هضبة إيران

بلاد فارس

نبذة تاريخية

فارس بلاد ذات مدنية قديمة وماضٍ مجيد، وهي مقر الآريين الأصليين الذين كانوا منبت اللغة الآرية التي انسلخ عنها كثير من لغات أوروبا، وأنت تلمس ذلك في كلمات كثيرة تراها مشتركة في لغتهم ولغات أوروبية أذكر من بينها ما يلي:

كلمة أخ = برادر بالفارسية، فراتر باللاتينية، برودر بالألمانية، برات بالروسية.

وكلمة أب = پدر بالفارسية، باتر باللاتينية، فاتر بالألمانية.

وكلمة أم = مدر بالفارسية، ماتر باللاتينية، موتر بالألمانية.

وكلمة ابنة = دُختر بالفارسية، تختر بالألمانية، دوتر بالإنجليزية.

وكلمة باب = دِر بالفارسية، تر بالألمانية، دور بالإنجليزية.

وكلمة يحمل = بردِن بالفارسية، برد بالألمانية، بردن بالإنجليزية.

figure
الشارع الرئيسي في كرمان شاه.
وكثير من الأفعال الفارسية تنتهي بمقطع en مثل الألمانية تمامًا، كذلك النفي بالفارسية ني أو نيست، وكذلك كلمة باد بمعنى رديء وكلمة جرم بمعنى دافئ، وهاك تشعب اللغات الآرية:

ولقد دخل الفارسية كثير من الألفاظ العربية بنسبة ٢٠٪ في لغة العامة، و٣٠٪ في لغة الخاصة، ٤٥٪ في لغة الصحافة، ٦٠٪ في لغة القانون، و٨٠٪ في لغة الدين والأدعية.

وإليك أظهر الخطوات والحوادث في تاريخ فارس:

في سنة ١٠٠٠ق.م. كانت أول هجرة الآريين.

وحوالي سنة ٧٠٠ق.م. انتشر دين زرادشت في فارس كلها.

وحوالي سنة ٥٥٠ق.م. جاء كورش.

وحوالي سنة ٥٠٠ق.م. جاء دارا واخاميس، وكان مقرهما في الربيع برسبولس، وفي الصيف همدان (اكباتانا)، وفي الخريف بابل، وفي الشتاء سوسا، وهذا هو العهد الذهبي الأول لفارس.

وفي سنة ٣٣٠ق.م. اجتاح الإسكندر البلاد.

وبين القرن الثالث والسابع كان العهد الساساني، وهو ثاني العصور الذهبية، وبعده كان الفتح الإسلامي على يد عمر، وفي ستين عامًا اجتاح الإسلام البلاد.

وفي ١٠٠٠م كتب الفردوسي الشاهنامة في ستين ألف بيت من الشعر حوت تواريخ فارس وأقاصيصها.

وفي القرن الثاني عشر والثالث عشر كانت غارة المغول.

وفي ١٥٠٢ ظهر الصفويون.

وفي ١٦٠٠ ولي الشاه عباس الكبير، واتخذ أصفهان عاصمته، وهذا ثالث العصور الذهبية.

figure

وفي ١٧٣٦ جاء نادرشاه الذي كان بائع جلود ثم أصبح جنديًّا وانتصر على الأفغان وأضحى سلطانًا فتح الهند، ومد حدود فارس من السند إلى القوقاز، ولما قُتل تدهورت الدولة بعده عاجلًا.

وقبيل ١٨٠٠ ظهرت أسرة قاجار، وكان أظهر ملوكها الشاه نصر الدين الذي قتله بهائي.

وفي ١٩٢١ فتح رضاخان طهران وأصبح وزير الحربية.

وفي ١٩٢٥ تُوِّج رضا شاه بهلوي ملكًا.

figure
«اللوري» أداة النقل الممتازة في فارس.
figure
آثار دارا في طريقنا إلى همدان.

إلى كرمان شاه

قام بنا القطار صوب بلاد العجم، فقطع المسافة بين بغداد والخانقين عند حدود العراق في نحو عشر ساعات، وكنا نسير في سهول العراق العادية شبه الصحراوية المهملة والأراضي غالبها ملك للحكومة، ولا تزيد ملكية الأهالي على خمس مساحة العراق كلها، وذلك في ظني أكبر سبب في أنها مهملة، ولا أدري لِمَ لا تقطعها الدولة للناس كي يخدموها ويزيدوا في موارد البلاد. والخانقين بلدة كقرى الريف عندنا، استأجرنا بها السيارات لنوغل في بلاد العجم، إذ لا يكاد يشق هضابها خط واحد لسكة الحديد، وكان حظي أنا في سيارة كبيرة من نوع «اللوري»، وتلك أكثر السيارات ذيوعًا هناك، فأخذت تسير بنا في أرض مغضنة تزيد جبالها تعقيدًا كلما تقدمنا، وكنا نرتقي هضبة إيران تدريجًا وعلوها يتراوح بين ثلاثة آلاف قدم وخمسة آلاف، وكانت مناظر الجبال جميلة لولا أنها لا يكاد ينبت بها زرع، وهي أجمل من مناظر العراق المبسوطة المملة، ولو أعوزتها روعة الجبال المنزرعة التي تتوجها الثلوج، على أنا كلما أوغلنا فيها زادت الشجيرات وكثرت المسايل السريعة، وفي منتصف الطريق تعطلت السيارة وكُسر محركها فنزلنا نترقب سيارة أخرى، ولبثنا كذلك وسط تلك الصحراء الجبلية المخيفة ست ساعات حتى وفقنا إلى «لوري» عائد، فنقلنا ثم واصل السير بنا، ولقد بدا الفرق جليًّا بين أهل العراق الكرماء وبين أهل العجم، فمثلًا كنت أنا الذي أدعو رفقاء السيارة إلى تناول الطعام أو المرطبات، ولم يحاول أحدهم ذلك، عكس ما رأيت في تنقلاتي ببلاد العراق، وأول ما آلمنا من أهل فارس المعاملة السيئة التي لاقيناها في الجمرك، حيث كان التفتيش شديدًا شدة غير معقولة، فقد أخَّرنا عمال الجمرك سبع ساعات في غير ضرورة، وكنا كلما حللنا محطة جديدة طلبت جوازات السفر وفحصت ووقفنا ننتظر التأشيرات طويلًا، وبعد تمام أربع وعشرين ساعة دخلنا:

figure
باب خراسان وبوابات طهران القديمة تسترعى النظر بجمالها الفني.

كرمان شاه

وهي مدينة أشبه بالمراكز المتأخرة عندنا، حللت بها نُزُل «فرنسا» أجمل فنادق البلدة، والطعام فيه شرقي شهي، ولقد مكثت فيه يومين لأستعيد قواي بعد عناء اليومين السالفين. أخذت أجول في المدينة وإذا سيل المتسولين دافق بحيث لا تمضي دقيقة دون أن يتوسل إليك أحد طالبًا الإحسان، وكثير منهم يتخذون الأمر حرفة، وما كاد الأصيل يقبل حتى أدهشني سيل السيدات يختلطن مع الرجال وهن نصف محجبات يلبسن إزارًا شبيهًا بإزار أهل العراق، لكن النقاب شبكة من قماش أسود مقوى تقف مائلة أمام الوجه، وما كان أشد دهشتي عندما علمت أن كل أولئك من الساقطات يجرين وراء الرجال، وبخاصة الأجانب، وكثير من أزواجهن يعلم فيهن ذلك، لا بل ويرضاه لأنه مورد رزق لهم، ولعل سبب ذلك الفقر والعوز المالي وزواج المتعة المنتشر في فارس كلها وضعف صحة الرجال لإدمانهم الأفيون مما جعل ألوانهم شاحبة وجسومهم ضامرة ضعيفة، وقد ساعد ذلك على عجزهم حتى عن العمل، فزاد في فقرهم وفي عدد متسوليهم، وكم كنت أرى من الشبان من لا يكاد يسير على قدميه في تقاطيعه الغائرة ولونه المصفر، وكثير منهم يبدو في هياكل عظمية، وقد علمت أن الحكومة قد أباحت شرب الخمور بعد أن كانت محرمة كي يقبل الناس عليها ويُغفِلوا الأفيون، لكني لاحظت الكثير منهم يدمن النوعين معًا. وزراعة الأفيون في بلاد فارس قديمة ترجع إلى عهد سومر وبابل منذ ستين قرنًا قبل الميلاد، وتنتشر في نحو ١٨ مديرية من ٢٦، ويُقدَّر إنتاج البلاد منه بنحو مليون ونصف مليون رطل، ويعيش على تجارته خلق كثير، فمثلًا ربع سكان أصفهان يشتغلون به، وهو ثاني الصادرات (بعد البترول)، ويُصدَّر ثلثا محصوله بعد أن تتسلمه الحكومة لأنه حكر لها، وقد بلغ الصادر منه سنة ١٩٣٠ بنحو ١١٥٠٠٠٠ جنيه، وغالبه يُصدَّر إلى الشرق الأقصى عن طريق سكة حديد سيبريا. والأفيون الفارسي من أجود الأنواع في العالم، ويستهلك ثلث المحصول في فارس نفسها، وجزء كبير يباع في البلاد تهريبًا، فهو يدر على الناس ما لا يقل عن ربع مليون جنيه من الأرباح، وتدخينه منتشر في كل البلاد خصوصًا الجنوبية، وفي طهران نفسها، فمن سكانها الذين يبلغون ربع المليون أكثر من ٢٥ ألفًا يدمنون تعاطيه، أما في كرمان من بلاد الجنوب فيتعاطاه ٢٥ ألفًا من ستين ألفًا مجموع سكانها، حتى يقول الفرس وهم يمزحون: «في كرمان يدمن الأفيون أربعة أشخاص من كل ثلاثة من السكان»، ورغم أن عصبة الأمم لا تبيح أكثر من استهلاك ١٢ رطلًا لكل عشرة آلاف نسمة، ففي فارس يستهلك كل عشرة آلاف ٤٥٩ رطلًا، أي ثمانية وثلاثين ضعفًا، ويساعد نشره هناك ويبرر تدخينه بعض الشيء أنه مورد كبير لهم، وأن له بعض الفوائد، فهو ينفع ضد قرصة البرد التي تصيب القرى الجبلية شتاءً، وقد عرفت فائدته في التخدير، وكان يضاف إلى لحوم بعض الأفاعي وسمي «تيريس» أو «ترياكا»، والفرس اليوم يسمونه ترياكا، والمدمن له ترياكي، ورغم أن الحبة الواحدة منه تضر ضررًا بليغًا فإن الفارسي يبتلع حبات عدة ولا يموت، لكن ذلك قد سمم جسمه، ومن أخطر أضراره انحلال الجسم واكتئاب الفكر وغباء العقل، وهم لا يكتفون بتناوله أو تدخينه كبارًا، بل يعطونه مخففًا للأطفال، فالأمهات يسقين الأطفال منقوع قشر الخشخاش لينمنهم، ويسمونه هناك «شربات باشا»، أي شراب الأطفال، وبعضهن يضع حبة منه تحت ظفر الأصبع، ويتناوله الطفل ليرضع منه وينام. أليس في ذلك أكبر الخطر على أجيال الفرس المقبلة من الوجهة الصحية والعقلية؟ ويبلغ من قوة تأثير الأفيون أن الحيوانات التي تعيش في حجرة تدخين الأفيون تعتاده، فتضطرب إذا منع عنها، فكأنه أثَّر حتى على حيوانهم فأضحى مدمنًا! والحكومة هي التي تبيعه اليوم في أصابع تلف في ورق، وثمن الواحد قران ونصف — والقران اثنا عشر مليمًا — وكنت أرى رفقاء السيارة أينما سرت يدخنونه في دواة أسطوانية مغلقة تمامًا إلا في ثقب يضعون فيه نصف هذا الأصبع أو ثلثه، وللدواة «مبسم» في طول الشبر يضعونه في الفم ثم يعمدون إلى قطعة من الجمر في ملقط، ويقربونها من قطعة الأفيون حتى تنفد، ولا يضعون الأفيون في «التمباك» أو التبغ كما كنت أظن من قبل.

figure
باب الجمرك في طهران.

ولقد كنت أعتقد أن أسوأ ما يرى البؤس مجسمًا في بلاد الهند التي زرتها من قبل، ولكني أكاد أقول بأنه هنا أشد وأنكى، فلا تكاد تقع العين في أي مكان إلا على من شوَّه البؤس أبدانهم، هذا نائم من غير حراك، وذاك يحمل طفلًا، وتلك تبكي في كثرة مخيفة، فهل خص الله تلك الجهة بذاك الفقر المميت؟ ألقِ بقشرة من بطيخ أو تفاح وأنت تذعر لهجمات عشرات الناس عليها يلتهمونها، وكنا نرى طوال الطريق الناس يحمل كل رغيفًا من الخبز يكاد يبلغ نصف قامته طولًا، والخبز هناك رقيق ممطوط كأنه الفطير، يشوى على الجمر فيبدو أسمر محببًا.

إلى طهران

قمت أغادر كرمان شاه تلك البلدة الفقيرة بمناظرها الغنية ببؤسها إلى طهران مسيرة ٤١٤كم، بعد أن تعطلت يومًا آخر وذلك لأن المسافر مضطر أن ينتظر السيارات المسافرة إن لم يرد استئجار سيارة خاصة، وهذه تكلِّفه كثيرًا، وكانت السلطة العسكرية إذ ذاك تسطو على سيارات الناس لتضع فيها جنودها ومؤنها عنوة وبدون أجر، وتقوم بها صوب الحدود التي كانت ثائرة هناك؛ لذلك كان كثير من أصحاب السيارات يخفونها، فيفتش المسافر عنها سرًّا حتى إذا ما تكامل عدد الركاب قامت بهم السيارة. وفي طريقنا مررنا بآثار منقوشة على الجبل في فتحتين ينبع من تحتهما ماء مثلوج، وهي لدارا يسمونها «طاق بستان» أو «بستيون»، وبجوارها صخر نُقش بثلاث لغات، منه أمكن العلماء فك طلاسم التاريخ القديم على نحو ما خدمنا حجر رشيد في مصر، ثم مررنا بقرية «أسد أباد» الصغيرة، وهي موطن السيد جمال الدين الأفغاني، وقد لُقِّب بالأفغاني خطأً، فأثار المكان على صغره في نفسي أجل الذكريات. وكانت سيارتنا «فورد» عتيقة بدا عليها الضعف فتعطلت بنا مرارًا، حتى إنَّا قطعنا المسافة إلى همذان في ثماني ساعات، وزاد الطين بلة أن زملاء السفر بينهم اثنان ممن تأخذ الخمر بلبهما. ويدمنون الأفيون، فكلما مررنا بمقهى أو «شاي خانة» — وتلك كثيرة على طول الطريق — أوقفوا السيارة ونزلوا يُشبعون أمزجتهم، أما أنا فكنت أطلب الشاي يقدم لنا بدون سكر، ويضع الرجل في يدك بعض قطعه الصغيرة، وتلقي بالقطعة في فمك وتشرب عليها الشاي، وتلك طريقتهم في شربه في بلاد فارس كلها، وكان من الرفقاء واحد يعرف قليلًا من العربية، فأخذ يحدثني عن بلاده في نغمة المبالغة، ويحاول إظهار كل شيء بمظهر الفخامة والعظمة، فتعرض للتاريخ وأشاد بماضي فارس المجيد، وثنى على الإنجليز والروس وأخذ يلعن ويطعن ويقول بأن الفرس نجحوا تمامًا في طرد هذين الكابوسين، وكلاهما مبغَّض لجميع أهل فارس كذلك فهم يبغضون أهل العراق، ويطمحون إلى تملك بلادهم يومًا، وهم جميعًا يمقتون العرب المقت كله ويتبرءون منهم ويقولون بأن العرب رغم أنهم أدخلوا الإسلام في بلادهم واحتلوها طويلًا فإن فارس حافظت على شخصيتها ولغتها، وهم ينظرون إلى العرب نظرة احتقار ويفاخرون بأنهم من أصل آري لا سامي، ولعل ذلك راجع إلى أنهم يتأثرون لماضيهم الذي هزه العرب يوم فتحوا بلادهم. حدث أن عرَّفني هذا الرفيق بآخر لاقيناه في نزل همذان، وقال له بأني مصري أتكلم العربية، فكان جوابه في غير ذوق ولا أدب: إنني أمقت العرب مقتًا.

figure
قمة دماواند أعلى ذرى فارس وهي بيت الله في زعم المجوس.

ومن مبالغات صاحبي هذا أنه قال بأن طهران تحكي في عظمتها برلين وباريس، فلما جئتها لم أجدها شيئًا يذكر إلى جانب أسيوط مثلًا، ونغمة التفاخر وحب الفخفخة طبيعة في أهل فارس جميعًا، ورغم أن ذلك ضعف خلقي فإنه فضل من جانب العصبية القومية والاعتزاز بها.

وكنت أعجب لتلك الوحدة القومية التي كنت أشاهدها تسود أهل فارس جميعًا رغم شقة الخلاف الجنسي واللغوي هناك، فالتقاليد الفارسية لا يكاد يكون لها وجود بينهم لكثرة الامتزاج الجنسي، ومع ذلك كانت الوحدة القومية قوية جدًّا، وهم كالإنجليز من أكثر الشعوب اختلاطًا، فأول من نزل بلادهم القاطنون حول بحر الخزر، ثم دخل الآريون النورديون من شرق الروسيا والطورانيون المغول من غرب سيبريا منذ ٢٠٠٠ق.م. وقد قيل: إن بلاد العرب خضعت لثلاث قوى جعلت منها وحدة سياسية: اللغة والدين والتقاليد، وهي أكبر مساحة في الدنيا حل بها هذا، وساعده تشابه البلاد في الظروف الطبيعية، أما فارس فعلى نقيض ذلك تقوم بها نحو ست لغات مختلفة تنقسم كل منها إلى لهجات عدة — وإن أخذت تسود اللغة الفارسية اليوم بفضل انتشار المواصلات والتعليم والخدمة العسكرية فنحو ثلاثة أرباع الناس يتكلمونها اليوم — كذلك في الدين ترى شيعًا مختلفة هناك، وإن كان غالب السكان من الشيعة الذين يفوقون عشرة ملايين، ولا يزيد السنيون على ثلاثة أرباع المليون، ويحلون نواحي كردستان وأذربيجان وبلوخستان، ومن الأقليات: المسيحيون والبارسي عبدة النار والصوفية والبهائية التي أثرت على العقول المثقفة هناك زمنًا وبدرجة قد تفوق أثر الإسلام، ولقد قاومت الفلسفة الزرادشتية هناك الاندماج في العرب، ولذلك لا يعد الغزو الإسلامي نصرًا من هذه الناحية، ويخال البعض أن سبب ذلك يرجع إلى أن جنود العرب لم يصحبوا نساءهم معهم، فتزوج غالبهم من الفرس، فتبع الأبناء أمهاتهم ووعوا ما لقنوهم من تقاليدهن الفارسية، فخرج من ذلك نشء جديد يغاير الحاكم والمحكوم. ويقول المستشرقون: إن الفرس كانوا أرجح عقولًا وأكثر مغامرة ونشاطًا من العرب سادتهم، ولما اجتاح بلادهم المغول عهد هولاكو وتيمورلنك استخدموا موظفين من الفرس وأبقوا القوانين الفارسية، ولما جاءت أسرة الصفويين وحَّدت البلاد، ولما انقضى عصرهم في منتصف القرن الثامن عشر كانت العناصر الفارسية هي السائدة في البلاد، فأهل فارس وحدة قومية تفوق في عصبيتها شعوب آسيا جميعًا وكثيرًا من شعوب أوروبا.

figure
الاحتفال بعيد رضا شاه في حجر دمافاند.

والفارسي رجل اجتماعي في مجموعه يفوق في تلك جميع الشرقيين، وأكثر الفئات ميلًا للاجتماع في الشرق عادة الطبقات الأرستقراطية الراقية فقط، أما في فارس فترى حتى عامة الناس والطبقات الوضيعة كذلك، والفارسي أكفأ من العربي في الصناعة وأقدر على إدارة الأعمال والظهور بمظهر الرئاسة؛ لذلك كنا نشاهد كثيرًا من رؤساء البوليس في الأفغان والعراق وفي الهند من أصل فارسي، فالفارسي قوي الملاحظة سريع التعلم وإن مال إلى النظريات الفلسفية أكثر من ميله إلى العمليات، وهو مرح يحب الشعر وأوتي قدرة مدهشة على استظهاره، فبعضهم يحفظ ديوان سعدي وحافظ وقصص زهراب عن ظهر قلب، والفرس كسائر الأمم الإسلامية ليس بينهم نظام الطبقات. وفي تقديره للجمال يفوق الكردي والعربي والأفغاني وهو يخلق لنفسه السرور مما حوله من ظروف ولو كانت شديدة، وقدرته العسكرية يؤيدها التاريخ منذ زمان بعيد.

figure
أمام باب بهلوي الجديد وشتان بين الفن القديم والحديث.
أمضينا ليلتنا في همدان في نزل جميل، وتجولنا بها في الصباح، فظهرت تفوق كرمان شاه عمرانًا وامتدادًا، تحفها البساتين اليانعة، وارتفاعها ٦٠٠٠ قدم يشرف عليها جبل ألفند alvend وموقعها جميل جذاب، ويقولون: إنها هي نفس بلدة «اكباتانا» التي نهب الإسكندر كنوزها القيِّمة في عودته من الشرق، وكان الأشوريون يسمونها هجماتانا، وكانت قاعدة ملك ميديا وبجوارها مدفن أستر Esther، ومورد كاي Mordecai؛ ولذلك قدسها اليهود وأحلوها من قلوبهم محلًّا ساميًا، وهي وطن بديع الزمان، وبها مات ابن سينا.

وفي المدينة حركة هدم للقديم وإنشاء جديد، وهي السنة التي يسير عليها شاه فارس المصلح اليوم، ولذلك أحبه الناس حبًّا وزينوا دورهم ومتاجرهم بصورته، ولا يستطيع أحد التعرض للأحزاب والسياسة، ومن فعل فقد حياته وقد أقام من الناس عسسًا على بعضهم، وهؤلاء يجزون خيرًا على تبليغاتهم، والنزعة العامة الإصلاح ورفع شأن البلاد وإيقاظها من سباتها الذي غطت فيه أجيالًا.

figure
إبداع الفن داخل مسجد سباه سالار بطهران.

قمنا من همدان الحادية عشرة صباحًا إلى طهران ومررنا بمساحة شاسعة من سهول كثرت بها المزارع، وفي السادسة مساء دخلنا بلدة قزوين أي بعد سبع ساعات رغم جودة السيارات ومهارة السائق، فعجبت كيف كان القوم ينتقلون قبل مجيء السيارات — ولم تستعمل لديهم إلا بعد الحرب العظمى — كانت تنظم القوافل بالدواب من بغالٍ وحمير لنقل الناس وجمالٍ لنقل المتاع، فكانوا يقضون في طريقهم شهورًا متعبة ممضة وهم معرضون لخطر هجمات اللصوص، ولم يكن الأمن منتشرًا كما هو اليوم، ولا نزال نرى لتلك الحيوانات بقية في كل مكان خصوصًا في الريف. والقوم جميعهم مهرة في ركوب الخيل، فهم مطيتهم الرئيسية إلى اليوم، والحق أن السيارات تلعب دورًا هامًّا في تطور البلاد، يشتغل بها نفر عديد، وأينما حللت وجدت «الجراجات» تُلحَق بها «المسافر خانات» لنزول المسافرين، وقزوين بلدة صغيرة، ولكنها أجمل من همدان؛ لأنها كانت يومًا ما عاصمة الشاه عباس، يسترعي النظر بها دار النظمية في بواباتها الشامخة، يزيِّنها القيشاني الأزرق البديع وآي الذكر الحكيم، كذلك مسجدها الجامع بقبته الزرقاء الجميلة، وقد أقام الصلاة فيه خالد بن الوليد والحسن بن علي الذي كان يصحبه في الفتح الإسلامي، وكثير من أحياء البلدة قديم أقيم في سراديب ضيقة محجبة من وهج الشمس، وبخاصة الأسواق الملتوية، وقد لاحظت جودة الطرق ورصفها على جانبي همدان، وعلمت أن الفضل في ذلك يرجع للإنجليز والروس إبان الحرب، فكل فريق كان يخشى الآخر، الروس زاحفون إلى همدان من الشمال والإنجليز من الجنوب. واصلنا سيرنا صوب طهران وسط الربى الجافة، وفي بلدة كرج التي تبعد عن طهران بساعة واحدة عجز السائق عن السير، وقد دارت رأسه ولعب الأفيون بعقله فأصر أن ننام ليلتنا هناك، فخضعنا لأمره، وفي الصباح كانت البلدة وسط مزارع غنية وشجر كثيف، وهي من أشهر الأراضي الزراعية في إيران كلها؛ لذلك أقيمت بها مدارس الزراعة ومصانع لسكر البنجر الذي يزرع حولها، وفي ضحى الخميس ٣ أغسطس دخلنا:

طهران

فأخذنا نمر وسط بلدة مخربة متهدمة من أثر معاول الإصلاح الجديدة التي بدأت تحاول القضاء على القديم، وتقيم العمران على أحدث نظام، فالطرق زيد في اتساعها وبُدئ في رصفها بالأسفلت بعد أن كانت بقطع الحصى، والمباني الشامخة أخذت في الظهور بعد أن كانت أقبية وطيئة مغلقة، وكانت تبدو على بعد جبال دمافاند أعلى ذرى فارس (١٩٤٠٠ قدم) وأروعها تكسوها عمائم الثلج الأبيض الوضاء، وخلف القمة تمتد جبال البرز وبلاد طبرستان القديمة. حللت بها نُزل «جراند أوتيل» من أكبر فنادقها في شارع «لالزار» أحدث الطرق التي تم تنسيقها عندهم، ثم طفت أرجاء البلدة فراقتني بواباتها العالية المزدانة بالقيشاني والنقش البديع، وهي من أخص مميزات طهران، أذكرتني بعاصمة الصين بكين وبواباتها. أما أسواق البلدة فحدث عن جاذبيتها، شعابها لا تدخل تحت حصر، وكلها مغلقة بالأقبية، وجماهير الناس بها متلاصقة وأصواتهم لا تخبو قط. وغالب البيوت ذات مدخل مزركش بالقيشاني يؤدي إلى فناء يتوسطه حوض ماء كبير يغتسل فيه القوم ويغترفون ما يحتاجون من ماء، والحجرات تطل على الفناء في مربع ذي شرفات جميلة ويغلب أن تزينه حديقة بسيطة، والفرس مشهورون بميلهم للحدائق مثل اليابانيين، وإن أعوزها التنسيق وكمال الذوق، وبالمدينة عدة مساجد فارسية الهندسة قصيرة المآذن نحيلتها. والمقاهي هناك قليلة بالنسبة لما رأيته في العراق، وأحب وسائل اللهو دور السينما، والنساء نصف سافرات يلبسن الإزار المهفهف وعلى الوجه ظلة مخرمة أفقية وقليل من لبس الزي الإفرنجي، وهن أكثر حرية من نساء العراق وجمالهن فائق لولا طول الأنوف وتحديبها، والمبتذلات منهن هالتني كثرتهن، فأنت طوال الطريق تراهن في زينتهن وطلاء وجوههن يسرن ذهابًا وجيئة يحاولن اجتذاب المارة بالنظرات والغمزات والوكزات، ولا يكاد يخلو منهن مكان، وقد علمت أن في طهران وحدها من أولئكن ثلاثين ألفًا حسب الإحصاء الرسمي، وهذا بلاء زواج المتعة المنتشر هناك، ولعل للإباحة الروسية الممقوتة التي أدركت البلاد زمنًا أثرًا في ذلك الانحلال الخلقي المشين، وأنت ترى الرجال كل يساوم غانيته على قارعة الطريق في غير حياء كأن الأمر عادي، وذلك شر ذائع في بلاد فارس كلها بنسبة لم أرَها في أي بلد آخر، اللهم إلا في شنغاي بالصين، وهي هنالك تعزى إلى انتشار العوز والإباحة الروسية، ويقيني أن تلك وصمة عار في جبين الدولة الفارسية.

figure
عرش الطاوس الذي سلبه نادرشاه من الهند في قصر جولستان في طهران.

قمت يوم الجمعة متعبًا لأن شدة الحر لم تمكِّني أن آوي إلى مضجعي إلا في ساعة متأخرة من الليل، والجو هناك أميل إلى الحرارة، لكنه أرحم بكثير من بلاد العراق، والسماء تغشاها الغيوم المتقطعة مما يخفف من وهج الشمس بعض الشيء. خرجت أجوب أرجاء البلد، وإذا المدينة هادئة الحركة مغلقة المتاجر؛ لأن الجمعة هو يوم العطلة العامة وغالب أصحاب الأعمال يحترمونه فيوقفون أعمالهم، والناس هناك أنظف من أهل الريف، وإن كثر بينهم المتسولون كثرة مروعة، فالتسول والفقر في فارس آفة مهلكة، وإن وجد من بين الفرس أفراد مفرطون في الغنى. ومن العادات المنفرة بينهم جميعًا التجشي والبصق والتمخط أينما وجدوا، وحتى المهذبين منهم ترى الواحد لا يمسح أنفه بمنديله، بل يضغطه بين أصبعيه وينفر نفرة تشمئز لها النفوس، على أنهم مؤدبون تسمعهم يرددون «خيلي ممنعون» ومعناها «عظيم الشكر» دائمًا، وإن أرادوا الاستفهام أو النداء أو الرضا بما يقال صاحوا قائلين: «بلى» بإمالة اللام في رقة وأدب، ويبدؤك الكبار بقولهم: «سلام عليكم» والصغار بقولهم: «سلام» فقط سواء أعرفوك أم لا. وأزياؤهم اليوم تكاد تكون موحدة، فكلهم يلبسون الحلل الإفرنجية وعلى رءوسهم القبعات «البهلوية»، وهي المميز الواضح لهم جميعًا، ولا تكاد ترى للزي القديم اليوم من أثر، وهو العمامة «أو القاووق»، والعباءة من الصوف، وقد استثنى الشاه من ذلك رجال الدين يظهرون في عمائمهم السوداء، وقليل ما هي.

figure
مثل من الحفلات الراقصة القديمة في قصر الشاه.

ويُخيَّل إليَّ أن مستقبل طهران بل وإيران كلها سيكون عظيمًا بفضل مجهود الشاه الحالي، فهو يريد أن يرى بلاده تناظر في القريب بلاد الغرب رونقًا ورواء؛ لذلك أخذ يهدم القديم وينشئ الحديث بسرعة عجيبة في كل البلاد، ولقد أعاد لبلاده هيبة في قلوب الأجانب انتزعها منهم انتزاعًا، وقد كان مركز البلاد مهددًا باعتداء الروس من الشمال والإنجليز من الجنوب، وزاد ذاك الخطر منذ سنة ١٩٠٦ حتى كانت الحرب الكبرى، فتقدموا داخل البلاد بحجة مطاردة الأتراك، ولما أن انسلخت الروسيا عن الحلفاء خشيتها إنجلترا واحتلت بلدة «قزوين» وما جاورها خصوصًا، وقد نشطت حركات البلشفيك عند بحر الخزر وفي أذربيجان، وأخذت شروط ولسون تلعب بلب الناس في فارس تحت زعامة رضا خان، فعرض الروس تنازلهم عن معاهدة ١٩٠٧ واستعدادهم للتنازل عن جميع الامتيازات التي كانت للروسيا في فارس، وفي يونيو سنة ١٩١٩ قدَّم ممثل السوفييت في فارس التصريح التالي:

figure
مثال للجمال الفارسي.

(١) التنازل عن الديون الروسية في فارس. (٢) التنازل عن التدخل في شئون فارس. (٣) إلغاء الامتيازات والمنح الروسية هناك. (٤) التنازل عن البنك الروسي في فارس. (٥) ترك الطرق والسكك الحديدية الروسية للحكومة الفارسية. (٦) تنازل الروس عن كل أملاكهم هناك. وكان غرض الروسيا من ذلك إحراج إنجلترا، ولقد اعترفت روسيا باستعدادها لمساعدة فارس عسكريًّا ضد أي اعتداء، وجعل بحر الخزر حرًّا لها، وبذلك أصبحت العلاقة بين الدولتين وثيقة جدًّا، لكن العلاقة ضعفت قليلًا لما حاولت الروسيا بلشفة فارس، وكانت على وشك الزحف لولا أنها خشيت إنجلترا من الجنوب، وكان الفرس مهرة في انتهاز الفرص، وأتاحت لهم الظروف قائدًا عظيمًا مخلصًا «هو رضاخان» من عائلة متوسطة، حارب مع الروس وأحبه جنوده، فزحف بهم على طهران سنة ١٩٢١، وأصبح القائد العام ووزير الحربية، وفي أكتوبر ١٩٢٣ أضحى رئيس الوزراء، ثم اعتلى العرش، فشابه مصطفى كمال في أنه رجل سياسة ورجل سيف معًا، وهو محب للنظم الأوروبية، لكن يظهر أنه كان أحكم من مصطفى كمال؛ لأنه أدخل إصلاحاته دون أن يغضب رجال الدين، ووجَّه أول اهتمامه لإصلاح الجيش، فأعد جيشًا محترمًا من أربعين ألف مقاتل، وبينا السلطان أحمد شاه يتريض في الرفييرا كعادته قام رضاخان وكاد ينتخب رئيس المجلس، لكنه قال بأن النظام الجمهوري يتنافى مع أصول الدين الإسلامي فتُوِّج ملكًا سنة ١٩٢٥، وأُجلس على عرش المغوليين في قصر جولستان، وكان قد اغتصبه نادرشاه من الهند قديمًا، ثم عدل الدستور، وتم ذلك دون إراقة قطرة دم واحدة، وأخذ توًّا في إعادة النظام، وأصلح الضرائب والمالية بمعاونة بعض الأجانب من أصدقائه، وفي ١٩٢٨ فتح البنك الملي (الأهلي)، ووطد علاقاته السلمية مع جيرانه، وفي ١٩٣٢ أصبحت بلاده عضوًا في عصبة الأمم، وطالبت بما يأتي: (١) إلغاء اتفاق الروس والإنجليز سنة ١٩٠٧ وإلغاء المحاكم القنصلية والحرس القنصلي. (٢) تعويض عن المناطق التي خربت خلال الحرب وإلغاء المنح المالية لتستقل البلاد ماليًّا. (٣) تثبيت الحدود الفارسية. لكن الإنجليز اشترطوا أن تتعاون فارس مع إنجلترا وأن تقبل مستشارين منهم ومدربين للجيش الفارسي، فكان رد الشاه على ذلك الرفض في إباء والتهديد بالحرب، فكأنهم اعتمدوا على نفوسهم وأزاحوا الكابوس الأجنبي وألغوا الامتيازات التي كانت تفت في عضدهم، وأضحى بغضهم للأجانب شديدًا وبخاصة الإنجليز. والشاه والشعب الفارسي يتصرفون في كل ما له علاقة بالأجانب في شدة وصرامة لا تقبل هوادة. بلغني أنه حدث مرة أن أحد الألمان زار طهران ولما عاد لبلاده كتب نقدًا لفارس عمومًا ولاستبداد الشاه خصوصًا، وكانت الكتابة ماسة بكرامة البلاد، فعرض سفير الفرس في برلين الأمر على القضاء فحكم ببراءة الكاتب، وبمجرد وصول الخبر لمسامع الشاه أصدر أمرًا بالاستغناء عن جميع الموظفين من الألمان في بلاد فارس كلها — وقد كان جل الخبراء الأجانب الذين تستعين فارس بخبرتهم من الألمان والفرنسيين — فكانت تلك مباغتة قاسية عاد الألمان يصلحون مركزهم بعدها من جديد، وقد لاقاني عالم ألماني في مشهد «الدكتور باسوفتس»، وهو ممن يقومون هناك بإصلاح ذات البين وإرجاع المركز الألماني لما كان عليه لدى الشاه، وصرح بأنه تصرف حازم يدل على مبلغ احترام القوم لأنفسهم والمحافظة على قوميتهم.

figure
لا يخلو بيت من أحواض الماء في فارس ويُرى هذا الحوض وسط سوق طهران والرجل يغتسل فيه.

دهشت كيف تكون بلاد متأخرة كهذه نحن نفوقها في التقدم بخطًى واسعة قد تحررت من الامتيازات الأجنبية ونحن نرسف في أغلالها؟ أليس الأمر مجرد جرأة في الإقدام على إلغائها في غير تردد، فنحفط بذلك كرامتنا وندل على أنَّا شعب جدير بالاحترام؟

بعد أن اطمأن لإلغاء الامتيازات وعدم تدخل الأجنبي بدأ بإصلاحاته الداخلية، فمن الوجهة المالية اتُّخذ الذهب معيارًا للنقود بعد أن كانت الفضة من قبل، وجعل التجارة الخارجية احتكارًا حكوميًّا ليقاوم زيادة الواردات ومنع دخول الفضة بتاتًا وعدَّل الضرائب فبلغ الدخل خمسة ملايين جنيه يضاف إليه ضريبة السكر والشاي، وهي حول مليون جنيه وضريبة الطرق حول ستمائة ألف جنيه وضريبة البترول وهي ١١٥١٩٧٩ جنيهًا. وقد نفذت ضريبة الدخل — ولا نستطيعها نحن خوفًا من الأجانب — منذ أبريل سنة ١٩٣٠ وتشمل ٣٪ من أرباح الشركات، وبين ١ و٣٪ ممن زاد دخلهم على ٥٠٠ تومان (والتومان اثنا عشر قرشًا) والجمارك أهم موارد الدخل العام، وهو ينفق على الجيش ٤٤٪ من مجموع الدخل.

لقد بدأ إصلاح الجيش بمعاونة مدربين من السويد، وفي سنة ١٩٢٦ جعل التجنيد إجباريًّا، فخريجو الجامعة لا بد أن يخدموا في الجيش سنة ونصفًا، ومن يعولون أسرة يخدمون سنة واحدة، وطلبة المدارس الثانوية يخدمون العام نفسه، ومجموع الجيش أربعة شهور ونصفًا ويشرف على وزارة الحربية … النظامي اليوم كامل العدد ثمانون ألفًا ويحاولون إبلاغه مائة ألف، وفي طهران مدرستان حربيتان يدخلهما الحاصلون على الشهادة الثانوية فضلًا عن البعوث الحربية الكثيرة إلى ألمانيا وفرنسا، وقد بدأ نواة الأسطول البحري والجوي، والحربية غير مسئولة أمام البرلمان بل أمام الشاه وحده.

figure
بعض الأحياء القديمة في طهران.

أما في التعليم فقد عمَّم المدارس القروية ومدتها أربع سنين، ومدارس المدن مدتها ست، ثم المدارس الثانوية ست أخرى، وبعدها المدارس العليا، وهو يحاول جعل التعليم إجباريًّا، وأهم ما يرمي إليه التعليم هناك الاعتزاز بالوحدة القومية وتمجيد ماضي البلاد وتثقيف العقل والجسم والتربية الدينية.

ويعنى الشاه اليوم بالطرق العناية كلها. حقًّا شهر الفرس بذلك من زمان بعيد حتى قيل: إنهم أول الأمم فتحًا لها فقد عبدوها منذ سنة ١٧٠٠ق.م. وكنا نشاهد بعض أطلال من القناطر والجسور القديمة لا تزال بانية، ولقد كانت شهرتهم تفوق في الطرق شهرة الروم، ولقد كان النقل إلى الحرب الكبرى بالدواب، لكن تدخُّل الإنجليز والروس ساعد على العناية بالطرق ورُبطت أطراف البلاد بالسيارات، كذلك شجعت الظروف الحربية إقامة المطارات، وقد تسلمها الفرس اليوم، وبفضل العناية بالطرق زاد نفوذ الحكومة المركزية، ورخصت أجور نقل السلع التجارية وخفت ويلات المجاعات، وقد أمن الشاه تلك الطرق بإقامة المخافر على امتدادها في فترات قصيرة، وحتى وسط الجبال المقفرة التي لا يقطنها أحد، إلى ذلك الإكثار من «المسافر خانات» أو «كرافان سراي» في كل مكان، ومن أول ما يشغل اهتمام الشاه السكة الحديدية التي يفكر في نشرها جديًّا، وقد بدأ العمل في وصل البحرين: الخزر والخليج الفارسي بخط حديدي لكي تستقل البلاد عن جاراتها في أمور النقل والتجارة، وهو ماضٍ في مدها رغم كثرة الصعوبات التي تواجههم كرداءة الثغور في البحرين وكثرة الجبال، فبين طهران وبحر الخزر ما لا يقل عن ٢٥ ميلًا من الأنفاق؛ لذلك ستكلفهم السكة غاليًا، ويرى البعض أنه يفضل مد الخط بين طهران وبغداد، ولم يقبل الشاه أن يعرض الأمر على شركات أجنبية، بل يعتمد في النفقات على ضرائب السكر والشاي التي تزيد وحدها على مليون جنيه كل عام، ويخال بعض الاقتصاديين أن في ذلك خطرًا على ثروة البلاد وتعطيلًا لأموالها التي هي في حاجة إليها في أمور أخرى، على أن ما قاسوه من عبء التدخل الأجنبي الممقوت جعله ينأى ما استطاع عنهم وعن رءوس أموالهم.

figure
دار البرلمان في طهران.

على أن البلاد ينقصها الشيء الكثير من ذلك، الشئون الصحية والعناية بها، فمياه الشرب مثلًا من المشكلات هناك حتى في طهران نفسها، فهم اعتادوا من زمان بعيد أن يتعقبوا منابع العيون ويخضعوها لحفائر تسير منها سراديب إلى أحواض تختزن فيها، وكلما طغت سال الماء الزائد إلى المجاري التي تسقي البلدان، وتراها تجري على جوانب الطرق مكشوفة لكل عابث، فترى هذا يغتسل وبعده آخر يستقي، ثم ثالث يبصق ويتمخط ورابع يلقي بالماء القذر فيها، وقد شاهدت في طهران قومًا يغسلون وجوههم من ماء يجري بعد أن غُسل به الطريق، ولما وقفت مدهوشًا قالوا: أليس ماءً جاريًا؟ لذلك يشتري غالب الأجانب ماءهم من السفارة الإنجليزية التي أقامت لها مضخة ومرشحًا خاصًّا، فليس بمستغرب إذن أنك ترى الأمراض منتشرة، وبخاصة الجدري الذي يشوه وجوه الكثير وتشويه العيون والقرع منتشر حتى بين الطبقة المثقفة، فيندر أن ترى رجلًا من الطبقات الفقيرة سليم الرأس، ويزيد ذلك سوءًا عدم صرف القاذورات فكثير من بيوتهم تخلو من «الأدبخانات» وغالبهم يبول ويتغوط في الخلوات ويغتسلون على مجاري المياه التي يستمد منها غيرهم، والأطباء هناك قليلون؛ ولذلك كان متوسط المتاع الصحي فيمن تتراوح سنهم بين ٢٥ و٥٠ سنة أقل من نظرائهم في البلدان الراقية بعشرة أضعاف.

إلى خراسان

اعتزمت القيام إلى أرض خراسان حيث مقر الإمام الرضا أحد أئمة الشيعة وابن الإمام موسى الكاظم في بغداد، وضريحه في مشهد ثانية مدن فارس وأولى البلاد المقدسة، فهي كعبتهم، تبعد عن طهران مسافة نائية هي فوق مائة وستين فرسخًا، والفرسخ وهو وحدة قياس المسافات عندهم نحو ستة كيلومترات، أعني نحو ألف كيلومتر أو يزيد، كان القوم يقطعونها على متون الإبل والبغال والحمير فيما بين أربعين يومًا وستين، وهي بالسيارات اليوم بين يومين وثلاثة. أخذت مكانًا أماميًّا في سيارة كبيرة من ذوات العجل المزدوج برفقة ركب من الحجاج يناهز الخمسة والعشرين عدًّا بين نساء ورجال وشيوخ وشبان، وبدأنا السير ليلًا وكلهم إيمان صادق لا يبتغون من وراء كُلَفهم تلك ونصبهم هذا إلا زيارة قبر الإمام ومعهم زادهم، أما أنا فكنت أعتمد على المحاط وما فيها من وسائل ساذجة للنوم والطعام، وبين آونة وأخرى كان يصيح الجمع في ابتهال قائلين: «لاهم سل ألى مهمد آلى مهماد».

figure
دار المفوضية المصرية العامرة في طهران.

وأخذنا نمر بالمحاطِّ التي يسميها القوم مسافرخانات أو كرفان سراي، وهناك نجد أمكنة تحكي الخان بها حجرات فقيرة الأثاث وغذاء بسيط كنا نتزود منه ونأخذ قسطًا من الراحة ثم نستأنف السير. ولم تكن تقوى القوم لتنسيهم ملاذَّهم؛ فقد كان الفريق الأكبر منهم يحمل الغلايين لتدخين الأفيون، فينتحون جانبًا من المكان ويمر الغليون عليهم جميعًا، وكان في جواري إلى جانب السائق أحد علماء كربلاء بعمامته السوداء الضخمة ولحيته المرسلة وسحنته الناحلة، وكان يتيه على الآخرين بعلمه وبأنه من سلالة هاشمية ومن نسل العلم والعلماء ولأولئك على الناس حق العطاء ويسمونه «حق الخمس» يقصدون الأغنياء كلما أعوزهم المال ليأخذوا منهم حقهم هذا؛ لأنهم من السادة سلالة الرسول، ولما علم الشيخ بأني سائح سأكتب عن رحلتي قال لي: اكتب عني «أنا العلامة حجة الإسلام وفخر الملة والدين السيد …» على أني لمَّا تحدثت إليه لم أجد من علمه ما يؤيد تلك الألقاب، إلا أنه رجل طيب القلب وديع الخلق كريم الطبع.

figure
في «لوقنطة» وهو مثل من القصور الفاخرة القديمة.

جد السائق في السير على ضوء القمر وقبس مصباحه فخانه نظره وما نشعر إلا والسيارة تنحدر بنا عن الطريق وتنزل هوة من دونها وادي سحيق فكادت تنخلع لرجَّاتها قلوبنا، وصاح الجميع وارتطم هذا بذاك وذاك بجانب من السيارة، ثم كانت صدمة عنيفة وفرقعة أصمت آذاننا وإذا هي صخرة كبيرة ناتئة في منحدر الوادي توقف السيارة قبل أن تنقلب، وقد أصيب من الركاب كثير ونالني من ذلك شَجٌّ بين العينين سال منه الدم سيلًا، وصدمة شديدة في الركبة اليمنى أحدثت بها كسرًا لا أزال أعاني منه، فقفزت من السيارة ونمت على الصخر تائهًا حتى الصباح حين رأيت العجلة قد كُسرت من أساسها، ولولا لطف الله لكنا اليوم في عالم غير الذي نحن فيه، أمضينا يومًا كاملًا في تلك البرية المقفرة ولم يكن لديَّ زاد ولا قوة فتبلغت بكسرة أعارنيها أحد الحجاج حتى عاد السائق ومعه بديل عما كسر، وكان قد رجع إلى طهران ثم عاد إلينا وأصلح ما أفسدت غفلته واستأنفنا سيرنا حامدين شاكرين الله أن أنجانا من خطر الموت في تلك الناحية النائية، وكم من سيارة خانها الحظ العاثر فهوت وهلك من ركابها الكثير في تلك الطرق الوعرة. ولقد عزا القوم سلامتنا إلى رضا الإمام عنَّا، وما كدنا نسير بعيدًا حتى وقفت السيارة فجأة، وتبين أن البنزين قد نفد ولم يكن لدينا منه شيء فلبثنا مكاننا حيارى ساخطين جزعين أربع ساعات حتى مرت بنا سيارة أخرى أعارتنا بعض البنزين، والسيارات الكبيرة تمر تباعًا ذهابًا ورجعة في كثرة هائلة كلها تحمل جماهير الحجاج ويقولون بأن هذا الخط على وعورته أكثر البلاد حركة في نقل المسافرين؛ لأن مشهد خير لديهم من مكة المكرمة تغنيهم عن حج بيت الله الحرام في زعمهم، فترى الفاني منهم والفقير المدقع يدخر أجر السفر ليصل إليها ويود لو يموت بها ليدفن في أرضها الطاهرة.

figure
نستريح قليلًا في إحدى «المسافرخانات» التي تنتشر في غالب طرق العجم.

لبثنا نسير وسط الربى وصعدنا ما هو بالغ الوعورة في طرق لياتها المتعاقبة من الأعاجيب وكلها مجدبة عريت عن النبت إلا في بعض بطون من الأودية، حيث كنا نرى سيلًا من الماء يتلوى وتقوم القرى على جوانبه بأبنيتها الوطيئة من الطوب واللبن، وبعد يوم ونصف دخلنا سهولًا غالبها صحراوي وتلك بداءة أرض خراسان التي بدت أكثر جدبًا من سابقاتها ومن البلدان الكبيرة التي مررنا بها «سمنان ودمغان وشاروت وسابزوار»، ثم نيسابور وكلها كمراكز الصعيد عندنا حولها تكثر البساتين والمزارع، وعجبت لأني رأيت القطن يُزرَع هناك بكثرة ويؤتي محصولًا لا بأس به، وقد أقاموا له بعض المصانع التي تستهلك غالب الخام، وقد بلغني أن ثمنه قد انتعش وأنا هناك فبلغ ١٢٠ قرشًا للقنطار بعد أن هبط هبوطًا مخيفًا وزراعة الحبوب خصوصًا القمح والشعير منتشرة في كثير من بلاد فارس خصوصًا خراسان، وقد يزيد المحصول على حاجة الناس لكن رداءة طرق المواصلات وغلوها توقف تصديره وتجعله كثيرًا رخيصًا في بلد وشحيحًا غاليًا في مكان آخر أهله يتضورون جوعًا؛ لذلك اضطرت الحكومة أن تحتكر الحبوب في بعض الجهات وهي تتقاضى ضرائب الأرض حبوبًا في بعض الأحيان، وبذلك حُفِظت أثمان الحبوب عند حدها المعقول وقاومت المجاعات التي كانت تفتك بالناس من قبل فتكًا ذريعًا، وقد أقامت مخازن للقمح في البلدان الكبيرة لمقاومة ذلك، والعادة أن الناس هناك يأكلون خبز القمح ممزوجًا بالشعير، أما في مناطق الشمال على مقربة من بحر الخزر فالأرز عمادهم ومن النبات الكثير النمو هناك الطباق والفاكهة والتوت لتربية دود القز، ويزرع قصب السكر حول بحر الخزر والبنجر في جهات عدة، فالزراعة الآن هي عماد البلاد والصناعة في بدئها وتحاول الحكومة رغم فقرها إقامتها مقتفية أثر اليابان في ذلك، خصوصًا مصانع النسيج وتجفيف الفاكهة والسكر، ولا يزرع من أراضي العجم أكثر من عشرها فقط وفوق نصف المساحة كلها لا يصل حتى للمراعي الفقيرة، إذا فرضنا أن رأس الغنم يحتاج إلى ثلاثة أفدنة فقط، أما الأغنام ذوات الذنب المنتفخ الغليظ الذي يزيد وزن الواحد على ثمانية عشر رطلًا أواخر الربيع، فيلزم للرأس منها عشرة أفدنة في العام، ومع ذلك ترى الأذناب ضامرة جدًّا في فصل الشتاء وكنا نرى من هذه الكثير في سيرنا، والرعاة ربع سكان العجم وهم طبقة مغيرة يُخشَى بأسها، وبخاصة أهل خراسان، ومثلهم مع المزارعين مثل الذئاب مع الحملان. والأراضي غالبها في ملكية طائفة قليلة من الملاك لكنهم يحسنون معاملة المستأجرين لقلة الأيدي العاملة، والملاك هم الذين يقدمون الماء والبذور ويدفعون الضرائب مقابل استيلائهم على نصف المحصول، والزراعة على قلتها عماد ثروة البلاد رغم أن المزارع يغالب الطبيعة القاسية.

figure
في خيابان بهلوي أكبر شوارع مشهد إلى جوار صديقي السوري.

فمطر البلاد نادر وثلجها لا يسقط إلا في الشتاء والربيع، وبفضله أمكن الزرع، ولما كان المطر غير ثابت أثَّر على الينابيع والمجاري في الجهات الخصبة لذلك لا تكاد تُزرَع الأراضي الصالحة إلا مرة كل خمس سنين في المتوسط، ويخال البعض أن طريقة الزراعة «البعلى» تفيدهم كثيرًا لو لجئوا إلى استخدامها.

وحالة الفلاح هناك لا بأس بها يسكن بيوتًا من الطين وغذاؤه القمح والجبن واللبن والحامض ويسمونه «دوك»، وفي الصيف يستهلك قدرًا كبيرًا من الفاكهة والخضر، أما اللحم فمرة كل أسبوع في الشتاء فقط. وأحسن الطبقات حالًا التجار وهم معروفون بالمكر والدهاء حتى جرى المثل قائلًا: أرمني واحد يغلب عشرة من الإغريق، لكن فارسيًّا واحدًا يلعب بعقول عشرة من الأرمن.

استوقفت السيارة قليلًا في نيسابور مثوى رفات «عمر خيام» الذي عاش فيها في الربع الأخير من القرن الرابع عشر وأوصى أن يدفن في بقعة تظلها الأشجار ويكسوها ورقها الذابل مرتين في كل عام. زرت قبره وسط الحقول تظله حقًّا أدواح عالية قديمة وبجانبه قبة أنيقة عُني بإقامتها ونقشها العناية كلها، فخلتها له، وإذا هي مدفن محمد المحروق من سلالة الحسين؛ وقد أسموه بالمحروق لأنه نزل ضيفًا على أحد سراة القرية، ولما أن خيم الليل اعتدى على بنت مضيفه فأحرقه الناس في مكانه هذا، ورغم جرمه هذا شيَّد قبره وقدَّسه الناس لأنه من سلالة طاهرة! ويزور الخيام من الأجانب خلق كثير؛ لأنه قد خلد ذكرًا بما كتب في رباعياته التي ترجمها الناس إلى جميع اللغات، ولقد أبى عليه علماء الدين تشييد مدفنه لاتهامهم إياه بالزندقة لأنه كان إباحيًّا في شعره، والحكومة تنتوي إقامة بنيان يليق بمقامه لكنها لا تزال تخشى غضب رجال الدين. عادت الربى فتسلقناها ثم أشرفنا على مشهد وهي في حجر الجبال بعد أن لبثنا في الطريق ثلاثة أيام وأربع ليال كاملات، قاسينا خلالها كثيرًا. هنا وقف السائق ونبَّه القوم أن ها هي مشهد فارقبوها تبركًا، فأخذوا يحاولون رؤية القبة وسط الضباب والدخان المنبث، وكل من لمح منها قبسًا قرأ آيات التبريك وعمد إلى قطع الأحجار يجعلها في كومة ثم أقبل على السائق يهبه من أنعامه ما تيسر.

مشهد مقدس

(طوس قديمًا)، دخلنا مشهد تحفها المزارع والبساتين وهي في منطقة غنية بالفاكهة وبخاصة العنب ويسمى «أنجور» والخوخ، واستوقفنا البوليس لفحص الجوازات وقد تكرر ذلك في الطريق أكثر من عشر مرات، ثم أخذنا نخترق طرقًا فسيحة يحفها الشجر وتقوم عليها المباني الحديثة الوطيئة، وقد كانت من قبل أزقة مختنقة كسائر بلاد فارس، لكن يد الإصلاح تناولتها اليوم على نحو ما فعلت في طهران، وقد حللت نزل «مهمانخانة ملي»١ وهو جميل نظيف، وقد استرعى نظري بناء القنصلية البريطانية بعظيم امتداده وهو أثر من آثار النفوذ الإنجليزي الذي كان يسيطر على البلاد حتى قال القوم بأنه حدث مرة أن حاول بعض الناس أن يعلو ببناء بيته الملاصق لها فمنعه القنصل؛ إذ لا يجوز كشف حرمة الدار الإنجليزية وقد كانت هذه البلدة داخلة في النفوذ الروسي يومًا، لذلك لاقيت من الروس هناك الكثير وغالب الأهلين يتكلمون الروسية، أما النفوذ المطلق اليوم فللفرس وحدهم. قصدت زيارة:
figure
المدخل الرئيسي للحرم الشريف في مشهد.

ضريح الإمام الرضا

الذي بدت لنا قبته الذهبية البراقة من أميال، وإذا المسجد والحرم فاخر إلى حدٍّ كبير مداخله عدة، الباب تلو أخيه في زخرف جذاب وفن شرقي بديع بالقيشاني والبلور والمرمر والرخام، وأمام كل واجهة رئيسية — وهي أربع — بهو «أو صحن» مربع تحفه الحجرات المزركشة أقيمت لطلاب العلم في طابقين، وتتوسطه قناة الماء يغترف منها الجميع للشرب والغسل وتنظيف الملابس والأحذية ومآرب أخرى، والباب الرئيسي للضريح يكسى كله بالذهب الخالص في فجوات وتعاريج جذَّابة، وفوق الضريح قبة تكسى بالذهب الخالص، وللمسجد مئذنتان دقيقتان عليهما غشاء من ذهب إلى ذروتيهما، أما عن العالم المتراص كالموج المرتطم هنا وهناك فحدث في دهشة فائقة، كنت أسير ولا أكاد أشق لي طريقًا بينهم، ومنهم المثقف أنيق الهندام والمتسول البائس في الخرق البالية والأقذار التي يشع منها الوخم وينبعث منها مكروب المرض فيوشك أن يخترق أجسادنا. هذا إلى العلماء في عباءاتهم وعمائمهم السوداء للشرفاء منهم والبيضاء لغير الشرفاء يخضبون لحاهم المرسلة بالحناء، ومن زوار الأجانب خلق كثير عراقيون وهنود وأفغان ومن كافة العالم الإسلامي، وإلى جوانب الجدران كلها يرتمي الكثير في خمول زائد وجلهم ممن أضناهم المرض وشوَّه البؤس أجسادهم. ويتوسط أحد الأفنية سبيل مذهَّب أنيق في داخله نافورة حولها السلاسل تحمل العقاب للمحتسين، ويشرف عليهم كهل توقد حوله الشموع صباح مساء وبين آونة وأخرى يمد «مغرفة» يحرك بها الماء والسعيد من استطاع أن يتذوق هذا الماء الطاهر ويسد الجماهير المكان سدًّا.

figure
في داخل الحرم يشقه مجرى الماء.

أخيرًا دخلنا باب الضريح الفضي، وإذا المدفن وسط شباك الفضة والذهب ترصعه الجواهر الثمينة، وقد أتممت طوافي حوله في ثلث ساعة كدت أختنق خلالها من كثرة الزحام، وهنا رأيت عجبًا، نواح وصياح ولطم وتقبيل واستلقاء على الأرض ولمس للأعتاب بالخدود وما إلى ذلك مما تقشعر له الأبدان. هنا أسرع شيخ يطوف بي وناولني أدعية مطبوعة يجب أن أقرأها وأركع وأسجد وأقبل فأسرعت بالتخلص منه بفضل زميل فارسي عرفته، فخاطب المطوف قائلًا: بأني عالم قارئ خبير بكل أولئك وقد علمت بعدُ أني لو رفضت الإذعان للأمر وحدي لظن أني ملحد ولكانت ما لا تحمد عقباه. خرجت إلى الفناء وإذا في كل ركن من أركانه عالم يرتقي منبرًا وحوله خلق كثير جلوس على الأرض في وجوم وشبه ذهول، وهو يقص عليهم أنباء علي والحسن والحسين والأسرة الشريفة كلها، وجميعهم يبكون وكلما أشار في قوله إلى الفاجعة صاحوا عاليًا ولطموا جباههم وخدودهم في فرقعة مؤلمة، ومنهم الطفل والمراهق والسيدة والعجوز والكهل الفاني والمثقف والأمي الجاهل، وكنت أعجب لسيل دموعهم وبكائهم المر، وذاك التبشير يظل طوال اليوم في جميع أركان الأفنية، وما أن أوشك الغروب حتى سمعت من شرفة الباب الأوسط طبولًا تقرع في نقرات مثلَّثة، ثم أعقبها صياح وتلا ذلك نفخات من أبواقٍ طويلة مزعجة، وظل ذلك حتى غربت الشمس فكأنهم يودعونها كما يفعل المجوس بذاك الذي يدخل الرهبة ويلقي الرعب في القلوب، وفي وقت الأذان ترى عددًا كبيرًا كل يصيح في ناحية ثم تقوم الصلاة ويجلس صبية صغار على المنابر يصيحون بعبارات التبليغ والقوم يصلون. جهل فادح واعتقاد في الترهات والبدع ما كنت أخاله بلغ هذا الحد فكأنهم يعبدون الرضا من دون الله، فما مر من الأبواب فرد كائنًا من كان إلا واجه الضريح وانحنى وتمتم ثم قبَّل الباب وانصرف، وهم يرمقون شذرًا كل من جاز الباب من الغرباء ولم يفعل ذلك، فقلت في نفسي أهكذا يلعب رؤساء الدين بأذهان البسطاء من أفراد الشعب، لا ابتغاء مرضاة الله بل لملء جيوبهم هم وذراريهم الذين لا يحصيهم عد؟ وهل خُلقنا للبكاء والعويل وإهاجة الشجون بتكرار أقاصيص ما أنزل الله بها من سلطان؟ تأخر معيب وتدهور يعطي الأجنبي عن البلاد أسوأ الفكر وحتى تقضي حكمة الشاه على كل أولئك سيظل حجر عثرة في سبيل تقدم البلاد.

وبجوار المسجد مكتبة حوت مجموعة قيِّمة من المخطوطات في سائر العلوم الإسلامية حتى قالوا: إنها أكبر مكتبة إسلامية في الدنيا، وفيها بعض المصاحف بخط سيدنا علي نفسه. وفي وسط أحد الأفنية مصلًى يسمونه جوهر شاه، وكانت بيتًا لسيدة اسمها جوهر، فلما أراد الشاه إقامة المسجد رفضت أن تبيعه إياه فتركه لها وأقام مسجده حوله، وبعد إتمامه أقامت هي في مكان منزلها مصلًى ولذلك سميت «جوهر شاه»، ويؤدي كثير من أبواب الحرم إلى أسواق مشهد المسقفة الملتوية، وهي من أجمل أسواق فارس، ويحرم على غير المسلمين دخولها؛ لأنها داخلة ضمن الحرم المقدس وأرضه مقدسة ولمجرد الشك في شخص غريب ينهالون عليه ضربًا مبرحًا وكثيرًا ما مات من الغرباء لهذا السبب، وكم من مرة سُئلت إن كنت مسلمًا ومن أية ولاية جئت فكنت أجيب «بلى مسلم»، وكان بعضهم يعود فيسأل «مسلم شيعي؟» فأعيد الجواب «بلى مسلم»، وهم يمقتون السنيين مقتهم للكفار، وكلما شرب أحدهم قال: «لعن الله عمر وبني أمية»، إذ يكرهون اسم عمر جدًّا، وأكثر الأسماء بينهم ذيوعًا حسين ثم حسن ثم علي ثم محمد. عصبية عمياء وإيمان في غير تفكير ولا تعقُّل. ويناهز الحجَّاج إلى المكان سنويًّا الملايين وبخاصة في شهر رجب وعربات نقل المسافرين لا تغيب عن العين ساعة واحدة.

figure
مدفن نادرشاه في مشهد.

أخذت أتجول في القسم المستحدث من المدينة وهو جميل، طرقه فسيحة يجانبها الشجر وتجري إلى جوارها قنوات الماء وتقوم عليها المباني الوطيئة، وهناك بعض متنزهات لا بأس بتنسيقها تكتظ بالمتريضين في كثرة هائلة، ومن بينهم كثير من المبتذلات اللاتي يفقن الرجال عدًّا، وكنت أخال أن للرضا حرمة تمنع ذلك، لكن يظهر أن الحالة الاجتماعية في فارس كلها هكذا، وحتى في النزل لا تخلو حجرة من الخليعات، يحتسي الجميع الخمر وكانوا يدهشون لي كيف أنام في غرفتي وحيدًا! وحتى في الحرم الشريف يقصد الرجل ورفيقته إلى الفقيه العالم معلنين إياه أنهما يريدان زواج المتعة «أو الصيغة» ليلة واحدة أو اثنتين مقابل كذا فيقرهما، ويعد الأمر بعد ذلك مباحًا، وقد بدا لي أن غيرة الرجال على نسائهم تكاد تكون معدومة فكأنه يحل لها بعض ما يحل لنفسه والأمراض السرية لا يكاد يخلو منها أحد، وجل موتى الغرباء بسبب «الزهري»، وقد حاولت الحكومة جعل البغاء رسميًّا في مناطق معينة لتخفف من ويلات تلك الإباحة فلم يقبل علماء الدين ذلك.

قصدت زيارة الحضرة يوم الجمعة فكان الزحام فوق كل تصور، وحاولت دخول الضريح فلم أستطع لأن أرضه فرشت بالزائرات بحيث لم يبقَ موطئ قدم، وكان يسير في الطرقات كثير من المهرجانات يصيح الصبية حولها إحياءً ليوم الجمعة وبأيديهم الأعلام، وبعد صلاة الغروب أخذ العلماء يقصُّون على الناس نبأ فاجعة علي والحسين والجماهير حولهم عرايا الصدور يضربونها بأكفهم تارة وبسلاسل ثقيلة تارة أخرى وفق نغمات موحدة في شكل بشع مرعب، وهكذا تتحكم الشعوذة في قلوب القوم تحكمًا معيبًا. حاولت دخول الضريح رغم الزحام الكثيف لأرى قبر هارون الرشيد الذي علمت أنه بجانب قبر الرضا نفسه، غير أني رأيته منبوذًا في ناحية غير ظاهرة، حتى إنني لم ألاحظه في المرة الأولى، وقد وضعوه بحيث يلمسه الزائرون بأدبارهم عندما يطوفون حول الرضا، وذلك احتقارًا لشأنه، وكثير منهم يلعنه بعد الزيارة ويرفسه برجله ووجهه مقابل للإمام ويقول: «لعن الله المأمون وأباه»، وذلك لأنه سني أولًا ولأنه والد المأمون الذي اتهم في دس السم في العنب للإمام، ثانيًا وقد سافر الرشيد إلى هناك في حملة ضد الحكام الذين مالئوا بني أمية فوافته منيته هناك، فأوصى بأن يدفن في هذا المكان الذي أقام عليه الإسكندر المقدوني علمًا وتنبأ بأنه سيكون مدفن رجل عظيم، ولما جاء المأمون ولَّى الرضا حاكمًا على تلك البلاد من قِبله، ولما عاد إلى بغداد وهزم أخاه الأمين وتم له الأمر دس للرضا فمات ودُفن إلى جوار الرشيد.

وعند مدخل المسجد مكان القصاص لمن أذنب داخل أرض الحرم والحكم لرئيس الحرم، فكأنها حكومة وحدها، وفي خارج الباب مضيفة يُعد فيها رئيس الحرم طعام الغداء يوميًّا لمن طلب من الغرباء ذلك. وقد مات أحد العلماء ويسمونهم «مولاه»، فكانت جنازته مهيبة، وفي صباح الجمعة قام عالم يؤبنه ومن دونه الجموع المحتشدة جلوس على الأرض يبكون، وكانت عبارات التأبين من قصة الحسين أيضًا، وعلمت أنه منذ خمس سنين فقط كان إذا مات أحد العلماء وجب تعطيل مصالح الحكومة وإغلاق المتاجر والبنوك ثلاثة أيام كاملة.

وللإمام الرضا من الأوقاف شيء كثير، فكل المباني التي تقع في الحي كله ملك له، هذا غير الأراضي الزراعية والهدايا الثمينة التي تقدم إليه، فكلما مات غني أوقف جل ماله عليه، وفي أحد أبواب المسجد فيروزة معلقة في حجم بيض النعام يقولون بأنها لا تُقَيَّمُ ويقصون عنها من الخرافات ما لا يقبله العقل، فمثلًا لما احتل الروس البلدة إبان الحرب الكبرى ربطوا خيولهم داخل «الصحن» وضربوا القبة بالقنابل فلم تصبها، وحاولوا ضرب تلك الفيروزة مرات فطاش سهمهم. وحجر الفيروز كثير هناك ومناجمه في قرية فيروز أباد في جنوب شيراز، وفيها جبل جل كتلته من الفيروز على اختلاف طبقاته.

والحي الذي حول الحرم كله محرم على غير المسلم تطوقه السلاسل عند مداخله، وكثيرًا ما كان يلجأ إليه المجرمون والقتلة والمدينون ليحتموا فيه، فترفع عنهم العقوبة ما داموا داخله.

figure
الموسيقيات المتجولات «والتارة» أحب الآلات الموسيقية عندهم.

والذي شجع الفرس على اتخاذ مشهد كعبة مقدَّسة الشاه عباس أكبر الصفويين هناك، وعاش أوائل القرن السابع عشر، وكان عصره ثالث العصور الذهبية في تاريخ فارس كله، صرف قومه عن زيارة مكة المكرمة لكراهتهم للعرب، ولكي يوفر على قومه ما كانوا ينفقونه من أموال طائلة في بلاد يكرهونها، وكثير من الحجاج كانوا من السراة، فاتخذ مشهد كعبة وجه إليها الشعب، ولكي يزيدها قدسية حج إليها بنفسه ماشيًا على قدميه مسافة تفوق ١٢٠٠ كيلومتر، فتحول إليها الناس جميعًا، ويندر من يزور الحجاز اليوم وهم يحترمون كلمة «مشهدي» عن كلمة «حجي»؛ لأن من زار مشهد لا شك أكثر قدسية واحترامًا ممن زار مكة! وكم كنت أسمعهم ينادون بعضهم باسم «مشهدي فلان» حتى في مشهد نفسها.

وقد لاحظت من بائسي الروس هناك عددًا كبيرًا رجالًا ونساءً وأطفالًا، وكلما دخلت «النظمية» مقر البوليس وجدت مهاجرين منهم وافدين من بلادهم هروبًا مما يقاسونه من مضض الجوع والبؤس، وأنت ترى الفتيات يجلسن على جوانب الطرق تفرش كل منديلًا أمامها لتستجدي المارة، وكثير من الفرس يتزوج من الروسيات وغالب خدام النزل منهم. وقد زرت مدفن «نادرشاه» الذي مد نفوذ بلاده وفتح الهند وأخذ من الأسلاب القيِّمة شيئًا كثيرًا، من بينها عرش الطاوس الذي لا يزال يعرض في قصر جولستان في طهران، وعليه تُوج الشاه الحالي والمدفن يقوم وسط حديقة فسيحة تحوطها الأسوار العالية، وتكاد تكسوها الأدواح الكبيرة. وملاهي القوم قاصرة على المقاهي ودور السينما أما الراديو والتمثيل والمراقص فنادرة وموسيقاهم شرقية بحتة وهي أقل تشذيبًا من الموسيقى التركية وأحب الغناء ما كان صيحات أشبه بأغنية الفلاح المصري وهو يسقي زرعه بالعود في صعيد مصر وغالب الأنغام من «نغمة العجم»؛ مما يؤيد أن هذه البلاد هي أصل تلك النغمة، وأحب الآلات الموسيقية لديهم عود يسمونه «تارة» ذو أربعة أوتار مزدوجة من السلك الرفيع ولا تشد عاليًا ورقبته بالغة الطول، وهي مقسمة بأربطة وبطن العود «القصعة» دقيقة الوسط منتفخة الجانبين وهي أصغر من «قصعة» عودنا ونغمته مطربة بين «المندلين» و«الطنبور»، والدف والناي مستعملان بكثرة والكمان على قلته.

figure
كبار الحكام في «إسلام قلعة» يشرفون على تفتيش متاعنا على حدود أفغانستان.

وحساب الأيام عندهم شمسي يقسمون السنة إلى اثني عشر شهرًا كل شهر من الستة الأولى واحد وثلاثون يومًا، ومن الثانية ثلاثون وعامهم هذا هو سنة ١٣١٢، وبدؤه الهجرة النبوية على أنه افترق نحو أربعين عامًا بسبب زيادة أيام السنة القمرية، وأسماء الشهور متفقة مع البروج الفلكية (الحمل والثوراء والجوزاء … إلخ) بأسمائها الفارسية التي ترجمت عنها إلى العربية، ويكتبون برج كذا بدل شهر كذا، وهم يحتفلون بأول السنة وهو أول يوم في الربيع ويسمونه النيروز (نو معناها جديد وروز يوم)، وفيه تُعطَّل الأعمال ومصالح الدولة أسبوعًا، ويظل الاحتفال في البلاد نحو عشرين يومًا ويرعاه المسلمون والزرادشتيون، ويرجعونه إلى عهد جمشيد الأكبر الذي حكم قبل الطوفان، ويقولون عن هذا الملك: إنه عاش سبعمائة عام، وفي السنة الأخيرة من عمره بلغ قوة الآلهة فأرسل صورًا منه ونصبًا له في جميع الجهات ليعبدها القوم، وفي العيد يلبس الناس زينتهم ويرون قصص زهراب ورستم وكوش على مسمع من الأطفال. أما شهرا محرم وصفر فأيام حداد لا يدار فيها لهو ولا موسيقى، ويحيون لياليها بجلسات الحداد يستمعون لقصص علي والحسين وهم يبكون، وغالب البيوت تراعي ذلك ليلة الجمعة من كل أسبوع حتى في غير هذين الشهرين وفي يوم عاشوراء (العاشر من محرم) تقام حفلات في البلاد كلها لمأساة الحسين، فتقرع الطبول وترفع المشاعل، ويسير الجماهير ويضربون صدورهم وجباههم بالسيوف والسلاسل، وإذا سار الموكب جيء ببعض الخيل وأُلبست أردية بيضًا، وجواد الحسين عليه ثوب خُضِّب بالدماء تخترقه السهام ومن خلفه الحسين والعباس وباقي أفراد العائلة المقدسة على الخيل في كامل أسلحتهم، ومن ورائهم الناس في أردية خضراء ويلي ذلك هودج يمثل حجرة الزواج لقاسم الذي كان زفافه ليلة الفاجعة، وكان عبد الله رضيعًا لذلك يحمل في مهده وحوله أطفال يركبون الخيل، وبعد ذلك جماهير حملة السيوف والسلاسل، ثم من ورائهم «شمر» اللعين الذي قتل الحسين ومعه أتباعه في أردية حمراء، وتنتهي الحفلة بتمثيل موقعة كربلاء والقتال بين الفريقين، ثم تحمل جثة الحسين والعباس وعبد الله وغيرهم وأيديهم وأرجلهم مطلة من ثيابهم تقطر دمًا وترفرف على جثة الحسين حمامتان مخضبتان بدم، وتقول خرافاتهم: إن الحمام هوى على جثة الحسين يبكي فتخضبت أرجله بالدم ولبس الحداد في رقابه ولذلك نرى أرجل الحمام حمراء ورقابه يطوقها السواد، وإلى جانب الجثة تسير فتاة تمثل بنت الحسين وقد نفشت شعرها ولطخته بالعشب والوحل، وكثير من المشيعين يحملون يدًا مبسوطة هي شعار الشيعة؛ لأن يد العباس قُطعت وسقطت مبسوطة على الأرض — لذلك كثيرًا ما كنت أرى من المتسولين المشعوذين في فارس يحملون يدًا من صفيح على عصا طويلة يستجدون بها — ويحمل رجل عصا من حديد تتدلى منها أشرطة من قماش تمثل لسان «شمر اللعين»، وقد مزق كل ممزق، وكل من قطع واحدًا منها باركه الله وأجاب سؤله، وكثيرًا ما يمثلون الفاجعة برواية تعرض على المسارح ويحضرها الأطفال جميعًا.

figure
أعجب ما في التركمان تلك القلنسوة من جدائل الوبر والصوف، وكانوا خطرًا على الأمن في طريق إيران وأفغانستان الوعرة.

من خراسان إلى الأفغان

اعتزمت زيارة بلاد الأفغان رغم ما سمعت هناك عن وحشيتها وافتقارها للنظام والأمن، وكأن الظروف جميعها تضافرت على تعطيلي، فقد لبثت أربعة أيام وأنا أنتظر قيام سيارة إلى هيرات، وكل يوم يرجئني صاحب «الجراج» إلى الغد حتى كان مساء الجمعة آخر ميعاد، وعنده رجاني أن أظل حتى الصباح ثم جئت في الصباح أخاطبه تليفونيًّا فقال: عصرًا نقوم، فاحمل متاعك إلينا في الرابعة مساء، فكان ذلك. وهناك استبقاني حتى يكمل عدد المسافرين، وظل ذلك إلى ما بعد العشاء، ولما هممنا بالركوب اختلف أحدهم وهو أفغاني وأصر أن يجلس إلى جانب السائق، وهو المكان المعد لي وله أجره الزائد، وظلت المناقشات والمحاورات إلى العاشرة مساء فغضب الرجل وأضرب عن السفر فقالوا: تعالَ صباحًا، فعدت إلى النزل وآويت ليلتي، وفي الصباح لم يكن النزاع قد فُض، فعرضوا عليَّ أن أسترد نقودي لأن الرجل يصر على الانسحاب هو وسبعة من صحبه، فقلت: هل هذا مقدار محافظتكم على عهودكم؟ أهكذا تعاملون ضيفًا تعطل نحو أسبوع انتظارًا لسيارتكم! فأخذت السائق الحماسة وقال: إنني أوثر أن أقوم براكب واحد مثلك على كل أولئك، وأخيرًا اتفقنا أن نُحشَر نحن الاثنين إلى جوار السائق رغم أن الرجل كبير الجثة عملاق القامة. تحركنا التاسعة ونصف صباحًا والمسافة كلها فوق ستين فرسخًا؛ أي ما يقرب من أربعمائة كيلومتر قطعنا ثلثها إلى الرابعة مساء حين وقفنا نستريح في مسافرخانة بدوية صغيرة بها حجرات مختنقة من طين أمامها بستان غير مشذب، ولم نجد من الطعام إلا الخبز الأسود السميك والبيض المقلي والشمام، فأكلنا أكلًا شهيًّا لأن الجوع والإعياء كانا قد أخذا منَّا مأخذًا. بعد ساعتين قلت: هلم نستأنف السير، فقال السائق: سنقف ساعة أخرى نصلح خلالها بعض ما في السيارة، وتلك الساعة أسفرت عن ثمانٍ كاملات أمضيناها في هذا المكان الموحش، فقلت في نفسي: ما الذي دفع بي إلى هذا المسلك الوعر الممل! وما لي وبلاد الأفغان التي يقصُّون عن همجيتها ما يثبط العزم ويصرف المسافر عنها؟! لكن عدت فقلت في نفسي: وهل اللذة إلا في مغالبة ذلك وتحقيق غايتي التي وضعتها نصب عيني، وهي أن أزور بلاد الأرض ما استطعت، وهل المرء في الدنيا إلا مجاهد يحاول إصابة هدف جعله قبلته، فإن وُفِّق أرضى ثورة النفس وإلا فالخير قصد، سأمضي مهما كان الطريق وعرًا مخوفًا. قطعنا مرحلة أخرى إلى الفجر حين اضطرنا التعب أن نأوي إلى خان خرب نمنا فيه على الأرض؛ حيث لم يكن ثمة فراش، وفي الصباح لم نجد ما نسد به رمقنا غير خبز قفار أسود سميك وشاي يعلم الله مبلغ ما حوى من أتربة وأقذار، وقبيل الظهر كنا في الجمرك الإيراني في قرية كاريز، هنا تجلى إهمال الموظفين وبطؤهم المسم في فحص متاعنا، ثم جاءت الثانية بعد الظهر فذهب الرئيس للنوم تاركًا إيانا في مكان قفر ليس به ما يقي وهج الشمس ولا غبرة الجو، ولم تمضِ الجوازات إلا عند الغروب، وكان يطالب القوم بنقود وهم يرجونه تخفيفها، وأخيرًا قبض منا ما تيسر ضريبة غير مشروعة عيانًا.

بعد ذلك تهامس السائق وبعض الركاب قائلين بأن الأفضل إمضاء الليل هنا، فثرت محتجًّا وقلت كفى إبطاءً وعطلًا، فالمسافة كلها كان مقدرًا لها يومان، وها قد مضى اليومان وبقي فوق ثلث الطريق، قالوا: إننا سنقضي الليل في غير طائل على الحدود الأفغانية، وهي أمعن في الجدب والوحشة وسوء المعاملة، فأمضينا ليلتنا في ذاك المكان القفر، ورجوت صاحب الخان أن يمدني بفراش على «مسطبة» في الشارع؛ لأن داخل الخان قذر لا يطاق، ففعل ونمت نومًا عميقًا، وفي باكورة الصباح قمنا إلى الحدود الأفغانية في إسلام قلعة.

١  ولد بها الغزالي والفردوسي صاحب الشاهنامة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤