المقدمة

كانت جولتي هذا العام في ربوع الشرق الأدنى، تلك الأقطار التي تربطنا بها روابطُ وثَّقتها أواصرُ التاريخ والاجتماع والدِّين، وزادتها رسوخًا صلةُ رحِمٍ قديمة وإخلاص عميق وعطف متبادل تُذكي نارَه رغبةٌ مشتركة في النهوض، وطُموحٌ متأجِّج للخلاص بأوطان مهدَّدة ظلت — ولا تزال — تئِنُّ تحت أخطاء أبنائها ونَهَم الطامعين فيها.

جبت أرجاءها في جولة عاجلة كانت أجدر بالمقام الطويل والدرس العميق، لكني رغم ذلك قد وقفت من أمرها على الكثير مما يروقنا شأنه ويهمنا خبره. ولقد لمست بعض معاني التأخر الذي طالما عيَّرنا به الغرب حتى أضحى لديهم الشرق مثلًا في التدهور والامتهان، مما كان ينغص علينا عيشنا ويزهِّدنا في الحياة، لكني ألفيت خلال ذلك قبسًا من نور النهوض ترفعه في تلك الظلمات يد قيضها الله لكثير من نواحي هذا الشرق فبدأت تعمل على تبديد ظلم الأجنبي ومحو سيطرته السياسية والمالية، تلك التي كانت ولا تزال تتآمر على إخماد عناصر التقدم فيه ثم تعود فتعيِّره بأنه ناشئ تعوزه الكفاية في القيام بشئون نفسه وتفرض عليه ما ترى من نفوذ وسلطان هو آيل به لا شك إلى زوال القومية والبقاء به حيث هو من خمود ذكر وجمود عقل وقناعة بقليل، ولشد ما كانت دهشتي وإعجابي لما تأتيه كل من تركيا الناهضة وفارس الناهضة من معجزات التقدم والطفرة بالبلاد إلى العلا من جميع نواحيه رغم ما يحوطها من عوز شديد وفقر مقيت، لكن هو الإخلاص للوطن والاعتزاز بالقومية وإنقاذ البلاد من الدخيل، كل أولئك أخذ بناصر القوم فعَدَوا إلى النهوض سراعًا، وإنك لتدهش لمدى التطور الذي تم في تلك الفترة الوجيزة في الثقافة والعمران، وأنت لا تراهم يعنون بالمظاهر الجوفاء تاركين لباب الأمر بل ينهضون بالصميم منه، رغم ما قد يبدو خلال ذلك من نقص في الدقة وحسن في الطلاء، وعندي أن العجلة واجبة في الخطوات الأولى من التقدم كي تكسب الشعب قوة الدفع اللازمة والتشجيع الذي لا بد منه حتى إذا ما تذوق للنهوض معنى، انتعشت فيه الناحية المعنوية واضطلعت نفسه بما أعدت له، أما الأخذ بسنة التدريج الوئيد والعناية بالعَرَض دون الجوهر فتلك لا تتفق وحركة العصر الحاضر العاجلة وروحه المادي الوثاب.

حقًّا هي ظروف تهيأت فتحينها القوم وكانت لهم نعم العون، استغلوا خيرها لخير البلاد وتساندوا تحت أَمْرة نفر قليل ممن رجحت عقولهم، وأسلموا لهم القياد مضحين مؤيدين في غير تحفز لنقد ولا أهبة لهدم، كنت كلما حادثت نفرًا منهم تكلم في نغمة المعتز بقوميته القوي بإيمانه، لا يقبل في حق وطنه غمزًا ولا هوادة، فهل لنا — ونحن بنفرنا أعز ومالنا أوفر وعلمنا أوسع وماضينا أمجد — أن نترسَّم تلك الخطى الموفقَّة ونقيل بلادنا مما تتعثر فيه يومًا بعد يوم دون عبرة بما فات أو عدة لما هو آتٍ؟

الله أسأل أن يهدينا في أمرنا سبيلًا رشدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤