مرحبًا مَدام باكينام

جبل الجليد

في كتاب إرنست هيمنجواي «موت في الظهيرة» شدَّد على ضرورة معرفة الكاتب لكل شيء ممكن عن شخصياته، لكنه يعود للتأكيد على المسافة الواجبة بين ما يعرفه الكاتب عن شخصياته وما يقدِّمه للقارئ قائلًا:

إذا كان كاتب النثر يعرف ما فيه الكفاية عمَّا يكتب عنه، فقد يحذف أمورًا يعرفها هو، وسوف ينتقل إلى القارئ إحساسٌ قوي بتلك الأمور كما لو أنَّ الكاتب قد أوردها في نصِّه. ترجع مهابةُ حركة الجبل الجليدي العائم إلى أنه لا يظهر منه فوق سطح الماء إلا ثُمُنه، أمَّا الكاتب الذي يحذفُ أمورًا لأنه غير مُلِمٍّ بها، فكلُّ ما يفعله هو أنه يترك مواضعَ جوفاء في كتابته.

الفكرة هنا هي أن عليك أن تعرف أكبرَ قدرٍ ممكن من المعلومات والتفاصيل الخاصة بشخصياتك، دون أن يكون عليك أن تنقلها كاملةً للقارئ، بقدر ما توحي بها أحيانًا، أو تغلِّف بها عالَمَ نصِّك كأنها الهواء المحيط بشخصياتك. وَلْنؤكِّد من جديدٍ على أن الموضع السليم لبطاقة بيانات الشخصية هو مطبخك الخاص، وليس سطور نصك، الذي عليه أن يستقبل شخصيتك نابضةً بحياتها وليس صورة «بورتريه» ثابتة.

لكي تستطيع أن تختار من بين ركام جبل الجليد، ذلك الثُّمُن الذي سيظهر منه؛ أي تلك التفاصيل التي لا بدَّ أن تدخل إلى سياق حركة النص، عليك أن تعرف ما الأساسي لقصتك، ما الذي لا يمكن الاستغناء عنه. لو استطعتَ اكتبْ في جملة واحدة — من سطر أو اثنين — أي نوعٍ من الشخصيات هذه الشخصية، في هذا العمل تحديدًا. باختصار ابحث عن بؤرتها؛ مركزها المتوهِّج الذي تطوف به جميعُ السمات الثانوية الأخرى، سواءٌ أقُمتَ بذكرها أم باستبعادها.

تحديد البؤرة

لنفترِضِ الآن أنك اخترتَ شخصيتك، واشتغلتَ على البورتريه الخاص بها حتى غذَّيْتَه تمام التغذية، من حيث الأبعاد الثلاثة الأساسية، وتلك المساحة الغامضة المتروكة على بياضها؛ تعرَّفتَ عليها وتحدَّثتَ معها، وحكيتَ لها عن نفسها الكثيرَ من الأمور التافهة أو المثيرة؛ كلُّ هذا الضجيج والرُّكام لا بدَّ أن يجتمع حول بؤرة مركزية، مركز مشعٍّ، تنطلق منه جميع تلك السمات الثانوية. اسأل نفسك: ما الذي يجعل هذه الشخصية مثيرةً للاهتمام؟ ما الأمور الجوهرية التي تنتزعها من بين آلاف الشخصيات الشبيهة؟ وليس من الضروري أن يكون هذا المركز قدرةً خارقة أو سماتٍ شاذةً تضع شخصيتَك في مصافِّ العجائب والفلتات، إنه فقط ما يخصُّها ويميِّزها وتتفرَّد به من تفاصيل. يمكنك أن تتصوَّر شخصية امرأة متشردة، عمليًّا تبيت في أي مكان في منطقة محددة، وسط القاهرة مثلًا، يعرفونها باسم «مدام باكينام»، لا بدَّ أنها كانت «بنت عز» في يوم بعيد؛ أيْ قبل سبعين عامًا مثلًا. نعم، ما زالت تنعم بصحة رائعة، وترطن بالفرنسية وهي تشحَذ السجائر من العابرين، وما زالت تحرص على تناسق ألوان ثيابها مع باروكاتها القديمة وماكياجها، وتتحدَّث طوال الوقت مع عائلة كبيرة من القطط.

من ناحية، يمكننا الاستغراق إلى ما لا نهاية في وصف الأبعاد الثلاثة المختلفة لشخصية مدام باكينام، ومن ناحية أخرى يمكننا الانتقاء بذكاءٍ من بين كل تلك القوائم والتفاصيل ما يُظهِرها كشخصية حيَّة، تاركين بعضَ المساحات البيضاء لخيال وتصوُّر القارئ، حتى لو كنَّا نعرف على وجه التحديد تاريخها بأدق التفاصيل. هذا الانتقاء يكون أداةً حاسمة وضرورية بدرجة أكبر في فن القصة القصيرة، الذي غالبًا لا يحتمل التطويل في عرض خلفيات الشخصية.

إذن، كيف يمكننا الإيحاء بتاريخ وخلفية إحدى الشخصيات؛ أي إظهارها، دون أن نقع في فخِّ نقْلِ البورتريه الجامد لها كما هو؛ أيْ فخِّ الإخبار المباشِر؟

ثلاث أدوات

هناك حُزمة أدوات يمكنك الاستعانة بها لإظهار شخصيتك، وغالبًا ما تأتي مجتمِعةً في سياق المشهد الواحد، لكنْ لا بأسَ من استيعابها متفرِّقةً مبدئيًّا، حتى تضعها في اعتبارك عند تقديم شخصيتك في النصِّ السردي، لتنتقي الأنسبَ من بينها أو تدمجها معًا بحسب احتياجك.

  • (١)
    الوصف: لتُعِين القارئ على رؤية وتخيُّل شخصيتك، صِفِ الملامحَ المميِّزة لها، وتذكَّرْ هنا شيئين مؤقتًا قبل أن نتوقَّف وقفةً أخرى مع الوصف كآليةٍ سرديةٍ مستقلة ذات سيادة؛ وهما: أن الوصف لا يعني استخدام الصفات والنعوت «عمَّال على بطَّال»، فغالبًا ما يُعَدُّ هذا عيبًا، الشيء الثاني هو أن الوصف غير المباشِر أفضل كثيرًا من الوصف المباشِر، فمع مدام باكينام مثلًا يمكنك أن تقول ببساطة إنها قد تجاوزت السبعين، أو يمكنك أن تعكس هذه السِّنَّ من خلال علامات كاشفة، كارتعاش أصابعها أو خارطة التجاعيد المرسومة على وجهها. والخيارات بلا نهاية، ويبقى دورك هو الانتقاء من بينها الأدق والأنسب والأجمل بالنسبة إليك.
  • (٢)
    الفعل: لا شيء يكشف ويعرض الشخصية بقدر ما تؤدِّيه وتقوم به. دَعِ القارئ يرى شخصيتك تتحرَّك وتتفاعل مع العالَم والحياة من حولها، فعلى هذا النحو يمكن له أن يرصد دون وساطتك حياةَ الشخصية وخصوصيتَها. دَعْه يَرَ مدام باكينام وهي تدُقُّ على شبَّاك إحدى السيارات؛ لتستعير قلمَ طلاء شفاه من إحدى السيدات حتى تلوِّن شفتَيْها، ثم تسألها بعد ذلك إن كان معها سيجارة، وحين ترفض السيدة استعادة قلم طلاء الشفاه، نسمع مدام باكينام وهي تسبُّ بفرنسيَّتِها الناعمة وترمي بالقلم بعيدًا. تذكَّرْ أن الحركة بركة على العموم، لكنَّ كلَّ فعلٍ لا يكشف المزيدَ عن شخصيتك أو يطوِّر حكايتها، جديرٌ بأن تعيد النظرَ فيه، أو أن تستبعِدَه تمامًا.
  • (٣)
    الحوار: وهو حكاية أخرى طويلة سنتوقَّف عندها فيما بعدُ، لكنه هنا ثالث أداة يمكن لها أن تكشف شخصيتك وتقدِّمها للقارئ؛ ليتعرَّف القارئ على كلامها وقاموسها اللغوي وطريقتها في الكلام، وكذلك أفكارها وحالتها العقلية والنفسية.

الآن، قدِّمْ لنا مدام باكينام

كتمرين عملي، لكيفية إظهار الشخصية، اتَّخِذْ من شخصية مدام باكينام نموذجًا، اكتب قائمةً خاصة بك عن سمات هذه الشخصية وخلفيتها وتاريخها، لا بدَّ أن تشتمل قائمتُك على أهم مفردات الأبعاد الثلاثة: الجسدي أو المادي، ثم الاجتماعي والثقافي، ثم العقلي والنفسي. بعد ذلك ضَعْ مدامَ باكينام في موقف صغير؛ مثلًا: ماذا لو استيقظَتْ ذات ظهيرة على أصوات مظاهرة صغيرة تمُرُّ بموضع نومها الهادئ؟ ماذا سيكون ردُّ فعلها؟ ماذا ستفعل مع المتظاهرين؟ كيف سيكشف هذا الموقف الصغير عمَّا هو جوهري وأساسي ولا يمكن الاستغناء عنه في شخصيتك؟ تجنَّبِ الإخبارَ المباشِر عن تفاصيل وخلفية مدام باكينام، استعِنْ في تقديمها للقارئ بالأدوات الثلاث السابقة: صِفْها، اجعلها تتحرَّك وتتكلَّم، وانقل عبر الوصف والفعل والكلام أهم ما احتوَتْه قائمتُك من سمات وتفاصيل.

بقدر توفيقك في هذا التمرين سيكون من اليسير عليك فيما بعدُ أن «تُظهِر» شخصياتك لقارئك دون اللجوء لوسائل الإخبار السهل المباشِر، على أهميتها وجمالها أحيانًا، وفي كل مرة تضع فيها شخصيتَك على خشبة السرد وتُسقِط بقعةَ الضوء عليها، تذكَّرْ تمرينَ مدام باكينام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤