أنت رسَّام بورتريهات

نصيحة من فوكنر

في نصيحته لأحد الكُتَّاب الشباب من المسيسيبي، قال الروائي الأمريكي الشهير وليام فوكنر: «إذا كنتَ ستكتب فَلْتكتبْ عن الطبيعة البشرية؛ فذلك هو الشيء الوحيد الذي لا يسقط بالتقادم.»

في وقت لاحق على ذلك، وفي كلمته التي ألقاها بمناسبة تسلُّمه جائزة نوبل للأدب، قال فوكنر إن هدفه كان «أن يتناول موادَّ الرُّوح البشرية ويخلق منها شيئًا لم يكن موجودًا من قبلُ.»

ما بين العبارتين، قد نتلمَّس النطاقَ الذي يتحرَّك بداخله السرد الجيد؛ الطبيعة والروح البشريتين، كما تتجسَّدان في شخصيات على الورق، يجمع الكاتبُ عناصِرَها من شَتات نفسه وحياته وواقعه.

فماذا على الكاتب أن يفعل لكي يستطيع لمْسَ تلك الروح البشرية من خلال شخصياته؟ ربما عليه أن يعامِلَها كما يعامِل أيَّ إنسان جديد يلتقي به ويحاول أن يوثِّق عَلاقتَه به لسببٍ أو لآخَر؛ أن يعرف المزيد عنها. سواءٌ أكنتَ استلهمتَ شخصيتك من صورتك الذاتية أم من أشخاص التقيتَ بهم في حياتك، ثم عملتَ على تمويه تلك الملامح الأصلية وأضفتَ إليها من خيالك، أو كانت شخصيتُك معتمِدَةً على الخيال بنسبة مائة في المائة؛ في كل الأحوال ستحتاج أن تبتعد قليلًا عن مصادرك الأصلية وترسم صورة شخصية (بورتريه) مُبسَّطة لشخصيتك، تجمع فيها عناصِرَ ملامحها الأساسية.

أبعادٌ ثلاثةٌ للشخصية

لكي نرسم بورتريه شخصيةٍ متخيَّلة بحيث تبلغ أقصى درجة ممكنة من الإيهام بالمصداقية والواقع، يمكن لنا الانتفاع بقواعد بعض كُتَّاب الدراما والسيناريو عن ضرورة الاعتناء بثلاثة أبعاد للشخصية عند تصوير ملامحها الأساسية وقبل وَضْعها في سياق القصة والأحداث:
  • (١)
    البُعْد البدني: إنه قاعدة الهرم الذي تتشكَّل منه أيُّ شخصية، وأوَّل ما ندركه عند تعارفنا بشخصٍ جديد. أولًا: كيف يبدو؟ بما يندرج تحت إجابة هذا السؤال من تفاصيل وسمات عديدة للجسد والبشرة والملامح والشَّعْر والهيئة والثياب، إلى آخِر قائمة طويلة من علامات ظاهرية وخارجية. لا يقتصر هذا البُعْد فقط على ما هو مرئي فقط، فثَمَّةَ علامات غير ظاهرة من الأفضل أن تكون على عِلْمٍ بها، مثل التاريخ الصحي للشخصية، أو أَثَر جُرح قديم، أو وشم في موضعٍ ما من جسدها، أو حتى امتلاكها قدرةً خارِقةً خفية. من الضروري أن تكون قادرًا على تخيُّل شخصيتك، من حيث مظهرها الخارجي، حتى إنْ لم تستعِنْ بأغلب تلك السمات في عملك السردي؛ يكفي مبدئيًّا أن تشجِّع القارئَ على تكوين تصوُّر بصري (وحسِّي عمومًا) للشخصية، ثم اختَرْ بعد ذلك من عناصر هذا البُعْد ما تحتاج إليه قصتُك.
  • (٢)
    البُعْد الاجتماعي والثقافي: ها نحن قد رأينا الشخصية في انطباعٍ مبدئي، ولمزيد من التعارف عليها نوَدُّ لو نعرف عنها أشياءَ أخرى بعيدًا عن الصورة التي تبدو عليها. إنها المكوِّنات الاجتماعية والثقافية التي ساهمَتْ في تشكيلها؛ التعليم، والعمل، ومستوى المعيشة، وطريقة التنشئة، والهوايات، والتجارب السابقة المهمة، والقراءات، والمهارات، ومن جديد ستجد أن القائمة أطول من اللازم، ومن جديد ستجد أن عليك أن تختار من بين كل تلك العناصر ما يكون مفيدًا ومثريًا لحكايتك ولإظهار شخصيتك بصورة حيَّة وصادقة ومتميزة.
  • (٣)
    البُعْد النفسي: قد يعتبره البعضُ مُحصِّلةً ميكانيكية للبُعْدين الجسدي والاجتماعي، غير أنه أهم وأعمق من ذلك كثيرًا، فنحن لسنا إنتاجًا آليًّا لظروفنا الجسدية والاجتماعية، وإلَّا تطابَقَتْ شخصياتُ الأشِقَّاء التوائم ممَّن يعيشون نفسَ التجارب والظروف. لكلٍّ منَّا بصمتُه الخاصة، ما يكره وما يحب، لأسباب ليست واضحةً على الدوام. في هذا البُعْد تكمن خصوصيةُ كلِّ شخصية إنسانية، وهو الوَتَر الذي يحب أن يلعب عليه أغلبُ كُتَّاب السرد، دون تجاهُل ما سواه بالطبع. إنه الأهواء والعُقَد والمخاوف والهواجس والرغبات المكبوتة والخيالات والأسرار، إنه الغُرَف المظلِمة بداخل شخصيتك التي ربما لا تجرؤ هي نفسها على اقتحامها ذات يوم إلا مُضْطَرَّةً.

شرط التماسُك

بينما تعمل على تلك الأبعاد الثلاثة، لا تغفُلْ عن ضرورة الانسجام والتماسك بينها، تذكَّرْ لُعبةَ القص واللصق من شخصيات مختلفة، وضرورة صهر العناصر المختلفة في سبيكة قابلة للتصديق. هنا أيضًا يجب ألَّا يتعارض البُعْدُ الجسدي مثلًا مع البُعْدين الآخَرين، دون أن يعني هذا كذلك الانعكاسَ الآلي أو الميكانيكي لقوالب جاهزة من الشخصيات، ففي حالات وأمثلة كثيرة للغاية تتجاوز الشخصيةُ — في الحياة وفي الفن — قُيُودَها، وتهزم شروطَها الخاصة، وتُدهِش الجميع.

البُعْد الرابع

حتى بعد إضافة ذلك البُعْد النفسي لشخصيتك، ليس من السهل الاعتقاد أن كل شيء بخصوصها قد صار واضحًا مثل ماكينةٍ تمَّ تفكيكُ أجزائها؛ وذلك ببساطة لأن الكل أكبر من مجموع أجزائه، ويظل الإنسان — والشخصية الفنية على الأخص — أكبرَ من كل المكونات والجوانب. لا بدَّ أن يبقى هناك لغزٌ ما، لغزٌ غامضٌ حتى بالنسبة إليك ككاتبٍ، شيءٌ مراوِغ ولا تفسيرَ له كالرُّوح، يظل يتحرَّك بين السطور، وكلما ظنَّ الكاتبُ أو القارئ أنه قد وضع يده عليه، أفلتَ منه واكتشف أنه يقبض على هواء. فكِّرْ في هذا اللغز كبُعْد رابع لا اسمَ له، يحيط بتلك الأبعاد الواضحة والملموسة ويهيمن عليها؛ لكي تحتفظ شخصيتُك بذلك الغموض الذي يَسِمُ كلَّ الشخصيات الخالدة في الأدب.

على سبيل التمرُّن

مارِسْ رسْمَ ذلك البورتريه بأبعاده الثلاثة كلما استطعتَ، اكتب البيانات الأساسية عن شخصيتك في سطور محدَّدة، يمكنك مثلًا أن تكتب فقرةً من عشرة سطور لكل بُعْدٍ من الأبعاد الثلاثة الواضحة: الجسدي، والاجتماعي، والنفسي.

ارسم تلك البورتريهات معتمِدًا أولًا على شخصيات أدبية أو فنية تحبها وتعرفها جيدًا، ثم على شخصيات من حياتك اليومية أو تاريخك الشخصي، مرةً واثنتين وثلاث، إلى أن تكتسب قدرًا لا بأسَ به من الثقة في قدرتك على رسم البورتريهات بالكلمات، أو ما يُسمَّى أحيانًا بطاقات الشخصية، ثم يمكنك عندئذٍ الانتقال إلى شخصيات مُختلَقة وخيالية مائة في المائة. بسطور قليلة اكتب كيف تبدو، ثم المحيط الاجتماعي والطبقي والثقافي الذي تتحرَّك فيه، ثم ما يعتمل بداخلها من عوامل نفسية، سواءٌ البيِّنة لك أم الخفيَّة.

أمَّا عن ذلك اللغز الكامن في البُعْد الرابع، فاتركْ له مساحةً بيضاء ولا تحاول أن تملأها، وإلَّا ما عاد لغزًا أو سرًّا، لكنْ ضَعْه في اعتبارك ولا تتوقَّف عن التفكير فيه وطرح الأسئلة حوله.

نماذج

لا يوجد أدب عظيم دون تصويرٍ محكَمٍ وحَيٍّ لشخصياته، وما دُمْتَ قرأتَ فسوف تكتشف بنفسك نماذجَ متنوِّعة ومتباينة الطرائق في هذا. أما إذا كنتَ تبحث الآن عن نموذج مُيسَّر لمهارة رسم الشخصية وعَرْضها في سطور أو صفحات قليلة، فيمكنك أن تسارِع بقراءة عملَيْن من أهم وأبدع أعمال الأستاذ نجيب محفوظ؛ هما روايتاه «المرايا» و«حديث الصباح والمساء»؛ حيث كتبهما بطريقة الشخصيات المتتابعة بترتيب أبجدي من الألف للياء، بحيث يقدِّم لكلِّ شخصية حياةً كاملة من المهد إلى اللحد — تقريبًا — في سطور معدودة. وبصرف النظر عن البناء الثري والمعجِز فيهما، فهما درس نموذجي في تصوير الشخصية وبثِّ الحياة فيها بأقصر عبارة وأبسط وسيلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤