الفصل الثالث والأربعون

أول الحيلة

فلنرجع إلى جلنار، فقد تركناها مع ريحانة — بعد ذهاب الضحاك في مساء الأمس — وهي جالسة في فراشها ملتفة بالمطرف، غارقة في لجج الهواجس، فلما خرج الضحاك ظلَّتْ برهة ساكتة مطرقة تفكر بما سمعته منه، وكلما تصورت إقدامها على قتل خطيبها ترتعد فرائصها، ويقشعر بدنها. وكانت ريحانة تلاحظ اضطرابها ولا تلومها؛ لعلمها بعظم ذلك الأمر على فتاة لم تتعود مثله. وبعد أن تعبت من التفكير توسَّدت الفراش تلتمس الرقاد، فظلت ريحانة جالسة بقربها حتى تحققت أنها نامت فذهبت إلى الرقاد.

وما أفاقت جلنار في الصباح إلا على قرع الطبول ونفخ الأبواق فذعرت ونادت ريحانة فاستفهمت عما تسمعه، فقالت: «رأيت الجند يتأهبون للهجوم على مرو.» فخفق قلبها وتوكَّأت على ريحانة حتى أطلت من باب الخباء فشاهدت مثل ما شاهدته المرة الماضية. وكانت قد ألفت هذا المنظر فلم يكن خوفها مثله في تلك المرة. ثم ما لبثت أن رأت خطيبها يسوق جواده نحوها وهو مدجج بالسلاح، وسيفه مجرد بيده، فلما رأته مقبلًا توارت حياءً، فناداها فأطلَّت فصاح والسيف مشهر بيمينه: «أبشري أيتها الدهقانة، إننا فاتحون مرو اليوم، وسنبيت الليلة في قصر الإمارة، إن شاء الله.»

فخجلت من قوله وساءتها تلك البشارة فتراجعت واستترت وراء ريحانة، فأجابته ريحانة عنها قائلة: «نصرك الله على أعدائك وبلَّغك مرادك.»

فاكتفى عليٌّ بذلك وهجم ورجاله في أثره، فلما بعدوا قالت ريحانة لسيدتها بالفارسية: «إني أرى الخراسانيين أيضًا هاجمين.» فأطرَبها ذكر الخراسانيين؛ لأن أبا مسلم فيهم، وتقدمت بحيث ترى ذلك الجند، فإذا هم يزحفون على مرو من الجهة الأخرى، فقالت: «إذا فتحوا مرو فإنما يفتحونها ببسالة أبي مسلم. أين هو يا تُرى؟»

فتطاولت ريحانة وجعلت تتفرَّس في الفرسان حتى وقع بصرها على الراية واللواء وهما يناطحان السحاب بارتفاعهما فقالت: «ينبغي أن يكون أبو مسلم هناك.» فحدَّقت جلنار ببصرها في تلك الناحية فرأت أبا مسلم، وقد عرفته من طوله ولون فرسه ولباسه الأسود، فتهلل وجهها فرحًا برؤيته، ولكنها ما لبثت أن أوجست خيفةً عليه من النبال المتساقطة وسلَّمت أمرها إلى الله.

ثم رأت عليًّا دخل مرو من تلك الناحية، ودخل أبو مسلم من الناحية الأخرى، فتحققت فوزهم فلم تدر أتفرح بذلك الفتح أم تحزن؛ لأنها تذكرت وعد ابن الكرماني أنه لا يتزوج بها إلا إذا فتح المدينة، وتذكرت قول ريحانة أنه لا يستطيع فتحها، فالتفتت إليها وقالت: «كم قلت إنه لا يقوى على فتح هذه المدينة، وها قد فتحها. ويلاه! لقد دنا أوان الخطر.» قالت ذلك ورجعت إلى غرفتها وجلست على الفراش وغلب عليها البكاء، وتبعتها ريحانة وأخذت تخفف عنها عبثًا، فقالت جلنار: «أين هو الضحاك يا تُرى؟ لعله يقدر على تخفيف ما بنا.»

فقالت ريحانة: «لا يلبث أن يأتي وعنده الدواء الناجع لهذه المصيبة.»

فأدركت جلنار تعريضها بقتل ابن الكرماني، فقالت: «ولكنه دواء أمرُّ من العلقم، ولا يمكني شربه. كيف أقتل رجلًا يحبني وإن كنت لا أحبه؟»

وآن وقت الغداء فتناولتاه وهما تتوقعان أن يبعث عليٌّ إليهما بالانتقال إلى قصر الإمارة، وإذا هما تسمعان دبدبة وصهيلًا وضوضاء، ثم علمتا أن جند الكرماني رجع عن مرو بعد فتحها، وظلت لأبي مسلم وحده، ولم تفهما السر في ذلك، فمكثنا تنتظران ما يكون وجلنار خائفة من ذلك الفتح، ثم نهضتا معًا، وجلنار لم تعد تصبر عن ريحانة لاستئناسها بها في تلك الشدة، حتى جلستا في غرفة الرقاد وجلنار تشكو وتتخوف. فلما رأت ريحانة قلقها قالت: «لا أدري لماذا تكرهين ابن الكرماني وهو يستهلك في هواك، ويجل مقامك ويحترمك، وخصوصًا بعد الذي أُوتيه من النصر بفتح هذه المدينة، وقد انتقم لأبيه؟!»

فأسرعت جلنار ووضعت يدها على فم ريحانة كأنها تمنعها من الكلام اشمئزازًا من الحديث، واكتفت بذلك جوابًا، فأدركت ريحانة أنها لا تود الخوض في هذا الموضوع، فسكتت وقد أخذتها الحيرة لا تدري كيف تنقذ سيدتها من ذلك المشكل، فتركتها في الغرفة وخرجت لتستطلع حال المعسكر بعد فتح مرو، فوجدت الخيام لا تزال في أماكنها، وقد أعيدت الخيول إلى مرابطها، وغرست الأعلام في مغارسها، وتطلعت إلى فسطاط الأمير عليٍّ فإذا هو لا يزال كما كان، والراية منصوبة ببابه وقد تزاحم وفود المهنئين والمنشدين، وسرَّها عودُ ابن الكرماني؛ لأنها كانت تظنه يبقى مع أبي مسلم في قصر الإمارة، فاطمأن بالها من هذا القبيل. وكانت الشمس قد مالت نحو المغيب فالتفتت نحو مرو، فرأت جماعاتٍ من الباعة خرجوا منها، وفيهم من يحمل فاكهة أو طعامًا أو ألعابًا ليتكسبوا ببيعها في ذلك المعسكر، بعد أن زال الحصار عن المدينة وكفت الحرب، وشاهدتْ في جملة الخارجين رجلًا طويلًا قادمًا نحو الخباء، فما لبثت أن عرفت أنه الضحاك، فاستبشرت بقدومه وأرادت أن تسرع إلى سيدتها، فأشار إليها أن تقف فوقفت، حتى إذا دنا منها أومأ إليها فدخلت معه الخباء بحيث لا يراهما أحد، فقالت: «ما وراءك؟»

قال: «هل من حيلة لنا في النجاة من ابن الكرماني غير قتله وقد فتح مرو وحق له الزواج؟ إلا إذا كانت مولاتنا تفضِّل الاقتران به. وهذا يرجع إلى خاطرها.»

قالت: «قد عرفت في هذه الساعة أنها لا تستطيع ذكر الاقتران به.»

قال: «فإذن؟»

قالت: «ولا تتصور الإقدام على قتله.»

قال: «وأنت أيضًا جبانة مثلها؟»

قالت: «أتريد أن أُقدم أنا على قتله؟ وكيف أقتله؟»

فضحك وتماجن وقال: «وهل القتل صياغة أو تطريز؟ ليس أهون منه على الإنسان، ولا يخيل لك أن المراد قتله بالمبارزة أو المطاعنة، وإنما هي حسوة أو لقمة وقضي الأمر.»

فسكتت ريحانة ولم تدر بماذا تجيبه، ولكنها صعدت كتفيها كأنها تقول: «لا يعنيني.»

فقال الضحاك والاهتمام بادٍ في وجهه: «لا ينبغي لنا أن نطاوع مولاتنا الدهقانة في ضعفها؛ فإنها لا تعلم شيئًا من أمور هذه الدنيا، وهي مع ذلك تريد الوصول إلى أبي مسلم، والوصول إليه لا يكون إلا بالخلاص من ابن الكرماني، وقد أتيتها بخاتمه شهادة على إرادته، فهي الآن أحوج من أبي مسلم إلى قتله؛ لأنه خطيبها، وكنا قيدناه بعهده ألا يقربها إلا بعد فتح مرو، وقد فُتحت وهو الذي فتحها، وتوافد عليه الشعراء والمهنئون، وبلغ قمة مجده؛ فهل من سبيل إلى دفعه بغير الموت؟ ولا يتم لنا ذلك إلا بقتله سرًّا.» ثم سكت وحكَّ ذقنه بسبابته، ثم حك وراء أذنه وقال: «طيب. أنا لا أُكلِّفك ولا أكلف الدهقانة أن تتوليا هذا الأمر مباشرة؛ فأنا أدبر الحيلة، ولكن ينبغي أن يكون ذلك بوجودكما، وأنا أسقيه ذلك الكأس بأسلوب لطيف، والأحسن ألا تطلعي الدهقانة على هذا العزم. إنما أطلب إليك أن تُسهِّلي الوصول إليه بحيث لا يعلم أحد من العالَمِينَ بقصدي. إيه؟»

فظلت ساكتة ولم تعلم بماذا تجيبه، ولكنها كانت في كل حال أصبر على هذا الأمر من جلنار وقد عاشرت الدنيا طويلًا، على أنها ما زالت مرتبكة لا تدري هل توافق الضحاك بغير استئذان سيدتها. فلما رآها الضحاك ساكتة علم أنها مرتبكة فقال لها: «قد فهمتُ ما يجول في خاطرك. لا تخافي سيجري كل شيء ولا يشعر به أحد؛ فاكتمي هذا الأمر عن الدهقانة، وسترين كيف أعمل عملي بلباقة وخفة.» قال ذلك وتحوَّل وهو يقول: «سأعود إليكم قريبًا، واحذري أن تُبيحي بذلك إلى أحد.»

فعادت ريحانة إلى سيدتها وهي تفكر في ماذا عسى أن تكون حيلة الضحاك وأسلوبه، فدخلت على سيدتها فسألتها عما كانت تعمله، فأخبرتها بما شاهدته من بقاء معسكر ابن الكرماني على حاله بمرابطه وفساطيطه وسائر أحواله، وأن عليًّا في فسطاطه كالعادة، وحدَّثتها نفسها أن تبيح لها بما قاله الضحاك، فتمالكت وسكتت لترى ما يكون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤