الفصل الثاني عشر

رجل الجزيرة

كنت مرتاعًا لأنني حاولت التملص من سيلفر، وبدأت أستمتع باستكشاف الجزيرة التي كانت تعج بالأشياء الغريبة على الناظر، إذ كان بها ما يكفي ليثير خيال وفضول صبي في مثل عمري. وليتني كنت أستطيع أن أذكر كل هذا، لكن الألوان الزاهية الجديدة والمناظر الخلابة غمرت عقلي الصغير حينها. كنت سأقضي شهرًا كاملًا لأستوعب فقط كل النباتات والأشجار الغريبة التي صادفتني. وقد سرت عبر أراضي مستنقعات مليئة بشجر الصفصاف والأعشاب المائية (التي قرأت عنها في الإنجيل)، وأشجار قديمة الشكل كانت تنبت في المستنقعات. وكانت هناك بقعة رملية متعرجة تمتد مسافة ميل تقريبًا، وهناك يمكن للمرء رؤية أشجار الصنوبر وأشجار مجدولة تشبه أشجار البلوط يميزهما فقط اللون الضارب إلى الأرجواني. وكان يمكنني أن أرى على بعدٍ تلًّا ذا قمة شديدة الانحدار مغطاة بالصخور الوعرة التي تتوهج تحت أشعة الشمس الحامية.

والآن بدأت أشعر وكأنني مكتشف بالفعل، لقد شعرت بالحرية والفرح الشديد، ناسيًا بعض الوقت المخاطر الكثيرة التي كانت تحدق بي، وكانت الجزيرة مهجورة تمامًا. وكنت قد تركت زملائي في السفينة ورائي، ولم يكن أمامي سوى بعض الطيور غير المألوفة لي وبعض المخلوقات الأخرى التي كانت تركض أو تطير لتحتمي مني. وكانت هناك سلاحف ظهورها كبيرة تشبه شكل أحواض الاستحمام المقلوبة، ونباتات مزهرة سحرية في حجمها وشكلها لا يراها المرء سوى في الأحلام.

وفجأة سمعت صوت حفيف أوراق الشجر وسط الأعشاب المائية، إذ طارت بطة برية وهي تبطبط، وتبعتها بطة ثانية، وثالثة. وسرعان ما غطى سطح المستنقع كله سحابة كبيرة من الطيور التي تصرخ وتحوم في الهواء، فعرفت أنه لا بدّ أن يكون رفقائي في السفينة على مقربة، لذا عدوت بسرعة، ثم جثمت تحت أقرب شجرة بالقرب من المستنقع، وانتظرت صامتًا كالفأر. سمعت أصوات أناس، وميزت من بينها صوت سيلفر الذي أعرفه جيدًا. تجاوزت مخاوفي وزحفت مقتربًا أكثر كي أستطيع أن أتبين كلماتهم.

– «أنت أغلى من الذهب في نظري، لهذا أحذرك، لا يمكنك أن تغير الخطة، ولكن يمكنك أن تنقذ حياتك فحسب بأن تنضم إلينا. هيا الآن يا توم، أخبرني ما الذي بمقدورهم أن يفعلوه بي إذا عرفوا أنني أخبرك بكل هذا الآن؟»

رد توم: «يا سيلفر، لعلك تركت نفسك للضلال، أما أنا فلا؛ أنا أُفضل أن أفقد يدي على أن أنقلب ضد …»

وفجأة سمعنا كلنا صرخة غضب، وبعدها صرخة طويلة مزعجة. ورنت أصداء الضوضاء في كل أنحاء جروف تل سباي‏ جلاس، وهاجت الطيور في فزع مرة أخرى، وعرفت أنها صرخة موت، ووثب توم على قدميه.

سأل توم: «ما هذا؟»

أجاب سيلفر: «هذا ألان.»

صرخ توم: «ألان! لترقد روحه في سلام. أما أنت يا سيلفر، فلستَ صديقي، لعلى سأموت، لكن إذا مت، فسيكون هذا في سبيل الواجب. أنت الذي قتلت ألان، أليس كذلك؟ حسنًا، أتحداك أن تقتلني!»

ثم همّ توم بالفرار، لكن سيلفر استعاد قوته، وعدّل من توازنه، ثم مال إلى الوراء وصوب عكازه، فضرب سنه منتصف ظهر توم الذي سقط صارخًا. ولم يتح لي أن أعرف هل أصابه إصابة خطيرة، وعلى الفور انقض سيلفر عليه رافعًا سكينه ثم طعنه سريعًا طعنتين موديًا بحياته.

سمعت سيلفر يلهث، فأُصبت بدوار، لكني تمكنت من ألا أغيب عن الوعي عندما رأيته يمسح الدم عن سكينه، وكان المشهد بأكمله يدور في ذهني. وعندئذ أخرج سيلفر صفارة من جيبه ونفخ فيها مرتين. فعرفت أن بقية الرجال سيصلون سريعًا، وإذا كانوا قد قتلوا هذين الرجلين البريئين، ألن يقتلوني أنا أيضًا؟ وبدأت أزحف للوراء، وبينما كنت أفعل هذا، إذ بي أسمع صوت جوقة من المنشدين يدوي.

التفت وركضت عبر الأدغال ودافعي الوحيد للركض هو الخوف. وكنت في حاجة إلى أن أعود إلى السفينة مع الرجال، لكن كيف لي أن أفعل هذا؟ وبينما أخذت أعيد التفكير في الأمر ثانية، أدركت أنهم سيقتلونني إن حاولت هذا. ودعت في صمت السفينة «هيسبانيولا»، والطبيب، وتريلوني، والكابتن. وعلمت أنه لم يعد بانتظاري سوى الموت جوعًا أو على أيدي المتمردين.

وظللت أعدو عبر الأشجار حتى اقتربت من تل صغير، وهناك بينما كان قلبي يخفق بشدة، إذ بدوي إنذار يجمدني في مكاني.

•••

فجأة لمحت طيفًا يتحرك فأدركت أنني لست وحدي، وقفت ساكنًا كالصنم عندما رأيته يركض ورائي، يكاد يكون منحنيًا، ولم أستطع أن أميز ما إذا كان رجلًا أم قردًا، واصلت العدو، لكن سرعان ما تذكرت أن بحوزتي مسدسًا، فاستدرت بخفة كي أواجه قاطن الجبال هذا، الذي خرج من بين الأشجار وسار باتجاهي.

سألته: «من أنت؟»

أجابني بصوت أجش من قلة الاستخدام: «بِن جان. أنا بن جان المسكين، وأنا لم أتحدث إلى إنسان طيلة ثلاث سنوات!»

وتبين لي الآن أنه رجل مثلي، لكنه ملتحٍ، ومشقق الشفاه، لوَّحته الشمس، يرتدي أسمالًا بالية مصنوعة من الأشرعة القديمة للسفن. وسألته هل هو أحد الناجين من سفينة غارقة.

أجابني: «لا، أنا منفي.»

وكانت هذه الكلمة قد تناهت إلى مسامعي قبلًا، وعرفت أنها عقوبة شديدة تنزل بأحد المتهمين في جريمة فيُترك وحيدًا على إحدى الجزر المهجورة ليتدبر أمور حياته بنفسه. وعندئذ أخبرني كيف كان يتغذى على الماعز، والتوت، والمحار، ولطالما كان يحلم بأن يتناول الجبن مرة أخرى.

قلت له: «حسنًا، إذا تمكنت من العودة على متن سفينتي مرة أخرى، فسيتحقق حلمك!»

وعندئذ أخبرت بن باسمي. وهمس لي بن — وابتسامة عريضة بلهاء تعلو وجهه — بسرٍّ عظيم.

همس بن: «يا جيم، أنا لست أملك شيئًا، لكنني ثري!»

ومضى في حديثه يخبرني بأنه سيجعلني رجلًا ثريًّا أيضًا، وسألني سريعًا هل سفينتي هي سفينة فلينت. وسرعان ما وثقت فيه وأخبرته أن سفينتي ليست سفينة فلينت، وأن فلينت مات، لكن بعض أفراد طاقم سفينتي هم من رجال فلينت وأنهم متمردون وقتلة.

قال بن لاهثًا: «أمن بينهم ذلك الرجل ذو الساق الواحدة؟»

أجبت وأنا أراه يرتجف من شدة الرعب: «أجل، سيلفر هو زعيمهم.»

وأخبرته في تلك اللحظة كل ما قد وقع.

سألني بن: «هل تظن — لو أنا ساعدتكم — أن تريلوني سيضمني إلى رجاله ويمنحني ألف جنيه من المال؟»

أجبته أنه سيفعل هذا بالطبع. عندئذ جاهرني بأنه هو نفسه كان من ضمن رجال فلينت الذين تركهم على متن السفينة عندما ذهب فلينت هو وستة رجال إلى الشاطئ ودفنوا الكنز. وقد قتل هؤلاء الرجال الستة بيديه بطريقة ما، ولم يخبر مخلوقًا قط على متن السفينة أين خبأ الكنز. وأولئك الذين سألوا عن موضع الكنز، أجابهم فلينت أنه بمقدورهم أن يمكثوا على الجزيرة ويحاولوا التفتيش عن الكنز، وبالطبع رفضوا.

لكن بن المسكين عاد مع سفينة أخرى بعد مرور ثلاث سنوات، ولمّا رأى الجزيرة، أخبر طاقم السفينة أن بمقدوره العثور على الكنز. وبعد ثلاثة أيام من البحث المضني، أخذوا يلعنونه وتركوه وحده ليواجه مصيره، ولم يتركوا له سوى بندقية، وكريك مسطح، وجاروف.

قال بن: «أخبرْ تريلوني أيضًا أنني سأكون مشغولًا بشيء آخر إن لم يعدني إلى الديار ويعطيني الجبن.»

أجبته بأنني سأخبره بالفعل، لكن ما من سبيل الآن للعودة إلى السفينة.

قال بن وهو يشير إلى خليج صغير: «حسنًا، عند الضرورة يمكننا أن نستخدم هذا القارب الصغير الذي صنعته بنفسي. وأنا أضعه إلى جانب صخرة بيضاء تقع في الأسفل تجاه الشاطئ.»

وبعد ذلك سمعنا صوت إطلاق نار من مدفع، وطلقات نارية تدوي في الآفاق. وكانت الشمس لا تزال ترتفع في كبد السماء. وأدركت أن القتال على متن السفينة قد بدأ؛ فجذبني بن إلى أسفل بمنأى عن النظر، وعندئذ أشار باتجاه معين حيث يرفرف العلم الإنجليزي في الهواء الطلق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤