جرس المساء

كان «عاطف»، و«لوزة» وحيدَين في المنزل هذا المساء … وقد وضعَا أمامهما رقعة الشطرنج وانهمكَا في أدوار اللعب المعقدة … وكان «عاطف» يفضل الهجوم الخاطف بخطة «نابليون» المشهورة في لعب الشطرنج، بينما كانت «لوزة» تفضل اللعب بطريقة هادئة تكسب فيها «العساكر» واحدًا وراء آخر … ثم تتخلص من الفيلين ثم الحصانين حتى تحاصر الوزير والملك …

وحولهما في شرفة المنزل الواسعة تناثرت أُصص الزرع الخضراء والملونة … وسمعنا جرس الباب يدق، وقالت «لوزة»: إنَّه «هشام» وجرَت إلى الشرفة حتى وصلت إلى السور … ونظرت وشاهدت «هشام» يقف وبيده عصاه البيضاء التي لا تفارقه.

وقالت «لوزة»: سأنزل لأفتح له … هل تفضِّل أن يبقى في الصالون … أم يصعد معي إلى الشرفة؟

عاطف: من الأفضل أن تصعدي به إلى الشرفة … حتى لا يظنَّ أننا نعامله معاملة خاصة!

وأخذت «لوزة» تنزل السلَّم وهي تفكِّر في هذا الصديق الجديد … وتنهدت في أسًى وهي تقول: كان الله في عونه!

وفجأةً أحست «لوزة» بتوازنها يختل، وانزلقت ساقُها على السلَّم، ولكنها تمالكت نفسها بسرعة وأمسكت بحافة السلم … وكانت فردة حذائها قد سقطت منها … وشعرت «لوزة» ببعض الألم في ساقها، ولكنها تحاملت على نفسها وهبطت السلم وهي تبحث عن فردة الحذاء … وأخيرًا وجدتها … وما كادت تلبسها وتتجه نحو باب الفيلا حتى دقَّ جرس التليفون …

ترددت «لوزة» لحظة ثم حسمت تردُّدها واتجهت نحو التليفون … فوجدت شخصًا يُدعى «علي فؤاد» يسألها عن والدها فأخبرَته أنَّه مدعوٌّ في نادي السيارات، فطلب منها رقم تليفون النادي، وعندما بحثت «لوزة» عنه وعادت به إلى التليفون كان الشخص الآخر على الخط قد قطع المكالمة، فاندهشت «لوزة» قليلًا … ثم تذكَّرت صديقها «هشام» فأسرعت لتفتح له الباب …

وصلت «لوزة» إلى الباب وفتحته … وكم كانت دهشتها عندما لم تجد أحدًا … خرجت من الباب ونظرت على ضوء فوانيس الشارع التي أضاءت بعد غروب الشمس ولكنها لم تجد «هشام» …

توقفت لحظات تُفكِّر … أين ذهب؟ سارت ناحية اليمين تنظر بجوار الشجيرات … ثم عادت إلى اليسار وبحثت … ولكن لا أثر ﻟ «هشام».

كان شيئًا مدهشًا ما حدث … ففي نفس الموعد تقريبًا كان «هشام» يجيء … وكانت تفتح له الباب فيأتي لقضاء بعض الوقت معها ومع «عاطف»، وخلال الأسابيع الأخيرة لم يتأخر يومًا واحدًا … ولم يُخلف موعده … رغم أنَّه يسكن في حلوان ولكنه دائمًا كان دقيقًا في مواعيده.

عادت «لوزة» إلى الفيلا، وأغلقت الباب، وصَعِدت مسرعةً إلى «عاطف»، وقالت بصوت مضطرب: لم أجده!

عاطف: مَن؟

لوزة: «هشام»!

عاطف: دعكِ من المقالب السخيفة!

لوزة: صدِّقني إنني لم أجده … وبحثت عنه بجوار الباب، ولكني لم أجده!

فكَّر «عاطف» لحظات ثم قال: ولكن كيف؟ هل غيَّر رأيه؟

لوزة: ولماذا يغيِّر رأيه؟ وإذا كان قد غيَّر رأيه، فلماذا لم ينتظر حتى أفتح له ثم يعتذر!

ذهبَا إلى الشرفة، وأخذَا ينظران إلى الشارع الذي كان خاليًا من المارة … ولكن لم يكن هناك أثرٌ ﻟ «هشام»، ظل الاثنان واقفَين يفكران فيما حدث … كان «هشام» ولدًا أكبر سنًّا من المغامرين الخمسة … فقدَ بصرَه في حادث سيارة منذ عامين … وتعرفَا به في نادي المعادي الذي كان عضوًا فيه، وجذب انتباه المغامرين الخمسة بابتسامته الدافئة … وعرف المغامرون مأساتَه … فقد كان يركب دراجته ذات يوم ويعبر بها الشارع في «حلوان»، عندما دهمته سيارة مسرعة فسقط على الأرض وارتطمت رأسُه بالرصيف، وأُصيب بنزيف داخلي في المخ هدَّد حياته، وبفضل من الله تمكنت براعة الأطباء من إنقاذ حياته، ولكنه فقد بصره.

ومنذ تعارفوا عليه أصبح من المعتاد أن يزورهم في المساء … فإذا حدث ما يمنعه من الحضور … اعتذر تليفونيًّا.

التفت «عاطف» إلى «لوزة» قائلًا: «لوزة» … ما الذي حدث … هل كنَّا واهمَين؟

لوزة: كيف نكون واهمَين!

عاطف: قد نكون توهَّمنا سماع الجرس لأننا في انتظاره ثم توهَّمنا أننا رأيناه!

لوزة: إنني لا أعرف بالتحديد ما هو الوهم يا «عاطف»، ولكن سمعت الجرس بأُذني، ورأيت «هشام» بعيني … ألم تسمع وترى أنت أيضًا؟

عاطف: أعتقد ذلك!

لوزة: دون اعتقاد … هذا ما حدث.

عاطف: فكيف تُفسِّرين أنَّك لم تجديه بالباب؟!

لوزة: هذا هو السؤال الذي يجب أن نجد إجابة عليه!

عاطف: نتصل ببقية المغامرين!

وأسرع «عاطف» إلى التليفون، تحدث إلى «تختخ» أولًا … قال له: «تختخ» إنَّني و«لوزة» في مأزق غريب!

سكت «تختخ» لحظة ثم قال: مأزق؟! ماذا حدث؟ … إنَّني خارج من مأزق أنا الآخر!

وروى له «عاطف» ما حدث بالنسبة ﻟ «هشام» … فقال «تختخ» على الفور: شيء في منتهى الغرابة!

عاطف: هل تستطيع أن تأتيَ لنتحدث؟

تختخ: بالطبع … سأتصل ﺑ «محب» و«نوسة»!

ووضع «عاطف» السماعة … ووجد «لوزة» تقف في الشرفة تجول ببصرها في المكان بحثًا عن «هشام» دون جدوى.

وصل «تختخ» في سرعة البرق … وعندما وقف بدراجته أمام الباب لاحظ «عاطف» و«لوزة» أنَّه أخذ يفحص المنطقة التي أمام الباب بعناية … ثم انحنى على الأرض والتقط شيئًا أخذ يتأمله باهتمام!

نزل «عاطف» مسرعًا، ففتح الباب، ودخل «تختخ» وقال على الفور: لقد تم اختطاف «هشام»!

صُدم «عاطف» وقال: كيف؟

تختخ: أريد أن أستمع إلى روايتكما أولًا … فأنا عائد توًّا من الإسكندرية، وقد حدث موضوع خطير في محطة القاهرة …

وفي أثناء انتظارهم لأصدقائهم … قصَّ عليهم «تختخ» ملخصَ ما حدث في القطار، ثم وصل «محب» و«نوسة»، وقال «تختخ»: هناك عملية اختطاف تمَّت منذ نحو ساعة … راح ضحيَّتَها صديقُنا «هشام»!

وقبل أن يُعلِّق «محب» أو «نوسة» قال «تختخ» مواصلًا حديثه: لا تعليق حتى يرويَ لنا «عاطف» و«لوزة» ما حدث!

ومرة أخرى أخذ «عاطف» يروي ما حدث … رنين جرس الباب في السابعة والنصف … رؤية «هشام» وهو أمام الباب … نزول «لوزة» لفتح الباب وعدم وجود «هشام» … الانتظار لعله يظهر مرة أخرى ثم الاتصال ﺑ «تختخ»!

ساد الصمت بين المغامرين الخمسة … كان كلٌّ منهم يفكر في الاحتمالات ثم سأل «عاطف»: ولكن كيف عرفت يا «تختخ» أنَّ «هشام» قد اختُطف؟

رد «تختخ» وهو يمدُّ يده إلى المغامرين: لقد وجدتُ ساعته أمام الباب!

لوزة: ولكنها قد تكون ساعة أي شخص آخر!

تختخ: إنَّ هذا لم يَغِب عني … ولكن ساعة «هشام» لها أرقام بارزة مثل كل ساعات المكفوفين … ولها غطاء يفتحه الكفيف أولًا ثم يتحسَّس الأرقام!

ثم صمت لحظة وقال: وقد سقطت الساعة منه في تمام الساعة السابعة وأربعين دقيقة؛ فقد توقفت عقارب الساعة عند هذه الأرقام!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤