الفصل السابع والستون

الفشل

وظل سائرًا حتى وصل إلى دار النساء — وهي على مقربة من قصر أبي سلمة — فالتقى بسليمان، وكان واقفًا بالباب ينتظر مجيئه، فسأله عن جلنار فقال: «هي في خير، ولكنها قلقة لطول غيابك، وكانت تتوقع سرعة مجيئك إليها.»

فقال صالح: «إنما تأخرت لأمر هام. أين هي الآن؟»

قال سليمان: «هي في هذه القاعة ومعها ريحانة.» وأشار إلى قاعة داخلية.

فقال صالح: «ادع لي أحد الخصيان.»

فذهب وعاد بخصي أبيض، فوقف بين يديه متأدبًا، فقال له صالح: «أخبر ضيفتكم الخراسانية أني أريد مقابلتها.» ولم يذكر اسمها لرغبته في كتمان أمرها لأسباب تقدَّم بيانها. ولم يكن أحد يعلم بحقيقتها غير أبي سلمة وزوجته وبعض الجواري. فذهب الخصي ثم عاد ودعاه إلى قاعة تؤدي على الخارج بباب خاص لمثل هذه المقابلة، فدخل صالح واستقبلته جلنار باسمة — وكانت لم تبتسم منذ أن انتابتها تلك المصائب — فانشرح صدر صالح برؤيتها. ولعله أظهر الانشراح لأنه يضمر أمورًا هي أكبر شأنًا عنده مما يظهره من رغبته في قيام الدعوة العلوية وسقوط العباسيين والأمويين، ولو خيَّروه لاختار ذهابهم جميعًا؛ لأن الخوارج لا يرون الحكم لأحد من هؤلاء، وهو من كبار أمراء الخوارج، كما علمت، ولكن الأحوال ساقته إلى الاهتمام بشأن هذه الفتاة والانتقام لها من أبي مسلم، بل هو انتقام لنفسه؛ لأن أبا مسلم تعمد قتله، على أنه لا يبالي أن يضحي بجلنار في سبيل ذلك.

فلما دخل صالح إلى القاعة حيَّا تحية مشتاق، فابتدرته ريحانة بالترحاب والسؤال عن حاله إلى أن قالت: «لقد شغلت بالنا بتأخُّرك إلى الآن. وقد أخبرنا سليمان أنك أتيت منذ عدة ساعات.» قالت ذلك وفي صوتها نغمة العتاب.

فقال صالح: «كان ينبغي لي أن أسرع بالمثول بين يدي مولاتنا الدهقانة على عجل، ولكنني أحببت أن أفاوض أبا سلمة في بعض الشئون الهامة لتدبير ما يساعدنا على إتمام ما نبتغي.»

فقالت جلنار: «قد بلغني من سليمان ما بذلته من المشقة والجهد في سبيل غرضنا، وأنك جعلت مروان الأموي يقبض على إبراهيم الإمام ويحبسه، إلى غير ذلك؛ فبورك فيك، وكنت أحب أن أسمع تفصيل هذا الخبر منك.»

فأشار برأسه إشارة الطاعة وقال: «إن سليمان لم يعرف من أعمالي إلا بعض ظواهرها. هل أخبرك بأننا قتلنا ذلك الإمام؟»

قالت جلنار: «كلا. هل قتلتموه؟»

فقال صالح: «نعم.» وقصَّ عليها قصة سفره وما دبَّره من الحيل وانتحله من الأسباب حتى نجح في مهمته، فأحست بانفراج كربتها كأنها انتقمت لوالدها، وشعرت بعظم دَينِها لصالح حتى غدتْ لا تعرف كيف تُبدي شكرها له؛ لاعتقادها أنه يفعل ذلك في سبيل مصلحتها. وقد سرَّه ما بدا من سرورها، وساءه تذكُّر ما لا يزال يضمره من أمر إبراهيم الخازن واطِّلاعه على مقرهم هناك. فإذا لم يقبض العيار عليه تمكَّن من الرجوع إلى خراسان، وكانت المصيبة كبيرة عليها وعلى أبي سلمة. ولما تذكَّر خراسان خطر بباله ابن كثير، وتذكر الرسالة التي بعث بها إليه مع ذلك السائس الأبكم، والتفت إلى ريحانة وقال لها: «ألم يعد ذلك السائس من مهمته؟»

فضحكت ريحانة وقالت: «عاد منذ بضعة أيام.»

فاستغرب ضحكها، ورأى جلنار تضحك معها، كأنهما تكتمان خبرًا مضحكًا، فقال لها: «ما بالك تضحكين؟ ألم يبلغ رسولنا الرسالة كما يجب؟»

قالت ريحانة: «لا أضحك على ذلك، فإنه بلَّغها كما ينبغي، ولكنني تذكرت حاييم العرَّاف الذي جاء معه.»

فخفق قلبه عند سماع ذلك الاسم واضطربت جوارحه وقال: «أي عرَّاف؟ ومن هو حاييم هذا؟»

قالت ريحانة: «هو عراف يهودي من أهل حران التقى به سائسنا أثناء رجوعه من مهمته.»

فعلم صالح أنها تعني إبراهيم الخازن، فخشي أن يكون قد اطَّلع منها على شيء، فقال: «وما الذي أضحكك من هذا العرَّاف؟»

قالت ريحانة: «أضحكني منه أنه خفيف الروح، كثير المجون، فضلًا عن مهارته في استطلاع الخفايا بالتنجيم. إني لا أنسى حركاته في استخدام الأسطرلاب؛ فقد أضحكنا كثيرًا، ولولا السائس لم يتيسر لنا الاجتماع به. وقد كان لمولاتي الدهقانة تسلية كبرى في أثناء انتظارها رجوعك. ومع خفة روحه، فإنه نادر المثال في استطلاع الخفايا، وقد رأينا منه المعجزات.»

فازداد خوف صالح وقال لها: «ما الذي كشفه لكم من الخفايا؟»

قالت ريحانة: «كشف لنا عن أشياء كثيرة، وأغرب ما في مهارته أنه كان يطلعنا على أسرارنا بالإشارة، ولا ينطق لفظًا.»

فتحقق صالح أن ذلك العرَّاف لم يكشف لهم سرًّا، ولكنه ساقهم إلى كشف أسرارهم بالإشارات المبهمة على عادة أولئك المشعوذين في مثل هذه الحال، فإنهم يستخدمون إشارات تنطبق على عدة معانٍ، فإذا كان السائل يعتقد صدق العرَّاف فسَّر إشارته وأوَّلها حتى توافق ما في نفسه، فيبوح بسرِّه وهو يحسب أن المنجم قد كشفه بمهارته، فأيقن صالح أن ذلك اليهودي اطلع على أخبارهم بالتنجيم على هذه الصورة، فاستعاذ بالله وهزَّ رأسه، وظهر الارتباك في عينيه، فظنَّته ريحانة لم يصدقها فقالت: «يظهر أنك لم تصدقني، فاسأل مولاتي كيف قصَّ عليها حديث والدها ومقتله، وفرارها معك إلى هنا حتى ذهابك إلى الشام.»

فلم يتمالك صالح أن صفق تصفيق الخاسر، ووثب من مجلسه وهو يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.»

فبهتت جلنار وريحانة ولم تفهما سبب وثوبه وبغتته، فقالت جلنار: «ما بالك يا صالح؟ لماذا فعلت ذلك؟»

فوقف بين يديها والغيظ يكاد يتقطر من شفتيه وقال: «لم يبق لنا مقام هنا؛ فقد افتضح أمرنا. خدعكم ذلك اليهودي الخبيث واستطلع أسراركم. لعنك الله يا إبراهيم، ولعن الساعة التي رأيتك فيها.»

فابتدرته ريحانة قائلة: «ليس هو إبراهيم، وإنما هو حاييم.»

فقال صالح: «بل هو إبراهيم اليهودي؛ خازن أبي مسلم الذي سقاني السم كما سقى ابن الكرماني وهو يرقص بجلد الدب. هذا هو بعينه، وقد رأيته في هذا الصباح خارجًا من عند أبي سلمة، بعد أن كشف له عن سرِّه أيضًا، ولولاكما لم يستطع ذلك؛ لأنكما ساعدتماه على استطلاع حقيقة خبري، فساعده ذلك على خداع أبي سلمة حتى توهَّم فيه القدرة على معرفة الغيب، فباح له بأسراره.»

قال ذلك وهو يخطر في الغرفة جيئة وذهابًا، وجلنار وريحانة تتشاوران كأنهما تندمان على الثقة بذلك العرَّاف، وقد تولَّتهما الدهشة وجمد الدم في عروقهما، وغلب الخوف على جلنار حتى ترقرقت الدموع في عينيها، وساءها أن تكون هى السبب في كشف ذلك السر، فتتحمل تبعة ما يترتب على كشفه من الأذى — وليس على الإنسان أثقل وطأة من تلك التبعة ولو تحملها من نفسه على نفسه — فلما رآها صالح في ذلك الاضطراب، أراد أن يخفف عنها فقال: «ولكنني سأدبِّر تدبيرًا حسنًا وأقتله أفظع قتلة، وكل آتٍ قريب.»

فقالت ريحانة: «وكيف تقتله؟»

قال صالح: «قد أطلعت أبا سلمة على حقيقة أمره فأنفذ بعض العيارين للقبض عليه حيًّا أو ميتًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤