العلم والصناعة

الأصل في الصناعة أنها تحويل المواد من صورة إلى صورة أخرى أكثر صلاحية لأغراض الحياة الإنسانية … فالصور الأولى هي الخامات أو المواد الأولية، والصور الناتجة عن التحويل هي السلع أو المصنوعات، وتستلزم عملية التحويل عادة استخدام آلات، وبذل قوة محركة، كما أنها تقتضي بداهة الدراية بطريقة التحويل، والمهارة اللازمة للتنفيذ، وقد مرت آلاف السنين والصناعات البشرية تقوم على المجهود الفردي للصانع، أساسها مهارته اليدوية، وقوته الجسمانية، وربما استعان بصبي يعاونه، ويتتلمذ عليه، وربما استخدم بعض الأنعام أو قوة الريح لإدارة طاحونة، أمّا الآلات التي يستعين بها فبسيطة الصنع والتركيب، لا تعدو المنشار، أو المطرقة، أو المنفاخ، أو حجر الطاحون، أو ما إليها من الأدوات الشائعة المعروفة، وحتى أوائل القرن الثامن عشر لم يكن هناك فرق كبير بين الأمم في مضمار الصناعة، ولو أن بعض البلاد كشمال الهند، وبلاد آسيا الوسطى كانت تمتاز بمهارة صُنَّاعِها … فأقمشتها لم تكن تضارعها أقمشة في العالم لا سيما الأقمشة الرفيعة الناعمة كالموسلين الذي يُنسب إلى الموصل، وكذلك الكشمير، والشاهي، وغيرها، وكان الحديد لا يزال يُستخرج في الشرق والغرب بالطريقة المعروفة منذ القدم؛ إذا يوضع الخام — وهو في الغالب عبارة عن أكسيد الحديد — في فرن وقوده الفحم البلدي، ثم يُنفخ عليه بمنفاخ، فيحول الخام إلى حديد منصهر يتجمع في قاع الفرن، وبعد ذلك يُطرق بمطرقة لتنقيته، وهكذا صُنعت بِيضُ الهند التي وصفها الشعراء، كما صُنعت الدروع والرماح التي حارب بها كل من المسلمين والإفرنج في الحروب الصليبية، وما بعدها إلى أوائل القرن الثامن عشر.

ثم قامت الثورة الصناعية، والثورة الصناعية ليست حربًا أُريقت فيها الدماء، ولا قتالًا أبيدت فيها الجيوش وأزهقت النفوس، بل هي انقلاب سلميٌّ غَيَّر معالم الحياة في أوربا، وأوجد نظامًا اجتماعيًّا جديدًا يختلف عما سبقه من النظُم، والثورة الصناعية التي أحدثت هذا الانقلاب إنما قامت على العلم والاختراع.

وأول بلد قامتْ فيه الثورة الصناعية هو إنجلترا، ففي عام ١٧٤٠ اخترع «أبراهام داربي» طريقة لصناعة الحديد باستخدام فحم الكوك المُستخرج من الفحم الحجري بدلًا من الفحم البلدي المصنوع من الخشب، وقد كان من نتائج هذا الاختراع أن زادت كمية الحديد المصنوع في إنجلترا من ٢٥٠٠٠ طن في السنة ١٧٢٠ إلى ٦٨٠٠٠ طن في سنة ١٧٨٨، ثم وصلت إلى ١٣٤٧٠٠٠ طن في سنة ١٨٣٩، وفي سنة ١٧٩٣ اخترع «إيلي وتني» آلة لحلج القطن القصير التيلة، فكان من نتائج اختراعه أن زادت كمية القطن المصنوع في إنجلترا من ٤ ملايين باوند في سنة ١٧٦٤ إلى ٣٠٠ مليون باوند سنة ١٨٣٣، وقد تعددت الاختراعات الصناعية في القرن الثامن عشر، وتعددت الآلات، وأُنشئت المصانع الكبيرة التي يعمل بها مئات العمّال، وتنوع اختصاص العامل على قاعدة تقسيم العمل، فزاد الإنتاج أضعافًا، وهكذا حملت إنجلترا لواء الثورة الصناعية، فسبقتْ الأمم جميعًا في هذا المضمار.

وفي عام ١٧٦٩ سجَّل «جيمس وط» آلته البخارية في سجل الاختراعات بإنجلترا، مُستفيدًا من تجارب «توماس سارتي»، و«توماس نيوكومن»، ثم جاء القرن التاسع عشر فاستُخدِمت قوة البخار في النقل البحري، والنقل البري، فعبَرت أول باخرة عرض المحيط الأطلنطي عام ١٨١٩، وافتتحت أول سكة حديد بخارية عام ١٨٢٥، وصار القرن التاسع عشر هو — إن شئت — عصر البخار، وإن شئت عصر الصناعة، وإن شئت فهو عصر العلم والاختراع.

ونحن إن نظرنا إلى تاريخنا في القرن التاسع عشر نجد أن «محمد علي باشا» قد أدرك أهمية الصناعة الحديثة فأنشأ المصانع الكبيرة، فمن ذلك مصانع الأسلحة، والمدافع بالقلعة، وكان عدد عمالها ١٥٠٠ عامل أو يزيدون، وتستهلك فيها كل شهر كمية عظيمة من الفحم والحديد، وكذلك معمل البارود في المقياس بطرف جزيرة الروضة، ومعامل البارود في البدرشين، والأشمونيين، والفيوم، وأهناس، والطرانة، وقد زاد إنتاجها عام ١٨٣٣ على ١٥٠٠٠ قنطار، وترسانة بولاق التي أنشئت عام ١٨١٠، وترسانة الإسكندرية التي أنشئت عام ١٨٢٩، وكانت تصنع بها البوارج الحربية ذوات المائة مدفع كما تصنع بها البوصلات، والنظارات الدقيقة، ومنها مصانع الغزل والنسيج، كمصنع الخرنفش الذي أنشئ سنة ١٨١٦، وكان به مائة دولاب للغزل، وثلثمائة نول للنسيج، وكمصنع نسيج البركال الذي أنشئ عام ١٨٣٣ تديره آله بخارية، وبه ١٥٠ نولًا، وكمصنع المبيضة على شاطئ النيل فيما بين بولاق وشبرا، وفيه كانت تبيض الأقمشة بالأساليب الصناعية الحديثة، وتطبع فيها ثياب البصمة أو «الشيت» بوساطة الاسطوانات، وتطبع في الشهر نحو الثمانمائة مقطع من البصمة.

ويقول الميسو «مانجان»: إن البصمة التي كانت تُصنع في مصر قد امتازت بجودتها، وإتقانها، ودقة صنعها، ومتانتها، وجمال رسومها، وتنوع أشكالها، وثبات ألوانها على الغسيل، فصار الجمهور يفضلها على أنواع الشيت الواردة من ألمانيا وإنجلترا حتى قل الوارد منها، وقد تعددت مصانع الغزل والنسيج في أنحاء القُطر المصري، فأنشِئت مصانع في قليوب، وشبين الكوم، والمحلة الكبرى، وزفتى، والمنصورة، ودمياط، وفوة، ورشيد، وبني سويف، وأسيوط، كما أقيم في بولاق معمل لسبك الحديد، وأنشئ مصنع لعمل ألواح النحاس، ومعامل للسكر والصابون، والزجاج والصيني، ومدبغة للجلود برشيد.

ومن سوء الطالع أن كُتب الاضمحلال والفناء على هذه الحركة الصناعية في القرن الماضي، فذهبتْ ريحها، وضاع أثرُها، حتى إذا حل القرن العشرون وجَد مصر من الناحية الصناعية حيث وجدها القرن التاسع عشر، وإن لنا في ذلك لعبرة وذكرى.

فإذا كنا نريد اليوم أن يكون لمصر شأن ملحوظ بين الأمم الصناعية، فإن علينا أن ندعم صناعاتنا على دعائم قوية، وأن نؤسسها على أسس ثابتة؛ بحيث تقوى على مكافحة الأحداث، ومقاومة المصاعب.

يدور حوار في هذه الأيام بين أساطين المال والصناعة والاقتصاد حول موضوع حماية الصناعات التي نشأت في مصر في هذه الحرب، وقوام هذا الحوار ما يجب أن تكون عليه سياسة أن تفرض الضرائب والمكوس على المصنوعات الواردة؛ لكي ترتفع ثمنها، فلا تطغى على المصنوعات المحلية، وهذه هي الحماية الجمركية كما تُسمى، وأنه بدون هذه الحماية لن تقوى الصناعات الناشئة على مغالبة المصنوعات الواردة، وإذن يكون مصيرها البوار والفشل … فتموت هذه الصناعات الناشئة، ويُقضى على النهضة الصناعية في مصر، ومن قائل أن فرض الضرائب على السلع الواردة إنما يؤدي إلى رفع أثمانها، وأن الذي يدفع هذه الضرائب إنما هو الشعب المصري بطريقة غير مباشرة، وأن الأفضل أن تترك السوق الحرة، فالسلعة الجيدة الرخيصة تنتصر على السلعة الرديئة الباهظة الثمن، وأن سياسة الحواجز الجمركية سلاح ذو حدين، وهي على أية حال سياسة رديئة لا تتفق ومبدأ حرية التجارة الذي يجب أن يكون أساس التعامل بيد الدول في العالم الجديد.

ويتخيل إليَّ أن كلا الطرفين المتناظرين قد حصر تفكيره في طريقة واحدة من طرق الحماية، ظن أنها الطريقة الوحيدة لحماية الصناعات في بلد ناشئ، ألا وهي طريقة الحواجز الجمركية، وقد فاتهم أن هناك طريقة لحماية الصناعات هي أقوم وأحكم وأدوم على مر الأيام من الضرائب الجمركية، فصناعاتنا الناشئة يجب أن تُحمى، ولكن احموها بالعلم، احموها بوضعها على أسس فنية ثابتة، احموها بالبحث العلمي الصناعي الذي يحل لها مشكلاتها، ويخفض من نفقاتها، ويزيد من جودتها، ويجعلها في درجة المصنوعات الأجنبية، وعندئذ لا تكون هناك حاجة إلى إقامة الحواجز الجمركية. وقد أدرَكتْ الشركات والهيئات الصناعية في أوربا وأميركا أهمية البحوث الصناعية في حماية صناعاتها، فلا تجد شركة من الشركات الصناعية إلا وقد أقامت إلى جانب مصانعها معامل للبحث الصناعي، يشتغل فيها علماء متخصصون، مهمتهم دراسة مشاكل الصناعة، وإيجاد حلول لها.

وإنني أشير على كل شركة، وكل مصنع من الشركات والمصانع التي أنشئت في مصر أن تسارع قبل فوات الأوان إلى إنشاء معامل للبحث العلمي، وليثقوا أن كل قرش يُصرف في هذا السبيل سيعود على أصحابه بربح مُضاعف، وليعلموا أن هذه هي الطريقة الوحيدة لحماية صناعاتهم حماية دائمة، أما الاعتماد على الضرائب الجمركية، وأما الاعتماد على الاحتياطيات الخاصة من الأموال فوسائل مصطنعة مؤقتة، إن قويت على مقاومة التيار فلأجل مسمى وفترة محدودة، لا تلبث الصناعات بعدها أن تنهار أمام الصناعات الأجنبية التي ترتكز على العلم، وعلى البحث العلمي.

ذلك بأننا نعيش اليوم في عالم ديناميكي مُتحرك، وهو ميدان الصناعة، تُحرِّكه في أي ميدان آخر، بل ربما كانت حركته في ميدان الصناعة أسرع مِنها في غيره من الميادين، فمصنوعات عام ١٩٤٥ تختلف في نوعها وكمها، وطريقة إنتاجها عن مصنوعات عام ١٩٣٥، وهذه غير مصنوعات عام ١٩٢٥، ومثل الصناعة التي تستخدم البحوث العلمية كمثل السيارة من طراز جديد، وكما أن على الشركات والهيئات الصناعية واجب الاهتمام بالبحوث العلمية؛ لحماية أنفسها، فإن على الدولة أن تنشئ معاهد البحوث العلمية والصناعية لحماية الصناعات القومية والمحافظة عليها، والعمل على تقدمها.

فالصناعة بأوسع معانيها تشمل موارد الثروة الأهلية من معدنية، ونباتية، وحيوانية، بل وإنسانية أيضًا، كما تشمل استخدام القوى الطبيعية، وتسخيرها لخدمة الأمة وراحتها ورفاهيتها، ولم يعد من الممكن في العلم الحديث أن تُترك هذه الأمور للصدف أو للجهود الفردية، بل يجب على الدولة أن ترسم سياسة إنشائية في تنمية الثروة الأهلية، وهذه السياسة لا يمكن أن تُبنى على الحدس والتخمين، أو على الجدل والخطب السياسية، بل إن قوامها دراسة الحقائق، وإجراء التجارب، والبحوث العلمية؛ لذلك خصَّت الدول بعنايتها أمر التنظيم الصناعي والاقتصادي على أسس علمية، فأنشئ في إنجلترا، وأميركا، وفي الهند وزارات لهذه الأغراض، وفي الحديث الذي أذعته من محطة الإذاعة المصرية في شهر مايو الماضي تقدمتُ باقتراح في هذا الصدد، وهو إنشاء وزارة تسمى وزارة الاقتصاد العلمي، تكون مهمتها استخدام الطرائق العلمية في تنمية الثروة الأهلية، وإيجاد موارد لها، كاستنباط معدن الحديد والمعادن الأخرى من الصحاري المصرية، وكاستخدام القوى الناشئة من مساقط المياه، وتطبيق البحوث العلمية في حل المشكلات الصناعية والعمرانية.

وإنني أكرر اليوم ما قلته بالأمس، فالعلم والصناعة يجب أن يرتبطا برباط متين في كل بلدة ترغب أن يكون لها شأن في مضمار الصناعة، وهذا الرباط هو الذي يحفظ على الصناعة قوتها، ويجدد شبابها، ويعمل على إنهاضها وتقدمها، ولا يستطيع أحد مهما قوى ذهنه، ونفذت بصيرته أن يتنبأ بما سينتج من البحث العلمي من ميادين صناعية جديدة، والأمة التي يكون لها سبق فتح هذه الميادين تكتسب ميزة ظاهرة على غيرها من الأمم، وإن كشفًا واحدًا عن معدن من المعادن، أو مورد من القوة المحركة ليعدل القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، كما أن استنباط طريقة مستخدمة في صناعة من الصناعات ليدر على أهل هذه الصناعة آلاف الملايين من الجنيهات، ومن آخر الأمثلة على ذلك المواد المعروفة باسم العجائن،١ فإن صناعة هذه المواد تُبشر بنجاح عظيم؛ إذ يُنتظر أن تحل هذه المواد محل كثير من المواد العادية المصنوعة من الخشب والمعادن المختلفة، فربما صارت أساسًا لجميع الصناعات المستقبلية، ولو أننا استطعنا عن طريق البحث العلمي أن نستنبط طرقًا جديدة لصناعة هذه المواد في مصر لربحنا ثروة طائلة، فالعلم والصناعة إذا اجتمعنا عادا على الأمة بالخير والرفاهية.
١  اسمها بالإنجليزية Piastics.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤