كيف ترقى الموسيقى الشرقية؟

المحافظون على القديم وجمودهم

مضى على الموسيقى الشرقية قرون عديدة، والمشتغلون بها جامدون لا يريدون إدخال أي إصلاح فيها، تقدم الزمن وهم متأخرون ثابتون في أماكنهم لا يسيرون معه، وما دروا أن سنة الكون الرقي، وأن الإزار والرداء اللذين كانا يعدهما أمراء العرب أفخر اللباس أصبحا لا يلبسهما إلا خدم الحمامات.

لم يكتفوا بجمودهم، بل ما فتئوا يحاربون كل مرشد إلى الإصلاح الذي يعدونه في عرفهم ضلالًا وإثمًا مبينًا.

تحريمهم ما أحله العرب

شرحنا فيما سبق من أخبار الموسيقيين من العرب اقتباسهم من اليونانية والفارسية؛ مثل: سائب خاثر، وابن مسجح، وابن محرز، وكيف كانوا يسافرون إلى فارس والشام لاقتباس الأنغام الجميلة من الموسيقى اليونانية والفارسية. وهذا برهان ناصع على أن العرب لم يكن عندهم شيء من الجمود والمحافظة على القديم بدون تغيير ولا إصلاح، فما بال الموسيقيين في هذا العصر يُحرِّمون ما أحلَّه العرب، ويعدون كل منادٍ للإصلاح كأنه ارتكب أمرًا إدًّا؟!

كيف ينشأ الموسيقي عند الغربيين؟

إذا ألقينا نظرةً في تاريخ الموسيقيين الغربيين وجدناهم كلهم علماء وفلاسفة وشعراء، فضلًا عن تبحُّرهم في فن الموسيقى، واطِّلاعهم على أغلب المؤلفات الموسيقية عند غيرهم من أمم الغرب الراقية، فتراهم يُعبِّرون عن عواطفهم ووجدانهم كالشعراء، ويصوِّرون الطبيعة كالمصورين، ويحللون النفوس كالبسيكولوجيين، ويستنبطون جمال الفنون والطبيعة كعلماء الجمال. ولولا فضلهم هذا لما تركوا لنا هذه المعجزات الموسيقية.

ولا جدال في أن المصورين والموسيقيين والشعراء كلهم شعراء، غير أن طريقة التعبير تختلف؛ فالمصور يُعبِّر بريشته وألوانه، والموسيقى بأنغامه، والشاعر بألفاظه.

نجد نفس الفَنِّيِّ متصلةً به؛ إذ لا يوجد بينهما غير حجاب شفاف، فتراه يشعر بوجدانه وعواطفه، فيردد عين النغمة التي تصدح بها نفسه، ويقرأ ما خفي من دقائق الفن: كالانسجام، وقوة التعبير، والإتقان، والجمال، والرشاقة، والعواطف، والإبداع، والابتكار، وشخصية المبدع التي امتاز بها في عمله، وبلاغة الوصف، كما أنه يُسبغ كل هذه الصفات على ما يجود به خياله أو بنانه، فإن خلت أعمال الفنيين من هذه الصفات؛ فخليق بنا أن نعتبر المصور صباغًا، والموسيقي حدادًا، والشاعر وزَّانًا.

تلك هي حال الفنيين الغربيين، فهل رأيت أيها القارئ بيننا من عنده معشار ما عندهم؟

الموسيقى عندنا معتبرة كصناعة من الصناعات لا كفن؛ فلذلك ترى أغلب الموسيقيين عندنا غير متعلمين، والبعض منهم أمي لا يعرف هجاء اسمه، فكيف يُنتظر من هؤلاء أن ينهضوا بالموسيقى، أو يدخلوا فيها إصلاحًا يُرقِّيها، وقد أضاعوا عمرهم في التشاتم في الجرائد لأجل الرُّبع والثُّمن في الأصوات، كما أضاع المرحوم الشيخ الشنقيطي عمره في القول: بأن عمر مصروفٌ، مع أنه كان أكبر حجة في اللغة، فمات ودفن معه علمه في صدره، ولم يترك مُؤلَّفًا ينفع الناس، أو يُخلِّد له ذكرًا؟

مثال يلائمنا من نهضة الروس الحديثة

جادت علينا الروسيا في أواسط القرن التاسع عشر بخمسة نوابغ أسعدوا حظ الموسيقى الروسية باتحادهم وتضامنهم في النهضة الروسية، وكانوا في مبدأ أمرهم شبانًا ضعافًا يُسخر منهم ويُهزَأ بهم، فأغنتهم آمالهم الثابتة، وفضائلهم الراجحة، وعقيدتهم الراسخة، وقد وجهوا النفوس إلى طريق الكمال، وأتموا المعجزة الباهرة، ونهضوا بالموسيقى نهضةً لم تكن تُنتظر من غيرهم.

هؤلاء النوابغ هم بالاكيريف Balakirew، وسيزار كوي César Cui، وموسورجسكي Moussorgski، وبورودين Borodine، ورمسكي كورساكوف Rimsky Korsakoff.

وكان «بورودين» طبيبًا يدرس الكيمياء في مدرسة الطب المخصصة للنساء، و«موسورجسكي» ضابطًا في الجيش، و«رمسكي كورساكوف» ضابطًا في البحرية، و«سيزار كوي» قائدًا ومدرسًا للتحصينات بمدرسة بتروجراد الحربية، وقد درس بالاكيريف العلوم الطبيعية.

درس هؤلاء الأرموني والكونترپوان وفن توزيع الألحان على الآلات الموسيقية، وكانوا يعجبون بڤاجنر Wagner، ولكنهم اتفقوا على أن لا يقلدوه، وقد أخذوا من الألمان فن توزيع الألحان على الآلات ليستعملوه في الموسيقى الروسية لا الألمانية.

ساد بينهم الإخاء والإخلاص، ولم يتسرب إليهم الحسد والتنافس والغرور، وقد مات بورودين قبل أن يتم أوبرا «الأمير إيجور»، فأتمها رمسكي كورساكوف.

تعلم هؤلاء الموسيقى على أنفسهم بدون مدرسة؛ إذ كانوا يعتقدون أن المدرسة تحول دون حرية الخيال، فيصبح الإنسان متأثرًا منها أو مستعبدًا لها.

ولقد شهر «تشيكوفسكي» و«روبنشتاين» على هؤلاء الخمسة حربًا قلميةً عوانًا، فلم تثبط لهم همة، ولم تثنِ لهم عزمًا، ولمَّا ظهر فضلهم وانتشر بين الخافقين لم يستطع أعداؤهم بالأمس أن يجحدوه، فقال تشيكوفسكي حينما ظهرت أوبرا: خطيبة الثلج Sniegourotehka: لقد قرأت خطيبة الثلج التي لحَّنها رمسكي كورساكوف، فأُعجبت بنبوغه، وإني لأخجل حينما أعترف بأني حسدته على هذا العمل المجيد.

تعاهدوا على اجتناب العيوب التي وقع فيها من أتى قبلهم، وأن لا ينسجوا موسيقاهم إلا على الألحان وأنواع الرقص الروسية. وهذه المبادئ هي سرُّ تقدم موسيقاهم التي أدهشت العالم برقتها وابتكاراتها ونغماتها العجيبة.

وهذه النهضة المباركة تلائمنا معشر الشرقيين، فلو قام منا بعض الشبان ممن لهم استعداد في الموسيقى، ووُهبوا خيالًا شعريًّا، وذهبوا إلى معهد علمي موسيقي في أوروبا «كونسرفاتوار»، واشتغلوا في أوقات فراغهم بالتعمق في الآداب، وآداب الفنون الجميلة، وعلم النفس «البسيكولوجيا»، وضارعوا الموسيقيين الأوروبيين في الفضل، فإني أضمن لهم أن يُوفِّقوا بين الموسيقى الشرقية والغربية كما فعل الروس مع المحافظة على الروح الشرقية. وسنشرح ذلك في موضعه.

اعتراف العلماء بسيادة الموسيقى الروسية الحديثة

لقد اتفق كثير من العلماء على أن الخمسة الروسيين الذين ذكرناهم كانوا بمجموع أعمالهم أفضل من جميع المعاصرين لهم في البلاد الأخرى من أوروبا، وإني أسرد — مصداقًا لذلك — قول أعظم حجة بين علماء الموسيقى، ألا وهو المسيو كومباريو J. Combarieu؛ إذ قال — في الجزء الثالث، الذي ظهر سنة ١٩١٩، من كتابه «تاريخ الموسيقى العام»، صحيفة ٥٨٩ من الطبعة الأولى، عن السانفوني المعروفة «بشهرزاد»، وهي صفوة مؤلفات رمسكي كورساكوف، أحد الخمسة، وأعظم نابغة فيهم وفي الروسيا:

توجد في شهرزاد قوة إبداع تتجدد دون انقطاع، ولون نادر متنوع مندمج فيما حوله، ومتحدٌ بأوزان تكون دائمًا على غير انتظار، وما هي إلا إسراف في الخيال رقيق وقوي في آن واحد. وإن أعظم الموسيقيين في الوصف والتعبير من الفرنسيين والألمان ليظهرون شاحبين قصيري الخيال والنفحات بجانب رمسكي كورساكوف.

تأثير الموسيقى الشرقية في الروسيا والمجر وممالك البلقان

فتح الأتراك جنوب الروسيا حتى اقتربوا من موسكو في عهد كاترينا الثانية، ولولا خداعها وفتنتها للقائد التركي لاستمر في التوغل، وقد احتلوا المجر نحو مائتي سنة، وكانت الموسيقى متقدمةً وقتئذ في تركيا، ومتأخرةً في الروسيا والمجر وممالك البلقان، فأثرت فيها، واستمرت إلى وقتنا هذا حافظةً لهذا التأثير.

وأظن أن كثيرًا من أهل الإسكندرية والمصطافين فيها من أهل المدن الأخرى سمعوا الأوركستر الروماني وألحانه المشابهة لألحاننا، ولا سيما التقسيم الذي يقسمونه كتقسيمنا الشرقي. والذي يهمنا الآن هو النظر في الموسيقى الروسية؛ لأنها أعظم وأرقى مثال نجتذبه توصلًا للوسائل الناجعة في النهوض بموسيقانا الشرقية.

إنني أنصح للمولعين بالموسيقى أن يراقبوا الكونسيرات الشهيرة حينما تُوقِّع شيئًا من مؤلفات رمسكي كورساكوف وبورودين؛ فإن هذين النابغتين من أعظم الروسيين الذين حافظوا على الأنغام الروسية؛ ليتحقق المصريون من جمال أسلوبهما، وليَسْعوا في إدخال الأرموني والكونترپوان على موسيقاهم دون أن يخرجوها من طورها الشرقي الجميل. وإني أذكر بعض القطع المهمة من مؤلفات هذين النابغتين، لا سيما ما طُبع منها في أسطوانات الجراموفون إذا تعسر على البعض سماعها في أوركستر:

Rimsky Korsakoff Le Coq d’or
Rimsky Korsakoff Schéhérzade
Rimsky Korsakoff Dubinuschka
Rimsky Korsakoff La Nuit de Noel
Rimsky Korsakoff Dance of Snow Maiden “Smegourotchka”
Borodine Prince Igor: Dans l’Asie centrale

الوسائل المحتمة لترقية موسيقانا

أهم الوسائل لترقية موسيقانا هو ترك التعصب، مع التساهل قليلًا في رفع الحواجز بين الموسيقى الشرقية والغربية؛ حتى نُوفِّق بينهما، وهذا ليس بالعسير إذا درسنا السولفيج والأرموني والكونترپوان وفن توزيع الألحان على الآلات الموسيقية والموسيقى الشرقية. وأهم العقبات هو ربع الصوت والمقامات التي لا تنطوي تحت الجام ماجور والجام مينور، وهذه يمكن الاستغناء عنها والاستعاضة بغيرها من المقامات العديدة حينما نريد. وأن ينشأ الموسِيقِيُّ الشرقيُّ نشأةً تُماثل الغربي من حيث الفضل والرقي، وأن نستعمل جميع الآلات الإفرنجية وندرسها، وأن نستعمل كل أصوات الرجال والنساء المستعملة عند الإفرنج، وأن ندرس الآلات الفرنجية كلها لنأخذ ما يلزمنا لتكوين الأوركستر الحديث. والموسيقى المسرحية هي التي تضطرنا إلى جميع هذه المشروعات؛ لنستطيع أن ننشئ الأوبرا العربية بكل معنى الكلمة، وأن ندرس الموسيقى السانفونية التي هي معدومة عندنا بالمرة.

ويمكننا الاحتفاظ بالآلات الشرقية للبشارف والسماعيات والموشحات والأدوار والطقاطيق وغيرها.

إهمال الحكومة والأمة للموسيقى

جميع الأمم الراقية، كبيرها وصغيرها، تُعظِّم الموسيقى وترفع من شأنها؛ إذ نرى أن حكوماتها قد أنشأت لها الكونسرفاتوارات والمعاهد الموسيقية، ولم يكتفِ الأهالي بذلك، بل أسسوا كثيرًا غيرها، وكل ذلك راجع إلى تقدير هذا الفن.

أتاح الله لنا سمو الأمير يوسف كمال، فأنشأ لنا مدرسة الفنون الجميلة، وأرسل عددًا من الطلبة إلى أوروبا، فنالوا حظًّا عظيمًا في التصوير والنحت، وأصبح لهذين الفنين عندنا بعض الشأن، وأقيمت لهما المعارض، وكثر المعارضون شيئًا فشيئًا. فجزى الله الأمير خيرًا، وزاده عزًّا وفخرًا.

فهلَّا جاراه غيره من الأمراء والأغنياء فوقف شيئًا من ماله، وعقد اكتتابًا لإنشاء كونسرفاتوار حتى يُحييَ هذا الفن! أصبحت الموسيقى الشرقية كحسناء تتعثر في أثوابها الخَلِقة حتى نفَرت منها الأمم الغربية، ولم يسمحوا لها أن تنتقل من مكانها، بل حوصرت في بلادها كالوباء.

حاجة البلاد إلى كونسرفاتوار

يوجد في بلادنا بعض من الشبان يتعلمون النوتة مع العزف بآلة مثل الكمنجة أو البيانو على معلمين من الإفرنج أو الوطنيين، ولكن ذلك لا يُقدم الفن خطوةً واحدةً، والكونسرفاتوار هو أساس النهضة الموسيقية، فيجب أن نفتح أبوابه للمصريين وغير المصريين، وأن يكون به قسم للبنات؛ لأن تعلم الموسيقى عندهنَّ في حالة يرثى لها حتى لقد أساءوا استعمال البيانو؛ فأصبح بين أيديهنَّ كالدربكة.

وإننا لو اكتفينا بإرسال بعثة إلى المعاهد الموسيقية الأوروبية؛ فإن ذلك لا يأتي بفائدة كبيرة. نحن في حاجة إلى كونسرفاتوار يخرج لنا الممثلين والموسيقيين اللازمين للأوركسترات، والمغنين، والملحنين، حتى نُنشِئ الأوبرا العربية الراقية، والتمثيل الجيد، والتوقيع الفني.

مَن يَصلُح لإدارته؟

فصلنا فيما سبق أن الموسيقى الروسية حافلة بالألحان الشرقية، وأن نهضتهم الحديثة فاقت جميع الأمم. ولما كانت أقرب الموسيقات الأجنبية الراقية تشابهًا إلى ألحاننا الشرقية، وجب علينا أن نبحث لنا عن أساتذة روسيين لإدارة الكونسرفاتوار، والنظر في إصلاح موسيقانا بعد اطِّلاعهم على الموسيقى الشرقية وألحانها؛ لمراعاتها والاحتفاظ بأنغامها جهد المستطاع؛ لأن غير الروس من الأوروبيين لا يستطيعون أن يقوموا بهذا العبء العظيم، وفضلًا عن ذلك؛ فإنهم يُؤثِّرون في النشء أثرًا سيئًا حتى تصبح موسيقانا إفرنجيةً محضةً.

وأعظم نابغة روسي في هذا العصر هو المسيو جلازونوف Glazounow، أنجب تلامذة رمسكي كورساكوف، وكان مديرًا لكونسرفاتوار بتروجراد، ولكنه لم يتفق مع البلشفيك، فغادر الروسيا وأقام منذ بضع سنين في ألمانيا، وفضلًا عما يُعهد إليه من أعباء الإدارة، فإنه يمكن تكليفه بوضع تقرير فني لإصلاح الموسيقى الشرقية. وبعد الاطلاع على موسيقانا، يؤلف لنا نموذجات من أنواع الموسيقى بالروح الشرقية بعد استماع الكثير من أغانيها وألحانها، ويشترك معه في وضع الأغاني العربية اللازمة للأوبرا أحد الأساتذة الشرقيين؛ ككامل أفندي الخلعي، ثم يضع مثالًا من السانفوني والسونات والكونسرتو والباليه — التمثيل الصامت بالرقص — وأنواع الرقص وغيرها.

الأصلح من مناهج التعليم

لما كانت اللغة الفرنسية من أوفى اللغات في الاصطلاحات، وأغناها في المؤلفات الفنية، وجب علينا أن نجعلها لغة الفن، وندرس بها الموسيقى.

ويلزم أن يدرس في الكونسرفاتوار فن الغناء الإفرنجي، ولو قال قائل: ما فائدة الغناء الإفرنجي؟ قلنا له: هو الموصل للغناء العربي، والمربي للصوت، والمهذب لمخارج الحروف؛ لأنه يشمل في منهجه فن الإلقاء، وكيفية إخراج الصوت من مخارجه الحقيقية، وطرق تقوية الصوت، وكيفية الإلقاء، ومطالعة نوتة الغناء، وكيف يُغنَّى في تمثيل الأوبرتات.

ويجب التخصيص لآلة موسيقية من الآلات اللازمة للأوركستر الكبير، ودراسة البيانو والأورج، ودراسة السولفيج والتمرينات الموسيقية المشهورة، والأرموني، والكونترپوان.

وأيضًا دراسة فن توزيع الألحان على الآلات الموسيقية، وفن التلحين بأنواعه، وتاريخ الموسيقى وآدابها ونقدها.

وكذا فن التمثيل بأنواعه، ويجب أن يعهد في دراسة التمثيل غير الموسيقي إلى أساتذة فرنسيين؛ لأنهم أقدر الناس في هذا الفن.

أما الموسيقى الشرقية، فيلزم أن تُدرس بعد الانتهاء من هذه الفروع بأجمعها؛ أي في السنة النهائية لعدم تشويش ذهن الطالب المبتدئ بفنين مختلفين. وأهم مؤلف يدرس فيها هو رسالة رءوف بك بكتا، الذي سبق الكلام عليه في الموسيقى الشرقية في تركيا، مع دراسة مؤلفات النوابغ الروسيين، الذين سبق ذكرهم، وكذلك مؤلفات دارجومسكي Dargomisky، وجلنكا Glinka. وهؤلاء الفحول السبعة فيهم الكفاية؛ لأننا إذا درسنا مؤلفات الفرنسيين والألمان والطليان ربما فسد ذوقنا الشرقي وأصبح إفرنجيًّا.

إذا ارتقت موسيقانا عظَّمها الغربيون

الشرقي ذكي نبيهٌ بفطرته، لا يقل ذكاءً عن الغربي، بل ربما فاقه، ولكن الوسط وسوء التعليم حالَا بينه وبين النبوغ. ولو تحققت آمالي ونُفِّذ هذا المشروع لأنجبت البلاد شبانًا يحيون الموسيقى الشرقية حتى تساوي أختها الغربية في المكانة والفضل، وتوقع في أعظم الحفلات الموسيقية في البلاد الأوروبية.

إن المشاهير من الملحنين من الإفرنج العصريين يُنقَدون على كل أوبرا من مؤلفاتهم مبالغ تتراوح بين الستة آلاف والعشرة آلاف من الجنيهات، وهذا غير الضريبة التي يدفعها كل مسرح من مسارح الدنيا في كل ليلة تُمثَّل فيها. وهذا الحق يسمى «حق المؤلف»، ويستمر طول حياة المؤلف إلى ما بعد وفاته بخمسين سنةً.

أيها الشرقيون، أيقظوا عزائمكم النائمة، وحميتكم الساكنة، واستردوا مجد آبائكم في العلوم والفنون، وبَرْهنوا للغرب بأن الشرق قد استيقظ من رقدته، وهبَّ من هجعته.

ربما سبقنا الأتراك في هدم السد الحائل بين الموسيقى الشرقية والغربية

في تركيا الآن حزب عظيم ينادي بهدم السدود والحواجز بين الموسيقى الشرقية والغربية حتى يقترنا، وفي طليعتهم رءوف بك بكتا. وإن الأتراك ليسعون إلى الرقي في العلوم والفنون بخطوات واسعات. وأعظم دليل على رقيهم مؤلف رءوف بك، الذي سبق الكلام عنه، وربما سبقونا في رفع تلك السدود، وفتح باب الإصلاح؛ فلنعملْ بجد ونشاط حتى نلحقهم.

مستقبل الموسيقى الشرقية

إن مستقبل الموسيقى الشرقية بيد أبناء الشرق، يوجهونها أنى شاءوا؛ إما إلى الأمام، وإما إلى الوراء. وهي الآن دنفة عليلة، وقد شخصنا داءها الدفين، ووصفنا العلاج الناجع لها، ولا ننتظر إلا شراء الدواء، فإن جاد الخيرون بالثمن تحققت الأماني والآمال، وأحيينا مجد الموسيقى الشرقية السالف، وعظمنا في عين الغربيين، وفتحنا بابًا جديدًا للمجد والفخار. وفقنا الله إلى الحكمة والسداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤