زعيمتا النهضة الموسيقية العربية

كانت عزة الميلاء مولاةً للأنصار، ومسكنها المدينة، وهي أقدم من غنَّى الغناء الموقَّع من النساء بالحجاز، وماتت قبل جميلة، وكانت من أجمل النساء وجهًا، وأحسنهن جسمًا، وسميت الميلاء لتمايلها في مشيتها.

وقال معبد: كانت عزة الميلاء ممن أحسنَّ ضربًا بعود، وكانت مطبوعةً على الغناء لا يُعْيِها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغني أغاني القيان من القدائم؛ مثل سيرين وزرنب والرباب وسلمى ورائقة. وكانت رائقة أستاذتها. فلما قدِم نشيط وسائب خاثر المدينة غنَّيا أغاني بالفارسية، فتلقنت عزة عنهما نغمًا، وألَّفت عليها ألحانًا عظيمةً عجيبةً.

وكان ابن سريج في حداثة سنه يأتي المدينة ويسمع من عزة، ويتعلم غناءها، ويأخذ عنها، وكان بها مُعجبًا، وكان إذا سُئل: من أحسن الناس غناءً؟ قال: مولاة الأنصار «عزة» المفضلة على كل من غنى وضرب بالمعازف والعيدان من الرجال والنساء.

وكان ابن محرز يقيم بمكة ثلاثة أشهر، ويأتي المدينة فيقيم بها ثلاثة أشهر من أجل عزة، وكان يأخذ عنها، وكان طويس أكثر ما يأوي منزل عزة الميلاء، وكان في جوارها، وكان إذا ذكرها يقول: هي سيدة من غنَّى من النساء مع جمال بارع، وخلق فاضل، وإسلام لا يشوبه دنس، تأمر بالخير وهي من أهله، وتنهى عن السوء وهي مجانبة له، فناهيك ما كان أنبلها وأنبل مجلسها، ثم قال: كانت إذا جلست جلوسًا عامًّا فكأن الطير على رءوس أهل مجلسها. مَن تكلَّم أو تحرَّك نقر رأسه.

جميلة

هي جميلة مولاة بني سليم، ثم مولاة بطن منهم يقال لهم: بنو بهز، وكان لها زوج من موالي بني الحارث من الخزرج، وكانت تنزل فيهم، فغلب عليها ولاء زوجها، فقيل: إنها مولاة للأنصار.

وهي الزعيمة الثانية للنهضة الموسيقية العربية، وأصل من أصول الغناء، وعنها أخذ معبد وابن عائشة وحبابة وسلامة القس وعقيلة العقيقية والشماسيتان خليدة وربيحة، وفيها يقول عبد الرحمن بن أرطأة:

إن الدلال وحسن الغنا
ء وسط بيوت بني الخزرج
وتلكم جميلة زين النساء
إذا هي تزدان للمخرج
إذا جئتها بذلت ودها
بوجه منير لها أبلج

وكانت جميلة أعلم خلق الله بالغناء، وكان معبد يقول: أصل الغناء جميلة، وفرعه نحن، ولولا جميلة لم نكن نحن مغنين، ولقد سُئلتْ يومًا: أنَّى لكِ هذا الغناء؟ قالت: والله ما هو إلهام ولا تعليم، ولكن أبا جعفر — سائب خاثر — كان لنا جارًا، وكنت أسمعه يغني ويضرب بالعود فلا أفهمه، فأخذت تلك النغمات، فبنيت عليها غنائي، فجاءت أجود من تأليف هذا الغناء، فعلمت وألقيت، فسمعني مولياتي يومًا وأنا أغني سرًّا، ففهمنني ودخلن عليَّ وقلن: قد علمنا ما تكتمينا، فأقسمنَ عليَّ فرفعت صوتي وغنَّيتهنَّ بشعر زُهير بن أبي سُلمَى:

وما ذكرتك إلا هجت لي طربًا
إن المحب ببعض الأمر معذور
ليس المحب كمن أن شط غيره
هجر الحبيب وفي الهجران تغيير

صوت

نام الخلي فنوم العين تقرير
مما ادَّكرت وهم النفس مذكور
ذكرت سلمى وما ذكري براجعها
ودونها سبسب يهوي به المور

وهو رمل بالوسطى، فحينئذ ظهر أمري، وشاع ذكري، فقصدني الناس وجلست للتعليم. ولقد كسبت لمواليَّ ما لم يخطر لهنَّ ببال.

وقد حجت جميلة، وخرج معها من المغنين مشيعين حتى وافوا مكة ورجعوا معها، من الرجال المشهورين المعدودين في الغناء: هيت، وطويس، والدلال، ونؤمة الضحى، وقند، ورحمة، وهبة الله، وهؤلاء مشايخ، وكلهم طيب الغناء، ومعبد، ومالك، وابن عائشة، ونافع بن طنبورة، وبذيح المليح، ونافع الخير، ومن النساء المغنيات: الفرهة عزة الميلاء، وحبابة، وسلامة، وخليدة، وعتيلة، والشماسية، وفرعة، وبلبلة، ولذة العيش، وسعيدة، والزرقاء، ومن الشعراء: الأحوص، وكُثير عزة، ونصيب، وزهاء خمسين قينة وجَّه بهنَّ مواليهن معها، فأعطوهن النفقات وحملوهن على الإبل في الهوادج والقباب، فأبت جميلة أن تنفق واحدةً منهن درهمًا فما فوق حتى رجعن. ولما قاربوا مكة تلقاهم سعيد بن مسجح، وابن سريج، والغريض، وابن محرز، والهذليون، وعدد عظيم من الشعراء والأشراف: كعمر بن أبي ربيعة، والحارث بن خالد المخزومي، والعرجي، وخرج أبناء أهل مكة من الرجال والنساء ينظرون إلى جمعها وحسن هيئتهم.

ولما مضى على مقدمها عشرة أيام، جلست بمنزلها للغناء، وحضر عندها كل من سردناهم من المغنين، وعمر بن أبي ربيعة الشاعر، وغنوا جميعًا أفرادًا وجماعات. ومن ظرفها وآدابها أنها كانت تعجب بكل منهم، وتظهر محاسنه وشخصيته دون أن تُفضِّل أحدًا على الآخر، ثم غنَّت هي بدورها، واستمروا على ذلك ثلاثة أيام لم يشاهد مثلها ولا عند الأمراء والخلفاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤