مقدمة المترجم

ما من شيء يستحق الثناء كالسعي إلى تيسير المعرفة لمن تبدو لهم بعض أنواعها عسيرة. وعندما يتجاوز المؤلف عرض الأفكار مبسطة إلى تقديمها للقارئ سائغة في قالب يجمع بين لغة الحياة وحبكة القصة؛ فهو يَبلُغُ الغاية في نيل المسعى. ولم يكن دخول هذا الكتاب قوائم الكتب الأكثر شعبية إلا نتيجة لقدرة مؤلفه أنتوني جوتليب على تحقيق هذا الإنجاز بالمزج بين تيسير الأفكار واستخدام الحكي، إضافة إلى سهولة اللغة وحيويتها التي تأتي من قدرة المؤلف على استخدام الانتقالات اللغوية الخاطفة، وتعبيرات الحديث اليومي المفعَمة بطاقة من الحميمية. وإذا صح أن بعض المؤلفين ينهل من بحر لا ينفد فلا شك أن جوتليب أحد هؤلاء المؤلِّفين، حتى وإن كان الموضوع الذي يتناوله جامدًا كالصخور.

يبلغ متن الكتاب في نسخته الإنجليزية أربعمائة وثلاثين صفحة، حشاها المؤلف بالتأريخ للفلسفة الغربية القديمة في الحضارتين اليونانية والرومانية وفلسفة عصر النهضة الأوروبي، مع إشارات للتراث الفلسفي استوجبها البحث في الحضارات الأخرى، كما في حالتي الفلسفة الإسلامية والفارسية القديمة متمثلة في المانوية. وقد اجتهد المؤلف في الجمع بين شمول العرض والحفاظ على انتباه القارئ العادي بالتسهيل والتقريب، مدركًا أن الخطر الرئيس الذي يواجه مؤلفًا لكتاب كهذا يكمُن في إقناع القارئ بأن يستمر في القراءة إلى النهاية، وألَّا تقف المفاهيم الفلسفية عائقًا أمام القراءة المتحمسة. ويغطي الكتاب رحلة الفلسفة عبر ما يزيد على ألفي عام، بدءًا من طاليس الملطي في القرن السادس قبل الميلاد وانتهاءً برينيه ديكارت في القرن السابع عشر، ليعرض لتقلُّبات البحث الفلسفي وخيوطه الممتدة عبر قرونه الطويلة وسياحاته في مجالات تخرج عن التعريف الدقيق للفلسفة الآن. ونحن في ذلك بإزاء تأريخ للفلسفة وتأريخ للفلاسفة أنفسهم في اهتماماتهم التي تخرج أحيانًا عن التعريف الدقيق للفلسفة، مع الأخذ في الاعتبار أن معنى الفلسفة كان يتجاوز تعريفها الضيق في العصور الحديثة. ولا شك أن هذا يفيد القارئ في الإلمام بإنجازات الفلاسفة، ويعرفه بمسار العلوم من الاندراج تحت عِلم واحد هو الفلسفة إلى تمايُزها واستقلالها بتأثير التراكم المعرفي الهائل الذي حدث للإنسان على مَرِّ العصور.

ورغم وُلوجه في أغوار الأفكار الفلسفية لم يفقد المؤلف حيادَه ولا قدرته على البحث في الفلسفة وتاريخها بنفس الباحث، وإن كان نجح فيما هو أصعب من ذلك وهو إرجاع نفس الباحث إلى خلفية الكتاب ليلعب دور الشاعر المتجول الذي يمضي في البلاد حاكيًا تاريخ الأقدمين وحكمتهم، فيستمع له العامة ويأخذون عنه الحكمة.

والقارئ العربي ليس بعيدًا عن مرامي الكتاب وفوائده؛ فالمؤلف وإن حصر اهتمامه في تاريخ الفلسفة الغربية واقفًا على أعتاب العصر الحديث الذي سيغطيه بكتاب آخر ينبغي أن يكون محل ترقُّب كذلك، لم يَفُتْهُ أن يذكر — ولو في سطور قليلة — أنَّ في تاريخ الفلسفة الغربية بين العصور الهيلينية من جانب وفلاسفة اللاهوت المدرسي وعصر النهضة من جانب آخر لم يَصِلْهُ إلا اعتناء العرب بهذه الفلسفة من خلال جهود ابن سينا والفارابي والكندي، فضلًا عن جهود العرب المتقدمة في الرياضيات والبصريات والتشريح، وهي جُلُّهَا الجهود التي أفاد منها الغرب بالرحلة إلى الأندلس لطلب العلم وبالترجمة عن العربية إلى اللاتينية.

وممَّا يتميز به الكاتب عن غيره ربطُه الفلسفات القديمة بأصدائها في الفكر الحديث، كربطه — على سبيل المثال — بين مقولات السفسطائيين في نسبية الحقيقة والنزعات النسبية الحديثة في مجال الأخلاق والثقافة، وصولًا إلى الفلسفة البرجماتية الحديثة لدى وليام جيمس، مراعيًا بدقة الباحث بيانَ أوجُه الاختلاف بين النسبيات الحديثة والنسبية اليونانية. ويستعرض المؤلف بمهارة وتركيز الجدل القائم بين القائلين بالنسبية والرافضين لها، واضعًا حجج الفريقين أمام القارئ ليصبح الأخير مستوعبًا للمقولات الجدلية الأساسية للنزعتين في صفحات إن لم يكن في سطور قليلة، وليفتح له بعد ذلك آفاقًا أخرى من التفكير والبحث في هذه القضية القديمة قِدَم الإنسان. ومن أمثلة ذلك عرضه المركَّز لأشكال القياس الأربعة عند أرسطو، واستمرار هيمنة المنطق الأرسطي في الدوائر الفلسفية واللاهوتية حتى القرن التاسع عشر، ثم إيراده نقد القدماء للمنطق الصوري الأرسطي متمثلًا في الرواقيين قديمًا وعدد من الفلاسفة المحدَثين، ثم ذكره محاولات لايبنتس في القرن الثامن عشر لتطوير المنطق الأرسطي ليصبح أكثر اكتمالًا في قدرته على ضبط المنطق الإنساني والأقضية التي نُطلقها في كلامنا، ثم يعرض بعد ذلك لما يشوب نظرة لايبنتس من قصور، ثم يرتد على أثره إلى الراهب رامون لول في القرن الثالث عشر، والذي كان يرى أنه من الممكن إقناع المسلمين بالمسيحية إذا ما أمكن التعبير عن صفات الرب في المسيحية برموز رياضية، وهو جهدٌ رآه المؤلف متسمًا بالسذاجة الشديدة، ثم يتقدم المؤلف مرة أخرى إلى جذور فكرة الضبط الرياضي للتفكير عند توماس هوبز في القرن السابع عشر، ثم يقفز إلى القرن التاسع عشر مع جهود الإنجليزيَّيْن جورج بول وأوجست دو مورجان في تأسيس المنطق الرياضي، ثم ينتهي ببرتراند راسل وأستاذه وايتهيد اللذين مكَّنَا المنطق في نهاية الأمر من أن يصبح علم المنطق الرياضي. وهذا الجهد الأمين الذي لا يتطلب من القارئ سوى بعض التركيز في رحلة الوصول إلى المعرفة انطلاقًا من الفلسفة القديمة يشهد وحده بأن الكاتب لم يُضَحِّ بالمعرفة في سبيل الحكي، بل استطاع في جهد حميد أن يجمع بين أمانة استيفاء المعرفة ومهارة العرض وسلاسته.

ويبدد المؤلف بعض الأوهام الرائجة بشأن هذا الفيلسوف أو ذاك وهذه القصة التاريخية أو تلك، وقد فعل هذا على سبيل المثال مع السفسطائيين مبينًا أنهم — أيًّا كانت مثالبهم — قد مثلوا نزعة نقدية لليقينيات الأخلاقية كانت من الأهمية في تاريخ الفكر الإنساني بمكانٍ واستدعت بالمقابل ردودًا وبحوثًا فلسفية عبَّرت بشكل أفضل عن الإيمان بالمطلقات الأخلاقية والدينية والثقافية.

ونظرًا لأهمية الأحداث التاريخية المتعلقة بالشخصيات في كتاب من هذا النوع يسعى للمزج بين فن الحكي وعرض الأفكار، يتوقف المؤلف عند لحظات درامية مهمَّة في التاريخ كلحظة مقتل الفيلسوفة السكندرية هيباتيا، ويعرض الروايتين التاريخيتين المشهورتين لمقتلها، مرجحًا أن مقتلها لم يكن بباعث من التعصُّب الديني ورفض الفلسفة بقدر ما كان بسبب الصراع السياسي بين أورستيس حاكم الإسكندرية وكيرلس رئيس القساوسة بها، وإن بقيت الروايتان تتصارعان وتوظَّفان أدبيًّا وتاريخيًّا لأغراض مختلفة. والمؤلف ينحو إلى ترجيح الرواية التي ترى مقتل هيباتيا ناتجًا عن التنافُس السياسي على تلك التي تراه عاقبة للتعصب الديني ضد الفيلسوفة غير المسيحية.

يتمتع مؤلف الكتاب بقدرة عالية على المزج بين تبسيط المعني الفلسفي ووجازة العبارة؛ وهذه القدرة على الشرح مع الإيجاز تطَّرِد في جميع فصول الكتاب لتعطيه ما له من سمة مميزة وشعبية مستحَقة.

ومن لمحاته اللافتة للنظر التي تدل على طبيعة الكتاب ككل وطريقة تأليفه إشارتُه في الفصل الخاص بأرسطو إلى تشاؤم أفلاطون مقابل تفاؤل أرسطو، فالكهف المظلِم البائس الذي رأى أفلاطون أنه يمثل الحياة على الأرض، وأنه لا بُدَّ للفيلسوف أن يُريه للناس من هذا المنظور البئيس كي يدركوا أنه لا يمكن الخروج من ذلك الكهف إلا بالتأمل في المُثُل والاستغراق فيها؛ يراه أرسطو في كتابه الأثير «الحيوان» مكانًا يمكن العيش فيه حالما نوقد المصباح لنرى النور لا أكثر، وسيبدو الكهف أَشَدَّ إثارة إذا بدأنا كذلك في دراسة الحيوانات التي تعيش فيه. وهو ما ظهر كذلك في دفاع أرسطو عن الشِّعر الذي يراه أفلاطون محاكاة لواقع على الأرض لا يتَّسم إلا بالنقص والفساد، وأن الاستغراق فيه يبتعد بالناس عن مباشرة المُثُل والتأمل فيها والتطلُّع إليها. أما أرسطو فيرى الشعر محاكيًا لا لما هو كائن بل لما يجب أن يكون.

ولو توقف الكاتب عند حَدِّ العرض والربط والتردُّد بين القديم والحديث لكان جيدًا، ولكنه لم يألُ جهدًا كذلك في تفنيد رأي هذا الفيلسوف أو ذاك، كما فعل في الفصل الخاص ببارمنيدس مثلًا ثُمَّ في الفصل التالي الخاص بتلميذه زينون. ولا يخلو فصل من إيراد النقد على هذا الفيلسوف أو ذاك أو من تبديد وَهْمٍ شائع عن هذه المدرسة أو تلك، كما سبقت الإشارة في حالة بعض السفسطائيين. وهو في هذا يفيد من التطورات المختلفة في البحث في تاريخ الفلسفة ومن التطوُّر في البحث الفلسفي نفسه. ومتى تعذَّر تكوين فكرة كاملة أو مترابطة عمَّا قصده فيلسوف قديم فُقِدَ جُلُّ أعماله أو بعضها، أشار إلى ذلك بوضوح ناسبًا ما يلحق بفكر القدماء من تشوُّه إلى هذا السبب التاريخي، بل ويحاول سَدَّ الفجوات بشكل أو بآخر معتمدًا على القراءات المتتابعة لأعمال هؤلاء الفلاسفة عبر التاريخ، ويظهر ذلك في الفصل الخاص ببارمنيدس وفي الفصل الخاص بأرسطو كما سبقت الإشارة.

وبعد أن يُكوِّن الكتاب معارفَ أساسية لدى القارئ ستتردد أصداء هذه التجربة الثَّرِية التي عايشها خلال رحلته مع الكتاب في حياته وقراءاته بعد ذلك. وكفى بهذا الكتاب فخرًا أن يكون عارضًا للأفكار الفلسفية الأساسية وأن يُحَقِّقَ إلمام القارئ بها، لِمَ لا وهو يُقدِّم المعرفة في قالب عجيب وطريف يستحق الوصف بالسهل الممتنع!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤