التسْلية في السِّجْن

لو تمت «تعليمات» السجن بحرفها في معاملتنا نحن المحكوم علينا في قضايا النشر والصحافة، لكان معنى ذلك أنني قضيت تسعة شهور صامتًا لا أنبس بكلمة واحدة، إلا أن تكون هذه الكلمة سؤالًا أو جوابًا لموظف من موظفي السجن في عمل من أعماله الرسمية، ثم ألوذ بالصمت «البوذي» الطويل عاكفًا عليه ليلي ونهاري بلا صلاة ولا قربان!

لأن إدارة السجن أوصدت على كل مسجون في قضية صحفية أو قضية من قضايا النشر باب حجرة منفردة.

وأمرتْ أن ينفرد كل منَّا في أوقات الرياضة فلا نتلاقى بمكان واحد، ولا يمر أحد منَّا على حجرة الآخر.

بل أمرتْ أن يكون ذهاب كل منَّا إلى المستشفى لمقابلة الطبيب أو اللجنة الطبية في موعد غير موعد زملائه.

وعلى هذا كنا في «سجن انفرادي» كالذي يعاقبون به السجناء الأشقياء، ونحن لا ندري ولا إدارة السجن تدري، وكنا أسوأ حالًا من شرار المجرمين؛ لأنهم يجتمعون في ساعة الرياضة عشرات عشرات، ويجتمعون في المصنع بضع ساعات، ويجتمعون في حجرة النوم خمسة خمسة أو عشرة عشرة أو عشرين عشرين حسب اتساع الحجرات.

وهذه نقيضة أخرى من نقائض السجن وأعاجيبه، وهو كمصر في رأي هيرودوت موطن النقائض والأعاجيب.

ومهما يكن من زهادة الإنسان في اللغو والكلام، وفي إخلاده إلى العزلة والسكون فليس السكوت تسعة شهور بالأمر المعقول ولا بالأمر الهين، وأي سكوت؟ إنه السكوت لغير عبادة يتعزى العابد بسلامها وثوابها، وإنه السكوت مع الفراغ من العمل، ومن النظر إلى الدنيا، ومن ضروب السلوة جميعها إلا القراءة ومراقبة النمل على الجدران!

لقد كنا نرى بعض المحبوسين من الموسرين القادرين على استئجار الحجرات المفروشة أثناء التحقيق يهجرون تلك الحجرات لانفرادها وعزلتها، ليشتركوا مع غيرهم في حجرة واحدة ينامون فيها على الأرض بغير فراش إلا الحصير من الليف الخشن، ويعملون بأيديهم في تنظيف الأرض وغسل الآنية كل صباح ويؤثرون ذلك على السرير وحشايا القطن، والراحة من الخدمة وامتهان النفس في الغسل والتنظيف؛ لأنهم يستطيعون الكلام هنا بغير عقوبة، ولكنهم يعاقبون إذا سمعهم الحارس يكلمون جارًا لهم من النافذة أو فتحات الباب حين ينفردون في حجرة معزولة.

وقد كنت أنا من المشهود لهم «بحسن السير والسلوك» عند السجانين ورؤسائهم الموقرين؛ لأنني كنت لا أهتم بفتح باب الحجرة، ولا أسعى للتحدث إلى أحد، ولا أحاول الخروج أو المرور من غير مكاني المألوف، ومع هذا تخطئ إدارة السجن إذا هي ظنت أنني أستحق شهادتها بحسن السير والسلوك كل الاستحقاق، فلو أنني حوسبت بالعدل والقسطاس المستقيم في عرف النظام الأعوج، لخسرت كثيرًا من الدرجات في تلك الشهادة.

فالحق أننا نتكلم ونتلاقى ونتسامع الأخبار على قصد وعلى غير قصد، وإن كان ذلك كله فلتات لا تخفف من قيود «السجن الانفرادي» المفروض علينا إلا بمقدار يسير.

أما شرار المجرمين فقد كان مباحًا لهم كل ما هو محرم علينا، فما هو إلا أن توصد عليهم الأبواب نهارًا، حتى يتجمعوا للعب بحجارة «الدومينة» أو بحجارة النرد أو ما شاءوا من الألعاب وضروب التسلية، وقد يسأل سائل: «ومن أين لهم حجارة النرد أو الدومينة؟ أتراهم يهربونها من خارج السجن كما يهربون التبغ والنقود؟» ألا فليعلم هذا السائل إذن أنه يسيء الظن ببراعة السجناء، فإنهم قد برعوا في صناعة هذه الحجارة داخل السجن حتى صنعوها من لباب الخبز الساخن وهم في حاجة إليه، فأثبتوا بذلك أنهم يعرفون كيف يجدون إذا هموا باللعب أو مخالفة النظام، وأثبتوا بذلك أيضًا أن اللعب أحب إلى الإنسان من الطعام.

وليس يحلو اللعب للسجناء بغير رهان، فإذا كان نقد أو تبغ أو طعام ممنوع فذاك هو الرهان المفضل على هذا الترتيب، وإن لم يكن واحد منها فلا رهان بعد هذه المتع المشتهاة أحلى وأشهى من الضرب الوجيع والمبالغة في الإيجاع إظهارًا للقوة والتذاذًا بالسطوة، وربما كانت لذة الضرب الكبرى عند السجين أنه يمنحه القدرة على التغلب والتعذيب وتوقيع العقاب، في مكان لا يزال فيه مغلوبًا معذبًا خاضعًا للعقاب.

أما الليل فالظلام يحول دون اللعب بالنرد والدومينة، ولكنه لا يحول دون اللغط والغناء والعربدة وكل ما يحلو لسكان الحجرة ما داموا في أمان من أعين الحراس وآذانهم، وهم على الأكثر في أمان!

•••

وكانت تسليتي بالليل قبل أن تسمح إدارة السجن بإدخال النور الكهربائي إلى حجرتي أن أستمع إلى لغط اللاغطين حتى يهدأ: فأسمع مصارحات السجناء بأسرار حوادثهم ومراوغاتهم تارة، وأسمعهم يمثلون روايات التهريب وإخفاء الممنوعات تارة أخرى، وربما كان من هذه الروايات المضحك والفاجع والمقزز والمثير للسخط والنقمة، وربما كان منها ما يستمر ليلة كاملة ويشترك في تمثيله حجرات ثلاث بعضها فوق بعض، وكل منها في دور مختلف من أدوار العنبر، وأصلح هذه الروايات للتمثيل فيما أذكر رواية اشترك فيها أربعة أطفال، ومهرب كبير من عتاة المجرمين، وسجين من سجناء المحاكم المختلطة. فأما الأطفال — وهكذا يسمونهم في السجن وإن بلغوا الثامنة عشرة — فكانوا في الدور السادس؛ أي الدور الأوسط، وأما المهرب فكان في الدور السابع وهو أعلى من السادس، وأما سجين المحكمة المختلطة فكان إلى جانبي في الدور الأرضي؛ أي الدور الخامس الممتاز بالأطعمة الخاصة، وشيء من التيسير في المعيشة.

وبدأت الرواية باتفاق بين المهرب والأطفال من جهة، وبين الأطفال وسجين المحكمة المختلطة من جهة أخرى، وفحوى الاتفاق أن يدلي الأطفال بخيط من خيوط الصوف التي ينزعونها من غطائهم أحيانًا لتوصيل الرسائل والمهربات، فيربط فيه السجين في الدور الأرضي صرة صغيرة تحتوي قطعتين من ذوات القرشين وقليلًا من الحلوى، وعندما تصل هذه الصرة إلى الأطفال ينادون المهرب فيسقط إليهم خيطًا قد ربط فيه الصرة التي تحتوي لفائف التبغ المطلوبة، وإنما وثق الطرفان بأمانة الأطفال في هذه الرسالة؛ لأنهم أطفال مخلصون لا يعرفون الخباثة، ولا بد من توسيطهم بين البائع والشاري على كل حال لأنهم متوسطون بينهما بحكم المكان الذي لا يتحول، فاطمأن البائع والشاري إلى الصفقة وبات كل منهما يمني نفسه بليلة سعيدة، فالبائع يتلمظ شوقًا إلى الحلوى ويترقب ثمن البضاعة التي يعاني ما يعاني في سبيل تهريبها وإخفائها، والشاري يحلم بالتدخين ويعد الأنفاس في انتظار أنفاسه الهنيئة! أما بقية الممثلين في الرواية — وهم الأطفال — فلم يكونوا عند حسن الظن أو عند سوء الظن بهم فهما في هذه الحالة سواء، ولكنهم أضمروا النية على شيء آخر وقرروا فيما بينهم أن ينوبوا عن الطرفين البائع والشاري في الاستمتاع بالتدخين والحلوى والقروش جميعًا، وهكذا كان.

فلما أسقطوا الخيط إلى سجين المحكمة المختلطة المجاور لي لم يقصر الرجل في ربط الصرة، وهمس لهم أن يرفعوها فرفعوها وهم يغالبون الضحك، والرجل لا يستريب بضحكهم ولا يرى فيه إلا أنه من مرح الأطفال حين يلهون بأمثال هذه الألاعيب، ثم لبث الأطفال يضحكون هنيهة وانتظروا ريثما يتحققون من محصول الصرة ويطمئنون إلى نجاح الحيلة من ناحية الشاري، ثم نادوا المهرب فما توانى دون أن أجاب على الفور بإسقاط الحبل وفيه البضاعة النفيسة، ثم مضت لحظة، كنت أسمع خلالها همس الأطفال وضحكاتهم المخنوقة وشجارهم الأخوي على تقسيم الغنيمة فيما يظهر، فلما لم تصل اللفائف إلى سجين المحكمة المختلطة ولم تصل القروش والحلوى إلى المهرب، ناديا على الأطفال في وقت واحد وهما حذران متوجسان، ولم يخطر لهما أول وهلة أنهم قد غدروا بهما، وإنما خطر لكل منهما أن يرتاب في صاحبه ويسأله على الرغم مما في رفع الصوت من المجازفة والتعرض للعقوبة والمصادرة، فإذا بكل منهما يقسم أغلظ الأيمان على بره بوعده ويحرق الأرم غيظًا من أولئك الصبية الملاعين! وأكد لهما الصدق فيما يقولان سكوت الصبية الملاعين وانفجارهم بالضحك كلما غلبهم وأعياهم أن يغالبوه، وانقلب النداء شتمًا ووعيدًا وإلحافًا شديدًا، ولا فائدة لكل أولئك ولا جواب غير الهمس فالضحك المخنوق فالقهقهة الداوية من حين إلى حين، فلم يبق للرجلين إلا أن يتجرعا غصة اليأس ويستعيضا الله فيما كانا يحلمان به من لذة وهناءة، وسكتا وهما كظيمان مقهوران.

لكن الرواية لم تنته عند هذه النهاية، وإنما انقضت فترة قضاها الأطفال في سرور وفرح بالغنيمة ونجاح الألعوبة، ثم انبعث صوت جاد أو متكلف للجد من حجرتهم ينادي المهرب مرة بعد مرة، فخف المهرب إلى الجواب، ووثب إلى النافذة كأنه حسب أنهم ندموا على غدرهم وفكروا في رد الأمانة إليه، فقال متوددًا: «ما بالك يا فلان؟ لم كنت لا تجيب؟» فضحك الغلام الخبيث وقال: «كنت نائمًا.» فأرسل المهرب عليه عشرات من التحيات لأبيه وأمه وصاح به: «أو تنام في غمضة عين؟ ومن ذا الذي كان يضحك ويقهقه منذ هنيهة؟» ثم أخذ في ملاطفته وعاد يسأله: «ماذا تريد؟ هل أسقط لك الخيط؟» قال الغلام الخبيث: «نعم … وتسقط علينا.» أي كبريتا باصطلاح السجناء، فأدرك المهرب أنهم يعبثون به ويكايدونه! وقد كانوا حقًّا يكايدونه ويبالغون في المكايدة؛ لأنهم كانوا قد دخنوا اللفائف جميعًا، وأشعلوها بالشرار الذي ينقدح في خيط الصوف من ضرب الأرض بصفيحة الرقم المعروفة هناك «بالدوسيه»، فلم تكن بهم حاجة إلى الكبريت ولا حاجة إلى النداء على المهرب من أجله، ولكنهم حرصوا على الاستمتاع باللعبة إلى آخرها، وتركوا صاحبهم يفرغ ما عنده من السباب والتهديد، وهم يمرحون ويمزحون.

وتلك رواية من روايات التهريب التامة لم يقاطعها أحد دون تمامها إلى الفصل الأخير منها كما يحدث أحيانًا في أمثالها، ومسرح السجن غير ضنين بأشتات من هذه الروايات التي نشهدها نحن ليلة ويشهدها غيرنا ليلة أخرى، ولكنها لا تنقطع عن شهودها المتفرقين في معظم لياليه.

•••

وتيسرت لي القراءة طرفًا من الليل بعد دخول النور في الحجرة فكنت أقرأ حتى أمل الصفحات فألهو بمراقبة النمل على الجدران، ويطيب لي هذا النوع من اللهو؛ لأنني أستأنف به أيامًا من الطفولة كنت أقضيها في هذه المراقبة، وأكاد أصدق يومئذٍ أنني أعالج ضربًا من الطلاسم التي كان يعرفها سليمان عليه السلام.

وذاك أن تلميذًا من أصحابنا في المدرسة كان يقول لنا: إنه يحفظ قسمًا يتلوه على النمل ويرسم له خطًّا فلا يتعداه، ومن عصى القسم وحاول تعديه سقط وحلت به لعنة سليمان.

واحتلنا على صاحبنا التلميذ حتى باح لنا بذلك القسم، فإذا هو آيات يكررها القائل ثلاث مرات وهو متوضئ فتحصل المعجزة، وقد رأيناه فعلًا يحز للنمل خطًّا على الحائط ويتلو القسم فيرجع النمل عن الخط أو يسقط دونه، وجربنا نحن القسم فصحت التجربة، وأيقنا برهة أننا نملك سرًّا من أسرار السحْر المتصرف في خلق من خلائق الله، حتى خطر لنا يومًا أن نرسم الخط ولا نتلو القسم، فما راعنا إلا أن تصح التجربة بغير تلاوة كما صحت بالوضوء والتلاوة، فعرفنا السر ولكنا أسفنا على السحر الذي فقدناه!

ومن ذلك اليوم ونحن نمتحن النمل بالخطوط لنعرف كيف «يفكر» في اجتياز العقبات واللف حول الدوائر والمربعات، وكنا نحيطه بدائرة مفتوحة ودائرة ثانية مفتوحة من جانب آخر، ونحيط الدائرة الثانية بدائرة ثالثة لا فتحة فيها، ونراقب كيف يهتدي إلى الفتحات في خروجه حتى يصل إلى الدائرة الكبيرة وكيف يهتدي إلى هذه الفتحات بعينها حين يرتد عن الدائرة المقفلة، ونكرر هذه التجربة عشرات المرات، فلا نرى نملة واحدة «تفكر» في الرجوع إلى طريق الفتحة التي تركتها منذ هنيهة، فانتهى بنا الأمر إلى أن فقدنا إعجابنا بذكاء النمل الموصوف كما فقدنا السحر أو الوهم الذي سلطنا على هذه المخلوقات، وساءنا أن نعلم أن هذه المخلوقات الموصوفة بالذكاء إنما تعمل بغير «تفكير»! كأنها من الآدميين!

•••

وكانت التسلية بمراقبة الآدميين ميسرة كالتسلية بمراقبة النمل على الجدران، ولكن أين هم الآدميون الذين يستحقون المراقبة داخل السجون؟

إنهم أرقام كما وسمتهم إدارة السجن ولم تظلمهم كثيرًا في هذه السمة، فقد يمر بك المئات بعد المئات من تلك الأرقام دون أن يبرز من بينها رقم واحد بشخصية إنسانية وملامح نفسية؛ لأن «التفاهة» لعنة غالبة على مجرمي «سجن مصر» إلا النادر الذي لا يقاس عليه، ومن كان منهم ذا «شخصية وملامح نفسية» فالأغلب أن يجيئه ذلك من طريق الجنون أو الشذوذ النافر، خلافًا لسجناء طرة وأبي زعبل الذين يجتازون بسجن مصر في انتظار الإفراج بعد زمن قليل، فإن «الشخصيات» بين أصحاب الجرائم الكبيرة أكثر عدًّا من «شخصيات» السرقة الخسيسة والعدوان الوضيع، وقد رأيت من هؤلاء وهؤلاء نماذج قليلة سأرجع إلى الكلام عنها في بعض هذه الفصول.

على أن الإنسان يراقب الناس كما يراقب جميع الأشياء داخل السجن وهو «بنصف نفس» كما نقول في أحاديثنا العادية، أو يراقبهم وهو ينوي التأجيل، كمن يدخر الزاد المستطاب لساعة في المستقبل غير الساعة التي هو فيها، فينظر إليهم وكأنما بينه وبينهم مسافة أشهر وأيام، ويمتلئ بالمشاهد والتجارب وكأنه الجمل في الصحراء يختزن الماء في جوفه حتى يشربه مرة أخرى الشرب الذي ينتفع به ويشعر بريه، وربما ازدحم وعيه الباطن بالتجارب كأقوى وأثبت ما تكون التجربة، ولكن وعيه الظاهر لن يبرح كالجاهل أو المتجاهل الذي لم يسمع إلا بنصف الخبر ولم يشارف التجربة إلا من مسافة قصية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤