الفصل الرابع

مستويات الانتخاب

إن مسألة «مستويات الانتخاب» هي أحد أهم المسائل في علم الأحياء التطوري، ومحل كثير من الجدل. لفهم المسألة، تأمَّل أحد التفسيرات الداروينية التقليدية كالتي ناقشناها في الفصل الثاني، على سبيل المثال لماذا تطورت صفة العَدْو بسرعة هائلة لدى الفهود. قد يكون التفسير كما يلي:

في الماضي، كان هناك تباين في سرعة عَدْو الفهود. وكانت الفهود الأسرع أقدر على اصطياد الفرائس، لذا كانت تتمتع بأفضلية في البقاء فتركت ذرية أكثر. علاوة على ذلك، كانت سرعة العَدْو وراثية؛ فكانت ذُرية الفهود الأسرع تنزِع إلى سرعة العَدْو. هكذا على مدى أجيال عديدة، تطوَّرت سرعة عدو الفهود لتصير أسرع فأسرع.

وفق هذا التفسير، تحدث عملية الانتخاب الطبيعي التي تُفسِّر تطور صفة ما على مستوى الكائن الفرد. فالبقاء التفاضلي «لأفراد من الفهود» — حقيقة أن بعض الفهود أصلح للبقاء من غيرها — هو الذي يؤدي إلى التغيير التطوري. (بعبارة أخرى، «وحدة الانتخاب» هي الفرد.) هناك نقطة وثيقة الصلة وهي أن الصفة المعنية — سرعة العَدْو — تُفسَّر من خلال الميزة التي تمنحها الصفة للفهد الفرد، لا لكيان أكبر مثل نوع الفهود بأكمله مثلًا. إذَن لو صح ذلك التفسير، فستكون تلك الصفة صفة تكيفية للفهود المنفردة.

في معظم الوقت، يهتم المتخصصون في علم الأحياء التطوري بالانتخاب والتكيف على مستوى الفرد كما في مثال الفهد. لكن نظريًّا على الأقل، توجد احتمالات أخرى. فالعالم البيولوجي منظم في تسلسل هرمي، تندرج فيه الكيانات البيولوجية الأصغر تحت كيانات أكبر. يقع الكيان الذي نطلق عليه «الكائن الفردي» في مكان بالقرب من منتصف هذا التسلسل الهرمي. دون الفرد، نجد كيانات مثل الخلايا والكروموسومات والجينات؛ وأعلاه، نجد كيانات مثل العائلات والمستعمرات والأنواع. وقطعًا، يمكن أن يخضع العديد من هذه الكيانات نظريًّا للتطور الدارويني، إذ ينطبق عليها أحد أشكال التكاثر. مثلما تؤدي الكائنات الحية إلى نشأة كائنات أخرى، كذلك تفعل الجينات والخلايا والمستعمرات والأنواع. فأكثر أنواع الانتخاب الطبيعي شيوعًا، النوع الذي ينطوي على منافسة انتخابية بين الأفراد، ليس هو النوع الوحيد الممكن.

دون مستوى الفرد، يمكن تمييز نوعَين من الانتخاب. الأول هو الانتخاب من بين الخطوط الخلوية المختلفة خلال عمر الكائن الحي متعدد الخلايا، والمعروف باسم «انتخاب الخلايا الجسدية». يحدث هذا في الجهاز المناعي للفقاريات وأثناء نمو الجهاز العصبي وعند الإصابة بمرض السرطان. في تلك العملية، الخلايا هي الكيانات التي تتباين، ومِن ثَم تتكاثر بشكل تفاضلي، وتنقل سماتها إلى نسلها. هذا الانتخاب الذي يحدث على مستوى الخلية يلعب دورًا في النمو، لكنه نادرًا ما يكون له تبعات تطورية طويلة الأمد في الكائنات الحية الحديثة، لأن تأثيراته تنحصر في فترة حياة الكائن الحي. أما النوع الثاني من الانتخاب دون الفردي فمختلف. إذ فيه يحدث انتخاب بين الجينات في الكائن الحي الواحد. وهو يرجع إلى أنه في التكاثر الجنسي، تنتقل نصف جينات الكائن الحي فقط إلى ذريته. لذلك يمكن أن يقع نوع من المنافسة الانتخابية تجد من خلاله بعض الجينات وسائل لزيادة احتمال انتقالها على حساب جينات أخرى. مثل هذا الانتخاب على المستوى الجيني له تبعات طويلة الأمد نفصلها فيما يلي.

لكن نقطة انطلاقنا ستكون الانتخاب فوق مستوى الفرد، والمعروف بشكل عام باسم «انتخاب المجموعة». ثمة خلاف دائر حول ما إذا كان الانتخاب الطبيعي يعمل على مستوى الجماعة، ومِن ثَم ما إذا كانت توجد صفات تطورت لأنها تفيد المجموعات لا الأفراد. هذا السؤال هو محور جدل دائر منذ عقود في علم الأحياء، ولا تبدو أي بوادر لحله، وهو ما قد يثير الدهشة.

الإيثار والانتخاب الجماعي

في السابق، لجأ علماء الأحياء إلى مبدأ الانتخاب الجماعي للمساعدة في حل لغز الإيثار في الطبيعة. مصطلح «الإيثار» في علم الأحياء يشير إلى أي صفة أو سلوك مكلف للكائن الحي الفرد، من حيث تقليله لصلاحيته وَفْق المفهوم الدارويني، لكنه يفيد الكائنات الأخرى. الإيثار بهذا المعنى موجود بكثرة في الطبيعة. تأمل النحلة التي تهاجم الدخلاء على الخلية بلدغهم. لمَّا كانت النحلة تموت إثر استخدامها إبرة اللدغ، ففعلها قطعًا لا يعزز من قدرتها على البقاء؛ إنما يكون المنتفع من فعلها أقرانها في الخلية. تأمَّل كذلك النداء التحذيري الذي يصدره قرد الفرفت عندما يرى حيوانًا مفترسًا. بإطلاقه ذلك النداء، يلفت القرد الانتباه إلى نفسه، وهو ما يضعه في خطر، ولكنه ينبه رفاقه إلى وجود خطر. أو تأمَّل بكتيريا الزائفة الزنجارية التي تُطلِق في البيئة مواد كيميائية تُسمَّى حاملات الحديد استجابة لنقص الحديد. يُعد هذا فعلًا يعود بالضرر على البكتيريا نفسها، ولكنه يُفيد البكتيريا المحيطة بها، إذ يحرر الحديد المرتبط بالمضيف من أجل الأيض البكتيري. توجد أمثلة لا حصر لها على ذلك.

ظاهريًّا، يبدو الإيثار محيرًا. أليست النظرية التطورية تتنبأ بتطور الصفات التي تحسن الصلاحية البيولوجية للفرد نفسه لا غيره؟ على الرغم من ذلك فأثر سمات الإيثار عكس ذلك تمامًا. إذ يتكبد الفرد الذي يتصرف بإيثار خسارة لا يتكبدها نظراؤه الأنانيون، وعليه ينبغي أن يحابيَ الانتخاب الطبيعي الأنانيين. فالقرد الذي لا يطلق نداء تحذير أو النحلة التي لا تهاجم الدخلاء أو البكتيريا التي لا تصنع حاملات الحديد سيكون لها أفضلية انتخابية على غيرها مما لا تفعل تلك الأشياء، إذ تستفيد من إحسان الآخرين دون أن تتكبد هي أي خسائر. كيف إذَن يمكن للإيثار أن يتماشى مع مفاهيم التطور الأساسية؟

هنا تبرز أهمية الانتخاب الجماعي. على الرغم من أن السلوك الإيثاري مُكلِّف بالنسبة للفرد، فإنه يحتمل أن يكون ذا فائدة على مستوى الجماعة. أي إن الجماعة التي تتكون في الغالب من أفراد مُؤثرين لغيرهم يتعاونون جميعًا لأجل الصالح العام، قد تتمتع بأفضلية للبقاء على جماعة من الأفراد الأنانيين الذين لا يهتم كل منهم إلا بنفسه. لذلك إذا تصوَّرنا عملية تتنافس فيها جماعات لا أفراد، فقد نجد أن الجماعات التي تزدهر هي تلك التي تشيع فيها سمات الإيثار. باختصار، يَصعُب تفسير الإيثار باعتباره نتيجة للانتخاب على مستوى الأفراد، لكنه قد يحتمل أن يتطور من خلال الانتخاب على مستوى الجماعة.

من اللافت أن منطق هذه الحُجة حظي باستحسان داروين نفسه. فمع أنه كان ينزِع إلى فكرة الانتخاب الفردي، فإنه مر سريعًا على فكرة الانتخاب الجماعي أكثر من مرة. في كتابه «أصل الإنسان» (١٨٧١) ناقش داروين فكرة كيف يحتمل أن تكون سلوكيات التضحية بالذات، التي يخاطر فيها الفرد بحياته لأجل القبيلة، قد تطورت عند البشر الأوائل. إذا نظرنا من منظور الانتخاب الفردي، فسنرى أن ذلك سلوك يُفترض أن ينبذه الانتخاب. كما قال داروين، «من كان يُؤْثر التضحية بحياته … على خيانة رفاقه، ففي الأغلب لن يترك ذرية تَرِث طبعه النبيل». ولكنه ذهب إلى أن حدوث عملية انتخاب جماعي تتنافس فيها الجماعات قد يكون هو التفسير: «إن القبيلة التي تضم أفرادًا كُثْرًا … مستعدون دائمًا لأن يمدوا يد العون بعضهم لبعض وأن يضحوا بأنفسهم من أجل الصالح العام، ستنتصر على معظم القبائل الأخرى؛ وسيعد ذلك انتخابًا طبيعيًّا». هكذا فهِمَ داروين أن الانتخاب الطبيعي يمكن أن يحدث على أكثر من مستوًى هرمي، وأن الانتخاب على مستوى الجماعة يمكن أن يفسر أشياء لا يستطيع الانتخاب الفردي أن يفسرها.

نقد الانتخاب الجماعي

على الرغم من ريادة داروين في تناولها في وقت مبكر، ظلت مسألة مستويات الانتخاب خاملةً لسنوات عديدة قبل أن يُعيد علماء الأحياء إيقاظها في ستينيات القرن الماضي. كان أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو كتاب نشره جورج إس ويليامز عام ۱۹٦٦ بعنوان «التكيف والانتخاب الطبيعي». كان هدف ويليامز المعلن هو أن يدخل شيئًا من «الانضباط» على علم الأحياء التطوري. كان ما يثير قلقه هو وجود اتجاه منتشر بين علماء الأحياء في ذلك الوقت ينظر إلى التكيُّف من حيث منفعة الجماعة لا الفرد، غير مدركين على الأغلب أن الانتخاب الفردي لن يؤديَ بالضرورة إلى نتائج مفيدة للمجموعة. أصبح هذا النهج الخاطئ للتفكير، الذي كشفه ويليامز بكفاءة، يُعرف باسم «الانتخابية الجماعية اللاواعية» أو «مغالطة صالح الجماعة».

لتوضيح وجهة نظر ويليامز، لنتأمل حُجَّة قدَّمها كونراد لورينز، عالم الأحياء النمساوي الحائز على جائزة نوبل عن أبحاثه الرائدة في سلوك الحيوان. أراد لورينز تفسير ظاهرة القتال الشكلي عند ذكور الغزال. يتواجه الذكران المتنافسان على الإناث مشابكين قرونهما الضخمة، ولكنهما نادرًا ما يشتبكان في قتال فعلي. تساءل لورينز لماذا لا يقتل الغزال الأقوى منافسه؟ وكانت إجابته أنها ستكون خَسارةً للنوع إذا اشتبك الذكور في القتال مع رفقائها من نفس النوع على نحوٍ متكرر. هل هذا تفسير جيد؟ ذهب ويليامز إلى أنه ليس كذلك. قد يكون في تقاتل الذكور خَسارةً للنوع فعلًا، لكن هذا ليس سبب عدم اقتتالهم. أصرَّ ويليامز على أن التفسير الصحيح يجب أن يوضح سبب كون هذا السلوك مفيدًا للغزال الفرد، وليس لجماعة أكبر ينتمي إليها.

كي نفهم الخطأ في منطق لورينز أكثر، لنستعرض تشبيهًا. هب أن عالم أحياء يرغب في تفسير سبب امتلاك ديدان الأرض وظائف حيوية تُمكِّنها من الحفر بكفاءة في التربة. تأمل الإجابة التالية: «يساعد الحفر في تهوية التربة، مما يحسن الصرف، مما يفيد النظام البيئي المحلي. ومِن ثَم، طوَّر الانتخاب الطبيعي الوظائف الحيوية اللازمة للحفر لدى ديدان الأرض.» هل هذا تفسير جيد؟ يمكن القول إنه ليس كذلك. صحيح أن الحفر يؤدي إلى تهوية التربة، وهو ما يفيد النظام البيئي المحلي فعلًا، إلا أن «هذا ليس سبب تطوُّر سلوك الحفر لدى ديدان الأرض». كي يُعد التفسير جيدًا، يجب أن يوضح السبب الذي يجعل سلوك الحفر والوظائف الحيوية التي تسمح به مفيدًا بالنسبة لدودة الأرض نفسها، لا لكيان أكبر كالنظام البيئي. كان هذا هو مقصد ويليامز الرئيسي.

عند طرحه لهذه الحُجة، كان يفترض ويليامز أن الصفات محل البحث — مثل القتال الشكلي وفسيولوجيا دودة الأرض — تطوَّرت عن طريق الانتخاب على مستوى الفرد. باعتبار هذا الافتراض، فمن الواضح أن وجهة نظر ويليامز صحيحة. إذ إن الانتخاب الفردي سيؤدي إلى تطور الصفات المفيدة على مستوى الفرد؛ مثل هذه الصفات قد تكون أو قد لا تكون، في المجمل، ذات فائدة للجماعة أو النوع الذي ينتمي إليه الفرد. وحتى إذا كانت هذه الصفات مفيدةً للمجموعة، فهي ليست حالة تكيُّف جماعي حقيقية، بل هي ما أسماه ويليامز «الفائدة الجماعية العارضة». لملاحظة هذا الفارق، لنتأمل مجددًا قدرة الفهد على العَدْو بسرعة. قد تحمل هذه الصفة بالفعل فائدة لصالح نوع الفهود ككُل، إذ تساعدها على تجنُّب الانقراض، لكن ليس هذا هو السبب الذي أدَّى إلى تطوُّر صفة العَدْو السريع لدى الفهود. العدو السريع هو صفة تكيفية لدى الفهود المنفردة، يصادف أنه مفيد للجماعة أيضًا، لكنه ليس تكيفًا على مستوى الجماعة. جادل ويليامز بأن عدم إدراك هذه النقطة المنطقية قد أدَّى إلى ارتباك كبير في علم الأحياء.

كان ويليامز يدرك أن الانتخاب على مستوى الجماعة ممكن الحدوث؛ وأنه إذا حدث، فسيؤدي إلى تكيف جماعي حقيقي، أي تطور الميزات المفيدة للجماعة لأنها مفيدة للجماعة. ولكنه جادل بأنه من غير المرجح أن يكون الانتخاب الجماعي عاملًا مهمًّا في التطور. هذا لأن المدة الزمنية لجيل من الأفراد عادة ما تكون أقصر من تلك التي للمجموعات، لذا فالانتخاب الفردي هو بطبيعته الأكثر تأثيرًا. مِن ثَم ذهب ويليامز إلى أنه يجب على علماء الأحياء عدم اللجوء إلى حُجة انتخاب المجموعة ما لم يكن ذلك ضروريًّا للغاية. هذا الجانب من حُجة ويليامز أكثر إثارة للجدل من حُجته المنطقية المذكورة أعلاه (المقبولة على نطاق واسع). يوافق العديد من علماء الأحياء ويليامز في أن الانتخاب الجماعي له تأثير تطوُّري ضعيف، وأنه توجد نماذج رياضية تدعم هذا الاستنتاج؛ ومع ذلك توجد أقلية مُعتبَرة تختلف مع هذا. فإجابة هذا السؤال لم تُحسَم بعد.

ماذا عن الإيثار؟ كما رأينا، فإن السبب التقليدي للانجذاب إلى الانتخاب الجماعي كان تفسيره لكيفية تطور الإيثار، باعتبار أنه غير مفيد على مستوى الفرد. لكن إذا لم يَكُن الانتخاب الجماعي هو الإجابة، فما هي إذَن؟ هذا سؤال يقودنا مباشرة إلى فكرة انتخاب الأقارب، وهي من أشهر أفكار علم الأحياء التطوري في القرن العشرين.

انتخاب الأقارب

الفكرة الأساسية لانتخاب الأقارب واضحة ومباشرة. تأمَّل جماعة تضم نوعين من الكائنات الحية، الإيثارية والأنانية، يسلك كلٌّ منهما سلوكًا مختلفًا تمامًا. يأتي الأفراد الإيثاريون بأفعال مكلفة بالنسبة لهم لكنها تفيد الآخرين، مثل تنبيههم لوجود خطر. بينما لا يأتي الأفراد الأنانيون بمثل تلك الأفعال. دعنا نسأل: أي النوعين سيفضله الانتخاب الطبيعي؟ إذا استبعدنا احتمال الانتخاب الجماعي، فسيبدو أن الانتخاب سيفضل الفرد الأناني. فالأفراد الأنانيون يستفيدون من وجود أفراد آخرين إيثاريين في الجماعة دون تكبُّد أي تكلفة. فبالتالي يفترض أن ينحي الانتخاب الطبيعي الأفراد الإيثاريين.

هذه الحُجة صحيحة، لكنها تستند إلى افتراض محوري. إذ تفترض أن الأفراد الإيثاريين يساعدون أفراد الجماعة الآخرين دون تمييز، أي إن أفعالهم الإيثارية تعود بالنفع على الأفراد الإيثاريين والأنانيين على حد سواء. وهو افتراض يحتمل الصحة والخطأ. لكن ماذا لو افترضنا أن الإيثاريين يميِّزون؛ أي إنهم يفضلون مساعدة الإيثاريين الآخرين بينما يمتنعون عن مساعدة الأفراد الأنانيين. عندئذٍ سيختلف الوضع تمامًا. فعلى الرغم من أن الإيثاريين في تلك الحالة يتكبدون تكلفة لا يتكبدها نظراؤهم الأنانيون، فإن منافع أفعالهم الإيثارية حينئذٍ ستعود على الإيثاريين الآخرين، لا على جميع أفراد المجموعة. نظريًّا، يمكن أن يؤدي ذلك إلى موازنة التكلفة، مما يؤدي إلى تطور الإيثار.

الطريقة الأكثر بديهية لنشأة تلك المعاملة التفضيلية هي أن يساعد الإيثاريون أقاربهم البيولوجيين. لما كان الأقارب يتشابهون وراثيًّا، فإذا اخترنا أيَّ جين في فرد إيثاري، فهناك احتمال يفوق العشوائي لامتلاك قريبه نسخة من هذا الجين أيضًا. الآن بما أننا حدَّدنا أن سلوك الإيثار متأصل في الفرد، فلا بدَّ أن يكون له أساس وراثي، أي لا بدَّ أن يكون هناك جين «مختص» بالإيثار. (هذا اختصار لمقولة تفصيلها «جين يهيئ الكائن الحي للتصرف بإيثار في ظروف معينة».) بالتالي، بوجود احتمال يفوق العشوائي، فإن أقارب الفرد الإيثاري سيكونون هم أيضًا حاملين لجين الإيثار؛ وبهذا يكون التأثير المجمل لفعل الإيثار هو زيادة انتشار جين الإيثار بين أفراد الجماعة. باختصار، إذا كان الأفراد الإيثاريون يساعدون أقاربهم البيولوجيين بدلًا من أفراد من المجتمع مختارين عشوائيًّا، وإذا كان للإيثار أساس وراثي، إذَن فإن الانتخاب الطبيعي يمكن أن يؤدي إلى تطور الإيثار.

كان أول من طرَح هذه الحُجة البسيطة هو عالِم الأحياء الإنجليزي ويليام دي هاملتون في مقالٍ له نُشر عام ۱۹٦٤. بيَّن فيه أن الإيثار سوف يتطوَّر إذا استوفى شرطًا معينًا، يُعرف باسم «قاعدة هاملتون». تنص القاعدة على أن rb > c، حيث c التكلفة التي يدفعها المؤثر، وb الفائدة التي تعود على المتلقي، وكلاهما يقاس من حيث الصلاحية البيولوجية. أمَّا الحد الأخير r، فيمثل «مُعامِل العَلاقة» بين الفرد الإيثاري والمتلقي، ويقيس مدى قرابتهما. كلما زادت قيمة r، رجح احتمال امتلاك متلقي الفعل الإيثاري لجين الإيثار. في أي جماعة تقليدية، تساوي درجة القرابة بين الفرد وأبنائه r = 1/2، وبينه وأشقائه من نفس الوالدَين r = 1/2، وبينه وبين أحفاده r = 1/4، وبينه وبين أبناء عمومته المباشرين r = 1/8. إذَن ما تخبرنا إياه قاعدة هاملتون هو أن الإيثار سيتطور ما دامت التكلفة التي يدفعها الفرد الإيثاري ستعود بنفع على أقاربه القريبين.

أُطلق على الآلية الانتخابية التي وصفها هاملتون اسم «انتخاب الأقارب»، مع أنه هو نفسه لم يستعمل ذلك المصطلح، وسرعان ما أصبحت هذه الآلية هي التفسير القياسي لكيفية تطور الإيثار. تفترض نظرية انتخاب الأقارب أنه من الأرجح أن الكائنات الحية تتصرف بإيثار تجاه الأقارب أكثر من غيرهم؛ وأن الإيثار سيكون أشد كلما كانت العَلاقة أقرب. أُكِّدَت هذه الافتراضات الواسعة تجريبيًّا. على سبيل المثال، في أنواع متعددة من الطيور، من الأرجح أن تساعد الطيور «المساعِدة» الأقارب في تربية صغارها عن أن تساعد الطيور التي لا تربطها بها قرابة. في قرود المكاك اليابانية، تُوجَّه الأفعال الإيثارية، مثل الدفاع عن الآخرين من الهجوم، تجاه الأقارب المقربين تفضيلًا. وفي العديد من مستعمرات الحشرات الاجتماعية، التي يكرس فيها العمال أنفسهم لحماية المستعمرة ولمساعدة الجهود التكاثرية للملكة، توجد درجة عالية من الارتباط الجيني داخل المستعمرة. بصفة عامة، يُعَد الإيثار في الطبيعة أمرًا شائعًا جدًّا بين الأقارب، ولكنه نادر جدًّا بين غير الأقارب؛ وهو بالضبط ما تفترضه نظرية انتخاب الأقارب.

جدير بالذكر أن انتخاب الأقارب لا يتطلب أن تكون الكائنات الحية قادرة على التمييز بين الأقارب وغير الأقارب، ولا على حساب معاملات العَلاقة. في الواقع، تستطيع العديد من الحيوانات تمييز أقاربها، في الأغلب عن طريق الرائحة، لكن هذا لا يهم. ما يهمُّ هو أنه يفترض أن الكائن الحي يتصرف بإيثار تجاه آخرين هم أقاربه فعلًا. قد يفعل ذلك بامتلاكه القدرة على التمييز بين مَن هم أقاربه ومن ليسوا كذلك؛ لكن ثمة طريقة أخرى وهي استخدام مؤشر قرب للاستدلال على القرابة. على سبيل المثال، إذا تصرَّف الكائن الحي بإيثار تجاه مَن هُم في محيطه المباشر، فغالبًا ما ستَئول مساعدته إلى أحد أقاربه، إذ ينزع الأقارب إلى العيش في جوار بعضهم. تستغل طيور الوقواق بالتحديد هذه الحقيقة، إذ تستغل الميل الفطري للطيور لرعاية الصغار في أعشاشها.

هل تنطبق نظرية انتخاب الأقارب على البشر أيضًا؟ هذا جانب من سؤال أشمل نناقشه في الفصل السابع، حول إذا كان من الممكن لعلم الأحياء التطوري أن يُسلِّط الضوء على السلوك البشري. سنكتفي بتعليقَين فقط الآن. أولًا، ينطبق الافتراض العام بأن الكائنات الحية تختلف معاملتها للأقارب عن غير الأقارب على البشر. على سبيل المثال، يقدم معظم البشر مساعدات مالية كبيرة لأقاربهم المباشرين، أمَّا لغيرهم فتكون المساعدات ضئيلة. في هذا الجانب، يتوافق السلوك الاجتماعي للبشر مع نظرية انتخاب الأقارب. ثانيًا، على عكس الأنواع الأخرى، ينخرط البشر عادة في مساعٍ تعاونية مع غير الأقارب. إذ تقوم المؤسسات مثل الشركات والمدارس والحكومات، التي هي جوهر المجتمع البشري، في الأساس على رغبتنا في التعاون مع الآخرين. هذا الجانب من سلوكنا الاجتماعي لا تتنبأ به نظرية انتخاب الأقارب.

على الرغم من أن مبدأ انتخاب الأقارب مقبول بشكل واسع في علم الأحياء، فإنه محاط ببعض الجدل. من أوجه هذا الجدل هو علاقة انتخاب الأقارب بالانتخاب الجماعي التقليدي الذي ناقشه داروين. كان هاملتون يقصد في الأصل أن يكون انتخاب الأقارب بديلًا للانتخاب الجماعي؛ أي طريقة لتفسير تطور الإيثار دون ذكر المميزات على مستوى الجماعة. كانت هذه أيضًا الطريقة التي نظر بها جي سي ويليامز إلى المسألة، وهي ما تزال وجهة نظر سائدة اليوم. بالفعل، نشأ جيل من المتخصصين في علم الأحياء التطوُّري على فكرة أن الانتخاب الجماعي مفهوم إشكالي بينما انتخاب الأقارب مقبول. ولكن الأزمنة قد تغيرت. على غير المتوقع نوعًا ما، يجادل العديد من علماء الأحياء المعاصرين بأن كلًّا من انتخاب الأقارب والانتخاب الجماعي ليسا مفهومين متنافسين بل متساويان في الحقيقة، إذ يقدمان وجهتَي نظر مختلفتين عن العملية البيولوجية الأساسية نفسها.

لفَهْم ما تستند إليه وجهة النظر تلك، لنعد إلى مثال إبرة اللدغ الشائك في نحلة العسل. من منظور الانتخاب الجماعي قد يشير تفسير سبب تطوُّر إبرة اللدغ إلى فائدة البقاء التي تمنحها للمستعمرة كلها. أمًّا التفسير من منظور انتخاب الأقارب فسيشير لحقيقة أن الشغالة تربطها صلة قرابة وثيقة بالملكة، لذا فبناءً على قاعدة هاملتون ينبغي أن يكون لدى الشغالة استعداد لأن تضحيَ بنفسها إذا كانت تضحيتها تعود بفائدة كافية على الملكة. قد يبدو هذان التفسيران مختلفين، ولكنهما في الواقع متشابهان؛ لأن بقاء المستعمرة لازم للنجاح التكاثري للملكة. قطعًا إذا ترجمنا كلًّا من افتراض أن صفةً ما في النحلة «تفيد المستعمرة» وأنها «تفيد الملكة» إلى تعبير رياضي دقيق، سيتضح أنهما سيان. والدليل على ذلك هو أن نماذج انتخاب الأقارب والانتخاب الجماعي تشترك في بنية رياضية مشابهة؛ لذلك يمكن غالبًا ترجمة تفسيرات الانتخاب الجماعي باصطلاح انتخاب الأقارب والعكس صحيح. هذا يدعم فكرة أنه في بعض الحالات على الأقل، يكون الاختيار بين انتخاب المجموعة وانتخاب الأقارب محكومًا بالعادة لا بحقيقة تجريبية.

توضح مسألة العَلاقة بين انتخاب الأقارب والانتخاب الجماعي أحد الجوانب اللافتة للجدل الدائر حول مستويات الانتخاب في علم الأحياء، والذي يفسر سبب التفات الفلاسفة له. يتضمن الجدل مزيجًا مثيرًا للفضول من الأسئلة التجريبية والمفاهيمية، التي غالبًا ما تتداخل. للوهلة الأولى، قد تبدو مسألة مستويات الانتخاب تجريبية بحتة. باعتبار أن الانتخاب الطبيعي قد يحدث على أكثر من مستوًى واحد، أليس كل ما نحتاجه هو تحديد المستوى (أو المستويات) التي يحدث فيها أو التي سبق أن حدث فيها؟ في ظل وجود أدلة تجريبية كافية، ألا يكون ذلك سؤالًا له إجابة مباشرة؟ في الحقيقة، ليس الأمر بتلك البساطة. بالطبع، يحتكم الجدل إلى البيانات التجريبية، لكنه لا يقف عندها. حيث إنه ليس من النادر أن يجد المرء مؤلفين يتفقون حول الحقائق البيولوجية الأساسية في حالة معينة، لكن يختلفون حول كيفية تحديد مستوى (أو مستويات) الانتخاب. هذه الخلافات ليست خلافاتٍ علمية «عادية» يمكن حلُّها بجمع البيانات، ولكنها ذات بُعد مفاهيمي، بل في بعض الحالات بُعد أيديولوجي.

النظرة المرتكزة على الجين للتطور

في كتابه «الجين الأناني» (۱۹۷٦)، طرح ريتشارد دوكينز وجهةَ نظر جديدة ثورية لمسألة مستويات الانتخاب، في سياق دفاعه الشهير عن نظرته «المرتكزة على الجين» للتطور. ذهب دوكينز إلى أن النشاط التطوري الفعلي يحدث على مستوى الجين، لذا فمن الأفضل أن نبحث الانتخاب والتكيف على هذا المستوى. انطلق دوكينز من الفكرة الداروينية الجديدة التي مفادها أن كل التغيُّر التطوري في نهاية المطاف يُعزى إلى شيوع بعض الجينات في جماعة وانحسار غيرها. لذا ذهب إلى أنه يمكننا اعتبار كل جين يخوض منافسةً لتوريث أكبر عدد ممكن من نُسَخه للأجيال القادمة. والكائنات الحية ما هي إلا «مَرْكَبات» أو «آلات بقاء» صنعتها الجينات بغرض مساعدتها في هذه المهمة. لذا فإن الصفات الظاهرية التي نراها في الطبيعة، مثل أجنحة الطيور وخياشيم الأسماك، ليست موجودةً لأنها تفيد الكائنات الحية المفردة الموجودة فيها هذه الصفات، ناهيك عن الجماعات التي تنتمي إليها تلك الأفراد. بل تلك الصفات موجودة لتفيد الجينات التي أدَّت إلى نشأتها! تقوم الجينات ﺑ «برمجة» مضيفها على إيجاد الصفات، بما فيها السلوكيات، التي من شأنها تعزيز فرص الجينات نفسها للانتقال إلى الجيل التالي. جادل دوكينز بأن «المستفيد النهائي» من العملية التطورية هو بالتالي الجين نفسه.

من المهم أن نكون واضحين بشأن ما يعنيه دوكينز بحديثه عن تنافس الجينات على توريث نُسخ منها للأجيال القادمة. هو لا يعني أن الجينات داخل الكائن الحي الواحد تكون في تناحر دائم فيما بينها، فهذا ليس صحيحًا. على الرغم من حدوث منافسة انتخابية بين الجينات داخل الكائن الحي، إلَّا أنها تكون نادرة نسبيًّا. ففي معظم الأحيان، تتعاون الجينات في الكائن الحي، لأن لديها مصلحة مشتركة تتمثل في بقاء مضيفها وتكاثره. إنما يعني دوكينز أن كل جين يتنافس مع «أليلاته» داخل المجموعة. أليلات الجين هي الأشكال المختلفة للجين التي يمكن أن تشغل نفس الموضع في الكروموسوم؛ يختلف تسلسل الحمض النووي لكل أليل اختلافًا طفيفًا، مما يؤدي إلى اختلافات في النمط الظاهري. إن أي جين يخوض بالضرورة مباراة يتوازن فيها المكسب والخسارة مع أليلاته؛ إذ لا يمكن أن ينتشر في المجموعة إلا إذا قلَّت أليلاته. لذلك يمكننا أن نعتبر أن كل جين «يحاول» التغلب على أليلاته، من خلال تأثيره على الكائن الحي المضيف.

يدلل دوكينز على صحة نظرته للتطور منطقيًّا وتجريبيًّا. إذ يجادل بأن الجينات منطقيًّا لها مكانة مميزة مقارنة بسواها من الكائنات الحية، مما يمنحها تأهيلًا فريدًا لأنْ تلعب دَور المستفيد في عملية التطور. فالجينات «مُستنسَخات»، أي إنها كيانات تُصنعَ منها نُسخًا. بفضل دقة استنساخ الحمض النووي، عادة ما يكون أي جين في جيل ما نسخة تكاد تكون طبق الأصل منه في السلف الذي جاء منه. لكن الكائنات الحية ليست كذلك. تتكاثر الكائنات الحية أيضًا؛ ولكن التكاثر الجنسي يعني أن الذرية تحمل مزيجًا من المادة الوراثية من كلا الأبوين. الجينات الموجودة اليوم منحدرة دون تغيير تقريبًا عن الجينات التي كانت موجودةً منذ مئات الآلاف من السنين؛ لكن الشيء نفسه لا ينطبق على الكائنات الحية المفردة. لذلك، فإن الجينات لها ديمومة لا توجد في الكائنات الحية، كما يطرح دوكينز؛ لذلك في النهاية، صفات الكائن الحي موجودة لمنفعة الجينات.

من الناحية التجريبية، يجادل دوكينز بأن وجهة نظره المرتكزة على الجين تساعد في تفسير العديد من الظواهر البيولوجية. إحدى هذه الظواهر هي الإيثار. فكما رأينا، يَصعُب فَهْم الإيثار من منظور الكائن الحي الفرد: لماذا يدفع تكلفة لمساعدة الآخرين؟ ولكن من منظور الجين، فإن الأساس المنطقي لذلك واضح. فبجعله الكائن الحي المضيف يتصرف بإيثار تجاه الأقارب، الذين يرجح أيضًا أن يكونوا حاملين لنسخة من الجين، فإن الجين يساعد نفسه بطريق غير مباشر! لذا فإن النقطة الجوهرية لنظرية انتخاب الأقارب — القائلة بأن سلوك الكائنات الحية يختلف بالضرورة تجاه الأقارب عنه تجاه غيرهم — تبدو منطقية تمامًا من المنظور المرتكز على الجينات. بصفة أعم، إذا اعتبرنا صفات الكائن الحي استراتيجيات وضعتها الجينات لتساعد في انتشارها، كما يصر دوكينز، يمكننا أن نرى على الفور أن هناك استراتيجيتين يمكن للجين أن يستخدمهما. تتمثل الاستراتيجية المباشرة، التي تستخدمها معظم الجينات، في إنتاج صفات تضمن بقاء الكائن المضيف لها وتكاثره. أما الاستراتيجية غير المباشرة، التي يستخدمها القليل من الجينات، فتتمثل في جعل الكائن المضيف يتصرَّف بإيثار تجاه أقاربه.

فئة أخرى من الظواهر التي يمكن أن تُبرزها وجهة النظر المرتكزة على الجينات هي الجينات «الخارجة عن القانون». وهي الجينات التي تنتشر على حساب جينات أخرى في الكائن الحي نفسه، أي عن طريق الانتخاب على مستوى الجين. تذكر أنه نتيجة للتكاثر الجنسي، لا تنتقل الجينات الموجودة في كائن حي واحد إلى الجيل التالي كاملة. بل ينتج الكائن الحي الأمشاج التي تندمج مع أمشاج أخرى لإنتاج اللاقحة. الأمشاج أحادية، أي إنها تحتوي على كروموسوم واحد فقط من كل زوجين من الكروموسومات. وهذا يعني أن كل مشيج يحمل نصف جينات الكائن الحي فقط. في معظم الأوقات، تكون تلك العملية عادلة، لذا فاحتمال انتقال أي جين إلى كل مشيج يساوي النصف. لكن بعض الجينات ابتكرت طرقًا للتحايل على النظام بغرض الانتقال إلى أكثر من نصيبها العادل من الأمشاج، والذي من الواضح أنه لصالحها. تكون تلك الجينات خارجةً عن القانون، وتُعرف أيضًا باسم «العناصر الوراثية الأنانية» أو «الجينات المفرطة الأنانية». غالبًا ما تكون لهذه الجينات تأثيرات ضارة على النمط الظاهري للكائن المضيف، مما يقلل من صلاحيته البيولوجية؛ لكنها قادرة على الانتشار بين أفراد مجموعة بما لها من ميزة انتقالية.

تلك الجينات الخارجة عن القانون استثناءات من المصلحة المشتركة التي عادةً ما تكون لها الغَلبة بين الجينات داخل الكائن الحي الواحد: فهم ينفعون أنفسهم على حساب الجماعة. بالفعل، غالبًا ما يولِّد الخارجون صراعًا جينيًّا داخل الكائن الحي، تحاول خلاله الجينات الأخرى تطوير طرق لقمع تصرُّفات الجينات الخارجة عن القانون، وبالتالي استعادة الانسجام. في معظم الأوقات، يكون القمع ناجحًا؛ ولولاه لما وُجدَت كائنات مثلنا. من وجهة نظر الانتخاب الفردي، يصعب فَهْم الجينات الخارجة عن القانون لأنها عادة ما تضرُّ بالكائن الحي نفسه عوضًا عن أن تفيده. كما أنها لا تعود بأي فائدة تعويضية على أقارب الفرد، ولا على أي كيان اجتماعي قد ينتمي إليه، ولا على النوع كله. ولكن من وجهة النظر المرتكزة على الجينات، فإن تصرفات الجينات الخارجة عن القانون منطقية تمامًا. مثل كل الجينات، هي ببساطة تبحث عن منفعتها، وقد ابتكرت طريقة جديدة لاكتساب ميزة تطورية جعلها التكاثر الجنسي ممكنة.

كيف ترتبط وجهة نظر دوكينز المرتكزة على الجينات بالجدل التقليدي حول مستويات الانتخاب الذي وضع مؤيدي الانتخاب الفردي في مواجهة مع مؤيدي الانتخاب الجماعي؟ ذهب دوكينز في أعماله المبكرة إلى أنَّ كلا طرفَي هذا النقاش على خطأ؛ فالطريقة الصحيحة للنظر في التطور هي من حيث الانتخاب على مستوى الجينات، وليس الأفراد أو الجماعات. ولكن، تبنَّى دوكينز في أعماله الأخيرة خطًّا مختلفًا، بحُجة أن نظريته المرتكزة على الجينات لا يُقصد بها أن تكون بديلًا تجريبيًّا للانتخاب الفردي العادي ولا للانتخاب الجماعي. إنما هي ببساطة تقدم منظورًا مختلفًا للتطور مفيدًا من الناحية التجريبية في سياقات معينة. يمكننا أن ننظر إلى التطور إمَّا بالطريقة الداروينية القياسية، باعتباره ينطوي على الانتخاب بين الكائنات الحية المنفردة (أو ربما الجماعات في بعض الحالات)؛ أو يمكننا تبديل المنظور والنظر للعملية التطورية باعتبارها انتخابًا من بين الجينات. يقترح دوكينز أن كلا المنظورين يحتملان الصحة والخطأ.

إن فكرة المنظورين البديلين هذه مقنعة، لكنها لا تتوافق مع التركيز الذي منحه دوكينز للجينات الخارجة عن القانون. فكما رأينا، تلك الجينات لا تُفيد الكائن الحي الفرد ولا جماعته. لذلك فيما يتعلق بالجينات الخارجة عن القانون، لا يبدو أن حرية تبديل وجهة النظر موجودة. كيف يُحَلُّ هذا الإشكال؟ الطريقة الأمثل هي التمييز بوضوح بين «عملية» الانتخاب على مستوى الجين من «منظور» مرتكز على الجينات وعمليات الانتخاب التي تحدث على مستويات أخرى. (هذا التمييز موجود في أعمال دوكينز، ولكنه لم يُصَغ بطريقة مباشرة.) تشير عملية الانتخاب على مستوى الجينات إلى الانتخاب بين الجينات داخل كائن حي واحد، كما في حالة الجينات الخارجة عن القانون. إذَن الانتخاب على مستوى الجين هو في حد ذاته مستوًى مستقل من الانتخاب، يختلف عن الانتخاب على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة. نظرًا لأن معظم الجينات ليست خارجةً عن القانون، فإن عملية الانتخاب على مستوى الجينات غير شائعة نسبيًّا. ومع ذلك، يمكن دائمًا تَبنِّي منظور جيني لعمليات الانتخاب التي تحدث على مستويات أخرى، كالمستوى الفردي. حيث إن التأثير الإجمالي للانتخاب الفردي هو انتشار بعض الجينات على حساب أليلاتها. لذلك، إذا أردنا، يمكننا اعتبار الصفات التي تتطور عن طريق الانتخاب الفردي مثل سرعة عَدْو الفهد تكيفات لصالح الجينات.

التحولات الرئيسية في التطور

في الخمسة والعشرين عامًا الماضية، أعادت مجموعة الدراسات التي بدأها جون مينارد سميث ويورس ساتماري عن «التحولات الرئيسية في التطور» إحياء الجدل حول مستويات الانتخاب. تحدث هذه التحولات عندما تتجمع وحدات بيولوجية صغيرة، لديها في الأصل القدرة على البقاء والتكاثر بمفردها، في وحدة أكبر مكونة مستوًى جديدًا في التسلسل الهرمي البيولوجي. يُعتقَد أن مثل هذه التحولات تَكرَّر حدوثها على مدى تاريخ الحياة. ربما كان الانتقال الأول من المُضاعفات المنفردة (المكونة من الحمض النووي الريبوزي) إلى شبكات من المُضاعِفات المُضمَّنة داخل تقسيمات مستقلة. ثم تضمنت تحولات لاحقة التحول من الجينات المستقلة إلى كروموسومات تتكون من عدد من الجينات المتصلة ماديًّا؛ والتحول من بدائيات النوى (أو الخلايا الشبيهة بالبكتيريا) إلى حقيقيات النوى التي تحتوي على عضيات (مثل الميتوكوندريا والبلازميدات)؛ والتحول من حقيقيات النوى وحيدة الخلية (مثل الأميبا) إلى الكائنات متعددة الخلايا (مثل معظم الحيوانات والنباتات)؛ والتحول من الكائنات الحية المنفردة (مثل الدبابير) إلى المستعمرات المتكاملة (مثل النحل). في كل من تلك الحالات، انطوت عملية التحول على تطور وحدات بيولوجية مستقلة لتصبح أجزاءً مِن كلٍّ أكبر. التحدي هو أن نفهم هذا من المنظور الدارويني. لماذا كان من المفيد للوحدات الأصغر أن تضحيَ بفرديتها، وأن تتعاون فيما بينها، وأن تُشكِّل نفسها في هيئة مجتمع؟

عندما نبحث مسألة التحولات الرئيسية، نصطدم مباشرة بمسألة مستويات الانتخاب. لنأخذ التحول إلى التعددية الخلوية مثالًا. ربما كان أقدم كائن متعدد الخلايا عبارة عن تكتُّل فضفاض من بضع مئات من الخلايا أشبه بمستعمرة منه بكائن «حقيقي». وبمرور الوقت، تطورت هذه الخلايا إلى وحدة شديدة التماسك تحتوي على تريليونات من الخلايا تختص كل منها بمهام معينة، وتتعاون جميعها من أجل الصالح العام. ولكن لماذا لم يؤدِّ الانتخاب من بين الخلايا إلى الإخلال بتكامل الكائن متعدد الخلايا الناشئ منها؟ إذ كما نعلم، لا يلزم أن يكون للانتخاب على مستوًى ما آثار مفيدة على المستويات الأعلى. طُرحَت إجابات مختلفة لهذا اللغز. كان أحدها اللجوء إلى نظرية انتخاب الأقارب: هل يحتمل أن تكون الخلايا داخل هذا التكتل المتعدد الخلايا الناشئ أقارب، أو حتى مستنسخة من بعضها، ولهذا السبب تعاونت؟ يمكن أن يحدث هذا إذا تطورت دورة حياة الكائن الحي بحيث يَمرُّ بمرحلة الخلية الواحدة؛ وهو بالضبط ما نراه في معظم النباتات والحيوانات الحديثة التي تنمو من لاقحة واحدة. هذا يضمن أن يكون بين الخلايا المكوِّنة ارتباط نسيلي، أو شبه نسيلي. (وَفْق قاعدة هاملتون، الارتباط النسيلي يعني أن r = 1.) وَفقًا لهذه النظرية، فإن تفسير سبب تخلي الخلايا الفردية عن استقلالها وتطورها إلى أجزاء من وحدة أكبر هو أنه بقيامها بذلك، تتمكن من مساعدة أقاربها الجينيين.

ترتبت على الدراسات حول التحولات الرئيسية آثار مفاهيمية لافتة. أولها أنها تشير إلى أن الصياغة التقليدية لمسألة مستويات الانتخاب كانت إلى حدٍّ ما قاصرة. إن الصياغة التقليدية، التي اتبعناها في الفقرة السابقة، تعتبر وجود التسلسل الهرمي البيولوجي أمرًا مُسلَّمًا به، كما لو كان حقيقة مطلقة عن العالم. لكن بالطبع، التسلسل الهرمي البيولوجي هو في حد ذاته نتاج للتطور؛ فمن الواضح أن الكيانات الأعلى في التسلسل الهرمي، مثل الكائنات متعددة الخلايا، لم تكن موجودةً في فجر الحياة على الأرض. وهو ما ينطبق أيضًا على الخلايا والكروموسومات. لذلك، نظريًّا نحن بحاجة إلى نظرية تطورية تشرح كيف ظهر التسلسل الهرمي البيولوجي إلى الوجود، لا تتعامل معه باعتباره من المسلمات. من منظور التحولات الرئيسية، لا يكفي بحث الانتخاب والتكيف على مستويات هرمية موجودة مسبقًا؛ بل نحتاج كذلك إلى أن نفهم كيف تطورت مستويات التسلسل الهرمي في الأساس.

هذا يعيد إبراز الأهمية المُلحَّة للجدل حول مستويات الانتخاب. كان بعض علماء الأحياء يميلون إلى مناقشة الجدل التقليدي باعتباره زوبعة في فنجان؛ بحُجة أن الانتخاب على مستوى الكائنات الحية المنفردة هو القوة التطورية الوحيدة المهمة فعليًّا، بغض النظر عن الاحتمالات النظرية الأخرى. لكن في ضوء التحولات الكبرى، يصعب الدفاع عن هذا الموقف. فما نسميه «كائنًا حيًّا فردًا» هو في حد ذاته مكون من مجموعة من خلايا بينها تعاون وثيق؛ والخلية الحقيقية النواة هي نفسها تعتبر جماعة من نوعٍ ما، إذ تكونت من اندماج خليتين بدائيتَي النواة مستقلتَين. باختصار، إن «الكائنات المنفردة» الموجودة اليوم لم تكن موجودةً منذ الأزل، ومن المفارقات أنها تطورَّت إلى أفراد مُحكَمة الاتساق من خلال عملية انتخاب على مستوى الجماعة (حيث تعني كلمة «جماعة» هنا مجموعة من الخلايا). لذلك، لا بدَّ أن يكون انتخاب قد حدث في الماضي على مستويات غير مستوى الكائن الحي الفرد، بغضِّ النظر عن إذا كان لا يزال يحدث اليوم أم لا. من هذا المنظور الأشمل، يتبين أن الحُجة القائلة بأن الانتخاب الفردي هو «الأهم من الناحية العملية» هي حُجة ضعيفة.

أمَّا الأثر المفاهيمي الثاني اللافت الذي تشير إليه الدراسات المتعلقة بالتحولات الرئيسية هو أن كل أشكال الحياة على الأرض اجتماعية بشكل ما. بمعنى أن جميع الكائنات الحية، بما فيها أنت وأنا، هي فعليًّا جماعات اجتماعية مُعقَّدة، مكونة من وحدات أصغر، مثل الخلايا والعضيات، تنحدر من أسلاف مستقلة. هذه فكرة لافتة للغاية. ذلك أن كَوْن مستعمرات الحشرات أو قطعان قرود البابون جماعات اجتماعية هي حقيقة واضحة، لكن حقيقة أن كل كائن حي متعدد الخلايا، بل في الواقع كل خلية حقيقية النواة، هي أيضًا جماعة اجتماعية ليست واضحة بالقدر نفسه، وإن كانت صحيحة. تلك الرؤية الاجتماعية للحياة تجبرنا على إعادة التفكير في ماهية «الفرد»، وتجعلنا نتساءل إذا كان التمييز بين «الأفراد» و«الجماعات» مسألة متعلقة بالسياق. (بمعنى أنه يحتمل اعتبار كيان واحد فردًا في بعض السياقات وجماعة في سياقات أخرى.) ويساعدنا ذلك على فهم لماذا يجب أن يكون للمفاهيم الأساسية لنظرية التطوُّر الاجتماعي، مثل الانتخاب الجماعي وانتخاب الأقارب وقاعدة هاملتون، التي وُضعَت في الأصل لتفسير سلوكيات حيوانية معينة، مجال تطبيق أوسع بكثير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤