الفصل السابع

السلوك البشري والعقل والثقافة

إن نوعنا البشري، الإنسان العاقل «الهومو سابينس»، ليس نوعًا عاديًّا. يبدو أن ذكاءنا واستخدامنا للُّغة واختراعاتنا الثقافية وبراعتنا التكنولوجية ومؤسساتنا الاجتماعية تميزنا عن سائر الأنواع الأخرى، حتى عن رفاقنا من القِرَدة العليا. يُقال أحيانًا إن هذا منظور واهم، أو نتاج مركزية إنسانية غير مبرَّرة، لكن هذه وجهة نظر الأقلية. بالطبع، يجب أن نحذر الوقوع في فخ التقليل من شأن التعقيد الذي تتمتع به الحيوانات غير البشرية، فقد تبين أن العديد من السمات التي كان يُعتقد في السابق أنها مقتصرة على البشر، مثل استخدام الأدوات، وجِدَت لدى أنواع أخرى أيضًا. لكن يظل من شبه المؤكد أن أي مراقب غير متحيز من كوكب آخر سوف يلتفت إلى تميز نوع الإنسان العاقل. ففي النهاية، لم يذهب أي نوع آخر إلى القمر، أو يبني دار أوبرا، أو يخترع الديمقراطية البرلمانية، أو يدمر البيئة الطبيعية كما فعلنا.

هل يمكن لعلم الأحياء أن يُسهم بأي قَدْر في تسليط الضوء على البشرية وإنجازاتها؟ إحدى الطرق للإجابة عن هذا السؤال هي التساؤل عما إذا كان يمكن تفسير السلوك البشري من منظور بيولوجي؛ فأنماط سلوكنا هي منشأ أسلوب حياتنا المميز. انقسم العلماء في إجابتهم عن هذا السؤال الأخير إلى فريقين متناقضين. يشير أولئك الذين يجيبون ﺑ «نعم» إلى أن الإنسان العاقل هو نوع متطور مثل أي نوع آخر وأن العقل البشري هو عضو متطور، وأن الانتخاب الطبيعي هو الذي شكَّل السلوك البشري بقدر ما شكَّل السلوك الحيواني. أما أولئك الذين يجيبون ﺑ «لا» فيقرون بأن البشر قد تطوروا ولكنهم يرون أننا سمونا فوق طبيعتنا البيولوجية إلى حد كبير. فهم يزعمون أن سلوكيات البشر تعتمد على الأعراف الاجتماعية والتوقعات الثقافية أكثر من اعتمادها على الجينات. مِن ثَم تقع مسئولية تفسير السلوك البشري على عاتق العلوم الاجتماعية مثل الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع لا على عاتق علم الأحياء. لا عجب إذَن أن العديد من علماء الاجتماع التقليديين يؤيدون وجهة النظر هذه.

كما هو شأن معظم الانقسامات الفكرية، يوجد متسع لإجابة وسط، على عكس ما يدعي المتطرفون من كلا الفريقين. أولًا، يمكن لعلم الأحياء أن يسلط الضوء على بعض جوانب السلوك البشري دون غيرها؛ إذ لا يلزم أن يسلط الضوء عليها جميعًا وإلا استبعدناه. على سبيل المثال، قد تكون تفضيلاتنا الغذائية ذات أصل بيولوجي، لكن مشاركتنا في الرياضات المنظمة ليست كذلك على الأرجح. ثانيًا، قد يعتمد وجود تفسير بيولوجي على «معيار» وصفنا للسلوك البشري. إذا كان ذلك المعيار فضفاضًا، فقد نجد قواسم سلوكية مشتركة تعكس طبيعتنا البيولوجية المشتركة؛ ولكن إن ضيَّقنا المعيار، فقد نجد اختلافات سلوكية غير بيولوجية الأصل. على سبيل المثال، يعتبر الارتباط الزوجي صفة بشرية عامة، لكن عادات الزواج المحددة تختلف من مجتمع إلى آخر. هذا يعني أن التفسيرات البيولوجية وغير البيولوجية للسلوك البشري سيكون كل منها مكملًا للآخر في بعض الأحيان، إذ ستختلف الجوانب التي يرتكز إليها كلا التفسيرين. ثالثًا، أركان تلك المناظرة تَحتمل الطعن في صحتها. نظرًا إلى أن السلوك البشري نتاج عوامل سببية متعددة، يعتبر بعض العلماء ثنائية التفسير البيولوجي وغير البيولوجي لا تصح. هذه الاعتبارات الثلاثة تعني أن مساحة الاحتمالات كبيرة جدًّا، لذلك يجب أن نتشكك في أي محاولة لطرح إجابة مبسطة لسؤال ما إذا كان علم الأحياء يمكن أن يخبرنا بأي شيء مفيد عن السلوك البشري.

الطبيعة مقابل التنشئة

معظم الناس على دراية بجدلية الطبيعة والتنشئة، التي تبحث ما إذا كانت العوامل الموروثة أو تلك البيئية هي التي «تجعلنا ما نحن عليه». لطالما شغلت تلك القضية العلماء وغيرهم، وهي قضية من شأنها أن تثير انفعالات قوية. أحد أسباب ذلك هو أن من يقفون على جانب «الطبيعة» بالأخص من الجدل، غالبًا ما كانت لديهم أجندات سياسية مبطنة. على سبيل المثال، كان علماء العصر الفيكتوري العديدون الذين رأوا أن جينات الأشخاص «ضعاف الأذهان» (عادةً يقصدون أولئك الذين يعانون من صعوبات التعلم) هي جينات رديئة، من علماء تحسين النسل الداعين إلى التعقيم الإجباري لمنع تدهور تجميعة الجينات. حديثًا، في سنة ۱۹۹٤، نشر عالما النفس تشارلز هيرنشتاين وريتشارد موراي كتابهما «مُنحنى الجرس»، الذي زعموا فيه أن السود في الولايات المتحدة يسجلون درجات أقل من البيض في اختبارات الذكاء بسبب جيناتهم، لا بسبب الفقر أو عدم المساواة في التعليم. استنادًا إلى هذا الادعاء (المرفوض بشدة)، دعا هيرنشتاين وموراي إلى إنهاء المساعدات الحكومية للفقراء، والتي رأوا أنها تشجع الأفراد ذوي الذكاء المنخفض على التكاثر. وتوجد أمثلة مشابهة بوفرة.

هل يمكننا مناقشة مسألة الطبيعة والتنشئة من منظور علمي بحت، بمنأى عن جميع المضامين الاجتماعية والسياسية؟ هذه في حد ذاتها قضية مثيرة للجدل. فكما ذهب الفيلسوف ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر في طرح شهير إلى أنه لا يمكن للمرء الاستدلال على ما «يجب» أن يكون بما هو «قائم» بالفعل. وَفقًا لهيوم، تختلف المقولات التي تصف العالم كما هو قائم اختلافًا جوهريًّا عن تلك التي تصف ما يجب أن يكون عليه. لا تزال مقولة هيوم تلك شائعةً إلى اليوم؛ فهي تدعم وجهة النظر السائدة التي ترى أن مهمة العلماء هي اكتشاف الحقائق الموضوعية، ومهمة صانعي القرار والمشرعين هي تقرير ما يجب فعله بهذه الحقائق. عند تطبيقه على جدلية الطبيعة والتنشئة، فإن هذا يعني أننا يجب أن نفصل بشكل قاطع السؤال العلمي حول ما إذا كانت صفة بشرية ما جينية الأصل عن السؤال السياسي حول ما يجب أن يفعله المجتمع بهذه المعلومة، هذا إذا كان هناك أي شيء يمكن للمجتمع أن يفعله. على سبيل المثال، تأصل المثلية الجنسية «في الجينات» من عدمه مسألة لا علاقةَ لها على الإطلاق بما إذا كان ينبغي منح المثليين حقوقًا مساوية للمغايرين جنسيًّا، والأمر سيان بالنسبة لصفات أخرى.

على الرغم من أن هذا يبدو منطقيًّا، فإن فكرة أن العلم متجرد تمامًا من القيم وأنه لا يهتم إلا ﺑ «الحقائق الموضوعية»، هي فكرة ساذجة إلى حدٍّ ما، لسببين. أولًا، يمكن أن تكون الأحكام القيمية حاضرة ضمنًا في وصف العلماء للعالم. فالعلماء الفيكتوريون الذين أرادوا منع «ضعاف الذهن» من التكاثر لم يرتكبوا فحسب خطأً تجاوز حدود العلم والشرود إلى مسائل السياسة العامة. بل وقعوا أيضًا في خطأ أكبر، وهو الاعتقاد بأن «ضعف الذهن» صفة صحيحة في المقام الأول؛ وقد انعكس هذا الاعتقاد في قناعاتهم الأيديولوجية. ثانيًا، يحتاج العلماء إلى تحديد ما سيبحثونه، وغالبًا ما يكون للأحكام القيمية تأثير على هذه القرارات. كتب هيرنشتاين وموراي كتابًا كاملًا عن الاختلافات بين الأعراق في درجات معدل الذكاء، لكن لم يوضحا في أي موضع لماذا ينبغي أن يهتم بها أي أحد. وبالمثل، يكرس المتخصصون في علم النفس التطوري الحديث (طالع القسم التالي) جهودًا كبيرة لدراسة الاختلافات المزعومة بين مخ الذكر والأنثى، لكنهم نادرًا ما يفسرون سبب أهمية هذه الاختلافات، حتى لو كانت موجودة. وبالتالي فإن اختيار «الحقائق الموضوعية» المراد دراستها قد يعكس في حد ذاته القيم الفردية أو المجتمعية.

هذه التحفظات مهمة، ولكن لا يزال من المنطقي محاولة معالجة المشكلة من ناحية موضوعية بحتة. دعونا بعد ذلك نسأل ماذا يخبرنا علم الأحياء الحديث عن سؤال الطبيعة والتنشئة التقليدي؟ أحد الدروس المستفادة هو أنه في كثير من الحالات، لا يكون السؤال في الحقيقة محدَّدًا جيدًا. قد يبدو هذا مفاجئًا لأن علماء الأحياء كما نعلم يميزون بين التأثيرات الجينية والبيئية على الصفات الظاهرية للكائن الحي، وهو ما يناظر تمييز غير المتخصصين بين الطبيعة والتنشئة. علاوة على ذلك، في الطب الحيوي، غالبًا ما توصف بعض الأمراض بأنها «وراثية»، بينما في دراسة سلوك الحيوان، غالبًا ما توصف بعض السلوكيات على مستوى الأنواع بأنها «فطرية»؛ ويبدو أن كلا المصطلحين مرادفان لعبارة «بسبب الطبيعة». إذَن ما الذي يجعل التمييز بين الطبيعة والتنشئة مُشكِلًا؟

أحد الأسباب ينبع من علم الأحياء النمائي. إذ اتضح أن العوامل الجينية والبيئية دائمًا ما تشتركان في تطور الصفة، لا سيما الصفات المعقدة مثل السلوكيات. نتيجة لذلك، حتى الصفات المصنفة تقليديًّا على أنها «وراثية» قد تكون عرضة للتعديل البيئي. أحد الأمثلة الكلاسيكية هو مرض بِيلَة الفينيل كيتون الذي يصيب الإنسان، وهو ينتج عن طفرة تؤثر على القدرة على استقلاب الحمض الأميني فينيل ألانين، مما يؤدي إلى تلف في المخ. ولكن، إذا لزم الرضيع المصاب بالطفرة نظامًا غذائيًّا منخفض الفينيل ألانين، فإن مخه سوف يتطور بشكل طبيعي. لذا في الحقيقة، بِيلَة الفينيل كيتون ليس مرضًا «وراثيًّا» بحتًا؛ لأنه ناتج عن اجتماع عامل وراثي (الطفرة) وعامل بيئي (تناول الفينيل ألانين)، ولا يتسبب أيٌّ منهما في الضرر منفردًا. هذا يعني أن سؤال الطبيعة والتنشئة غير مُحكَم «على مستوى الفرد». بمعنى أنه ليس من المنطقي أن نسأل إن كانت إصابة مريض معين ببِيلَة الفينيل كيتون ناتجةً عن جيناته «أم» عن استهلاكه للفينيل ألانين؛ إذ إنها نتيجة اجتماع السببين. ينطبق نفس المغزى بشكل عام على شتى أنواع الصفات.

جدير بالذكر، أن السؤال قد يظل منطقيًّا على مستوى الجماعة. أي إنه لا يزال بإمكاننا أن نسأل إذا كانت «الاختلافات» في النمط الظاهري بين أفراد جماعة ما جينية أم بيئية الأصل. إذا كان جميع أفراد جماعة ما يتبعون نظامًا غذائيًّا غنيًّا بالفينيل ألانين، فإن إصابة بعضهم ببيلة الفينيل كيتون دون غيرهم ستكون نتيجة للاختلافات الجينية بينهم. وفي الواقع، فإن العلماء الذين يدرسون علم الوراثة السلوكي البشري عادة ما يركزون على مستوى المجموعة. وأداتهم الرئيسية هي «تحليل قابلية الانتقال بالوراثة». يتضمن ذلك دراسة الأقارب من أجل الوصول إلى تقدير عددي لقابلية صفة ما للانتقال بالوراثة، وهو يُعرَّف بأنه الجزء من تباين الصفة الذي يرجع إلى التباين الجيني. لتوضيح المنطق، افترض أنه وجِدَ أن توءمين متطابقين انفصلا عند الولادة، يتشابهان في بعض الصفات أكثر من فردَين مختارَين عشوائيًّا من الجماعة. لأن التوءمين نشآ في بيئتين مختلفتين، يمكننا أن نستنتج أن التشابه بينهما يرجع على الأرجح إلى الجينات المشتركة، مِن ثَم فالصفات المشتركة لها قابلية عالية للانتقال بالوراثة. وُجدَ أن قابلية العديد من الصفات السلوكية والمعرفية البشرية للانتقال بالوراثة متوسطة إلى عالية. وهي تشمل سمات شخصية مثل الانبساط وليونة الطبع؛ وسمات إدراكية مثل معدل الذكاء والمهارة الموسيقية؛ والاضطرابات النفسية مثل القلق والفصام؛ والمواقف الاجتماعية مثل المحافَظة والتدين. يرى العديد من الباحثين أن هذا يشير إلى أن التأثيرات الجينية على السلوك البشري جوهرية.

ولكن التفسير الصحيح لتحليل قابلية الانتقال بالوراثة محل جدل. أنصار ذلك التحليل يرونه أداة دقيقة من الناحية الكمية لمعالجة مسألة الطبيعة والتنشئة التقليدية. هذا مبرَّر في بعض الأحيان، ولكن يثير عددًا من التعقيدات. أولًا، تعتبر قابلية صفة ما للتوريث نسبية بطبيعتها، ويمكن أن تختلف اختلافًا كبيرًا من مجموعة إلى أخرى. ثانيًا، من الخطأ مساواة قابلية الانتقال بالوراثة العالية بالعامل «الوراثي» والمنخفضة بالعامل «البيئي»، على عكس ما يُعتقد أحيانًا. لنأخذ مثالًا صفة امتلاك ساقَين في البشر. في مجموعة نموذجية، سيكون الأشخاص الوحيدون الذين لا يملكون ساقين قد فقدوا إحداهما أو كلتيهما في حادث؛ مِن ثَم فإن الاختلافات في هذه الصفة ليست وراثية. وهذا يعني أن قابلية انتقال صفة امتلاك الساقين بالوراثة تقترب من الصفر؛ لكن سيكون من الخطأ البيِّن أن نستنبط من ذلك أن الجينات لا تلعب دورًا في تفسير سبب تطور صفة الساقين لدى الإنسان. ثالثًا، أينما يوجد «تفاعل وراثي-بيئي»، يفقد تحليل قابلية الانتقال بالوراثة جزءًا كبيرًا من معناه. في هذا السياق، «التفاعل» يعني أن التأثير السببي للجين على صفة ما يعتمد في حد ذاته على البيئة. على سبيل المثال، قد يزيد جين معين من خطر الإصابة باضطرابات القلق في المناخات الدافئة، ولكنه يقلله في المناخات الباردة. في مثل هذه الحالات، تتشابك الطبيعة والتنشئة بشكل لا ينفصم، حتى على مستوى الجماعة. أخيرًا، يحدث «الارتباط الجيني-البيئي» عندما يرجح أن يواجه الأفراد المتشابهون جينيًّا بيئات متشابهة. كما هو الحال مع التفاعل، يمنع هذا الارتباط تحليل قابلية الانتقال بالوراثة من الوقوف على حدٍّ فاصل بين التأثيرات الجينية والبيئية.

لنلخص ما سبق. على المستوى الفردي، تنشأ جميع الصفات من مزيج من العوامل الجينية والبيئية، ولا معنى هنا لسؤال أيهما أهم. على مستوى المجموعة، يمكن أحيانًا قياس الأهمية النسبية للعوامل الجينية والبيئية في تفسير الاختلافات بين الصفات كميًّا، ولكن ليس في كل الحالات. تنطبق هاتان النقطتان على جميع الصفات، ومن بينها الصفات السلوكية والإدراكية للإنسان. لذا، على الرغم من أن علم الأحياء قد لا يحل جدلية الطبيعة والتنشئة الأزلية، فهو بالتأكيد يساعد في توضيح معناها.

من علم الأحياء الاجتماعي إلى علم النفس التطوري

في سبعينيات القرن العشرين، قدَّم علم الأحياء الاجتماعي الناشئ نهجًا جديدًا جريئًا لدراسة السلوك البشري. وقد طبَّق علم الأحياء الاجتماعي بريادة إدوارد ويلسون عالم الأحياء بجامعة هارفرد نظرية التطور على السلوك الاجتماعي للبشر، وعلى بنية المجتمع البشري بشكل عام. كانت الفرضية الأساسية هي أن الجينات لها تأثير قوي على السلوك البشري وأنه قد تطور بالانتخاب الطبيعي؛ لذلك يمكن تقديم تفسيرات داروينية لسلوكيات واتفاقات اجتماعية معينة. أحد أوضح أمثلة ويلسون كان «حظر زنا المحارم». فعلى الرغم من اختلاف الأعراف الجنسية بشكل كبير بين المجتمعات البشرية، فإن زنا المحارم محظور في جميعها تقريبًا؛ كما أن البشر ينفرون منه غريزيًّا. فما السبب؟ طُرحَت تفسيرات أنثروبولوجية مختلفة، لكن ويلسون ذهب إلى أنه يوجد تفسير دارويني بسيط لذلك. غالبًا ما تظهر عيوب خلقية في ذرية الأزواج من المحارم، لذلك كان هناك ضغط انتخابي قوي لتنحية زنا المحارم. ويرى ويلسون أن هذا هو السبب في أن النفور من زنا المحارم تطور لدى الأفراد وفي حظر المجتمعات له. مثال آخر أكثر استنادًا إلى التخمين هو وجود المثلية الجنسية في الذكور. مستشهدًا بنظرية انتخاب الأقارب، ذهب ويلسون إلى أنه على الرغم من أن السلوك المثلي يؤدي إلى انخفاض صلاحية الذكر الفرد، فإنه ربما يمنح ميزات في الصلاحية غير مباشرة لأقاربه. مِن ثَم، يمكن للانتخاب الطبيعي أن يُبقيَ على جينات المثلية الجنسية في مجموعة ما.

كان علم الأحياء الاجتماعي محط جدل شديد في السبعينيات، وكان جانب كبير من ذلك الجدل متطرفًا، وغالبًا ما كان يحظى بمتابعة إعلامية. اعتبره نقاده مشروعًا رجعيًّا من شأنه أن يفتح الباب لعلم تحسين النسل. إذا ما نظرنا إلى الماضي، فسيتضح لنا أن العديد من النقاد كانت تحركهم دوافع سياسية فأساءوا عرض دراسات ويلسون. لكن أثيرت أيضًا انتقادات علمية سليمة، ثلاثة منها تستحق الذكر. أولًا، كان توقع ويلسون الواثق بأن العلوم الاجتماعية ستصبح «فرعًا من علم الأحياء» توقع لا يستند إلى أدلة. فاعتماد نهج تطوري للسلوك البشري لا يعني بالضرورة الاستغناء عن علماء الاجتماع. فعلماء الاجتماع يهتمون عادةً بالتفسيرات المباشرة لا المطلقة (راجع الفصل الثاني). ثانيًا، نزَع علماء الأحياء الاجتماعية إلى المبالغة في تبسيط العَلاقة بين الجينات والسلوك، وغالبًا ما يتحدثون كما لو أن الجينات تحدد أنماط سلوك معينة بشكل حاسم. وهذا افتراض غير صحيح لأنه يتجاهل العوامل البيئية، ويتجاهل دور الإدراك في إنتاج السلوك البشري. ثالثًا، تكون تفسيرات علم الاجتماع الحيوي أكثر منطقية عندما يكون السلوك عامًّا (مثل تجنب زنا المحارم). ولكن كثيرًا من السلوكيات البشرية «طَيِّعة» للغاية، أي إنها عرضة للتغيير وَفق الظروف، ومتباينة عبر الثقافات.

اعتمد علم النفس التطوري هذين النقدين الأخيرين، وهو تخصص ظهر في الثمانينيات خليفة لعلم الأحياء الاجتماعي، ووصل إلى أوجهِ في يومنا هذا. كان الإسهام الرئيسي لعلم النفس التطوري هو البحث عن تفسيرات تكيفية لا للسلوك البشري بشكل مباشر، بل لأسسه المعرفية أو النفسية. يرى أنصاره أنه على الرغم من أن السلوك البشري متغير وخاضع للتأثير الثقافي، إلا أنه يوجد مع ذلك تكوين نفسي عام يشترك فيه جميع البشر طوَّره الانتخاب الطبيعي، وهو يحكم بقوة سلوكنا. ويرون أنه يتكون من مجموعة من «الوحدات العقلية» تختص كل منها بوظيفة محددة. ينتج السلوك الفعلي عن تشغيل وحدة ما في موقف محدد. من أمثلة ذلك وحدة لمعالجة اللغة، ووحدة للتعرف على وجوه الآخرين، ووحدة لاختيار الشريك، ووحدة لاكتشاف «الغش» في التعاملات الاجتماعية. تتناقض فكرة الوحدات العقلية المتعددة، التي يطلق عليها أحيانًا نموذج «سكين الجيش السويسري»، مع وجهة النظر التقليدية القائلة بأن البشر يؤدون مهامَّ مختلفةً باستخدام آلية نفسية واحدة متعددة الوظائف. يرى علماء النفس التطوريون أن التنظيم ذا الوحدات أكثر كفاءة؛ لأنه يسمح بإنتاج السلوك التكيفي بسهولة أكبر.

على الرغم من أن علم النفس التطوري يعتمد على التكيف في جوهره، فإن أنصاره لا يعتقدون أن سلوك الإنسان الحديث تكيفي في جميع الحالات. فهم يرون أن العقل البشري متكيِّف بشكل جيد على أسلوب حياة الصيد وجمع الثمار الذي ساد في معظم مراحل التطور البشري. ولكن في آخر ۱٢ ألف سنة، طرأت على البيئة تغيرات سريعة لم يُتَح للتطور الجيني الوقت الكافي لمسايرتها. لذلك يمكن أن تؤديَ «عقولنا المتكيفة على العصر الحجري» إلى سلوكيات غير متكيفة على العالم الحديث. هذه الفرضية المعروفة باسم «عدم التطابق التطوري» معقولة تمامًا في بعض الحالات. على سبيل المثال، كان اشتهاؤنا للسكر على الأرجح تكيُّفيًّا في البيئات التي تطور فيها هذا الاشتهاء ولكنه يؤدي إلى السِّمنَة في البيئات الحديثة التي يتوافر فيها السكر بكثرة. تشمل بعض الأمثلة الأكثر إثارة للجدل السلوكيات الإدمانية، والضغط العصبي في أماكن العمل، واكتئاب ما بعد الولادة، وقد قيل إن كلًّا منها ينشأ من ميول نفسية متطورة كانت ستعد تكيفية في العصر البليستوسيني.

على الرغم من أن علم النفس التطوري أفضل منهجيًّا من علم الأحياء الاجتماعي، وأنه أدَّى إلى الكثير من الأبحاث المثيرة للاهتمام، فإنه لم يسلم من الجدل. أحد أسباب ذلك هو هوَس بعض علماء النفس التطوريين الفضوليين بالسلوكيات الجنسية البشرية (وفيها الاغتصاب)، والاختلافات بين الذكور والإناث؛ وهي موضوعات حساسة لا محالة. أيضًا، يرى نقاده أن الاعتقادات الفكرية لعلماء النفس التطوريين، مثل إيمانهم بوجود تكوين نفسي عام للبشر وبالوحدات العقلية التي تتحكم بها الجينات، تتجاوز الأدلة المتاحة. يتهم اتجاه نقدي آخر علم النفس التطوري بتبنيه التكيفية الساذَجة التي انتقدها جولد ولونتين (راجع الفصل الثالث)، والتي تفترض مسبقًا أنه يمكن إيجاد تفسير تكيفي لأي صفة. على الرغم من أن هذه الانتقادات وجيهة، لا سيما المتعلقة بأبحاث شهيرة في علم النفس التطوري، فإن أفضل أبحاث هذا المجال تتوافق مع أعلى المعايير العلمية.

النقد الأخير، الذي يمكن في الواقع توجيهه إلى كل النظريات التي تفترض أساسًا وراثيًّا للسلوك البشري، هو أنها تتعارض مع إحساسنا بالإرادة الحرة. نحن البشر نعتقد بديهيًّا أن أفعالنا ناتجة عن اختياراتنا الواعية، أي إننا فاعلون متصرفون. لكن يبدو أن وجود تأثيرات جينية قوية على سلوكنا، أو على تركيبنا النفسي الأساسي، يزعزع هذا الاعتقاد. على سبيل المثال، على الأرجح ستجيب امرأة تُسأل عن سبب زواجها من رجل أعمال ناجح بأنها تحبه. ولكن كيف يمكن أن يتوافق ذلك مع افتراض علماء النفس التطوريين أن النساء لديهن «وحدة اختيار زوج» في تركيبهن تقودهن للبحث عن أزواج من ذكور ذوي مكانة عالية؟ علاوة على ذلك، هو يهدد أيضًا تحمل الأشخاص لمسئولية أفعالهم. إذا كان لدى الذكور البالغين جينات تجعلهم عدوانيين، فكيف يمكننا أن نلوم الذكر على فعل عدواني أثناء القيادة؟ ألن يستطيع أن يتذرع بأن «جيناته هي التي دفعته إلى ذلك»؟

يوجد ردَّان لهذه الحُجة. أولًا، لا أحد يقترح بجدية أن السلوك البشري تحكمه بالكامل الجينات. إنما على الأكثر، قد تكون هناك نزعات وراثية متفاوتة في شدتها، لسلوكيات معينة. ثانيًا، والأهم من ذلك، أن ما يهدد إحساسنا بالإرادة الحرة هو في الحقيقة فكرة أن سلوكنا ناجم عن سبب ما لا عن اختيار حر؛ كون السبب «جينيًّا» من عدمه لا يهم. فالأسباب البيئية تهدد إحساسنا بحرية الإرادة بالقدر نفسه. افترض أنه اتضح أن السلوك العدواني لذكر بالغ ناتج عن عقاب جسدي تعرَّض له في طفولته. يظل بإمكان الرجل الذي ارتكب فعلًا عدوانيًّا أثناء القيادة أن يدعي البراءة زاعمًا أن تجارب طفولته، لا جيناته، هي التي دفعته إلى ذلك الفعل. كما يوضح هذا المثال، فإن إيجاد مكان للإرادة الحرة في عالم تسوده الأسباب هي مسألة فلسفية عامة جدًّا تنشأ في شتى المجالات. فهي لا تقتصر على علم الأحياء الاجتماعي أو علم النفس التطوري، لذلك لا ينبغي أن تُعتبَر اعتراضًا على هاتين النظريتين فقط.

التطور الثقافي

هناك نهج مختلف تمامًا لتطبيق الأفكار الداروينية على السلوك البشري يُعرف باسم التطور الثقافي، أو نظرية الوراثة المزدوجة. وهي نظرية تنطلق من ملاحظة وجود اختلافات ثقافية هائلة بين الجماعات البشرية. تأمل على سبيل المثال اختلاف الترتيبات العائلية والممارسات الجنائزية والأساليب المعمارية حول العالم. نظرًا لأن هذه الاختلافات الثقافية نشأت سريعًا، في غضون بضعة آلاف من السنين، يمكننا أن نجزم بأنها لا تنبع من الاختلافات الجينية. لذا يبدو أن الثقافة البشرية «مستقلة» عن الأسباب البيولوجية. على الرغم من ذلك، يظل من الممكن أن تتطور الثقافة من خلال عملية شبيهة بالداروينية. حيث إن لدى البشر مصدرين متوازيين للوراثة، جينيًّا وثقافيًّا. مثلما نرث الجينات من آبائنا البيولوجيين، فإننا نرث الممارسات والمعتقدات الثقافية من «آبائنا الثقافيين»؛ الذين قد يكونون آباءنا البيولوجيين أو أعضاءً آخرين في جماعتنا الاجتماعية. هذا يعني أنه من حيث المبدأ، يمكن أن يؤثر الانتخاب الطبيعي على الاختلافات الثقافية وكذلك الجينية، مما يؤدي إلى انتشار بعض الممارسات الثقافية بين السكان وانحسار بعضها.

يؤكد أنصار التطور الثقافي أن هذا قد حدث بالفعل. تأمَّلْ على سبيل المثال تطور تخزين الطعام بمرور الزمن. في معظم تاريخنا، كنا صيادين جامعين رُحَّلًا. بدأ هذا يتغير منذ نحو ۱٠ آلاف عام، عندما بدأ البشر يزرعون المحاصيل ويستأنسون الحيوانات في عدد من المواقع المختلفة حول العالم. ثم انتشرت تربية الحيوانات والزراعة بسرعة لتحل محل نمط الحياة التقليدي الذي يعتمد على الصيد وجمع الثمار، وفي غضون بضعة آلاف من السنين صارت موجودة في جميع أنحاء العالم. كان هذا يرجع إلى المحاكاة حين رأت الجماعات التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار فوائد الزراعة فتحولت إليها، وكذلك إلى الغزو والاستعمار. بالطبع، لطالما عرف العلماء أن انتشار الزراعة أدى إلى تحول جذري في البشرية. لكن الادعاء المميز لنظرية التطور الثقافي هو أنها كانت عملية داروينية في حقيقتها، تفوَّق فيها تباين ثقافي له الأفضلية (الزراعة) على تباين أقل تفوقًا (البحث عن المؤن)، وهو مماثل للطريقة التي تتفوق بها التنوعات الجينية التي لها الأفضلية على أليلاتها في عملية التطور البيولوجي المعتادة.

في حالة التطور الجيني، الأثر التراكمي للانتخاب الطبيعي هو تكيف الجماعات مع بيئتها وخلق التباين، كما رأينا في الفصل الثاني. يجادل أنصار التطور الثقافي بأن الأمر نفسه ينطبق عندما يسري الانتخاب الطبيعي على التباين الثقافي. للتوضيح، تأمَّل القدرة المذهلة للبشر على التكيُّف مع بيئتهم المحلية، والتي سمحت للبشر بأن يصبحوا أكثر الأنواع انتشارًا ونجاحًا على هذا الكوكب. تأمل على سبيل المثال مهارات بناء الأكواخ الجليدية لدى شعب الإنويت، ومهارات الصيد لدى شعب بوشمن في كالاهاري، أو مهارات بناء القوارب لدى شعب الفايكنج، تلك جميعها كانت مهارات ضرورية للبقاء على قيد الحياة في البيئات المعنية. وهي مهارات تنتقل ثقافيًّا وليس وراثيًّا. لا يوجد «جين أكواخ جليدية» نقله شعب الإنويت إلى ذُريته؛ بل كانوا يعلمون صغارهم تلك المهارة التي صُقلَت تدريجيًّا على مدى أجيال عديدة. وينطبق الشيء نفسه على العديد من الممارسات الثقافية الأخرى. وبالتالي فإن التطور الثقافي أمر بالغ الأهمية في تفسير كيفية تكيف المجموعات البشرية مع بيئاتها، وكيف تظهر الاختلافات الثقافية بينها وتستمر.

ما العَلاقة بين التطور الثقافي والتطور البيولوجي (أو الجيني)؟ من ناحية، يعتمد الأول على الثاني، لكنهما من ناحية أخرى مستقلان. لإدراك اعتماد التطور الثقافي على التطور البيولوجي، لاحظ أن الممارسات الثقافية لا يمكن أن تنشأ وتنتشر إلا بسبب القدرات الإدراكية للبشر، والتي تطورت هي نفسها عن طريق التطور البيولوجي. على سبيل المثال، ما جعل ابتكار الزراعة وانتشارها اللاحق ممكنًا هو امتلاك البشر القدر اللازم من الذكاء والتواصل والقدرة على محاكاة سلوكيات الغير. فلولا أن التطور البيولوجي أدَّى إلى امتلاك الإنسان الإدراك اللازم لما نشأ التطور الثقافي من الأساس. أما لإدراك استقلالهما، فلاحظ أن التطور الثقافي لا يعتمد على وجود التباين الجيني، ويحدث بمقياس زمني أسرع بكثير من التطور البيولوجي. يمكن للتباينات الثقافية أن تجتاح جماعة بشرية بسرعة أكبر بكثير من التنوعات الجينية، فبينما تنتقل الجينات عموديًّا فقط (من الآباء إلى الأبناء)، تستطيع الثقافة أن تنتقل أفقيًّا. مِن ثَم فإن السرعة التي يمكن أن ينتشر بها الجين المتحور يحكمها فترة حياة الجيل، بينما لا يخضع انتشار تباين ثقافي جديد لمثل ذلك القيد.

في بعض الحالات، يحدث تفاعل مثير للاهتمام بين التطور الثقافي والبيولوجي. المثال التقليدي هو انتشار مزارع الألبان. بدأ استئناس الماشية بغرض استهلاك حليبها الغني بالمغذيات منذ آلاف السنين، وانتشر عن طريق التطور الثقافي. ولكن نجاح هذه الممارسة الثقافية كان محدودًا بسبب حقيقة أن معظم البشر يفتقرون إلى القدرة على هضم اللاكتوز. أدى ظهور مزارع الألبان إلى ضغط انتخابي مُلِّح لإيجاد جين من شأنه أن يساعد في هضم اللاكتوز. في النهاية ظهر مثل هذا الجين وانتشر عن طريق التطور «البيولوجي» عبر شمال أوروبا والشرق الأوسط، حيث يوجد اليوم بنِسَب عالية. في المقابل، لم ينتشر جين إنزيم اللاكتيز في المناطق التي لم تتبنَّ مزارع الألبان، ولا يزال موجودًا بنسب منخفضة لدى معظم السكان اليوم في آسيا على سبيل المثال. أي إننا وجدنا ارتباطًا وثيقًا بين وجود منطقة لها تاريخ في إنشاء مزارع الألبان ووجود الجين لهضم اللاكتوز. النقطة المهمة التي تجب ملاحظتها هنا هي التفاعل بين التطور البيولوجي والثقافي. فقد أدَّى انتشار ممارسة ثقافية — مزارع الألبان — إلى خلق الظروف اللازمة لعملية التطور البيولوجي لتغيير التكوين الجيني للمجموعة التي انتشرت فيها هذه الممارسة الثقافية، مما سمح لهذه المجموعة بعد ذلك بتحصيل الفوائد الكاملة لهذه الممارسة. يُعرف هذا التفاعل باسم «التطور الجيني-الثقافي المشترك».

قدم ريتشارد دوكينز نظرية مهمة في التطور الثقافي في كتابه «الجين الأناني». وصف دوكينز عملية تطورية ينفرد بها جنسنا البشري، تتنافس فيها كيانات تدعى «الميمات» على موضع في العقل البشري. يُقصد بالميم وحدة معلومات ثقافية، مثل أغنية أو طقس ديني، مثلما يعد الجين وحدة للمعلومات الوراثية. رأى دوكينز أن الميمات، على غرار الجينات، «مُستنسَخات»، أي كيانات تُصنع منها نسخ.

بفضل نزعة الإنسان إلى المحاكاة، تنتقل الميمات من عقل شخص إلى آخر، ومن حين لآخر تحدث أخطاء في النسخ. رأى دوكينز أن انتشار الميمات يخضع للمبادئ الداروينية بصفة عامة. الميمات الأصلح للنسخ لأي سبب كان، ستسود «تجميعة الميمات». وهذا هو السبب في وجود أغاني البوب الجذابة والديانات التي تحث أتباعها على الدعوة لاعتناقها؛ فتلك هي الاستراتيجيات التي تساعد الميمات المعنية (الأغنية والدين) على الانتشار. تصور دوكينز نشأة علم مستقبلي للميمات، يناظر علم الوراثة، يدرس المبادئ التي تنتشر بها الميمات في جماعة.

على الرغم من أن طرح دوكينز كان ثاقبًا، لم يُؤتِ علم الميمات ثماره وتحاشى معظم أنصار التطور الثقافي الحديث مفهوم الميم. يرجع هذا جزئيًّا إلى عدم وجود تعريف واضح لما يُعد ميمًا أو لكيفية تحديده. فيبدو أنه لا توجد طريقة واضحة ﻟ «تجزئة» ممارسة ثقافية معقدة إلى وحدات متمايزة. فهل نعتبر الدين المسيحي ميمًا واحدًا أم عدة ميمات، على سبيل المثال؟ علاوة على ذلك، ارتبط مفهوم دوكينز للميم باعتقادات فكرية معينة ليست من جوهر نظرية التطور الثقافي، مثل الادعاء المثير للجدل بأن الميمات «تطفَّلَت» على العقل البشري لمصلحتها الخاصة. وأخيرًا، أدى مفهوم الميم بالنقاد إلى الاستعجال في صرف نظرهم عن أهمية التطور الثقافي، على أساس أن التشابه بين الجينات والميمات مُتخيَّل ولا أساس له من الصحة. لهذه الأسباب، لا ينبغي ربط نظرية التطور الثقافي بمفهوم الميم.

إحدى القضايا الفلسفية المثيرة للاهتمام هي ما إذا كان ينبغي اعتبار التطور الثقافي والتطور البيولوجي نوعين متشابهين من التطور. هل كلاهما تجسيد لنفس المنطق الدارويني المجرد؟ يرى أنصار التطور الثقافي أنهما كذلك، لكن النقاد يشيرون إلى اختلافات شتى. أحدها هو أن الثقافة يمكن أن تنتقل أفقيًّا ورأسيًّا. على الرغم من صحة ذلك، يمكن القول إن هذا لا يجعل التطور الثقافي مختلفًا جوهريًّا عن نظيره البيولوجي. على الرغم من أن الانتقال الأفقي للجينات لا يحدث في البشر، إلا أنه ليس مستحيلًا بيولوجيًّا، بل إنه شائع جدًّا في البكتيريا. هناك فارق أكبر وهو أن المتغيرات الثقافية الجديدة لا تنشأ عادة عن طريق الصدفة، كما تفعل المتغيرات الجينية الجديدة، بل هي اختراعات بشرية متعمَّدة. على سبيل المثال، من الأرجح استبعاد أن يكون تحسين معين أُدخل على تصميم القارب الطويل ناتجًا عن حدث عشوائي، بل هو صادر عن صانع قوارب ذكي من شعب الفايكنج أدرك أن التصميم الحالي يمكن تحسينه. الاختلاف الأخير في هذا الشأن هو أن الوراثة الثقافية «لاماركية»، بمعنى أن التعديلات التي تُجرى على صفة ثقافية معينة أثناء حياة الفرد يمكن أن تنتقل لذُريته. على النقيض من ذلك، فإن الوراثة البيولوجية ليست لاماركية في العادة، إذ لا تنتقل التغييرات التي تتسبب بها البيئة للكائن الحي عمومًا إلى ذريته.

هذان الاختلافان الأخيران مهمان، لكن لا ينبغي إعطاؤهما أكبر من حجمهما. حقيقةُ أن تباينًا ثقافيًّا جديدًا نشأ بشكل متعمَّد، ولم يظهر بشكل عشوائي، تتوافق تمامًا مع «انتشاره» بعد ذلك بنمط دارويني، أي إن انتشاره يرجع إلى الميزة التكيفية التي يمنحها ذلك التباين لمستخدميه. وبالمثل، فإن حقيقة أن الوراثة الثقافية لاماركية تتوافق مع التعامل مع انتشار الثقافة باعتباره عملية داروينية. من ناحية، كان داروين نفسه يؤمن بانتقال السمات المكتسبة بالوراثة؛ وكان الداروينيون الجدد هم من رفضوا الوراثة اللاماركية. علاوة على ذلك، أظهرت اكتشافات حديثة في مجال علم الوراثة فوق الجينية أنه في حالات معينة، تكون الوراثة البيولوجية في حد ذاتها لاماركية، إذ يمكن أن تنتقل التغيرات المكتسبة الموجودة في «علامات الوراثة فوق الجينية»، ولكنها غير موجودة في تسلسل الحمض النووي إلى الجيل التالي. لهذا السبب أيضًا، لا ينبغي أن نستبعد فكرة أن التطور الثقافي هو عملية داروينية حقيقية.

أخيرًا، هناك عَلاقة مثيرة للاهتمام بين التطور الثقافي ومسألة مستويات الانتخاب التي نوقشت في الفصل الخامس. لقد رأينا أنه بينما تتطور معظم الصفات البيولوجية بسبب الميزة التي تمنحها الكائن الحي، فإن هذا لا يحدث في جميع الحالات. بل هناك احتمال آخر وهو أن الصفة تتطور لأنها مفيدة للجماعة، أي نتيجة للانتخاب على مستوى الجماعة. ينطبق ذلك أيضًا على الصفات الثقافية. من المفترض أن يعود أسلوب زراعة محسَّن ينتشر بين المجموعة بالفائدة على كل مزارع يستخدمه. لكن بعض الممارسات الثقافية الأخرى قد تتطور عن طريق الانتخاب الجماعي. على سبيل المثال، لدى العديد من المجتمعات التقليدية أنظمة معقَّدة من القواعد الاجتماعية التي تنظم سلوك أفرادها. تلك القواعد يفرضها أفراد يعاقبون أي فرد ينتهكها. معاقبة المخالف للقواعد عمل إيثاري، لأنه مكلف على المستوى الفردي ولكنه مفيد للمجموعة. ومِن ثَم، فإنه من المرجح أن تكون الأعراف الاجتماعية قد تطورت عن طريق انتخاب جماعي ثقافي.

في الفصل الخامس، رأينا أن الانتخاب على مستوى الجماعات كثيرًا ما كان يُتشكَّك فيه في علم الأحياء. ولكن من المثير للاهتمام أن الاعتراضات التقليدية على الانتخاب الجماعي الجيني قد لا تنطبق على نظيره الثقافي. على وجه الخصوص، أحد الاعتراضات هو أن الهجرة بين الجماعات سرعان ما ستجعلها متجانسة وراثيًّا، ومِن ثَم ستؤدي إلى تقليل التباين بين الجماعات اللازم للانتخاب الجماعي. لكن في الجانب الثقافي لا تنشأ مثل هذه المشكلة. فالهجرة بين الجماعات البشرية لا تجعلها تلقائيًّا متجانسة ثقافيًّا؛ لأن المهاجرين غالبًا ما يتبنَّون الممارسات الثقافية لجماعتهم الجديدة. على الرغم من أن الجدل حول هذه النقطة لا يزال دائرًا، فإن الدلائل تشير إلى أن الانتخاب الجماعي قد يكون قوة أكثر فاعلية في المجال الثقافي منه في المجال الجيني.

إيجازًا، بينما يركز علم الأحياء الاجتماعي وعلم النفس التطوري على التطور البيولوجي للسلوك البشري وأسسه المعرفية، تسلك نظرية التطور الثقافي نهجًا مختلفًا تمامًا. يشير وجود اختلافات ثقافية بين البشر، وحقيقة الوراثة الجينية-الثقافية المزدوجة، إلى أن عملية التطور الثقافي تعمل بالتوازي مع عملية التطور الجيني في المجتمعات البشرية، بل تتفاعل معها أحيانًا. لقد أنتجت هذه النظرية دراسات تجريبية مذهلة، وأثارت أسئلة فلسفية مثيرة للاهتمام، مثل ما إذا كان التطور الثقافي والبيولوجي متشابهَين جوهريًّا أم لا.

خاتمة

ماذا نستخلص من هذا العرض الموجَز لفلسفة علم الأحياء؟ بالإضافة إلى الدروس المستفادة المُحدَّدة المذكورة في كل فصل، فإن أهم درس مستفاد بصفة عامة هو أن القضايا الفلسفية شائعة في علم الأحياء. يعني هذا أن التأملات الفلسفية في علم الأحياء تلعب دَورًا مهمًّا. تساعد الفلسفة في تعميق فَهْمنا لصورة العالم التي يرسُمها علم الأحياء المعاصر من خلال تدقيقها في معاني المفاهيم البيولوجية، ودراسة الآثار المترتبة على النظريات البيولوجية، واستكشاف منطق التفسيرات البيولوجية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤