الفصل التاسع والعشرون

نزعة صوفية ومزاج رمزي (٢)

أهم ما امتاز به هذا الصديق — رحمة الله عليه — شيوع الحب في نفسه، والسعة العظيمة في قلبه، كان يُحب الصديق ويفهم العدو فيحبه، ويحب المؤمن ويرحم الكافر فيحبه، ويحب الحيوان والأطفال، ويحب الأمة غير أمته والعبادة غير عبادته، وكثيرًا ما ينشد قول ابن العربي:

لقد صار قلبي قابلًا كل صورةٍ
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنَّى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني

وقول ابن المعتز:

قلبي وثاب إلى ذا وذا
ليس يرى شيئًا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغي
ويرحم القبح فيهواه

واسع الصدر لكل رأي، واسع النفس لكل عاطفة، راحم حتى لمن أساء إليه، كان يرى الناس إذا غاض حبهم وضاق قلبهم عاشوا في كوخ مظلم، وهو بسعة نفسه وسعة قلبه يعيش في قصر منير، إنهم يلتصقون بالأرض وهو يحلق في السماء، إنهم يشقون بالكراهة وهو يسعد بالحب، إنهم يضجرون لضيق الأفق وهو يرتاح للا نهاية.

•••

يرى كل شيء من الله، فهو يحب الله ويحب ما صدر عنه، ويرى كل كراهية منشؤها الجهل، فمن عرف عفا، ومن عرف أحب.

له عين ترى محاسن الأشياء ولا ترى عيوبها، كالمسيح مر هو وأصحابه على جيفة، فقالوا: ما أنتن رائحتها! فقال: ما أجمل بياض أسنانها!

•••

انعدمت في نظره الفروق، فاجتمعت المتفرقات، وأتلفت المتباينات، فالدنيا كلها صفات الله تختلف بالاسم وتتحد في المسمى، وكان يقول: «إذا رأيته لم تر غيره، وإذا رأيت غيره لم تره.».

•••

كان يُحب أن يكون من عامة الناس لا من خاصتهم، فهو لا يحب أن يتميز أمام الناس بعلم أو بجهل، ولا بغنى ولا فقر، ولا بفصاحة ولا عي، ولا اجتماع ولا عزلة، لذلك كان يختار من اللباس ما لا يمتاز بشيء، ولا يحب أن ينتمي إلى هيئة ولا جمعية، ولو كانت جمعية صوفية، ولا أن يظهر منه ما يدل على تصوفه، يعرفه الناس تاجرًا كسائر التجار، لا يمتاز عنهم إلا بتحري الصدق في القول والسماحة في المعاملة، أما جانبه الصوفي فلا يعرفه إلا اثنان أو ثلاثة من خاصة أصدقائه.

كان يرى الطبيعة كتاب الله المفتوح، فأشجاره صفحة، وإنسانه صفحة، وبحاره صفحة، وكل شيء فيه صفحة؛ ولكن إذا كانت الكتب لا تُفهم إلا بواسطة اللغة، فكتاب الطبيعة المفتوح لا يُفهم إلا بالقلب المفتوح، فإذا انبهم القلب انبهمت الطبيعة؛ فكان إذا رأى القمر يشع من خلال أوراق الشجر قال: هنا موضع سجدة، وإذا جلس على شاطئ البحر فرأى تلاعب الرياح بالأمواج فزع إلى الصلاة، وكان يقول: إن قلبه يخفق في الريف أكثر مما يخفق في المدن، وينبض عند الطبيعة العارية أكثر مما ينبض في المدن الكاسية، وكان يعجبه من الكتب المقدسة أنها كتب تدل على كتاب الطبيعة.

•••

كنت ألاحظ دائمًا أن تقويمه للناس والأشياء يُخالف تقويمنا، وميزانه يُخالف موازيننا، أرى الناس يُقوِّمون الناس بقوتهم وبجاههم وبمالهم وبمقدار النفع الذي يتلقونه من أيديهم، والضرر الذي يتقونه منهم؛ ثم أراه شاذًّا في ذلك شذوذًا غريبًا، فيصطفي من لا يصطفى، ولا يحتفل بكثير ممن يُحتفل به، وله في ذلك فراسة نادرة، فهو يستفتي قلبه ولا يستفتي عقله، ويُحكِّم روحانيته ولا يُحكِّم ماديته، حدثته في ذلك فقال: إني لم أصل إلى ذلك إلا برياضة نفسية شاقة علمتني اليقين بأن النفع والضر بيد الله وحده، والإيمان بأن خير الناس أنفعهم للناس، وألا أُدخل في موازيني المظاهر من حسب أو نسب، وغنى أو جاه، وقوة بالمنصب وعظمة بما يفنى، اقرأ إن شئت: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ، وهو مع اختلافه عن الناس في التقدير، لا يمعن في التحقير، فهو يعجب بالأعلى ويرحم الأدنى، ويكبر العظيم ويحنو على الوضيع، فالله يتجلى على كل شيء بما ينسجم وطبيعته، فهو الرافع الخافض، وهو المعز المذل.

•••

أحب حتى غمره الحب، ولم يتركز حبه في إنسان ولا في أسرة ولا في مال، بل شع على كل شيء، وشع من كل شيء على قلبه؛ فكنت تقرأ الحب في عينيه وفي بسمته وفي نظرته للبائس والمجرم، وفي دمعته تنحدر للكارثة تحدث لمن يعرف ومن لا يعرف، وفي المال يخرج من جيبه للسائل والمحروم.

وكان يحب السماع حبًّا عجبًا حتى كأنه غذاؤه الذي يعيش عليه، وأكثر ما يعجبه من النعمات الحزين الباكي، وهو يحب السماع على اختلاف أنواعه من قرآن يُتلى بصوت جميل، أو غناء لمذكر أو مؤنث أو موسيقى أو نشيد ذِكْر وله في ذلك طرف، فقد سمع مرة بائعًا جوالًا يُنادي على سلعة بصوت أعجبه، فتبعه، إذا وقف وقف وإذا سار سار، حتى نسي غرضه وفوت مقصده، وكان السماع يُوحي إليه بالمعاني الغزيرة، فنراه وهو يسمع وقد كاد يغيب عن وعيه لكثرة ما يُفكر فيما أوحى إليه سماعه.

أعجب ما كان يعجبني منه موقفه أمام الكوارث والمصائب، فقد يُصاب في ماله وقد يُصاب في ولده؛ فإذا هو مطمئن ثابت كأنه فيلسوف يرى فقدان الولد كما يرى القانون الطبيعي في ذبول الوردة وسقوط أوراق الشجر، قد يحزن ولكن لا يلتاع، وقد تدمع عينه ولكن لا ينماع، بل كان أكبر من الفيلسوف، فقد رأى الدنيا على حقيقتها فلم تخدعه، وتمثلت له كما تتمثل الرواية عل الشاشة البيضاء، ففهم ما سيكون، واطمأن إلى ما يحدث، فلم يفجأه الحادث فيفزع، ولا الموت فيجزع، فهو مطمئن عند الأخذ والعطاء، والصحة والمرض، والموت والحياة.

كان يرى أن الدين روح، وإذا كان روحًا فهو خالد خلود الروح، وأن خير أيام الأديان أيامها الأولى؛ لأنها تكون حية حياة الروح، ثم تفقد روحانيتها شيئًا فشيئًا، وتتجسد بأشكالها، فتكون تافهة تفاهة الجسد، ميتة ميتة الجسد، ومن حين إلى حين يبعث الله من يفهم روح الدين ويحيا بها ويدعو لها، وقليل ما هم.

كان يسمع القرآن فيُولِّد منه معاني بعيدة، حسب مزاجه الرمزي، لا يزعم أنها تفسير، ولكن يقول: إنها إلهام الآية كما تلهم المناظر الجميلة قلب الفنان والشاعر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤