العلم والحياة

يختلف الناس في تصوّرهم للحياة، فهم يصورونها لأنفسهم في أشكال متباينة، كل حسب ما يرمي، ولو أنه أتيح لامرئ أن يطلع على هذه الصورة المرسومة في أذهان الناس عن الحياة، أو عما يتخيلون أنه الحياة، لعجب أشد العجب، من تضارب ألوانها، وتنافر معالمها، ولأنكر أنها مستمدة من حقيقة خارجية واحدة، وكيف له أن يصدق أن هذه الصورة الذهنية تمثّل شيئًا واحدًا هو الحياة، وهو لا يكاد يلحظ بينها عنصرًا مُشتركًا، والعنصر الوحيد الذي يمكن أن يسمى مشتركًا بين هذه التصوّرات إنما هو عنصر التضارب والتخالف، والغريب في أمر هذه الصور التي يزعم الناس أنها تمثل الحياة هو تمسك كل منهم بصورته الخاصة، وإنكاره على غيره كل خلاف أو معارضة.

فالناس إذ يتصوّرون الحياة، يَقنعون بما يتراءى لهم، ويؤمنون به، ثم هم إذ حكموا على الأمور بنوا حكمهم على تصوّرهم، والحكم على الأشياء فرعٌ من تصوِّرها، فلا عجب أن تجيء أحكامهم متعارضة متناقضة، ولو أن الأمر وقف عند هذا الحد لكان هينًا، فالناس يبنون أعمالهم على حُكمهم على الأمور، فيسعون إلى ما يحكمون أنه الخير، ويحاربون ما يظنّون أنه الشر، وبذلك ينشأ اصطدام عنيف بين الأفراد وبين الجماعات أساسه هذا التعارض في تصوّر الناس لأمور الحياة، فالتنافر يؤدي إلى النفور، والنفور يؤدي إلى القطيعة، وإلى الكيد، وإلى التقاتل والحروب، وإذا نحن أمعنَّا النظر قليلًا في الطريقة التي يكوّن بها الناس آراءهم في الحياة، وجدناها تنطوي على كثير من عدم التبصر؛ فالناس لا يكلفون أنفسهم عناءً كبيرًا في تصوير الحياة وتخيّلها، وهم يبدون استعدادًا مدهشًا لتصديق ما لا يجوز تصديقه، وتصور ما لا ينبغي تصوّره، وكأنما آلوا على أنفسهم ألا يبذلوا جهدًا، وألا يحمّلوا أنفسهم مشقة أو عناء، والكثرة العظمى من الناس في جهل مطبق بحقائق الحياة، ومع ذلك فهم راضون عن أنفسهم، مدافعون عن جهالاتهم وأوهامهم، وإن بعضهم ليتحمس للحياة، ويضحّي بنفسه في سبيلها، وآية ذلك أن جهالة الجاهل جزء من شخصيته، فهو يجد في الدفاع عنها دفاعًا عن نفسه وعن حياته.

لذلك كان من أوجب الواجبات على المتعلمين أن يصونوا عقولهم ونفوسهم، ومن أن تنحدر إلى هذا الدرك الأسفل، وأن يمحِّصوا آراءهم في الحياة تمحيصًا دقيقًا، فلا يؤمنوا إلا بما يمليه عليهم العقل الراجح، والمنطق السليم، والعقول الراجحة تزِن الأمور بميزان الحقيقة، فلا تجزم إلا بعد التثبت، ولا تقطع بأمرٍ إلا بعد الاستقصاء، فإذا لم تكن الأدلة كافية، فالحكم معلّق، والأمر لا زال قيد البحث، أمّا العقول الطفيفة، فتتسرع في الحكم، أو تعتمد على أوهى الأدلّة، وتبنى النتائج على غير مقدّمات، وهي تصور الحياة تصويرًا بعيدًا عن الحياة، وإذا صادفت الأمور هوى في النفس، جنحت إلى الهوى، وحادت عن السبيل، واعتمدت على الشهوة وعلى الغريزة، وما أخطر ذلك على المجتمع، وما أفتكه بالنفس والغير على حد سواء.

لذلك كان العِلم ضرورة من ضرورات الحياة، فالعلم يصوّر الحياة تصويرًا صحيحًا، أساسه الواقع والمنطق السليم، والعلماء إذ حكموا على الحياة، جاء حكمهم صادقًا قويمًا، لا يختلف فيه اثنان، والناس إذا نظروا إلى الحياة نظرة علمية، أراحوا أنفسهم من شرور أهوائهم، ونزوات نفوسهم، واتفقوا في تصويرهم للحياة، وفي حكهم عليها، فحلَّ التعاون محل التنابذ والتطاحن، وراحوا يسعون للخير المشترك، بدلًا من السعاية في الكيد والشر، كيف ينظر العامل إلى الحياة؟ وما الحقائق الموضوعية التي يستطيع العِلم أن يزوّدنا بها في نظرتنا إلى الحياة؟ إن البحث يمكن تقسيمه إلى ثلاث أقسام أساسية، أولها: عن المسرح الذي تقوم عليه الحياة، وهو ذلك الكون البديع الصُّنع، الذي تسكنه الكائنات الحيَّة من نبات وحيوان، والذي هو مسرح الحياة البشرية، ومكانها، ومسكنها. والقسم الثاني: يشمل حقائق الحياة ذاتها، وما انطوت عليه من آيات تبهر العقول، وتأخذ بمجامع القلوب. والقسم الثالث: يَصحّ أن يُسمى قيم الحياة، وهو ما امتازت به النفس البشرية من صفات روحية، وما أودع فيها من حب للخير والحق والجمال.

فأما عن مسرح الحياة، وهو الكون الذي نعيش فيه، فإن سطح الكرة الأرضية، تبلغ مساحته ما يقرب من خمسمائة مليون كيلو متر مربع، منها نحو مئة وثلاثون مليونًا يابس، والباقي ماء، ولكي يستطيع القارئ أن يكوّن لنفسه فكرة عن هذه الأرقام، أذكر أن مساحة الجمهورية المصرية، بنيلها، ومزارعها، وصحاريها هي نحو مليون كيلو متر مربع، فأرض الله واسعة الفضاء حقًّا، ولو أننا جمعنا أهل الأرض طرا، وعددهم نحو ٢٠٠٠ مليون نسمة لوسعهم الجزء المنزرع من الوجه البحري (ومساحته ٢٢٠٠٠ كيلو متر مربع) بحيث يخص كل فرد أكثر من عشرة أمتار مربّعة، وهذا أكثر مما يخص الفرد في كثير من أحياء القاهرة، وإذا كانت مساحة الأرض عظيمة، فإن القوى الموجودة على سطحها أعظم، فالقدرة الناشئة عن مساقط المياه وحدها على سطح المعمورة تبلغ نحو خمسمائة مليون حصان، أما قدرة الرياح والمد والجزر، وأشعة الشمس فتبلغ أضعاف هذا المقدار، والأرض تدور حول محورها كل يوم، وينشأ عن ذلك سرعة تصل إلى أكثر من ألف وستمائة كيلو متر في الساعة، أمّا سرعة الأرض في مسارها حول الشمس فإنها تصل إلى ألف وستمائة كيلو متر في الدقيقة، فإذا التقت في مسارها بحجم جامد نشأ عن اصطدامه بالطبقات العليا للهواء الجوي على رقتها، حرارة تكفي لانصهار الجسم وتبخره في لحظات قلائل، وهذا ما يحدث عندما نرى شهابًا يرسم خطًّا من النور في ظلام الليل، وما الأرض إلا كوكب من كواكب المجموعة الشمسية، بينه وبين الشمس نحو مائة وخمسين مليون كيلو متر، بحيث لا يصل إلينا شعاع إلا بعد ثمان دقائق من انبعاثه عنها، مع أنه مُتحرِّك بسرعة ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، وما الشمس إلا واحدة من مائة ألف مليون شمس، بين كل شمس وجارتها مسير بضع سنين بسرعة الضوء، ويتألف من هذه الشموس عالم هو الذي يظهر لنا ليلًا كسحابة عظمى من النور تخترق وجه السماء، ونسمّيه نهر المجرة، وهذا العالم بدوره واحد من مائة ألف مليون عالم يبلغ قطر كل منها مئات الألوف من السنين الضوئية.

هذا هو مسرح الحياة، وهو مسرح عظيم كالحياة ذاتها، وأذكر أنني وصفتُ السكون، واتساع أرجائه في مقال تحت عنوان سياحة١ في فضاء العالمين، فعلَّق صديقي الأستاذ أحمد بك أمين على هذا المقال في مجلة، واستحقر أمر الإنسان وقال إن الأرض أصغر من أن تذكر بجانب العوالم الأخرى، والإنسان أحقر من أن تعرف حياته، وأخبار الحروب تافهة وحقيرة، وأكثر من ذلك أن السعادة والشقاء، واللذات والآلام، والجمال والقبح، لا يقع من النفس في قليل ولا كثير، ولا يزيد في السمع على طنين ذبابة. إلا أنني أرتأي في ذلك رأيًا آخر، فمن الناحية الفلسفية كانت بعض المذاهب عند الإغريق تفرّق بين عالمين «ألماكرو — كوزموس»، أو العالم الأكبر والميكرو — كوزموس، أو العالم الأصغر، فالأول هو الكون بفضائه وسماواته، والثاني هو الإنسان، وهذان العالمان ليسا شيئين مختلفين، إنما هما صورتان لشيء واحد، وقد اتصلت هذه المذاهب عندنا بالفلسفة الصوفيّة، والقول بوحدة الوجود، وانطواء العالم الأكبر في العالم الأصغر.
دواؤك فيك وما تشعر
وداؤك منك وما تبصر
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر

واللذين يرتأون هذه الآراء لا يجدون في صغر الجرم الإنساني ما يبعث على استصغاره، ولا في ضعفه النسبي ما يدعو إلى استحقاره، ومن الآراء الفلسفية المشهورة ما قال به الأسقف «باركلي الإنجليزي» من أن حقيقة الكون نفسية لا موضوعية.

فوجود الكون إنما يقوم بالنفس، ولا معنى له بدونها، وعلى هذا الرأي يكون وجود النفس شرطًا لازمًا لوجود العالم، ولا يكون هناك معنى لوجود العالم ما لم توجد النفس المدركة، وفيما خلا هذه المذاهب الفلسفيّة، وما انطوت عليه من معانٍ خفيّة، فإن قضيّة الإنسان في الكون تستند إلى أسانيد تستمد قوتها من الواقع، ومن المنطق السليم؛ فقد طاف الإنسان حول الأرض، على عظم محيطها، ووصلت سرعته في الجو، إلى ما يقرب من نصف سرعة الأرض في دورانها حول نفسها، فكاد يلحق بالشمس في حركتها اليوميّة، وقد رقي في الجو إلى ما يعدل عشرة آلاف قامة من قاماته، كما سخّر لنفسه من القوى ما إن قدرته لتنوء بالملايين أمثال قدرته، أما بعقله وفكره فقد وثب وثبات رائعة، فأماط اللثام عن طبقة مكهربة في الجو على ارتفاع مائة كيلو متر، ثم عن أخرى على ارتفاع ثلاثمائة كيلو متر، واستخدمها في نقل رسالته اللاسلكية، وأخيرًا كشف عن ثالثة تقع وراء القمر، أي على أكثر من أربعمائة ألف كيلو متر، ووجد عنصر الهليوم على الشمس، أي على بعد مائة وخمسين مليون كيلو متر، والمجموعة الشمسية التي يربو قطرها على أحد عشر ألف مليون كيلو متر قد أحاط علمًا بحركاتها، وقدر مواقيتها بما يزيد ضبطًا على الساعة التي يحملها في جيبه، أمّا الشموس الأخرى، فقد قاس أحجامها، وعرف أوزانها، ودرجات حرارتها، وأطوار وجودها، وتعداها إلى ما هو أبعد منها من السديم، فرسم لها صورًا فوتوغرافية، وحلل أنوارها، وعرف عناصرها، وكاد يصل بعقله وعلمه إلى محيط الكون، فقدّر أبعاده، وقاس معظمه.

هذه صحيفة مختصرة لعمل الإنسان في عالم الحجم، وفي عالم القوة، من شأنها أن تقنع الكثيرين بمكانته، وعظم مستقبله، أمّا أنا فإنني لا أنكر على القارئ أنني لا أجد تحتها طائلًا، ولا أبني عليها حكمًا، فليس مقام الإنسان في نظري مرتكزًا على الأحجام والقوى، وليس يضير الإنسان في ملّتي أن يكون ضئيل الجسد، قليل الحول، وإذا كان العالم الذي نعيش فيه واسع الأرجاء، رحب الفناء، فإنني لا أجد في ذلك إلا مبعثًا للفخر، وحافزًا للسموّ بالنفس، وهل ينقص من قدر المرء أن ينتمي إلى مدينة عظيمة، أو أن يسكن في واد فسيح، وإنما ينبني مقام الإنسان على شيء آخر، وهو أبعد ما يكون عن عظم الجرم، وشدة البأس، فقد سكن الأرض في العصر الخالي دينوصورات ذات أجسام هائلة، كأنها الأطواد المتحركة، وكان لها من قوة عضلاتها ما جعل لها الغلبة على جميع الكائنات الحية، التي عاشت على الأرض في زمانها، ومع ذلك فقد اندثرت هذه الوحوش الضارية، ولم يبق منها إلا بضع هياكل متناثرة، هي خير عبرة لمن ينادون بأن القوة هي كل شيء، وخير عظة لمن يصوّرون الحياة على أنها صراع يتغلّب فيها القوي على الضعيف.

كلا، بل يقوم المجد البشري على شيء آخر هو ذلك القبَس المقدّس الذي نشعر جميعًا أنه يميز الإنسان على سائر الحيوان، تلك القوة الروحية التي تحرّك فينا حب الحق، وحب الخير، وحب الجمال، وعلى قدر استجابة البشر لذلك الداعي، تأتي عظمتهم، أو رفعة شأنهم، وعندي أن ما وصل إليه الإنسان من العلم، وما ترتب على ذلك من قدرة واختراع، إنما جاء على قدر طلبه للحقيقة، وشغفه بالحق، كما أن حب الحق، وحب الخير إنما يتفرعان من حب الجمال، فالحق والخير جميلان، ولذلك مَن أحبَّ الجمال أحبهما جميعًا. ووددت لو استطعتُ أن أصور للقارئ فيض ذلك الجمال الذي يدركه طالب الحقيقة العلمية، ذلك التناسق البديع بين أجزاء الكون، حتى إن السير «جميس جينز» العالم الإنجليزي الشهير ليصف٢ الكون بأنه فكرة عظيمة، أو إن شئت فقل فكرة جميلة، ومن الخطأ الفاحش أن يصوَّر العلم على أنه شيء مادي، يُعنى بالأجسام والمسافات والأبعاد، وتحديد الأشعة، وما إلى ذلك، وأن يقال إن العلماء يقفون عند المظاهر المادية للعالم؛ فالعلماء إذ يبحثون عن الحقيقة يسمُون بعقولهم إلى المنتهى، وهم إذ يكشفون عن أسرار الكون تمتزج نفوسهم بالحق والجمال.

وإذا انتقلنا من مسرح الحياة إلى الحياة ذاتها، فإننا لا نجد أثرًا للحياة في صخور الأرض قبل العصر الباليوزي، أي قبل نحو ٥٠٠ مليون سنة.

ذلك أن علماء الجيولوجيا يقسِّمون العصور الخوالي أقسامًا، وفترات متعاقبة، تمثّل أدوارًا متتالية في تطور الكرة الأرضية، كما يرى من الجدول الأتي:

الزمن الحديث
العصر الكاينوزوي زمن البليستوين (انتهى منذ ٢٠٠٠٠ نحو سنة)
زمن البليوسين (انتهى منذ نحو ٥٠٠٠٠٠ سنة)
زمن الميوسين (انتهى منذ نحو ١٠ مليون سنة)

زمن الأوليجوسين (انتهى منذ نحو ١٧ مليون سنة)

زمن الأيوسين (انتهى منذ نحو ٣٠ مليون سنة)
العصر الميزوزي انتهى منذ نحو ٥٠ مليون سنة
العصر الباليوزوي انتهى منذ نحو ١٧٥ مليون سنة
العصر البروتيروزوي انتهى منذ نحو ٥٠٠ مليون سنة
العصر الآركيوزوي انتهى منذ نحو ١١٠٠ مليون سنة

فهناك خمسة عصور كبرى أقدمها الأركيوزوي، ثم البروتيروزوي، ثم الباليوزوي، ثم الميزوزوي، ثم الكانيوزوي، ثم تنقسم هذه العصور إلى أقسام جزئية، أثبتنا في الجدول أقربها إلينا، وهي أقسام العصر الكانيوزوي، وقد بُني هذا التقسيم على دراسة الصخور التي تتألف منها القشرة الأرضية، وعلى ما تحتويه من حفريات محفوظة فيها هي آثار الحيوان والنبات الذي عاش في العصور المختلفة. أمّا مقياس الزمن، فأساسه تحليل العناصر ذات النشاط الإشعاعي كاليورانيوم والراديوم التي تحتوي عليها هذه الصخور، إذ من المعلوم أن هذه العناصر تتحوّل من تلقاء ذاتها إلى عنصر الرصاص، ومن المعلوم أيضًا أن نسبة ما يتحوّل منها إلى رصاص يزداد بازدياد الزمن، بحيث يمكن اعتبار هذه النسبة مقياسًا للزمن والحياة التي نجد آثارها في صخور العصر الباليوزوي حياة بدائية، ففي مبدأ هذه العصر، أي منذ نحو خمسمائة مليون سنة، لم يكن هناك أسماك، ولا زواحف ولا طيور، ثم ظهرت الأسماك فالزواحف، أما الطيور فلا نجد لها أثرًا قبل أوائل العصر الميزوزوي، وأمّا الحيوانات الثديية فلم تظهر إلا في زمن الآيوسين من العصر الكاينوزوي، أي منذ نحو ٥٠ مليون سنة، وأمّا آثار الإنسان، فإننا لا نجدها إلا في زمن البليستوسين، الذي بدأ منذ نحو نصف مليون سنة.

وينقسم زمن البليستوسين إلى ثلاثة مراحل، أحدثها مرحلة الحضارة الموسطيرية في وادي النيل ومنطقة الفيوم، وقد انتهت هذه المرحلة منذ نحو ٢٠٠٠٠ سنة، ويسبقها مرحلة الحضارة الخيلية والأخوليّة في وادي النيل، وقد انتهت منذ نحو ٥٠٠٠٠ سنة، أما أقدم المراحل الثلاث فلا يوجد في مصر آثار للإنسان فيها، والآثار التي نعثر عليها لهذه الحضارات العتيقة أغلبها آلات منحوتة من الصخر، تختلف دقة صنعها بدرجة حضارة أهلها، فما كان منها أدق صنعًا اقترن بحضارة أحدث وأعلا.

وينقسم الزمن الحديث إلى خمس مراحل، أقدمها مرحلة الحضارة السبيلية في وادي النيل والفيوم، وقد انتهت منذ نحو عشرة آلاف سنة، ثم مرحلة الانتقال إلى الحضارة النيولينية، أو الحضارة الحجرية الحديثة، وقد استغرقت نحو ٢٠٠٠ سنة، ويلي ذلك المرحلة النيوليلية ذاتها، وتمتد من نحو ٨٠٠٠ سنة إلى ٤٥٠٠ قبل الميلاد، وفيها ارتقى الإنسان في صنع الآلات الصخريّة وصقْلها، كما بدأ يصنع الفخّار، ويلي ذلك مرحلة تمتد من نحو سنة ٤٥٠٠ إلى سنة ٣٤٠٠ قبل الميلاد، وهي مرحلة سابقة على تاريخ الأسر المصرية القديمة، وحوالي سنة ٣٤٠٠ قبل الميلاد يبدأ التاريخ.

ويقدّر عمر الأرض بنحو ٢٠٠٠ مليون سنة، ويظن أنها انفصلت عن الشمس وقتئذ، ثم برد سطحها، فتكوَّنت القشرة الأرضية من صخور تختلف في تركيبها كما تختلف في طريقة تكوينها؛ فالصخور النارية كانت مادة منصهرة، ثم جمدت كحجر الجرانيت، وهي لا تحتوي على حفريات حيوانية، والصخور الرسوبية تكوّنت في قاع البحار، فكانت طبقات تحتفظ بين ثناياها بقواقع الحيوانات البحرية، التي كانت تعيش وقت تكوينها، ولما كانت القشرة الأرضية مُعَّرضة لتأثير ضغوط جانبية عظيمة، لذلك كانت في تقلّص مُستمر، فبعض أجزائها في ارتفاع، والبعض في انخفاض، فالصخور الرسوبية التي تتكون في قاع البحار ترتفع فتتعرض للجو فتتفتت وتتعرى، كما أن بعضها تنفذ فيه المواد المنصهرة من باطن الأرض، فتخترقه وتعرّضه لحرارتها، وتغير نظامه وتركيبه؛ لذلك كانت معالم سطح الأرض في الأزمنة الجيولوجية المختلفة في تغيّر مستمر، فالبحار تتقلّص أو تمتد، والجبال تنخفض أو ترتفع، ومن الأمثلة على ذلك: ما حدث في مصر في زمن الأيوسين والأزمنة التالية؛ ففي زمن الأيوسين كان البحر الأبيض المتوّسط يمتد جنوبًا إلى أقاصي الصعيد، ولم يكن البحر الأحمر قد أمتد شمالًا إلى مكانه الحالي، وفي زمن الأوليجوسين كان البحر الأبيض المتوسط قد ارتد شمالًا، وأمتد في الوقت ذاته ذراع البحر الأحمر، فلما جاء زمن الميوسين كان البحران قد تلاقيا، وكانت الجبال قد تكوّنت حول شواطئ البحر الأحمر، ثم انفصل البحران مرة أخرى في أواخر زمن الميوسين، ثم اتصلا في زمن البليوسين، وما زالا في انقباض وامتداد حتى اتخذا شكلهما الحالي في أواخر المرحلة الباليوزوية، أي منذ نحو عشرة آلاف سنة.

وإذا كان العلم ينبئنا بتطوّر الحياة على سطح الأرض، ويحدد لنا المقاييس الزمنية، فإنه لا يتعرض لمنشأ الحياة ذاته، ولا يحدد وقت ظهورها، وقد كان الناس حتى أواسط القرن الماضي يظنون أن الكائنات الحية البيئية قد تولد في البيئات المناسبة، ويضربون على ذلك المثل بظهور الديدان في بعض المواد العضوية كالجبن واللحوم وغيرها، إلى أن أثبت باستير أن ما ظنوه تولدًا من المادية العضوية، إنما هو تحوّل من أجسام صغيرة، وغير منظورة إلى ديدان تراها العين، وهذه الأجسام غير المنظورة حية، كما أن البذور التي تنمو منها النباتات حية أيضًا، وإذا قتلنا الحياة في هذه الأجسام عجزت عن التكاثر، وصار حكمها حكم أي جزء من المادة العضوية الميتة، وعملية التعقيم كما تسمى إن هي إلا قتل جراثيم الحياة، فإذا عقم اللبن قتل ما فيه من بكتيريا فماتت، ولم تعد قادرة على تغيير تركيبه الكيميائي. فالعلم إذن يُقرِّر أن الحياة ظاهرة لا يستطيع الإنسان إيجادها، والواقع أن موقف العلم من خلق الحياة هو عين موقفه إزاء خلق المادة، فهو يكتفي في الحالين بوضع قانون عام ينصّ على عدم حدوث الخلق، ففي حالة المادة يعرف القانون باسم قانون بقاء المادة، وينصّ على أن المادة لا تخلق ولا تفنى، والمقصود من ذلك طبعًا هو عجز الإنسان عن خلقها أو إفنائها، ومع أن هذا القانون قد دخل عليه تعديل في السنين الأخيرة، إلاّ أنه لا يزال صحيحًا في جوهره، وينحصر التعديل في اعتبار المادة والطاقة مظهرين لشيء واحد، بحيث يمكن تحويل المادة إلى طاقة أو الطاقة إلى مادة مع بقاء مجموعها ثابتًا، لا يخلق ولا يفنى، وإذا كان خلق المادة والطاقة، وإفناؤهما خارجًا عن طاقة البشر فإن خلق الحياة خارج أيضًا عن طاقتهم.

ومن المسائل التي أثارت اهتمام المفكّرين ما يسمى بالنشوءِ أو التطوّر، فالأدلة الجيولوجية، وكذلك الأدلة التشريحية، وغيرها ناطقة بأن الحياة الحيوانية والنباتية قد تغيرت وتطورت في العصور المختلفة، فكثير من الحيوانات والنباتات التي كانت تعيش في العصور الخالية قد اندثرت، ونشأت أنواع على مر السنين والعصور، والإنسان بالذات — كما قدمنا — لا يظهر له أثر قبل عصر البليستوسين، أي بعد مئات الملايين من السنين من ظهور الحياة على سطح الأرض، ثم إننا نجد بصفة عامة أن الحيوانات الدنيئة والبسيطة التركيب قد ظهرت قبل الحيوانات الراقية، ومقياس الرُّقيّ في ذلك وإن كان غير محدد تمامًا إلا أنه واضح، وإذ لا يمكن إنكار أن الطيور أرقى من القواقع البحرية، أو أن الحيوانات الثديية أرقى من الأسماك، فهناك إذن اتجاه عام نحو الرُّقي، والارتفاع بالحياة من مستواها البدائي إلى مستويات أرفع، كل هذه حقائق لا أخال أحدًا ينكرها، ولكن بعض العلماء في القرن الماضي قد أرادوا أن يستنتجوا من هذه الحقائق نتائج واسعة المغزى، ليس لها ما يبررها، فمن ذلك أنهم رأوا في تطوّر الحياة وأنواعها أداة ميكانيكية لخلق الحياة ذاتها، وظنّوا أن فهمنا لهذا التطوّر يُفسّر لنا معنى الحياة، وهذا ولا شك خطأ غير جائز، ففهم الأطوار التي مرَّت بالحياة شيء وتفسير الحياة وخلقها شيء آخر، ونحن عاجزون تمام العجز عن أن نفهم السرّ الذي يدفع بهذه المخلوقات في تيّار هذا التطور العجيب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا شك في أن الإدراك والعقل غير خاضعين لأي تفسير ميكانيكي أو تطوّري؛ فمخ الإنسان قد يكون أداة للفكر البشري، والخلايا التي تتألف منها قشرة المخ، والتي يبلغ عددها نحو ١٤ ألف مليون خلية قد تكون جهازًا مرتبطًا أوثق الرباط بعملية التفكير، وسمو العقل البشري على عقول القردة قد يكون متصلًا بكثرة عدد هذه الخلايا، ودقة تركيبها، ومع ذلك فالعقل البشري شيء والتفاعلات الكيميائية الفسيولوجية في خلايا المخ شيء آخر، وعندي أن فلاسفة القرن التاسع عشر قد طغت عليهم موجة من المادية، فراحوا يفسّرون العقل والنفس والروح تفسيرًا آليًّا، وقد كان لهم في ذلك بعض العذر؛ لأن العلوم الطبيعية والكيميائية في ذلك الوقت كانت تقول ببقاء المادة وعدم فنائها، وكانت تصوِّر العالم المادي على أنه آلة خاضعة لقوانين ثابتة.

وقد تغيّر الحال كثيرًّا في العلوم الطبيعية والكيمائية عما كانت عليه في القرن الماضي؛ فالمادة قد فقدت ماديَّتها إذ ثبت أن أجزاءها ذوات خاصية موجية، شأنها في ذلك شأن الضوء، فالجواهر الصغيرة التي تتألف منها المادة ليست بالشيء الذي يملأ الحيز الذي يشغله، بل هي أشبه بحركة الأمواج على سطح البحار، فهي عرض وليست بجوهر، كذلك الزَّمان والمكان قد فقدا وجودهما الخارجي٣ في النظرية النسبيّة التي صار مسلَّمًا بها في نظر علماء الطبيعة جميعًا، فأنت ترى أن الأساس الذي بنى عليه فلاسفة القرن التاسع عشر فلسفتهم قد انهار تمامًا، فلا المادة ذلك الشيء الدائم، ولا الزمان والمكان كما كانوا يظنون أساسًا للحقيقة الموضوعية.

هذا ينتقل بنا إلى القسم الثالث من أقسام بحثنا؛ ألا وهو قيم الحياة، والبحث في نظرية القيم ربما يكون خارجًا عن نطاق العِلم ذاته، إذ كثيرًا ما يُقال: إن العلم يُعنى بالحقائق، أمّا القيم فمن شأن الفلاسفة، ومع ذلك، فأي إنسان منا يُرضي عقله بالحقائق المجرّدة دون أن يعنى بقيمها، وأي إنسان يرضى بأن يبني قيم الأشياء على الأوهام دون الحقائق، إننا إذا نظرنا إلى حقائق الحياة وجدناها تدفعنا دفعًا إلى الإيمان بالقيم الروحية، بل إن العلم نفسه ليقوم على إحدى القيم الروحيّة الأساسية، ألا وهي حب الحق، والشغف بالحقيقة، فالعلم إذ ينظر إلى الحياة شغوف بأن يصوّرها تصويرًا حقيقيًّا، وهو إذ يفعل ذلك يُقدِّم للإنسانية أجلّ خدمة، فقد قدمت أن اختلاف الناس في تصوّرهم للحياة يؤدي إلى التقاتل وإلى الشرور، ولا سبيل إلى اتِّفاقِ الناس في تصويرهم للحياة إلا أن يعنوا جميعًا باستخلاص صورة حقيقية لها، وهي الصورة التي يرسمها العلم، ومن سوء الحظ أن بعض علماء القرن الماضي وفلاسفته قد صوروا الحياة على أنها صراع بين القوي والضعيف، وتكلّموا عن مبدأ بقاء الأصلح، وقد فُهم ذلك على أنه بقاء الأقوى، ولقد وضحت في أول هذا المقال أن الأرض كان يحكمها ديناصورات هائلة، ثم انقرضت هذه الوحوش، وارتفعت الحياة نحو السموّ، ونحو النور، فتصوير الحياة على أنها صراع ينتصر فيه القوي على الضعيف تصوير خاطئ، لا يرتكز على أي أساس علمي، وقد حدث في تاريخ البشرية أن تغلّبت القوة البربرية على المدنية الروحية، ومن الأمثلة على ذلك: ما حدث عند انهيار الإمبراطورية الرومانية في الغرب، والدولة العباسية في الشرق، إلّا أن مثل هذه الانتصارات إنما كانت انتصارات مؤقّتة ساعد عليها انحطاط حال الأمم المغلوبة، وابتعادهم عن مُثُلهم العُليا الروحية.

واليوم وقد امتزج العلم بحياة الأمم والأفراد، قد صار لزامًا على رجال العلم أن يرفعوا لواء المُثُل العُليا، وأن يبتعدوا عن الفلسفة المادية في جميع صورها وأشكالها، كما صار لزامًا على الشعوب أن يتقبّلوا رسالة العلم، وأن يستعينوا بها على محاربة الشرّ، وقد بينتُ أن الأرض لا تزال رحبة تتسع للناس جميعًا، وأن القوى الموجودة على سطحها قوى عظيمة، فإذا استعان بها الناس على قضاء حوائجهم، وسخّروها لخيرهم ورفاهيتهم، مستعينين بالعلم، والروح العلمية كان لنا أن ننتظر للبشر مستقبلًا يكفل طمأنينتهم وسعادتهم وسموّهم.

١  انظر كتاب مطالعات علمية ص٤٤ طبعة القاهرة سنة ١٩٤٣.
٢  راجع كتاب الكون الغامض سير جينز ترجمة عبد الحميد حمدي موسى، وطبعة وزارة المعارف بالقاهرة صفحة ٦٢.
٣  راجع كتاب النظرية النسبية العامة للمؤلف طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة سنة ١٩٤٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤