مقدمة في جمع التحف وتاريخ دور الآثار

إن المتاحف بالمعنى الذي نعرفه في الوقت الحاضر مؤسسات ليست قديمة العهد، وإن يكن اللورد بيكون Lord Bacon قد تخيل في مؤلفه نيو أطلانطس New Atlantis١ نحو عام ١٦٢٥ وجود متحف أهلي كبير للعلوم والفنون، فإن أقدم المتاحف المعروفة ترجع إلى آخر القرن السابع عشر، وقليل منها يرجع إلى القرن الثامن عشر، بينما يرجع نمو هذه المؤسسات وازدهارها إلى القرن التاسع عشر، ولا سيما آخره.

والمتاحف معاهد للثقافة تفتح أبوابها للجميع، ويفيد منها الزائر في ساعة أكثر مما يفيده من قراءة عدة ساعات، فلا غرو إذن إن كانت مما تمخضت عنه العصور الحديثة: عصور الديمقراطية والسرعة، والأسفار والرحلات، ولا غرابة إن كان تقدمها وازدهارها مقرونين بتقدم العلم، ونمو روح البحث والتنقيب.

(١) العالم القديم

وفي العصور القديمة كانت كلمة «متحف» باليونانية mouseion يقصد بها المؤسسات الجامعية التي يأوي إليها العلماء؛ يدرسون ما في مكاتبها من مخطوطات في شتى العلوم والمعارف، وتفسح لهم مجال البحث والدرس والتحصيل، وتبادل الأفكار، ومقارعة الحجج بالحجج، وكان سيد هذه المتاحف القديمة على الإطلاق متحف الإسكندرية،٢ ومن المحتمل أن مثل هذه المتاحف كانت تحوي بين جدرانها مجموعات من التحف الأثرية.
ومهما يكن من شيء، فنحن نعرف أن تاريخ جمع التحف يرجع إلى اليونان القدماء، وأن ملوك برجامن peregame — وهي المستعمرة التي أسستها جالية من المهاجرين الإغريق بآسيا الصغرى في القرن الثالث قبل الميلاد — كانوا يجمعون التحف النفيسة، التي ترجع إلى عصور ازدهار الفن الإغريقي؛ بل إنهم أنشئوا مكتبة لم تكن تفوقها في ذلك العصر إلا مكتبة الإسكندرية.
ونسج الرومان على منوال الإغريق في جمع التحف، وتنبه القائد الروماني فبسانيوس أجريبا Vipasanius Agrippa، زوج ابنة أوغسطوس إلى أن الأفضل أن تفتح أبواب المجموعات الفنية الخاصة ليراها الشعب، ويعجب بما فيها من آيات الفن.

وصفوة القول: إن معابد اليونان والرومان، وقصور أغنيائهم كانت فيها مجموعات من الصور والتماثيل تتفاوت في الحجم والقيمة.

(٢) الغرب

على أن كلمة متحف باليونانية mouseion بطل استعمالها بعد أن ذهب متحف الإسكندرية طعمة للنار، وظلت ميتة حتى بعثت في القرن السابع عشر؛ لتكون اسمًا لدور الآثار على اختلاف نوعها.

وإن كنا لا نعرف شيئًا عن جمع التحف في العصور الوسطى المظلمة، فإننا نعلم أن عصر النهضة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر أحيا الاهتمام بالآثار القديمة؛ إذ بدأ القوم في إيطاليا يفطنون إلى تراث اليونان والرومان، فهبوا يجمعون التحف الفنية، كالمخطوطات، وقطع العملة، والأحجار النفيسة، والتماثيل النصفية، والكتابات التاريخية، والأيقونات؛ ولم يكن ذلك لأن القوم تنبهوا إلى قيمتها الأثرية فحسب؛ بل لأنهم أخذوا يقدرون ما فيها من متعة وجمال، فلم تلبث قصور الأسرات الشهيرة في إيطاليا وفي غيرها من البلاد الأوروبية أن ضاقت بما فيها من التحف الفنية.

ثم كان إنشاء المجامع العلمية في النصف الثاني من القرن السابع عشر أكبر حافز على البحث العلمي، فأقبل الملوك والأمراء والأثرياء على تكوين المجموعات الفنية؛ ولكن جمعهم الغريب من التحف، والجميل من الآثار لم يكن له غرض معين، ولم يكن منظمًا كل التنظيم، بيد أن علينا أن نذكر دائمًا أن عددًا كبيرًا من المتاحف الأوروبية قام على أساس تلك المجموعات الفنية الخاصة؛ بل إن بعض القصور التي كانت هذه المجموعات محفوظة فيها، وهبها أصحابها إلى أوطانهم أو باعوها، فحولت بمحتوياتها إلى متاحف أهلية.

(٣) الشرق

وقد عرف الشرق الأدنى في العصور القديمة جمع التحف، على أن ذلك كان لأغراض دينية وجنائزية؛ كما يتجلى لنا مما تكشف عنه الحفائر في معابد قدماء المصريين وقبورهم.

وكذلك عرف الشرق الأقصى، ولا سيما اليابان، جمع التحف الفنية؛ ولكن أكبر الظن أنهم كانوا يجمعونها لأغراض دينية أيضًا، مثال ذلك: آلاف التحف التي أهدتها إمبراطورة يابانية إلى الإله بوذا، صدقة على روح زوجها في سنة ٧٥٦ ميلادية، وحفظت التحف المذكورة في معبد بمدينة نارا، التي كانت عاصمة اليابان في القرن الثامن الميلادي.

(٤) العالم الإسلامي

أما المسلمون فقد عرفوا جمع التحف الغالية منذ اختلطوا بالأمم المعاصرة، وتقدمت مدنيتهم المادية، فكانت قصور الأمويين والعباسيين تضم بين جدرانها شتى الأواني والمنسوجات الفاخرة.٣ على أننا نظن أنهم كانوا يرمون بجمع هذه التحف إلى الانتفاع بها واستخدامها في حياتهم اليومية، وأكبر ظننا أن الفاطميين هم أول من عمل في الإسلام على جمع التحف الفنية جمعًا منظمًا، ليس للانتفاع بها فحسب؛ بل تقديرًا لقيمتها الفنية والأثرية، وقد وصل إلينا اسم تاجر يهودي في العصر الفاطمي — هو أبو سعد إبراهيم بن سهل التستري — كان تاجرًا في التحف الثمينة النادرة.٤
١  توفي السر فرانسس بيكون عام ١٦٢٦، وطبع هذا الكتاب في العام التالي، وقد تخيل فيه وجود يوتوبيا (جزيرة خيالية بها المثل العليا من الأنظمة السياسية والاجتماعية) في ناحية من المحيط الأطلسي، ومما تصور وجوده فيها المتاحف والمخابرات التليفونية.
٢  لم يكن الغرض من متحف الإسكندرية الدرس والتعليم فحسب، بل كان البطالسة يريدون أن يظهروا به عظمتهم ورخاء البلاد في عصرهم. راجع: the Ptolemaic Dynasty Mahaffy: A History of Egypt ص(٦١، ٦٢).
٣  لعل أبدع هذه التحف إبريق محفوظ في دار الآثار العربية، وعلى بدنه ورقبته زخارف مخفورة بدقة وإبداع عظيمين، وهي تمثل عقودًا تحتها دوائر وأشكال هندسية، ورقبته مخرمة وصنبوره ينتهي بصورة ديك ناشر جناحيه. وقد عثر على هذا الإبريق في بوصير الملق بمصر الوسطى، حيث كانت نهاية مروان الثاني آخر خلفاء بني أمية. ويظن أن الإبريق كان ملكًا لهذا الخليفة. راجع: F. Sarre: Die Branzekanne des Kalifen Marwan II in Arabishen Museum in Kairo في مجلة Ars Islmica المجلد الأول سنة ١٩٣٤ ص١٠ وما بعدها، وراجع أيضًا: Wiet: L’Exposition persane de 1931.
٤  انظر: Jacon Mann: The Jews in Egypt and in Palestine Under the Fatimids (١ / ٧٦، ٧٧) وخطط المقريزي (١ /  ٤٢٤).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤