الفصل السابع والأربعون

الرحيل

أما جلنار فقد تركناها في غرفتها تحاول الرقاد ولا تستطيعه؛ لهول ما شاهدته تلك الليلة من الأمر العظيم، وريحانة إلى جانبها تخفِّف عنها، وتفكر في الورطة التي وقعتا فيها، وتبحث عن حيلة تنجوان بها من ذلك المعسكر قبل أن يُصبح الأمراء ويعلموا بموت ابن الكرماني فلا تدري كيف تتخلص منهم، فتذكَّرت الضحاك، فقالت لسيدتها: «الآن وقت الضحاك — قبَّحه الله — إنه لا يغيب عنا إلا في وقت الحاجة إليه.»

فقالت جلنار «وأين هو يا ترى؟ لا أظنه يتركنا الليلة وهو يعلم حالنا وما نحن فيه، ولا بد من مجيئه عاجلًا.»

فقالت ريحانة: «وإذا لم يأتِ؟»

قالت: «إذا لم يأت. ألا ترين أن نحتال في الذهاب إلى أبي مسلم في مرو؟»

فأطرقت ريحانة هنيهة ثم قالت: «وما قولك بالرجوع إلى بيت سيدي الدهقان فنقص عليه ما وقع، وهو لا شك إذا علم بفوز أبي مسلم وموت ابن الكرماني يرضى به بعلًا لك، فتُزفِّين إليه مكرمة معززة.»

فشق على جلنار أن تعود إلى بيت والدها وتبعد عن مقر حبيبها، فقالت: «ولماذا ذلك؟ ألسنا على مقربة من مرو؟ وقد كان أبو مسلم يؤجل أمرنا حتى يقتل ابن الكرماني ويفتح مرو، وقد تم له ما أراد؛ فهل تظنين عنده سببًا آخر يدعو إلى التأخير؟»

قالت: «لا أعلم يا سيدتي، ولكن لو كان هذا هو قصده وهو يعلم بمقتل ابن الكرماني؛ لوجب أن يرسل إليك مَن يحملك إليه الآن.» قالت ذلك وأطرقت.

فرفعت جلنار نظرها إلى ريحانة وتفرَّست في وجهها؛ لعلها تفهم شيئًا مستترًا وراء تلك العبارة، فرأت ريحانة مطرقة وفي وجهها ملامح الارتياب، فقالت لها: «وماذا تعنين بذلك؟»

قالت: «لا أعني شيئًا، ولكني أقول ما يجول في خاطري، وأنت تعلمين أني أرغب الناس في حفظ كرامتك. وعلى كل حالٍ، فإن زفاف الفتاة من بيت أبيها أحفظُ لكرامتها، غير أني لا أشك في مقاصد أبي مسلم في شأنك، ولكنني أحسبه مشتغلًا الآن بتدبير شئونه بعد هذا الفتح؛ فذهابك إلى بيت أبيك والانتظار ريثما يفرغ أبو مسلم من مهام الدولة لا يقلل شيئًا من حبه لك، أو رغبته فيك.»

وبينما هما في ذلك إذ سمعتا نحنحة في وسط الخباء فأجفلتا، ثم عرفتا أنها نحنحة الضحاك، فهرولت ريحانة وهي تتعثر في أذيالها من البَغْتة والفرح، وظلت جلنار جالسة في الفراش وقلبها يكاد يطير من شدة الخفقان، ثم رأت ريحانة عائدة ورجل يتبعها بقيافة غير قيافة الضحاك وقد تنكر في ثوب آخر — هو عبارة عن قلنسوة طويلة بدون عمامة، وجبة سوداء طويلة مثل زي أهل خراسان، وقد قصَّ لحيته وأطراف حاجبيه وقطَّبهما، فذهبت من وجهه أمارات المجون وأبطل التضاحك بحيث لا يراه أحد إلا أنكره. فلما عرفته جلنار هشَّتْ له — كما تهشُّ لأقرب الناس إليها — وابتسمت وهي تقول: «لقد صدق ظني. إنك لا تتركنا في هذه الحالة. ما الذي أصاب ذلك الرجل؟ هل تظنه يموت؟»

قال: «أظنه قد مات؛ لأني رأيت أهل فسطاطه في هرج واضطراب.»

قالت: «فما العمل الآن؟»

قال: «أرى أن ترجعي إلى بيت سيدي الدهقان.»

فلما سمعت ريحانة قوله التفتتْ إلى سيدتها ولسان حالها يقول: «ألم أقل لك ذلك؟»

فقالت جلنار: «وكيف نذهب؟»

قال: «نذهب بأخف ما عندنا وأنا أُدبِّر ذلك، ولكني أتوسل إليك منذ الآن أن تكتمي أمري عن كل إنسان.»

فاستغربت طلبه وقالت: «وماذا تعني؟»

قال: «أعني أني رهين إشارتك، ولا أزال عبدك وخادمك بكل ما تأمرين، ولكنني لا أحب أن يعلم أحد في الدنيا أني لا أزال حيًّا، ولا تسأليني عن السبب الآن. أما اسمي الجديد فهو صالح.»

فقالت: «سأفعل ذلك. فما العمل يا صالح؟»

قال: «سأعد كل شيء حتى نتمكن من الرحيل في الصباح باكرًا والناس في شاغل عنا.»

قالت: «ألا ترى أن ننتظر إلى غدٍ لعلَّ أبا مسلم يبعث بمن يحملنا إليه؟»

قال: «الأمر راجع إليك؛ إذا شئتِ بقينا، ولكنني لا أرى أبا مسلم يبعث إليك غدًا ولا بعد غد.»

فلم تستغرب قوله؛ لأنها سمعت مثله من ريحانة، ولكنه لم يعجبها فقالت: «وكيف لا يبعث إليَّ وأنت قلت لي إنه إنما أجَّل اجتماعنا ريثما يفرغ من الحرب، ويقتل هذا المسكين على يدنا؛ فأطعناه؟! فهل من سبب آخر للتأجيل؟»

فقال: «لا، ولكن أبا مسلم اليوم في شغل عظيم من أمر هؤلاء اليمنية بعد مقتل أميرهم، فإذا لم يتدبر أمرهم خشي عصيانهم أو انحيازهم إلى الخوارج. ومهما يكن من الأمر، فإن الذهاب إلى بيت أبيك أحفظُ لكرامتك، وليس ثمة ما يمنع أبا مسلم من أن يطلبك من مولاي الدهقان، فتُزفِّين إليه معززة مكرمة.»

فلم تر جلنار بدًّا من طاعته، فأذعنتْ وأشارتْ إليه أن يفعل ما يشاء.

فقال: «مُري الخدم أن يطيعوني ولا تقولي لهم إني الضحاك.»

فأشارت إلى ريحانة أن تفعل ما قاله، فخرجت ريحانة وقالت لقيِّمة الخباء: «إن هذا الرجل بعث به مولانا الدهقان الليلة ليرجع بنا إليه في الصباح؛ فاعملوا بإشارته.» فأخذ الضحاك في تدبير ما يلزم استعدادًا للمسير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤