الفصل الثاني عشر

الضحاك والخازن

فوقف الضحاك وتناول الكيس بأطراف أنامله، ثم تركه فسقط على الأرض فخشخش، فأسرع إبراهيم فالتقطه وهو يقول: «أليس هذا كيسك؟»

قال وهو يضحك: «لا أعرفه إلا في النور. بالله ألا أضأت شمعة؟»

فقال: «تعال ننظر إليه في ضوء القمر.» قال ذلك وأمسكه بيده وأراد إخراجه، فإذا هو ثابت في مكانه كالشجرة المغروسة لا يتزحزح، فقال له: «إذا كنت تظن أن نقودك قليلة فأنا أزيد منها.»

فنظر إليه وهو يحني رأسه كالساجد وقال: «ولكنني لا آخذ إلا نقودًا يوسفية.»

فلما سمع إبراهيم قوله خفق قلبه؛ لأن ضميره بكَّته وتصوَّر أن ذلك الأبْلَه مطَّلعٌ على أسراره — والمجرم يخاف من خياله ويحسب أن عناصر الطبيعة ترقب أعماله — ولكنه عاد إلى عقله واستبعد اطِّلاع ذلك الأبله على سرِّه، وقال: «هي نقود يوسفية. نعم.»

قال: «ألم تبدلها بعد؟» وضحك.

فتحقق إبراهيم من أن الضحاك مطلع على كل شيء من أمره، وربما كان قادمًا إليه بدسيسة، ولكنه عمد إلى المغالطة وأراد إخراجه من الغرفة ليبعده عن مكان الشبهة فلم يستطع، فقال له: «تفضل اجلس.» وهو يتوهَّم أنه سيخالفه فيخرج، فإذا هو قد جلس على الأرض وأمسك بيد إبراهيم وأجلسه، فجلس وهو لا يدري ماذا يعمل، وقد خشي ذلك الأبْلَه فأطاعه؛ ليرى ما يبدو منه. والغرفة لم تكن في ظلمة حالكة؛ لأن ضوء القمر كان قد نفذ إليها من الباب، وكانت الأكياس والنقود ظاهرة لأقل تأمُّل، فالتفت الضحاك نحوها وقال: «هل أساعدك في جمع هذه الأكياس؟ وهل أمحو عنها لفظة «يوسفية»، وأكتب لك مكانها «حجاجية»؛ فإن ذلك أولى من ظهور الخيانة؟»

فاقشعر بدن إبراهيم عند ذلك التصريح وقال له: «قل لي بالله مَن أنت؟ وما غرضك؟ فإنك لست أبْلَه كما تتظاهر. من أنت؟»

فقال له: «أنا الضحاك. ألا تعرفني؟ وهذه عمامتي، وهذه جبتي، وهذه نِعَالي، ثم ماذا؟»

فقال: «لا تخدعني بالمزاح. صرح لي بالحقيقة ولك مني ما تشاء.»

قال: «أنا الضاحك المبكي، وأرجو ألا تكون باكيًا وأنت خازن هذه الحملة.»

قال: «قلت لك صرِّح وأخبرني بحقيقة أمرك وأنا طوع إرادتك.»

قال: «لا تهمك حقيقة أمري، فأنا ساتر ذنبك، ولي عندك حاجة. أتقضيها لي؟»

فسُرَّ إبراهيم بذلك السؤال وأحسَّ بانفراج كربه وقال: «اطلب ما شئت؛ فإني فاعل ما تريد.»

قال: «هل لك دالة على أبي مسلم؟»

فأطرق إبراهيم وقد ظهر عليه الارتباك وقال: «إن أبا مسلم ليس ممن تؤخذ الدالة عليه؛ لأنه شديد غضوب يندر أن يضحك، ولا يتكلم إلا قليلًا، وجلساؤه يخشون غضبه؛ لأنه يقتل لأقل شبهة، وأظنك سمعت وصية الإمام، التي تلاها على مولاك الدهقان الليلة، وهو يوصيه فيها بأن يقتل كل من يشك فيه. فمَن كان هذا شأنه، فهل من سبيل إلى الدالة عليه؟ أما إذا كنت تسعى للحصول على شيء منه؛ فإني أبذل ما في وسعي للوصول إليه.»

قال: «لقد نطقت بالصواب، ولو قلت لي غير ذلك لاتَّهمتك وشككتُ فيك، وعند ذلك يحق لي أن أنفذ وصية الإمام فيك.» وضحك ثم قال: «وأريد أن أسألك سؤالًا آخر: هل عندك للسر مكان؟»

قال: «بئر عميقة. لا تخف.»

قال: «لا أخاف منك؛ لأن روحك في قبضة يدي، وليس أسهل عليَّ من أن أُلقي الشكَّ في قلب أبي مسلم. ويكفي أن أذكر له مسألة النقود اليوسفية.» ثم نهض بغتةً ويده في منطقته، فأخرج منها النعلين ولبسهما ووقف، فعجب إبراهيم لعمله وخشي أن يعاوده الجنون فتحدِّثه نفسه أن يشكوه إلى الأمير في تلك الساعة، فنهض معه وأظهر الاهتمام به وقال: «ما بالك يا أخي؟ قل ما هو ذلك السر.»

قال: «نسيته في البيت؛ فأنا ذاهب لاستدعائه.» وضحك، فضحك إبراهيم مجاملة له، ولكنه ازداد خوفًا من هذا الأبله، ولم يعلم كيف يسترضيه، فقال له: «بالله كفَّ عن المزاح وأخبرني، وأنت القابض على حياتي؛ فلا تخف وأنا إنما أريد قضاء حاجة لك.»

فمشى الضحاك، فتبعه إبراهيم حتى خرجا من الغرفة، فلما استقبلا ضوء القمر التفت إليه الضحاك وقال: «هل يحمل أبو مسلم أهله معه إذا سافر.»

قال: «تعني هل يصحب امرأته في سفره. كلا، إنه يتركها في منزلها وحولها الأرصاد والعيون؛ لأنه شديد الغيرة عليها حتى لا يدع لها سبيلًا للخروج من البيت، ولا يدع أحدًا يدخل قصره غيره. وفي قصره كوًى يطرح لنسائه منها ما يحتجن إليه. وبلغني أنه يوم زُفَّت إليه امرأته بالبرذون الذي رَكِبتْه فذُبح، وأحرَق السَّرج لئلا يركبه بعدها أحد.»

فقطع الضحاك كلامه قائلًا: «تقول (لنسائه) كأنه تزوج عدة نساء.»

قال: «كلا، إنه لم يتزوج اثنتين معًا قط، وهو يكره الزواج ويعدُّه جنونًا، ومن أقواله المأثورة: «الزواج جنون، ويكفي الإنسان أن يجنَّ في السنة مرة.»١ فمن كان هذا في اعتقاده كيف يهتم بالنساء؟! ولكنى أردتُ بنسائه: اللواتي في قصره من الجواري والمرضعات ونحوهن مما تقتضيه مظاهر الإمارة.»

فلما سمع الضحاك قوله أطرق وكأنه ثاب إلى رشده، وأدرك إبراهيم أن ذلك السؤال لم يكن عبثًا، فاستأنس بهدوئه فقال له: «إن أمر هذا الرجل غريب جدًّا لم أسمع بمثله، ولعل هذه الخلال من أسباب نجاحه؛ لأنه ينقطع عن كل شيء للقيام بدعوته، فتراه لا يضحك ولا يمزح ولا يلهو بشيء قط.»

قال الضحاك: «وصلنا إلى السرِّ. بلغني أنه لما شاهد مولاتي الدهقانة الليلة شغف بها، وأراد أن يتزوجها. ولأن مولاتي المذكورة مخطوبة لأمير آخر، فإذا كان أبو مسلم يريدها لنفسه، فإني قادر على تحويل الخطبة إليه. هذا سرٌّ بيني وبينك. فهمتَ؟»

قال إبراهيم: «لا تخف يا أخي؛ فقد أوسعتني تحذيرًا. أمَّا أنه رأى الدهقانة وأحبها، فهذا أمر بعيد. وهو لا يرفع بصره إلى النساء قط؛ لأنه غيور ويعرف قدر الغيرة. أما إذا كان الأمر بخلاف ذلك، فأرجو أن تصرِّح لي.»

فألقى الضحاك يده على كتف إبراهيم وهو يخفض بصره؛ ليراه؛ لقِصَره، وقال: «أظنك تعني أن الدهقانة أحبته، وكأنها أحبَّت الزواج به. فهبَّ أن هذا هو الواقع، فما قولك؟»

قال وهو يرفع بصره نحوه: «إن ذلك يحتاج إلى استرضاء أبي مسلم، واسترضاؤه ليس بالأمر السهل، وخاصة في مثل هذا الأمر؛ لأنه يكره الزواج كما أخبرتك.»

قال: «إذن أنت لا تأمل أن يقبل ذلك؟»

قال: «لست أرجح الأمل أو اليأس، ولكن الأمر يحتاج إلى روية وسعي.» قال ذلك وأمسك بمنطقة الضحاك وقال: «اسمَعْ. إنك تجعل نفسك مهزارًا وأنت أدهى مني. قد خطر ببالي سبيل أظنه يؤدي إلى المطلوب. لا يستطيع أحد أن يفاتح هذا القائد بأمر الزواج، ولا سيما الآن، ولكنني أرى أن تخاطبه بشأنها من حيث نستلفت انتباهه، فإذا قلنا له مثلًا: إن الدهقانة شديدة الغيرة على أهل الشيعة، متفانية في نصرتهم، وإنها تحب أن تخدمه فيما يؤيد دعوته، وينصره على أعدائه، فمثل هذه الأقوال تستلفت أفكاره، فلعله إذا قابل الدهقانة مرة أو غير مرة بهذا الصدد، ثم رأى منها ما يدل على نصرته حقيقةً لا أظنه إلا ساعيًا للزواج منها. هذا ما أراه، وقد أكون مخطئًا.» قال ذلك وهزَّ منكبيه.

قال الضحاك: «لقد رأيتَ الصواب، ولعلك تكون واسطة في تمهيد السبيل لكي تقابله إذا اقتضى الحال. إني أقول هذا من عند نفسي، وأخشَى ألا تقبل هي.»

قال: «إني أكون لك كما تشاء جهد طاقتي.»

وكانت ملامح الضحاك قد اكتسبت في أثناء هذه المحادثة صورة الجد، وكاد المجون يذهب عنها، فلما سمع قول إبراهيم عاد إلى مجونه فالتقط ذيل جبته وأدارها حول إبراهيم، فاختفى فيها لقِصَره، فأجفل وانسحب من تحتها، فوقعت عمامته على الأرض فالتقطها وهو يضحك، فقال له الضحاك: «والله إنك رجل لطيف ومتواضع؛ لأنك خازن الأمير، وتحتمل سفاهة خادم مهذار مثلي.»

قال: «ما أظنك مهزارًا يا أخي، ولا بد لك من شأن. والآن ألا تأخذ الكيس بما فيه؟»

قال الضحاك: «ليس هو لي، وإنما سقط من القمر وأنت التقطته؛ فاحتفظ به لنفسك، وإذا وفيتَ لنا بوعدك، فلك عندنا من هذه الأكياس ما يُغنيك عن استبدال الدرهم بالدرهم سرًّا حتى تخشى خادمًا مهزارًا. هل فهمت؟ السلام عليكم.» قال ذلك وتناول نعليه بيديه، وهرول مسرعًا إلى ريحانة وقد تغير الطقس، وتلبدت الغيوم بغتة، وهبت الرياح وفيها هواء الشتاء. وكانوا في أوائل الربيع والطقس يتقلب فيه على غير انتظار.

١  ابن خلكان، الجزء الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤