الفصل الثالث والستون

أبو جعفر المنصور

وكان صالح قد علم بالقبض على إبراهيم ففرح لنجاح مسعاه، وتربَّص إلى الغد ليسرع إلى أبي سلمة ليخبره بما حدث، فلما أمسى المساء جلس للعشاء وهو لا يزال بملابس أهل الشام، وقد تنكر وصبغ لحيته بالحناء وجعدها بعد أن حشاها بالشعر؛ لتذهب خفتها، وتظاهر بالبَلَه، وجلس بعد العشاء في حجرته يتوقع أن يأتيه بعض أهل الإمام للاستشارة، بعد أن تحققوا من صدق نبوءته، وإذا بخادمه سليمان قد دخل وهو يقول: «إن بالباب رجلًا شريفًا يطلب مقابلتك.» فتظاهر بعدم رغبته في المقابلات في تلك الساعة؛ لانشغاله بالصلاة، ثم أذن للقادم، فدخل عليه شاب أسمر اللون، نحيف البدن، عليه قباء أصفر وعمامة سوداء، والهيبة تتجلى في وجهه مع صغر سنِّه.

فلما دخل علم صالح أنه أبو جعفر المنصور — وكان قد عرفه من قبل، والمنصور لا يعلم — فقال صالح في نفسه: «إنما جاء الرجل لأمر هام.» فأعمل فكرته لإتمام الحيلة، فوقف له ورحب به قائلًا: «مرحبًا بصاحب القباء الأصفر.»

فلما سمع المنصور قوله بُغت وتحقق من كرامته واطِّلاعه على الغيب، فأسرع إليه واستأذنه في الجلوس، فجلسا وصالح يبتسم كأنه يضمر شيئًا، فقال له المنصور: «لقد جئتك في مهمة سرية؛ لأني تحققت من كرامتك، فهل أبوح لك بما في نفسي؟»

قال: «سواء عندي أبحت أم كتمت، فإني عالم بما في نفسك؛ فإذا أحببت أن أطلعك على ما في ضميرك فعلت، وإذا شئت أن تقول فإني سامع.»

فازداد المنصور إعجابًا بالرجل وقال: «قد تحققتُ من صدق كرامتك من أول كلمة سمعتها منك، وإنما أطلب إليك أن تخرج خادمك لنخلو برهة.»

فأشار صالح إلى الخادم فخرج، وأخذ صالح يعبث بلحيته وهو مطرق يجيل عينيه في جوانب الحجرة كأنه يفتش عن ضائع، ثم تمتم ليوهم جليسه أنه يصلي، فابتدره المنصور قائلًا: «أتعلم لماذا جئتك؟»

وكان صالح يعلم أن هؤلاء لا يهجسون بغير الخلافة، وكلٌّ منهم يطمع فيها لنفسه، فقال له: «جئتني لأمر يتعلق بالخلافة.»

قال: «نعم. لذلك جئتك؛ فاصْغِ لي وأشِرْ عليَّ، ولكن أخبرني قبل كل شيء هل أنت تستطلع الغيب بالولاية أو بالتنجيم؟» وكان المنصور شديد الاعتقاد بالتنجيم وصِدْق المنجمين.

فقال صالح: «بكليهما؛ لأني أمارس التنجيم الروحاني فأطَّلع على المخبآت بمراقبة النجوم، ولكنني لا أستخدم الأسطرلاب. تفضل قل ما تريد فإني سامع.»

قال: «قد عرفت صدقك من إنذارك إيانا في صباح هذا اليوم، ولم يسعدنا الحظ بالاطلاع على الحقيقة إلا بعد فوات الفرصة، فأخذوا أخي الإمام إبراهيم أسيرًا، ولا ندري ماذا يكون مصيره، غير أننا لا نرجو بقاءه. وقد أنبأنا هو بذلك، وأوصانا وصية تتعلق بالبيعة.»

فقطع صالح كلامه وقال: «البيعة لك.» لعلمه أن تلك البشارة أفضل ما يتقرب به الناس من هؤلاء الأشراف.

فقال: «وما أدراك أنها لي؟ فقد بويع بها أخي أبو العباس الليلة.»

قال صالح: «بل هي لك، إن لم يكن عاجلًا فآجلًا.» قال ذلك خداعًا للمنصور؛ لعلمه أن قوله يجتذب قلبه نحوه، وما ضرُّه لو لم تصح نبوءته وقد أجَّل وقوعها لوقت لم يحدده؟!

وكان المنصور من أهل الذكاء والدهاء، ولكنه سبق إلى اعتقاده صدق صالح من أول نبوءة، وتوسم الولاية في وجهه بما شاهده من بلاهته، فقال له: «إنما جئتك لهذه الغاية، وقد تحققت من صدقك منذ ناديتني بصاحب القباء الأصفر.»

ولم يكن صالح قد قال ذلك لغرض، ولكن اتفق أن لهذه العبارة حكاية أخذ المنصور يقصُّها عليه؛ فقال وهو يشير إلى قبائه: «إن هذا القباء يشهد بصدقك؛ فقد اجتمع بنو هاشم منذ مدة في المدينة وأنا معهم للنظر في أمر البيعة لمن تكون بعد ذهاب دولة بني أمية، وكان الإمام جعفر الصادق حاضرًا فقال: «لا ينال الخلافة إلا صاحب القباء الأصفر.» وكنت لابسًا هذا القباء، فوعدت نفسي بهذا الأمر، ورتبت العمال من تلك الساعة.»١

ففرح صالح لهذه المصادفة وأخذ يستخدم دهاءه لإتمام الحيلة فقال: «ألم أقل لك ذلك؟»

قال: «نعم، ولكن الواقع خلاف ما ذكرتَ؛ فقد بايعوا قبلي لأخي إبراهيم، ولما ساقوه اليوم إلى السجن بايع لأخي أبي العباس، وأوصانا أن نذهب إلى شيعتنا في الكوفة.»

فقطع صالح كلامه كأنه لا يريد أن يسمع قوله وقال: «لا، لا، بل أنت الخليفة. هذا الذي أعرفه ولو بويع بها كل أهلك، فإنها صائرة إليك. أبشر بها من الآن، وسترى ونرى إن شاء الله.» قال ذلك ووقف كأنه يريد أن يصرف جليسه، فلم يعبأ المنصور بتدﻟُّله؛ لعلمه أن أهل الكرامة يغلب فيهم غرابة الطباع، فوقف وهو يقول: «ما بالك؟»

قال صالح: «لقد آن وقت رجوعي إلى بيتي.»

فقال المنصور: «ألا تمكث معنا فنذهب سويًّا إلى الكوفة، فإذا صح قولك كافأناك؟»

فقال صالح: «يا حبذا ذلك! ولكنني مضطر للذهاب إلى المدينة بجوار قبر الرسول، وأما الكوفة فلا أعرفها، ولا أريد الذهاب إليها.»

قال المنصور: «أتشير علينا بالذهاب إليها؟»

قال صالح: «كيف لا وفيها أبو سلمة؟»

فاستغرب معرفته اسم أبي سلمة بعد أن قال إنه لا يعرف الكوفة، فقال له: «أما من سبيل إلى استبقائك معنا؟»

قال صالح: «إن بقائي أو ذهابي ليس بإرادتي؛ فقد كنت مقيمًا في المدينة، ولا أعرف هذا البلد من قبل، فسمعت الهاتف يأمرني بالمجيء بهذه المهمة، ووصف لي البلد فجئت كما علمت، ولكنكم لم تصدقوني فأصابكم ما رأيت، وربما يأتيني هاتف آخر بأمر يتعلق بك فآتيك حيثما تكون. أما الآن فأطلب إليك أن تأذن في انصرافي.»

وكان المنصور مع اعتقاده بالولاية والتنجيم صاحب دهاء ومكر، فلما رأى صالحًا يبالغ في التباعُد عنه بعد أن طلب إليه البقاء معه، تحقق أن الرجل لا غرض له غير الصدق؛ إذ لو كان من أهل النفاق لاغتنم تلك الفرصة للبقاء معه، ولا سيما بعد اعتقاده أنه سيكون خليفة، فغلب في ظنه صدقه، وود لو يرافقه ليستعين به في الاطلاع على المخبآت؛ لأن المنصور شديد الاعتقاد في التنجيم، كثير الاعتماد على المنجمين،٢ فلما لم ير حيلة في إبقائه قال له: «ما اسمك؟ وأين مقامك؟ حتى إذا وُفِّقت إلى الخلافة قرَّبتك واستعنتُ بعِلْمك؟»

فقال صالح: «لا تفيدك معرفة اسمي ولا مكاني. دعني أنصرف الآن وسآتيك عند الحاجة، وربما جئتُ عاجلًا؛ لأني أشعر بظُلمة تُحدِق بخلافتك إذا انقشعت ظهرت الحقيقة. أما الآن فإني منصرف.» قال ذلك ونادى غلامه، فقال المنصور: «إذا كنت مُصمِّمًا على الذهاب فأستودعك الله.» وخرج.

١  الفخري، ١٤٧.
٢  ابن الأثير، الجزء الخامس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤