الفصل الثاني والثلاثون

الخوف

الخوف من الأمراض التي تنغص الحياة وتذهب بالسعادة.

هو مرض خطير قل أن يسلم منه إنسان، وهو أشكال وألوان، يشكل أعمال الإنسان ويوجهها طوع إشاراته، وحسب إيحائه، وفي كثير من الأحيان يصده عن العمل، ويُسبب له اليأس، ويفقده الأمل.

فمن أول أنواعه الخوف من الفقر؛ وهو من أخطر أنواعه؛ لأنه يشل قوة التفكير، ويقتل الثقة بالنفس، ويُولِّد الشك، ويُضعف اليقين، ويُفقد الأمل والطموح.

وقد زاد هذا الخوف في عصرنا عن كل العصور السابقة، للتزاحم المالي الشديد والتقاتل عليه، مما لم يُعرف له من قبل مثيل، فقد أعلت المدينة الحديثة شأن المال جدًّا، وتسابق الناس في مقاتلة بعضهم بعضًا لكسبه، نعم إنه داء قديم في الإنسان ولكنه لم يبلغ الخطر الذي بلغه الآن، فالفقير ليست له قيمة سياسية ولا اجتماعية ولا قانونية، ومالك المال — مهما كانت الوسائل التي اتخذها في جمعه — هو الذي يُسيطر وهو الذي ينتخب فيشارك في السياسة، وهو الذي تخضع له الرقاب.

من أجل هذا كان تصور الفقر مرعبًا وكان الخوف منه شديدًا، ومما زاده سوءًا أن حاجتنا في الحياة أصبحت معقدة مركبة، وما كان يكفي الرجل وأسرته قديمًا لا تكفي أضعافه الآن، وكان رب الأسرة يحتمل العيشة الخشنة والرضا بالكفاف؛ ولكنه الآن يرى أن ضرورات العيش لا عداد لها؛ فهو يخشى الفقر؛ لأنه هو وأسرته لا يستطيعون أن يصبروا على القليل، وهو إن افتقر كان أتعس ممن قبله عندما افتقروا.

ومما يزيد الإنسان خوفًا من الفقر شعوره الشديد أنه يوم يفقد ماله، ويوم لا يستطيع أن يسد حاجاته وحاجات أسرته يفقد عزته، ويشعر بالمذلة ويرى نفسه أحقر من إخوانه الذين يملكون المال ولو كان أشرف منهم نفسًا وأحسن منهم خُلُقًا، كل ذلك يملأ قلبه رعبًا من تصور الفقر وتوقعه.

ونوع آخر من الخوف، الخوف من النقد ومن كلام الناس، وهذا الخوف يُسيطر على أعمالنا لدرجة كبيرة.

وهو يتخذ أشكالًا لا عداد لها، فالناس يلبسون «الطربوش» في الصيف لا للحاجة إليه ولكن خوفًا من كلام الناس، ويعملون كثيرًا مما يعملون ويتجنبون كثيرًا مما يتجنبون خوفًا من كلامهم.

واختراع «البدع» (الموضة) كل عام وإقبال الناس عليه مبني على هذه النظرية، فالمصانع تُخرج كل سنة بدع الملابس فتلبسه طائفة ممن عُرف بالأناقة؛ فتهرع السيدات والآنسات للبسه خشية من كلام الناس؛ وهكذا مصانع السيارات ونحوها.

وكثير من العقلاء والمفكرين يجارون الناس في آرائهم وأعمالهم وإن اعتقدوا سخافتها خوفًا من كلام الناس.

ولو لاحظ الإنسان كل تصرفاته اليومية من أيام صغره إلى أيام كبره لرأى أن أكثرها صادر عن الخوف من نقد الناس.

وما مرض الفخفخة وحب الظهور، ولا مرض الخجل والمبالغة في الحياء، ولا مرض حب التقليد وعدم الابتكار إلا أعراض من أعراض الخوف من كلام الناس.

ثم الخوف من المرض: وهذا النوع من الخوف متصل بنوعين آخرين هما الخوف من الهرم والخوف من الموت، والإنسان يخاف من المرض؛ لأنه يستحضر في ذهنه احتمال الموت منه، كما قد يستحضر صورة العجز عن كسب العيش.

وقد استغل هذا الخوف من المرض تجار الأدوية فصنعوا منها ما أغرق الأسواق، وكثير منها ليس علاجًا حقيقيًّا، وإنما هو علاج وهمي لأمراض وهمية ناشئة من مرض الخوف من المرض.

وهذا الخوف قد ينتهي عند بعض الناس إلى مرض حقيقي؛ لأن الإيعاز المستمر بالمرض قد يُسبب المرض، وكثيرًا ما تحدث صاحبك بسوء صحته أو تغير لونه، فيشعر عقب ذلك مباشرة بالضعف والتخاذل والمرض.

ويكاد هذا المرض يكون عامًّا عند الناس، وكثيرًا ما يبعث عليه الفشل في الحياة، أو الفشل في الحب، أو اليأس من شيء مرجو، أو التعب الجسمي، فسرعان ما تظهر؛ إذ ذاك أعراضه.

ومن أعراضه كثرة الكلام في المرض، واستفسار الأطباء عن المرض، وقراءة الإعلان عن الأدوية، وكثرة وزن الجسم في الموازين العامة في الطرق، وتوهم المريض عندما يسمع وصف مرض أنه مصاب به، وكثرة استعمال المسكنات، وهكذا.

وهناك الخوف من فقد حب من يُحب، وهو خوف يلازم الحب غالبًا، فيخاف المحب أن ينصرف عنه محبوبه إلى غيره، وهذا — غالبًا — هو علة الألم من الصد والهجران.

وهذا الخوف كان مظهره في الزمن القديم الاستيلاء على المرأة بالقوة وحبسها ومراقبتها مراقبة شديدة ونحو ذلك، ثم حولته المدنية إلى محاولة كسب قلبها من طريق الإغراء بالتحبب إليها والتظاهر بمظاهر العظمة والجاه ونحو ذلك.

وهذا النوع من الخوف يحدث للمرأة كما يحدث للرجل، بل هو عند المرأة أشد؛ لأن المرأة أقل ثقة بالرجل من الرجل بالمرأة، وخاصة عندما تسمح شرائع البلاد بالطلاق أو تعدد الزوجات:

ومن أعراضه شدة الغيرة؛ غيرة الرجل على المرأة والمرأة على الرجل حتى يصل بالإنسان إلى درجة الهوس، فيكون الاتهام من غير أن تكون له أسباب معقولة.

كما أن من أعراضه كثرة مؤاخذة المحب حبيبه حتى على الأمور التافهة والأمور الوهمية، وكثرة العتاب، وما إلى ذلك.

ثم الخوف من الهرم أو الشيخوخة، ويرجع سبب هذا الخوف إلى عاملين:
  • الأول: الخوف من أن الشيخوخة قد تُعجز المرء عن الكسب فيكون عالة على غيره، وأكثر ما يكون هذا عند العمال والصناع ومن يعيشون على كسبهم اليومي فهم يعيشون على حساب صحتهم؛ فإذا عجزوا عن العمل حُرِموا وسائل العيش.
  • والسبب الثاني: هو أن الشيخوخة نذير الموت، والموت بغيض مخيف.

وقد يكون من أسبابه أيضًا شعور المرء أنه إذا شاخ وهرم فقد جانبًا كبيرًا من استمتاعه بنعيم الحياة؛ إذ لا يعود يستطيع أن يجذب المرأة إليه، ولا المرأة أن تُؤثر في الرجل، وربما كان هذا السبب الأخير عند المرأة أقوى منه عند الرجل؛ لأن جمال المرأة رأس مالها في الحياة، فهي تخشى الشيخوخة التي تُضيع لها رأس مالها.

وأعراض هذا المرض تختلف اختلافًا متناقضًا، فأحيانًا يظهر في شكل كثرة حديث المسنين عن الشيخوخة، وانتهاز كل مناسبة للتحدث عن شيخوختهم، وأنهم انتهوا من دور الشباب، واعتذارهم من حين لآخر عن كسلهم أو يأسهم أو فشلهم بشيخوختهم، وأحيانًا يكون من أعراضه التظاهر بمظهر الشباب كصبغ الشعر، والتأنق في الملبس، ومحاربة تجاعيد الوجه، وتكلف اعتدال القامة، والكذب في السن الحقيقة.

وقل أن يعزيه عن شيخوخته كبر عقله، ونضوج تفكيره، وهو في أغلب الأحيان يألم عند الاحتفال بعيد ميلاده أكثر مما يحمد الله على بلوغه هذه السن.

وأخيرًا — ويجب أن يكون أخيرًا — الخوف من الموت، وهو عند أكثر الناس أشد أنواع الخوف، وسببه — في الأغلب — يرجع إلى أمرين: الخوف مما بعد الموت؛ لأنهم يرون أنهم في حياتهم لم يرضوا الله بكثير من أعمالهم، والله حاكم عادل يثيب المحسن، ويُعاقب المسيء، فهم يستحضرون في أذهانهم إساءتهم، ويستحضرون ما للإساءة من عقوبة، فهم لذلك يخشون الموت كما يخشى المجرم المحكمة؛ والسبب الثاني ما يشعرون به من لذعة إذا تصوروا فراق الأهل والخلان.

وهذا النوع من الخوف عند الشيوخ أكثر منه عند الشباب، وعند الفارغين من العمل أكثر منه عند العاملين، وعند ضعاف الأعصاب أكثر منه عند أقوياء الأعصاب.

وقد يُبالغ فيه بعض الناس، فيظهر ذلك بمظاهر مختلفة؛ فمنهم من يزهد في الحياة وينقطع للعبادة، ومنهم من ينغص عليه الحياة فيصبح مهوش الفكر مضطرب العقل، لا يصلح لعمل دنيا، ولا عمل آخرة، إلى غير ذلك.

هذه الأنواع من الخوف تملأ الحياة، وتلونها وتصبغها أصباغًا مختلفة؛ حتى لو قلنا: إن أكثر أعمال الإنسان هي نتيجة الخوف؛ لم نبعد، بل هو كذلك أهم سبب للاتجاهات التي يتجهها الإنسان في حياته من فعل وترك، وفعل هذا دون فعل ذاك، والسير في هذه السبيل دون تلك.

والآن وقد فرغنا من وصف المرض وأعراضه ومضاعفاته يحق لنا أن نتساءل: إذا كان هذا هو المرض فما علاجه؟

لقد أَبَنَّا أن الخوف حالة نفسية تستولي على الفكر فتشله، فإذا نحن آمنا بأن للإنسان قوة على تفكيره كما أراد، كان هذا مفتاح العلاج.

احم نفسك من مؤثرات الخوف سواء في ذلك ما تثيره نفسك، وما يثيره من حولك، وكن شديد الإيمان بأن لإرادتك قوة تستطيع بها أن تزيل هذه المخاوف، وأن تبني حاجزًا يحول بين نفسك وبين مؤثرات الخوف.

اقرأْ ما يبعث فيك القوة والشجاعة، ويملؤك أملًا وطموحًا، ويُقوي إرادتك على نفسك.

آمن بأن توقع الشر شر من الشر نفسه، فلا معنى أن يجمع الإنسان على نفسه شر الشر وشر توقعه.

حلل نفسك وتبين سبب مخاوفها: هل أنت تكره عملك الذي تعمله، ولماذا؟ هل أنت خاضع لمؤثرات تستوجب خوفك، فكيف الخلاص منها؟ هل فقدت الثقة بنفسك؛ ولماذا؟ هل أنت فارغ من العمل فتستسلم من أجل ذلك للمخاوف؛ إذن فكيف تملأ وقتك بالعمل؟ هل أنت تُضعف أعصابك بالمسكرات أو كثرة التدخين، فتقع تحت تأثير الخوف من أجل ذلك؛ إذن فكيف تتغلب على ذلك؟ أي أنواع الخوف الستة أكثر تأثيرًا فيك؛ ولماذا؟ هل لديك الوسائل الروحية والعقلية التي تستطيع أن تتغلب بها على الخوف، فإذا لم تكن؛ فكيف تحصل عليها؟ هل أنت واقع تحت تأثير أصحاب يسببون لك الخوف، فكيف تتخلص منهم؟ هل تُصادق من هم أضعف منك عقلًا وروحًا؟ إذن فكيف تُغيرهم بمن هم خير منهم!

ما أهم سبب لمتاعبك؟ كيف تعالجه؟ كيف تقسم زمنك، كم منه للنوم؟ وكم للعمل العقلي أو القراءة؟ وكم لعملك المعتاد؟ وكم للعبك وراحتك؟

فهذه الأسئلة ونحوها إذا أنت أجبت عنها في أمانة وإخلاص تعرفت نفسك وتعرفت مخاوفك، وتعرفت كيف تُسلط إرادتك على أسباب الخوف فتمحوها.

وأخيرًا ردد على نفسك «لا تخف» وردد قوله تعالى: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤