذكرت شيئًا وأغفلت أشياء، وما أغفلته كان أكثر بكثير مما ذكرته. غير أننا نجد أن مُحاولة الشَّهرَزُوري ليست بحثًا في العلاقة بين ترتيب كتب السُّهرَورْدي وتطور فلسفته، بل إنها تعداد لكتبه ورسائله دون مراعاة لأي اعتبار تصنيفي.

أما أول من قام بمحاولة التصنيف هذه من الكتاب المحدثين فهو ماسينون،٤٧ الذي يقسم كتب السُّهرَورْدي إلى ثلاثة أقسام بحسب مراحل ثلاث من حياته الفلسفية وسمَت كلٌّ منها تفكيره بطابع معين. وهذه المراحل هي:
  • (١)

    مرحلة الشباب أو «العهد الإشراقي»: وتشمل الألواح العمادية، وهياكل النور أو الرسائل الصوفية، وكان ذلك بالاستناد إلى ما أورده الشَّهرَزُوري.

  • (٢)

    مرحلة العهد المشائي: وتشمل التلويحات واللمحات والمقاومات والمطارحات.

  • (٣)

    المرحلة الثالثة: وهي العهد الأخير الذي تأثَّر فيه بالأفلاطونية المحدثة وابن سينا، وتشمل حكمة الإشراق واعتقاد الحكماء.

ولقد فتحت مُحاولة المستشرق الفرنسي «ماسينون» باب الخوض في تصنيف كتب «السُّهرَورْدي» أمام المُستشرقين، فذهب سبيز وختك Spies and Khattak٤٨ ليقررا أن رسائل السُّهرَورْدي الصوفية والفلسفية، مثل «مؤنس العشاق» و«لغة موران» و«صفير سميرغ»، هي مِن أعمال السُّهرَورْدي المبكرة.
إلا أن المحاولة الرصينة التي قام بها المستشرق الفرنسي الأستاذ «هنري كوربان Henry Corbin»٤٩ بعد ذلك، نقلت هذه المسألة من بحث تاريخي لتصنيف السُّهرَورْدي إلى بحث في فلسفته والإبانة عن تطوُّر فكره، منذ تحصيله الأول في «مراغة» إلى امتلاك أساليب الجدل في «حلب». كما يذهب أيضًا «هنري كوربان» إلى أنَّ كتب السُّهرَورْدي لا يمكن أن تصنف تبعًا لمراحل سيرته، بل إن هذه المؤلَّفات، المتجانسة في الغاية، يُشير الواحد منها إلى الآخر بشكل ظاهر أو خفي. ولذلك اعتمَد تصنيفه على الوحدة الجوهرية لآثار الشيخ، وعلى النهج المعنوي الذي يُنظم ويؤلف بين هذه الآثار في دلالتها على مثال واحد؛ فأهمل تصنيفه، وبالتالي التسلسل التاريخي، واعتمد الأواصر المعنوية والنفسية في تقدير المشاكلة. وهو يقسم كتب السُّهرَورْدي إلى أربعة أصناف:
  • (١)

    صنف يشتمل على رسائل يمكن أن يطلق عليها اسم «الرسائل الاعتقادية الكبرى»، وهي مكتوبة بالعربية، وقد وضعت الرسائل الثلاث الأولى، وهي «التلويحات والمقاومات والمشارع والمطارحات» على أن تكون إعدادًا وتمهيدًا لدراسة الرابعة، وهي حكمة الإشراق التي يعدُّها السُّهرَورْدي أهم مُصنفاته جميعًا.

  • (٢)

    صنف يشتمل على طائفة من الرسائل الاعتقادية الصغرى، بعضها كتب بالعربية وكتب بعضها الآخر بالفارسية، كما هو الشأن في هياكل النور. ويدخل تحت هذا الصنف «الألواح العمادية» و«بستان القلوب» و«اعتقاد الحكماء» و«كلمة التصوُّف» و«كشف الغطاء» و«اللمحات في الحقائق».

  • (٣)

    صنف يَشتمِل على طائفة أخرى من الرسائل وضعت في صورة أمثال وحكايات توجيهية وقصص رمزية، وقصد بها الإرشاد والتوجيه، ويكاد كلها يكون مكتوبًا بالفارسية، إلا القليل منها فقد كتب بالعربية، أو كتب بالعربية والفارسية، كما هو الشأن في رسالة «الغربة الغربية»، ويدخل تحت هذا الصنف: رسالة عقل، ورسالة «آواز بر جبرائيل»، وكلمات ذوقية (= الأبراج)، ولغة موران، و«مؤنس العشاق» (= العشق)، ورسالة «درخالة طفولية»، ورسالة «روزي باجماعت صوفيان»، و«رسالة الطير»، ورسالة «صفير سميرغ».

  • (٤)
    صنف يشتمل على مجموعة من الواردات والتقديسات التي هي أشبه ما تكون بالمزامير، وتدور حول طقوس يومية تقديسًا للملائكة القائمين على أمر الكون. والمخطوطات التي عُثر عليها من هذا الصنف ما تزال نادرة حتى الآن. ويقول الأستاذ كوربان إنه «لم يقف منها إلا على مخطوطات إستانبول».٥٠
ويُساير الدكتور سيد حسين نصر٥١ هذا الترتيب، وذلك في خمسة أقسام:
  • القسم الأول: مؤلفات كلها باللغة العربية، وأهمها أربعة، منها ثلاثة عن الفلسفة المشائية تلويحات ومقاومات ومطارحات، أما الأخير فيدور حول حكمة الإشراق.
  • القسم الثاني: مؤلفات مكتوب بعضها باللغة العربية وبعضها الآخر باللغة الفارسية، تتناول بالتفصيل الموضوعي الدقيق بعض الجوانب المتَّصلة بالمؤلفات الأولى. وهي عمومًا موجزات، وتشمل العناوين التالية الرئيسية: «هياكل النور، الألواح العمادية، بارتا نامة، اعتقاد الحكماء، اللمحات، يزدان شناخت» التي تُنسب أحيانًا إلى «عين القضاة» الهمذاني، و«بستان القلوب» الذي ينسب بدوره إلى السيد الشريف الجرجاني أحيانًا بعنوان «روضة القلوب».
  • القسم الثالث: مؤلَّفات كلها باللغة الفارسية، وهي أقاصيص وحكايات كتبت بلغة رمزية، تصف الطريق التي يجب على مُبتدئي السالكين، واتخاذها كي يصلُوا إلى المعرفة الباطنية والإشراقية، وأهمها عقلي سرخ، وأواز بر جبرائيل والغربة الغربية (وهو نفسه مكتوب بالعربية)، لغة موران، رسالة في حالة الطفولية، روزي باجماعت صوفيان، ي صوفيات، رسالة في المعراج، صفير سميرغ.
  • القسم الرابع: مؤلَّفات تشتمل على شروح وترجمات لنصوص فلسفية قديمة ضمنها كتب في المدخل للمذاهب الباطنية، ويَنبغي أن نعد بينها ترجمته الفارسية لرسالة الطير لابن سينا، والشرح الفارسي لكتاب «الإشارات والتنبيهات» لنفس المؤلَّف، ورسالته في حقيقة العشق التي تَعتمِد على رسالة أخرى لابن سينا بعنوان «رسالة العشق»، وشرحه لبعض آيات القرآن ولمجموعة من الأحاديث.
  • القسم الخامس: مؤلَّفات تَشتمِل على صلوات وأدعية وأوراد وأذكار يسميها السُّهرَورْدي الواردات والتقديسات.

ولا يُشير الدكتور سيد حسين نصر إلى تصنيف تاريخي لكتب السُّهرَورْدي؛ فهو، على غرار الأستاذ «هنري كوربان»، يُقيم علاقة معنوية بين كتب السُّهرَورْدي، ويُصنِّفها بحسب تقارب المضمون.

أما الدكتور محمد علي أبو ريان، فيرى — هو أيضًا — أن كل محاولة تاريخية لتصنيف كتب السُّهرَورْدي تعدُّ بعيدة كل البُعد عن الرُّوح العِلمية؛ لأنَّ التداخل بين أفكار هذه الكتب وظروف تأليفها يحول دون التصنيف المنهجي السليم.٥٢ ويَذهب إلى أن مؤلَّفات الشيخ يجب أن تُصنَّف تصنيفًا تعليميًّا.٥٣ ثم ينصح القارئ أن يبدأ بقراءة «التلويحات» ثم «المقاومات» ثم «المطارحات»، وذلك قبل الشروع بقراءة «حكمة الإشراق»، وهو يرى أن تكون قراءة هذا الأخير تحت إشراف موجه مُرشد هو «القائم بالكتاب»، حتى يقف المريد على بعض مبادئ «الإشراق».
والجدير بالذكر أن السُّهرَورْدي ينصح باتباع هذا الترتيب في قراءة بعض كتبه، وخاصة المطارحات؛ فهو يقول: «وهذا الكتاب، أي المطارحات، يَنبغي أن يقرأ قبل حكمة الإشراق، وبعد التحقيق المختصر الموسوم بالتلويحات، فإذا استحكم الباحث هذا النمط، فليشرع في الرياضات المُبرقة بحكم القيم على الإشراق، حتى يُعاين بعض مبادئ الإشراق، ثم يتمُّ له مباني الأمور … وأول الشروع في الحكمة هو الانسلاخ عن الدنيا، وأوسطه مُشاهدة الأنوار الإلهية، وآخره لا نهاية له.»٥٤
ومن هذا النص نجد أن الدكتور محمد علي أبو ريان أراد أن يكمل افتراض ما أوصى به السُّهرَورْدي، وهو لذلك يستحسن أن يقرأ المريد الرسائل أثناء قراءته من حكمة الإشراق؛ لأنها تساعده على مشاهدة الأنوار القاهرة. ويفطن الباحث أخيرًا إلى أن السُّهرَورْدي لم يجعل ﻟ «هياكل النور» مكانًا خاصًّا في ترتيب قراءة الكتاب، فيعود إلى الأخذ بطريقة الأستاذ «هنري كوربان» في اختيار مكان له «بحسب محتوياته». ولما كان محتوى هذا الكتاب وثيق الصلة بما ورَد في «حكمة الإشراق»؛ فقد وجد الدكتور محمد علي أبو ريان أنه من المستحسن قراءته قبلها مباشرة.٥٥ وهكذا بدأ الدكتور محمد علي أبو ريان تصنيفه معتمدًا على نصح السُّهرَورْدي في قراءة بعض كتبه، ثم انتهى إلى طريقة الأستاذ «هنري كوربان» في البحث عن محتويات للكتب الموضوعية التي تؤلف بينها، ثم تحديد مكانها من «حكمة الإشراق».٥٦
من كل ما سبق يتبيَّن لنا أن كل المحاولات التي بذلت لتصنيف كتابات السُّهرَورْدي، حسب تسلسلها التاريخي، قد وجدت صعوبات كثيرة، وأهم هذه الصعوبات أن السُّهرَورْدي قليلًا ما يذكر سنة تأليفه كتبه، إضافة إلى أنه لم يكن ﻟ «السُّهرَورْدي» منحى واضح في سيره الفكري، كما هو الحال عند الغزالي، لذلك كانت محاولة تصنيف كتبه حسب التسلسل التاريخي في غاية الصعوبة. وقد عرض الدكتور «إميل المعلوف»، في مقدمته لكتاب اللمحات، إلى المُحاولات التي تمَّت لتصنيف كتبه حسب تسلسلها التاريخي، أو حسب تطوره الفكري، أو اعتمادًا على الوحدة الجوهرية للمؤلفات، لينتهي من مناقشة هذه التصنيفات المختلفة إلى أن «كتب السُّهرَورْدي جميعًا تشير إلى ثنائية في التفكير عرفها الرجل في شبابه، وهي عبارة عن ثقافة صوفية فلسفية، توضحت معالمها في كتابه «حكمة الإشراق»؛ ﻓ «السُّهرَورْدي» لم يَبدأ مشَّائيًّا ثم انتهى إشراقيًّا، أو العكس بالعكس، بل إنه سار في الاتجاهين معًا منذ ريعان الصبا، ثم راح أحد الاتجاهَين يغلب على الآخر في سياق التأليف، وهو دون الثلاثين، فبرز الاتجاه الإشراقي في الرسائل على حساب الاتجاه المشَّائي، بخلاف ما حصل في الكتب الأرسطوطاليسية، حتى توحَّد الاتجاهان في حكمة الإشراق الذي لا يخلو من منهجية الفلاسفة وطرقهم في معالجة أبواب المنطق وما بعد الطبيعة، على كون الشيخ لا يُباحث فيه إلا أصحابه الإشراقيين».٥٧
ولا شكَّ في أن كل المحاولات التي بذلت من قبل الباحثين لتصنيف كتب السُّهرَورْدي، برغم الصعوبات التي واجهتها، تَنطوي على دقة وإبداع. ومن ثمَّ يُمكن حصر مؤلفات السُّهرَورْدي في مجال المنطق الإشراقي على النحو التالي:
  • (١)

    التلويحات اللوحية والعرشية.

  • (٢)

    المقاومات.

  • (٣)

    المشارع والمطارحات.

  • (٤)

    اللمحات في الحقائق.

  • (٥)

    هياكل النور.

  • (٦)
    حكمة الإشراق، وهذا الكتاب يمثل خلاصة فكر السُّهرَورْدي، وهو الأساس الذي نعتمد عليه في عرض آراء السُّهرَورْدي في المنطق الإشراقي، إلا أنه بحسب تلميذه الشَّهرَزُوري: «كنز مخفيٌّ وسرٌّ مطويٌّ، وله طرق مخصوصة تصل إليه منها، وقلَّ من يسلكها ويعرفها، ولم يتيسر لأكثر من جاء بعده من الأفاضل أن يصل إليه أو يحل رموزه؛ لاشتغالهم بأمور الدنيا، ولإلفهم وعاداتهم بكلمات المشائين.»٥٨
١  ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق د. نزار رضا، منشورات مكتبة الحياة، بيروت، سنة ١٩٦٥م، ص٦٤٠.
٢  نللينو: علم الفلك … تاريخه عند العرب في القرون الوسطى، منشورات الجامعة المصرية، روما، سنة ١٩١١م، ص٦٨.
٣  ياقوت الحموي: معجم الأدباء، ج١٩، طبعة دار المأمون، القاهرة، بدون تاريخ طبع، ص٣١٤.
٤  ابن خلكان: وفيات الأعيان وأبناء أهل الزمان، تحقيق د. إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، ١٩٧٧م، ج٦، ص٢٧٣، ٢٧٤.
٥  الشَّهرَزُوري: نُزهة الأرواح وروضة الأفراح، نسخة مصورة بجامعة القاهرة تحت رقم ٢٤٠٣٧، ص٢٣٢. وقد حُقِّقَ هذا الكتاب مؤخرًا بواسطة الدكتور محمد علي أبو ريان.
٦  المصدر السابق، ص٢٣٢، ٢٣٣.
٧  د. عثمان يحيى: الصحف اليونانية — أصول غير مُباشرة لفكرة «الحكيم المتأله عن السُّهرَورْدي شيخ الإشراق»، الكتاب التذكاري، القاهرة، ١٩٨١م، ص٣٢٢.
٨  أحمد أمين: حي بن يقظان، دار المعارف، القاهرة، ١٩٦٦م، ص٨.
٩  جومس نولجانس: السُّهرَورْدي ودوره في الميدان الفلسفي، بحث نشر ضمن الكتاب التذكاري، شيخ الإشراق، القاهرة، ١٩٨١م، ص١٠٧، ١٠٨.
١٠  السُّهرَورْدي … اللمحات في الحقائق، تحقيق د. محمد أبو ريان، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ١٩٨٨م، ص٥، ٦.
١١  ياقوت الحموي: معجم البلدان، المجلد الثالث، طبعة دار صادر، بيروت، ١٩٧٩م، ص٢٨٩.
١٢  هنري كوربان: تاريخ الفلسفة الإسلامية منذ الينابيع الأولى حتى وفاة ابن رشد، ترجمة د. نصير مروة وحسن قبيسي، منشورات عويدات، بيروت، ١٩٦٦م، ص٣٠٣.
١٣  د. محمد مصطفى حلمي: حكيم الإشراق وحياته الروحية، بحث نشر ضمن مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، المجلد ١٢، ج١، عدد ديسمبر سنة ١٩٧٠م، ص٦٤، ٦٥.
١٤  د. محمد علي أبو ريان: أصول الفلسفة الإشراقية عند شهاب الدين السُّهرَورْدي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ١٩٨٧م، ص١٩.
١٥  د. سامي الكيالي: السُّهرَورْدي، سلسلة نوابغ الفكر العربي، دار المعارف، القاهرة، ١٩٥٥م، ص٢٠.
١٦  د. محمد مصطفى حلمي: المرجع السابق، ص٦٥.
١٧  الشَّهرَزُوري: المصدر السابق، ص٢٣٣.
١٨  قطب الدين الشيرازي: شرح حكمة الإشراق، ص٢٣٣.
١٩  د. إبراهيم مدكور: بين ابن سينا والسُّهرَورْدي، بحث نشر ضمن الكتاب التذكاري شيخ الإشراق، القاهرة، ١٩٨٠م، ص٦٧، ٦٨.
٢٠  ابن أبي أصيبعة: المصدر السابق، ص٦٤٣.
٢١  الشَّهرَزُوري: نزهة الأرواح، ص٢٣٣.
٢٢  Louis Massignon: Recueil de textes inedits concernant l’histoire de mystique en pays d’Islam, Paris, 1929, p. 113.
٢٣  د. محمد علي أبو ريان: أصول الفلسفة الإشراقية، ص٢١.
٢٤  ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء، ص٦٤٣.
٢٥  الشَّهرَزُوري: نزهة الأرواح، ص٢٣٥.
٢٦  ابن أبي أصيبعة: المصدر السابق، ص٦٤٣.
٢٧  Max Horten: Die philosophie des islam, München, 1924, p. 125.
نقلًا عن د. محمد علي أبو ريان: أصول الفلسفة الإشراقية، ص٢٦، ٢٧.
٢٨  د. عبد الرحمن بدوي: الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، دار النهضة المصرية، القاهرة، ١٩٤٧م، ص٢٧.
٢٩  الشَّهرَزُوري: المصدر السابق، ص٢٣٤.
٣٠  المصدر نفسه، ص٢٣٥.
٣١  د. محمد مصطفى حلمي: حكيم الإشراق وحياته الروحية، ص٦٧.
٣٢  نقلًا عن د. محمد علي أبو ريان: أصول الفلسفة الإشراقية، ص٢٥.
٣٣  الشَّهرَزُوري: نزهة الأرواح، ص٢٣٥.
٣٤  ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء، ص٦٤٢.
٣٥  هنري كوربان: تاريخ الفلسفة الإسلامية، ص٣٠٣، ٣٠٤.
٣٦  الشَّهرَزُوري: المصدر السابق، ص٢٣٥.
٣٧  د. محمد علي أبو ريان: أصول الفلسفة الإشراقية، ص٢٥، ٢٦.
٣٨  هنري كوربان: السُّهرَورْدي المقتول، مؤسس المذهب الإشراقي، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، ضمن كتاب شخصيات قلقة في الإسلام، القاهرة، ١٩٤٦م، ص٩٥.
٣٩  جومس نولجانس: السُّهرَورْدي ودوره في الميدان الفلسفي، ص١٠٨، ١٠٩.
٤٠  Louis Gardet: Quelques Reflexions sur I’Ishraq de Suhrawardi.
بحث نشر ضمن الكتاب التذكاري، شيخ الإشراق، القاهرة، ١٩٨٠م، ص٨٥.
٤١  الشَّهرَزُوري: نزهة الأرواح، ص٢٣١.
٤٢  د. عثمان يحيى: الصحف اليونانية: أصول غير مباشرة لفكرة الحكيم المتأله عند السُّهرَورْدي، ص٣٢٣.
٤٣  د. محمد البهي: دور السُّهرَورْدي في «عالمية» الثقافة في القرن السادس الهجري، بحث نُشر ضمن الكتاب التذكاري، شيخ الإشراق، القاهرة، ١٩٨٠م، ص٢٨٨.
٤٤  د. إبراهيم مدكور: بين السُّهرَورْدي وابن سينا، ص٦٨.
٤٥  د. محمد مصطفى حلمي: حكيم الإشراق وحياته الروحية، ص٨٥.
٤٦  الشَّهرَزُوري: نزهة الأرواح، ص٢٣٥–٢٣٨.
٤٧  Massignon: Op. Cit, p. 113.
٤٨  O. Y. Spies, S. K. Khattak: “Three treatises on mysticism” in Bonner orientlistische studien, Stuttgart, W. Kohlhammer Verlag, 1935, p. 3.
٤٩  Henry Corbin: Opera metaphysica et mystica, Vol 1, Istanbul, 1945, pp. VI-XVII.
٥٠  Ibid, p. XVII.
٥١  Dr. Seyyed Hossein Nasr: Shihab al Din Suhrawardi Al-maqtul in A History of Muslim Philosophy: With short accounts of other Disciplines and the Modern renaissance in muslim lands, edited and introduced by M. M. Sharif, Vol. 1, Wiesbaden, Otto Harrassowitz, 1963, p. 374–375.
٥٢  السُّهرَورْدي: هياكل النور، تحقيق د. محمد علي أبو ريان، المكتبة التجارية، القاهرة، ١٩٥٧م، ص١٥.
٥٣  المصدر السابق، ص١٦، د. محمد علي أبو ريان: أصول الفلسفة الإشراقية، ص٦٧.
٥٤  السُّهرَورْدي: المشارع والمطارحات، ضمن مجموعة في الحكمة الإلهية، تصحيح هنري كوربان، إستانبول، ١٩٤٥م، ج١، ص١٩٤.
٥٥  السُّهرَورْدي: هياكل النور، ص١٧.
٥٦  د. إميل المعلوف: كتاب اللمحات ﻟ «السُّهرَورْدي»، دار النهار للنشر، بيروت، ١٩٦٩م، ص١٩، ٢٠. انظر أيضًا:
Père Anawati: La notion de wujud dans le Kitab Al-Mashari Wal-Mutarahat de Suhrawardi.
بحث نشر ضمن الكتاب التذكاري، شيخ الإشراق، القاهرة، ١٩٨٠م، ص١٣٧.
٥٧  إميل المعلوف: اللمحات، مقدمة المحقق، ص٢٩. وانظر أيضًا: ناصر محمد يحيى ضميرية: نقد المنطق الأرسطي بين السُّهرَورْدي وابن تيمية، ص١١٥.
٥٨  الشَّهرَزُوري: شرح حكمة الإشراق، ص٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤