حَدَّثَنا فقال …

بأصواتهم

استمِعْ إلى ما كتبتَه. إنَّ مقطعًا غيرَ موفَّق من الحوار قد يُظهِر أنكَ لم تفهم بعدُ الشخصيات بما فيه الكفاية لأنْ تكتب بأصواتهم.

هيلين دانمور

أَعِدْ صياغةَ أقوالهم

لعلَّ أحدَ أهم القرارات التي ينبغي عليك اتخاذها في أثناء كتابتك للحوار، هو معرفة ما إذا كنتَ ستنقل الحوارَ كما جرى على ألسنة الشخصيات نصًّا، على طريقة الخطاب المباشِر؛ أم ستروي عنهم ما قالوه إجمالًا، بمعنى أن تلخِّص ما قيل وتعيد صياغتَه بطريقتك، بحيث يكون جزءًا من السرد نفسه، فكثيرًا ما يُستخدَم الحوارُ لمجرد نقل معلومات يمكن تسريبها في ثنايا السرد عبر الكلام غير المباشِر.

على سبيل المثال: يمكنك أن تورد بالنص كلامَ شخصٍ ثرثارٍ أخذ يحكي لمَن حوله في مناسبةٍ ما عن مغامَرةٍ خاضَها، يراها مثيرةً للغاية؛ فأنت بذلك تجازف بإزعاج قارئك بقدر إزعاج هذه الشخصية للمحيطين بها تمامًا. لكنك تملك في متناول يديك خيارًا آخَر على الدوام، وهو الخطاب غير المباشِر، كأنْ تقول:

وأخذ يحكي لنا باستفاضة مملَّة كيف طارَدَه الدائنون من شارع إلى آخَر، وكيف استطاع الإفلات منهم، وراح يُعِيد ويزيد في التفاصيل ويكرِّرها كلما لاحَظَ انضمامَ شخصٍ جديد إلى حلقتنا …

عن طريق اختيارك هذا تصيب أكثرَ من هدفٍ برميةٍ واحدة؛ فأنت تعكس إملالَ وثرثرةَ المتحدِّث في حوارك الأدبي، وتنقل كذلك مشاعر وأفكار الراوي، من خلال تعليقاته على ما يسمعه، وبالطبع تكثِّف معلوماتٍ قد لا تضيف أيَّ شيء جديد أو جميل إلى نصِّك، وتدَّخِر مساحتَها لما هو أجدى.

تتيح لك هذه الطريقة أيضًا أن تضبط إيقاعَ المشهد، فلا يترهل بسبب إطالة الحوار وتبادُل المعلومات اللازمة بألسنة الشخصيات، ويظل في مقدورك في الحين نفسه أن تورد بعضَ أقوال الشخصيات نصًّا، حين ترى ذلك أنسب.

تعالَ نتأمَّل الفقرة التالية، من قصة الكاتدرائية، للقاصِّ الأمريكي الجميل «ريموند كارفر»؛ التي يرسم فيها الراوي شخصيةَ رجلٍ كفيف البصر، هو صديقٌ قديمٌ لزوجته، أتى فجأةً لزيارتهما بعد سنوات:

وأعدَدْنا لأنفسنا شرابَيْن أو ثلاثة أخرى وشربناها، بينما كانَا يتحدَّثان عن الأشياء الهامة التي حدثَتْ لهما في العشر سنوات المنصرمة. وفي معظم الوقت، كنتُ أكتفي بالإصغاء، ومن حينٍ لآخَر كنتُ أشارِك في الحديث؛ لم أُرِدْ أن يعتقد أنني قد غادرتُ الحجرةَ، ولم أُرِدْ أن أجعلها تظنُّ أني كنتُ أشعر بأنها أهملَتْني. تحدَّثَا عن أشياء حدَثَتْ لهما — لهما! — في هذه السنوات العشر الماضية، وانتظرتُ عبثًا أن أسمع اسمي على شفتَيْ زوجتي الجميلتين: «ثم دخل حياتي زوجي العزيز»؛ شيئًا مثل هذا، ولكني لم أسمع شيئًا من هذا القبيل. مزيدًا من الكلام عن روبرت، وبَدَا أن روبرت مارَسَ شيئًا قليلًا من كل شيء؛ فهو نموذج للأعمى الذي مارَسَ كلَّ الحِرَف.

لاحِظْ مبدئيًّا أن هذا ليس حوارًا، كما هو واضح، بل هو نسخة الراوي من الحوار الذي دار بين زوجته وروبرت الأعمى، ولا تظن أن كارفر ممَّن لا يميلون لكتابة الحوار في قصصهم؛ فكثيرًا ما تعتمد قصصُه على تقنية الحوار اعتمادًا بارزًا، وحتى هذه القصة تحديدًا، التي ترجَمَها أمير كامل في مختاراتٍ له قبل سنوات، تجد فيها حوارًا متناثِرًا هنا وهناك، غير أنه ارتأى في هذا الموضع، ومواضع أخرى محدَّدة، أن يكثِّف ما دار من حوار بطريقة الخطاب غير المباشر، ليس فقط لاتساع مساحته والمجازفة بالترهُّل والثرثرة، ولكن أيضًا لينقل إحساسَ الراوي وأفكاره، حيالَ زوجته وصديقها الأعمى والصداقة القديمة بينهما.

إنَّ تذكُّرك لهذه الوسيلة سوف يجنِّبك الإفراطَ في الاعتماد على الحوار المباشِر بين الشخصيات دون داعٍ، وسوف يتيح لك مزْجَ ما تنقله من معلومات عن الحوار بأفكارِ ومشاعرِ الراوي. وبالطبع تستطيع على الدوام أن تمزج بطريقةٍ ذكيةٍ بين الحوار المباشِر والخطاب غير المباشِر؛ بحيث تقفز على مساحات غير ذات قيمة، ثم تتريَّث أمام جملة قوية من الأفضل الاستماع إليها منطوقةً بصوتِ وأسلوبِ الشخصية الخاصين بها.

راجِعْ مرةً أخيرة

إذا كانت مراجعتك لنَصِّك السردي، المرة بعد الأخرى، هي أمرٌ لا غنى عنه على العموم؛ فإن هذه المراجعة تَظَلُّ أهم وألزم مع سطور حوارك، ليس فقط لتتأكَّد من خُلُوِّه من الثرثرة والترهُّل كما سبقَتِ الإشارة، بل أيضًا لتتفقَّد مدى سلاسته على اللسان، ومن الأفضل أن تقوم بقراءته بصوت مسموع، وحدك أو بالتعاون مع شخصٍ آخَر، بأن يقرأ كلٌّ منكما سطورَ شخصيةٍ مختلفة. أنصِتْ جيدًا لكل جملة حوار، واسأل نفسك (متوخيًا النزاهةَ قدر المستطاع): هل تبدو العبارات طبيعيةً؟ هل تجري على اللسان بسهولة ودون انقطاع أنفاس المتكلِّم؟ هل توجد في أقوال شخصياتك أيُّ كليشيهات (العبارات الشائعة المبتذَلة، التي فقدَتْ رونقها من فرط الاستعمال)؟ كيف يمكنك تغييرها إلى شيء أكثر أصالةً وأليق بشخصيتك؟ هل أتَتْ جُمَلُ الحوار ملائمةً لكل شخصية، بخلفيتها وثقافتها ودواخلها؟

هل أقحمتَ في سطور الحوار معلوماتٍ ضروريةً لم تعرف كيف تسرِّبها إلى سردك، على طريقة: «أنت تعلم بالطبع أنني طلَّقتُ زوجتي قبل عامين بسبب …» فما دام المستمِع «يعلم بالطبع»، فليس هناك ما يبرِّر أن يذكر المتحدِّث ذلك، إلَّا إذا كان المقصود بالمعلومة أُذُنَيِ القارئ، وليس الطرف الآخَر في الحوار. عليك حل مشكلاتٍ من هذا النوع بعيدًا عن الحوار؛ لأن القارئ سيشعر مباشَرةً بهذه الحيلة السهلة.

هل يدور الحوار بخفة، وينتقل بنشاط بين طرفَيْه أو أطرافه، أم أن إحدى الشخصيات تستأثر بنصيب الأسد لسببٍ أو لآخَر، بينما يلعب الآخرون دورَ مستمعي البرامج الإذاعية؟

مثل تلك الأسئلة — على قسوتها — ستجنِّبك مزالقَ كثيرة في كتابة الحوار. ونرجع فنقول إن الممارسة خير معلم؛ فهي الأساس الذي قد تتلوه مباشَرةً ضرورةُ الاطِّلاع على الروائع الأدبية والفنية من مسرحيات وأفلام وقصص وروايات؛ حيث يجري الحوارُ مجرى الدماء في العروق، حاملًا إلى أوصال الحكاية الهواءَ والغذاءَ.

•••

في الفصل التالي بضعة تمارين على كتابة الحوار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤