الفصل الثامن

من يضحك أخيرًا: ديموقريطس

كانت النظرية الذرية هي آخر النظريات الإغريقية وأبرزها في أعقاب بارمنيدس. ويبدو أن مخترعها هو ليوكيبوس الذي لا نعرف فعليًّا عنه شيئًا، ثم طوَّرها ديموقريطس (حوالي ٤٦٠–٣٧٠ق.م.) الذي يبدو أنه يكاد يعرف كل شيء أو على الأقل ظن أنه يعرف كل شيء. ويصف المؤرخُ ديوجين ليرتيوس ديموقريطسَ كما لو كان مزيجًا من شيرلوك هولمز والعراف الدلفي: فعندما تذوَّق كمية من اللبن يقال إنه استنتج أن هذا اللبن جاء من أنثى مَعْزٍ سوداء اللون وقد أنجبت للتو أول صغارها. ولا تَقِلُّ هذه القصة عجبًا عن قصة تأخيره موتَهُ بمحض إرادته بعد أن تجاوز سن المائة عن طريق استنشاق رائحة خبز طازج. وبعدما قُبِضَت روحه في آخر المطاف ظل ديموقريطس معروفًا بين الناس باسم «الفيلسوف الضاحك»؛ غالبًا لأنه كان يهزأ من حماقة البشرية. ولا يخطر ببال من يقرأ ما تبقَّى من كتاباته أنه كان شخصًا مرحًا يسخر من الحياة. فجدية كتاباته تجعل من المستحيل علينا تصوره وهو يضحك على أي شيء. فإنه يقول مثلًا: «إياك أن تشك في أحد، ولكن كن ماكرًا وتجنب الخطر.» ويقول أيضًا: «إن التوبة من عمل السيئات واقتراف الذنوب والآثام هي النعمة التي تنقذ الحياة.» وكذلك يقول: «من يحافظ على نظام سلوكه يحافظ على نظام حياته.»

بالنظر للأمر من منظورنا الحالي، يتضح أن التفسير الأوقع للقب «الفيلسوف الضاحك» هو أن ديموقريطس كانت له الضحكة الأخيرة. فعلى مر ٢٤٠٠ عام تفصلنا عنه قبعت مبادئ ديموقريطس تحت وطأة رفض أفلاطون وأرسطو والكنيسة لها، ثم ابتسم له الحَظُّ مع الثورة العلمية في القرن السابع عشر، وظل مبتسمًا له منذ ذلك الحين، في حين ضُرِبَ بالنظريات الفيزيائية لأفلاطون وأرسطو عُرض الحائط؛ فالتصور الحديث للعالم يشبه أفكار ديموقريطس وأتباعه أكثر من أفكار أيٍّ من غيره من الإغريق. وسيتضح فيما يلي أن بعض الأفكار المنسوبة لجاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م) والتي بدت ثورية ليست إلا إعادة صياغة لما قاله ديموقريطس. بل وما يزيدنا انبهارًا أن سلسلة التأثير تمتد من الذريين القدامى حتى انتصار النظرية الذَّرية الحديثة للمادة في القرن التاسع عشر. لا ريب أن جاليليو والذريين المعاصرين سَعَوْا جاهدين إلى اختبار استنتاجاتهم وإثباتها بينما كان ديموقريطس ببساطة يؤلِّفها ثم من حسن طالعه يتضح أنها استنتاجات صحيحة. ولكن تبقَى النظرية الذرية القديمة هي الإنجاز الذي توَّج الفلسفة الإغريقية قبل عصر أفلاطون.

وأغرب ما في الأمر أن هذه الفلسفة التي تبدو علمية في ظاهرها قد نشأت مباشرة من آراء بارمنيدس المظلمة وغير المعقولة؛ فبتعديل بسيط لأفكار بارمنيدس تحولت الكينونة الواحدة الثابتة والساكنة لديه إلى الذَّرَّات الغزيرة والحيوية لدى ديموقريطس. ولكن كيف حدث ذلك؟ هذا ما سنجيب عنه بعد قليل.

ورغم نجاح النظرية الذَّرَّيَّة في بلوغ القرن السابع عشر وما يليه، فقد عانت الأَمَرَّيْن لتصل إليه. فقد كرَّس أرسطو جهدًا عظيمًا ليثبت أن النظرية الذرية ليست إلا هراءً في معظمها، أما أفلاطون فنفر من هذه النظرية حتى يبدو أنه لم يتقبَّل حتى ذكر ديموقريطس، ناهيك عن تفنيد آرائه. ويقال إن أفلاطون أراد لكل كتب ديموقريطس أن تُحرق، لكن ذلك كان أمرًا شاقًّا لأن كتابات ديموقريطس وحده تفوق كتابات كل من سبقوه مجتمعِين. ولسوء الحظ كان لأفلاطون ما أراد على أيَّةِ حالٍ لأن معظم كتابات ديموقريطس ضاعت إثر الإهمال. وقد انتهز المفكرون المسيحيون الأوائل كل فرصة سانحة لإدانة النظرية الذَّرية وإثناء الناس عن دراستها، ولم يكن وجه عداوتهم هو أن النظرية الذرية تزعُم أن كل المواد تتكون من جزيئات لا يمكن تقسيمها في حين أن المسيح وأنبياء العهد القديم لم يذكروا قولًا في ذلك. فقد مقت المسيحيون الأوائل النظرية الذَّرية لسببين رئيسين؛ أولهما: أنها حاولت تفسير كل شيء في إطار ميكانيكي دون الإشارة إلى قدرة الرب (التي يراها الذريون إسهابًا لا قيمة له)، والآخر: أنها زعمت أن لا حياة بعد الموت؛ ذلك أن كل الأشياء بما فيها الأرواح والآلهة — إذا كان لأيٍّ منها وجود من الأساس — ما هي إلا تشكيلة مؤقَّتة من الذرات ستذوب عائدة إلى الفوضى في النهاية.

كما عانت النظرية الذرية من أصحاب السوء؛ فقد أيَّدها وطوَّرها أبيقور (٣٤١–٢٧٠ق.م.) الذي اشتهر بتقديس المُتَع الحسية والشَّرَه مما أساء إلى سمعتها بين أولي الألباب. بل والأسوأ من ذلك هو أن أفضل نسخة للنظرية الذرية وأشدها تأثيرًا هي النسخة المطروحة في قصيدة لوكريتيوس «عن طبيعة الأشياء» التي تناهض الدين صراحة، فيقول لوكريتيوس بكل وضوح إن قصيدته تهدف إلى تحرير الإنسان من الخرافات ومن رهبة الموت وطغيان الكهنة:

عندما زحفت حياة الإنسان مُكرَهَةً تُثقِلُ ظهرها الخرافاتُ التي تُطِلُّ برأسها من السموات العُلى وتقترب من الهالكين بوجه بَشِعٍ، كان رجل اليونان هو أول من تجرَّأ برفع العين في عينها وأول من وقف أمامها وجهًا لوجه؛ ذلك أن أساطير الآلهة لا تخيفه، ولا تُخمده الصواعق ولا يُثني عزمه زئير السماء المرعب، بل إنها استنهضت الشجاعة فيه حتى كان أول الراغبين في اقتحام عالم الطبيعة وكشف النقاب عن أسراره.

و«رجل اليونان» البطل الذي يقصده لوكريتيوس هو أبيقور، إلا أن الحقيقة أن أوَّل من اقتحم عالم الطبيعة هما ديموقريطس وليوكيبوس تحت اسم النظرية الذَّرية.

•••

قال ديموقريطس ذات مرة إنه يفضل أن يتوصل إلى تفسير واحد حقيقي عن أن يتوَّج ملكًا على بلاد فارس. وقد حمله فضوله بعيدًا عن وطنه فذهب به إلى بلاد بابل ومصر وفارس وربما إلى الهند وإثيوبيا. وقد أنتج بخبرته الواسعة واهتماماته المتنوعة ما يقرب من خمسين رسالة عن موضوعات مختلفة مثل المغناطيسية والزراعة والموسيقى والرسم وعلم وظائف الأعضاء، وربما تحدَّثت إحدى رسائله عن كيفية القتال بالدروع، بالإضافة إلى كتبه في موضوعات فلسفية بحتة. وقد كان شغوفًا بعلم الأحياء، ولكن لم يتبقَّ ممَّا كتبه فيه إلا القليل، وكذلك الحال مع معظم الموضوعات التي تكلَّم فيها. ويتبقى بين أيدينا ٢٩٩ قطعةً مفهرسة من كتابات ديموقريطس؛ أي أكثر ممَّا تبقى من كتابات أي فيلسوف قبل أفلاطون، إلا أن معظمها من كتاباته عن الأخلاق، وبعضها كلمات منفردة قيل إنه كان يستخدمها. ومع ذلك فإن ما بقِي وخاصة مما كتبه لاحقًا عن النقد يكفي ليبين الخطوط العريضة للنظرية الذرية.

إن أول من وضع هذه الخطوط العريضة وفقًا لما قاله أرسطو هو ليوكيبوس. وقد وُلِد ليوكيبوس حوالي عام ٤٦٠ق.م. إما في مدينة إيليا أو في ملطية، وكلتاهما من أغزر منابع الفلسفة. وتقريبًا وُلِد ديموقريطس في العام نفسه في مدينة أبديرة، وهي مدينة أيونية على شاطئ تراقيا كان يُضرب بها المثل لغباء أهلها. ودرس ديموقريطس مع ليوكيبوس وحمل الفكرة التي خَلَّدَت ذكر ليوكيبوس وهي أن عددًا لانهائيًّا من الذرات الصغيرة يندفع حول مساحة خالية (تُسمَّى «الفراغ») حتى تصطدم الذرات ويلتصق بعضها ببعض فَتُشَكِّل كل الأشياء التي نعرفها في العالم سواء الحية أو غير الحية. ويقول أحد المعلقين اللاحقين عن ذلك:

هذه الذرات تتحرك في الفضاء اللانهائي منفصلة عن بعضها ومختلفة في الشكل والحجم والمكان والترتيب، ثم تسبق إحداها الأخرى فتصطدم، ويُساق بعضها إلى أي اتِّجاه عشوائي بينما يلتحم بعضها الآخر وفقًا للاتفاق في الشكل والحجم والمكان والترتيب وتبقى كذلك؛ ومن ثَمَّ تتشكل في صورة أجسام مُرَكَّبَة.

figure
ديموقريطس.
لقد اشتُقَّتْ كلمة atom (ذرة) من atomos بمعنى «لا يمكن قطعه»، وقد قال ديموقريطس وليوكيبوس إن الذرات صُلبة جدًّا ولا يمكن تقسيمها أو تدميرها. وتموت الأشياء العادية أو تتفكك عندما تتناثر الذرات المكوِّنة لها. ولذلك فإن النظرية الذرية التي نجدها عند إمبيدوكليس وأناكساجوراس تحاول تفسير التغيير والدمار اللذَيْن اعتبرهما بارمنيدس من ضروب المستحيل، وذلك عن طريق طرح حل وسط. وتقول الحلول الوسط الثلاثة إن الأشياء العادية المتغيرة تتكون من مكوِّنات لا تتغير في حَدِّ ذاتها ولكن قد يتغير تركيبُها عندما تجتمع أو تتفرق، وهذه الأشياء التي أُعيد تركيبها هي التي تنتج لنا العالم المتغير الذي نراه.

أما القوة التي تجمع الذرات معًا فهي المبدأ الإغريقي القديم القائل إن المتماثلات تنجذب لبعضها. وفي ذلك يقول ديموقريطس: «تجتمع المخلوقات مع نوعها … الحَمام مع الحَمام والكركي مع الكركي … إلخ، والشيء نفسه يحدث مع الجماد، وهو ما نراه في تجمع الحبوب في المُنْخُل والحصى على الشاطئ.» وتميل الذرات متشابهة الشكل إلى الالتصاق ببعضها، بل إن بعضها لديها خطافات صغيرة لتتعلَّق بها. وقد حاول ديموقريطس تفسير أقصى ما يمكنه من السمات التي نراها للأشياء العادية من حيث أشكالُ ذراتها المختلفة وأحجامها وتركيبها، فالأشياء حلوة الطعم تتكون من ذرات مستديرة وكبيرة، أما الأشياء حادَّة المذاق فتتكون من ذرات صغيرة ومدببة وغير مستديرة (ومن ثَمَّ وصفها ﺑ «الحادة»)، والأشياء المالحة تتكوَّن من ذرات كبيرة مدبَّبة ومقوَّسة أضلاعها متساوية، أما الأشياء المُرَّة فتتكون من ذرات مستديرة وناعمة لكن غير منتظمة، وتتكون الأشياء الزيتية من ذَرَّات ملساء مستديرة وصغيرة (ومن ثَمَّ تشبه حبَّات الرمان التي تنزلق بسهولة واحدة تلو الأخرى، ويُفترض أن هذا ما اعتقد ديموقريطس أنه يفسر لُزُوجَةَ الزيت).

وبناء على نظرية ديموقريطس فإننا نتعرض لسيل من هذه المكوِّنات الدقيقة طوال الوقت، فبما أن كل شيء لا بُدَّ له أن يتكوَّن من ذرات تتحرك؛ فإن الإدراك في حَدِّ ذاته يُفَسَّر على أنه نتيجة خروج أعداد صغيرة من الذَّرَّات من الأشياء ودخولها أجسامنا من خلال الحواس. أما ما يحدث داخل الجسم عند إدراك الشيء فيَظَلُّ غامضًا لا يُدرَك كُنْهُهُ. ويقال إن العقل هو مجموعة من الذَّرَّات الكروية تقبع في مكانٍ ما بالجسم، أما التفكير فهو يتمثَّل في حركة ذرات العقل إذا ما هاجت بسبب التعرُّض لسيل الذرات المندفع. وقد استعار ديموقريطس في تفسيراته للظواهر الأكبر مثل الجو تفسيرات عصره المعهودة، فمثلًا قال إن الرعد يحدث نتيجة توليفة غير منتظِمة من الذَّرَّات ممَّا يدفع السحابة التي تحملها للأسفل.

لقد أخذ ديموقريطس كل الأفكار التقليدية التي تناسبه وعَدَّلَ فيها بالقدر اللازم ليتسنَّى له إدخال الذرات في الصورة؛ ولذلك فإن أقوى ما تتميز به النظرية الفيزيائية للذريين هو فكرة الذرات في حَدِّ ذاتها وإصرارهم على تفسير الطبيعة بأسرها، بل وإدراك الإنسان للطبيعة على أُسُسٍ اقتصادية بحتة. وبإصرار ديموقريطس على أن حجم الذرات وشكلها وترتيبها هو كل ما يجِب تناوُله في التفسيرات الحقيقية نجح في الذهاب إلى ما هو أعمق وأبعد ممَّا وصل إليه إمبيدوكليس وأناكساجوراس، حتى إن لم يحقق نجاحًا هائلًا. لقد رضي إمبيدوكليس وأناكساجوراس بالتوقُّف عن التعمق في نظرياتهما حال التوصُّل لتفسير السمات أو الأشياء المعتادة بطريقة أو بأخرى (بطريقة «عناصر» التراب والهواء والنار والماء لدى إمبيدوكليس، وطريقة الكميات الضئيلة من كل المواد العادية لدى أناكساجوراس).

ولكن من أين أتت فكرة الذَّرَّات؟ وما دليل ديموقريطس على ما قاله عن أشكالها في الأشياء الحلوة أو المالحة مثلًا؟ ليس ثَمَّةَ ما يشير إلى إجرائه تجارب على تلك الأفكار أو فحصها. وربما استرعت فكرة الجزيئات الدقيقة انتباه ديموقريطس أثناء تأمُّله للغبار الطائر؛ فقد قارن الذرات ذات مرة ﺑ «ذلك الهباء الذي نراه محلِّقًا في الهواء في أشعة الشمس عبر النافذة.» أما عن أشكال الذرات فيبدو تفسيره مقبولًا لدى أصحاب المنطق السليم غير المتعلِّمين إذا ما تدبروه بحدسهم. وبعد مرور أكثر من ٢٠٠٠ عام وفي أواخر القرن السابع عشر كتب أحد الكيميائيين الفرنسيين في أحد الكتب الدراسية قائلًا:

إن أفضل وسيلة لتفسير الطبيعة الخفية للأشياء هي أن نَصِفَ أجزاءها بأشكال تتماشى مع كل تأثيراتها، فلا أحد ينكر أن حموضة السوائل تتمثَّل في جزيئات مدببة، وكل التجارب تؤكد ذلك، فحالما تتذوَّقها تشعر بوخز في لسانك كذلك الذي تسبِّبه بعض المواد حين تُقَطَّع إلى أسنان دقيقة.

لم يكن لدى ذلك الكيميائي أي دليل على ما قال أكثر ممَّا كان لدى ديموقريطس، كل ما في الأمر أن هذا هو ما بدا له أنه التفسير الصحيح.

ويبدو أن السبب الرئيس الذي قاد ليوكيبوس وديموقريطس للذَّرَّة لم يكُن دليلًا أو برهانًا وإنما مفارقات زينون بالأساس؛ فقد توصلا إلى استنتاج أن المشكلة في مفارقات زينون أو في بعضها على الأقل هي أنه افترض أن الأشياء المادية يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية. لقد افترض زينون بالفعل أنه إذا كانت المواد المعتادة موجودة فإنه يمكن تقسيمها إلى ما لا نهاية، ثم قال إن هذه الفكرة قد أدَّت في النهاية إلى نتائج عبثية، وهذا أحد أسباب إنكاره لعالم المنطق السليم. أما ليوكيبوس وديموقريطس فقد اعتقدَا أن إمكانية تقسيم الأشياء إلى ما لا نهاية قد تكون هي نقطة الضعف في المفارقات، فزينون لم يقدم أي دليل عليها على أيَّة حال بل افترضها فقط؛ ومن هنا انطلقت كل مفارقاته. وإذا افترضنا بدلًا من ذلك أن المادة لا يمكن تقسيمُها إلى ما لا نهاية؛ أي إن هناك ما يمثِّل أصغر مقياس للمادة والذي يستحيل تجزِئته أو تقسيمه، عندها سيتوقف مسار فكر زينون، أو على الأقل هذا ما اعتقده ديموقريطس وليوكيبوس، وبناء على ذلك طَرَحَا الذرة على أنها أصغر مقياس للمادة.

وهكذا بعد أن فنَّد الذريون نظرية زينون جاء الدور على بارمنيدس. كان أحد اعتراضات بارمنيدس على فكرة الحركة هو أنها تحتاج إلى مساحة خالية، وإلا فلن يكون هناك متَّسع يتحرك فيه أي شيء. وبما أن المساحة الخالية عبارة عن «لا شيء» يرى بارمنيدس أنها مستحيلة الوجود، وإذا كانت المساحة الخالية مستحيلة فالحركة مستحيلة كذلك. وقد اختلف الذريون مع بارمنيدس في الرأي دون أن يوضِّحوا وجه اعتراضهم على دحضه للمساحة الخالية، فقالوا إنه يمكن أن يوجد ما يسمى ﺑ «الفراغ»، وحال إيجاد ذلك الفراغ تُهرَع إليه الذَّرَّاتُ المتحركة. كانت هذه هي حججهم إجمالًا. فإذا قبلنا بوجود الفضاء فلا بُدَّ أن نقبل فكرة وجود أشياء كثيرة وليس الكينونة الواحدة فقط كما هو الحال لدى بارمنيدس؛ ذلك أن ثَمَّةَ مساحة خالية توجد بين الأشياء المختلفة وتفصلها عن بعضها، ولكن لا توجد مساحة خالية داخل الذرات نفسها؛ ذلك أنه لو وُجِدَتْ مثل تلك المساحة لما كانت الذَّرَّات صُلْبَةً ولصار ممكنًا تقسيمُها إلى أجزاء أصغر في حين أنها اصطلاحًا تنفرِد بعكس ذلك. وبما أن هذه الذَّرَّات لا تتكون من أجزاء فهي ليست عرضة للتغير أو التحلل؛ ولذلك فهي خالدة.

وهكذا بإزالة هذا الترس من عجلة بارمنيدس (أي دحض زعمه استحالة وجود المساحة الخالية) حَوَّلَ الذريون هذه العجلة لخدمة أغراضهم. وبصرف النظر عن حقيقة أن الذرات تتحرك وأن هناك الكثير منها، تتشابه الذرة لدى ديموقريطس والكينونة الواحدة الغامضة لدى بارمنيدس كثيرًا؛ فكلاهما خالد للأبد ولا يتغير أبدًا ولا يتكون من أجزاء ولا يحتوي على مساحة خالية داخله. بل وفي الواقع يبدو أن مليسوس، وهو أحد أتباع بارمنيدس، قد تنبَّأ نبوءة غامضة باحتمالية مرور آراء أستاذه بمثل ذلك التطوُّر، وقال ذات مرة إنه إذا كانت هناك أشياء كثيرة فسيتضح للعيان أن كُلًّا منها يشبه الكينونة الواحدة لدى بارمنيدس.

تجمع النظرية الذرية بين قليل من سمات الفيثاغورية وكثير من خصائص فلسفة بارمنيدس، فكل شيء في عالم فيثاغورس مبنيٌّ من مجموعات من «وحدات» يُزعم أنها بطريقةٍ ما حقيقية أكثر من أي شيء آخر. ويرى الفيثاغوريون أن هذه الوحدات تتكوَّن من أرقام، أما لدى ديموقريطس وليوكيبوس فهي أجسام مادية صُلبة. ولم يَرِد في شروح النظرية الذَّرية القديمة ذكر أية أرقام أو حتى الرغبة في قياس أيَّة كَمِّيات (لكن يُفتَرَض أن ديموقريطس قد كتب نحو عشرة كتب في موضوعات حسابية)، وهذا هو ما يرسم الخط الفاصل بين النظرية الذرية قديمًا وحديثًا، ولم يزدهر ذلك المذهب في صورة مشروع علمي ناضج إلا عندما طور علماء الكيمياء والفيزياء طرقًا معقدة لقياس الظواهر المادية.

ومع ذلك إذا لم يكن ممكنًا في زمن ديموقريطس تحديد سمات الذرات المذكورة في نظريته؛ فإنه من الأهمية بمكان أن نذكر أن هذه الذرات يمكن قياسها بدقة من الناحية النظرية، وهي المادة الصحيحة التي ينبغي على الرياضيات والفيزياء تناوُلها. لقد تحركت الذرات وكان لها أحجام وأماكن وأوزان وأشكال هندسية، وكان هذا أهم الحقائق عنها. ومن المؤكَّد أن السمات الأساسية للذرات لا تتضمن أيًّا من السمات التي تصاحب حواس الإنسان على وجه الخصوص كاللون أو الرائحة أو الطعم. ويرى ديموقريطس أن ألوان الأشياء العادية ونكهاتها ليست صفات موضوعية يتصف بها العالم الخارجي، وإنما يبدو أنها حالات لجسم الإنسان تنتج عن تدفُّق الذرات إليه. ولذلك عندما يقول مثلًا إن ذرات الأشياء ذات المذاق الحُلوِ مستديرة وكبيرة فهو لا يعني أنها حلوة في حَدِّ ذاتها ولكن استدارتها وكبر حجمها يسببان لنا الإحساس بالحلاوة.

وما دفعه إلى قول ذلك هو حقيقة أن الأحاسيس تختلف من شخص لآخر، حتى ولو لم يختلف الشيء المُدرَك. ويقول أرسطو: «إن الشيء نفسه يبدو حلوًا لدى البعض ومرًّا لدى البعض الآخر، بل لا يشعر الفرد بالشيء بالطريقة نفسها طوال الوقت.» ويصيغ ديموقريطس ذلك قائلًا: «جرى العرف بأن يُعَدَّ الشيء حلوًا أو مرًّا أو ساخنًا أو باردًا أو بلون معين، ولكن الحقيقة أن هذا الشيء ليس إلا ذرات وفضاء.»

بعبارة أخرى، يمكننا القول إن ما تخبرنا به حواسُّنا عن الحرارة أو الطعم أو اللون أو غير ذلك كله مسائل ذاتية بحتة، وقد جرى العُرف على أننا ننسب تلك الصفات للأشياء المادية نفسها وغالبًا ما نتفق حول الصفات الموجودة في هذه الأشياء. والحقيقة أنه لا يوجد في تلك الأشياء سوى مجموعات من الذرات تسبح في الفضاء بأحجامها وأوزانها وما إلى ذلك. وهذا يُذَكِّرُنَا ببارمنيدس مرة أخرى؛ إذ قال إن الألوان وغيرها من الأشياء التي يؤمن بها الناس لأنهم بسذاجة يثقون في حواسِّهم ليست إلا «أسماء». وقد اتفق ديموقريطس مع بارمنيدس في عدم الثقة في الحواس، إلا أنه لم يتبعه إلى حَدِّ التغاضي عنها تمامًا. وقد ميَّز ديموقريطس بين المعرفة المكتَسَبة من خلال الفكر (أو العقل) والمعرفة المكتسبة من خلال الحواس فقال:

ويقر صراحة بأن «للمعرفة هيئتين: الهيئة الأصلية والهيئة الزائفة. أما الهيئة الزائفة فهي التي ينتمي إليها كلٌّ من البصر والسمع والشم والتذوق واللمس، وأما الهيئة الأخرى فهي أصلية ومتمايزة عن الهيئة الزائفة.» ثم استطرد قائلًا: «ومتى عجزت المعرفة الزائفة عن رؤية ما هو صغير جدًّا أو سماعه أو شمه أو تذوقه أو إدراكه بلمسه، يضطر المرء للجوء إلى أداة أخرى أكثر دقة.» ولذلك فالعقل هو المعيار (الذي نميز به الحقيقة من الزيف).

يرى الذريون أنه يمكن الاعتماد على الحواس «الزائفة» للتأكد من وجود عالم من الأشياء المعتادة المتحركة، وقد أخطأ بارمنيدس بإنكاره لهذا العالم، إلا أن العقل وحده يمتلك من الثقة والقوة ما يُمَكِّنُهُ من كشف الحقائق الأعمق عن الأشياء ألا وهي أنها في أصلها تتكون من ذرات معدومة الألوان. وقد توصل العقل إلى هذه الحقيقة بالتفكر في الحجج التي ساقها الآخرون مثل زينون وبارمنيدس وتقييمها والبناء عليها.

وتتشابه الصورة التي نتجت عن كل ذلك مع الصورة التي رسمها جاليليو تشابهًا مذهلًا، فيقول جاليليو في فقرة يُستَشهَد غالبًا بالصورة العلمية التي ترسمها للعالم والتي يُفترض أنها صورة جديدة:

كلما أدركت أي شيء … أو أية مادة، شعرت في الحال بالحاجة للتفكُّر فيها … بأي شكل من الأشكال هي؟ وهل هي كبيرة أم صغيرة؟ وفي أي مكان توجد وفي أي وقت؟ وهل هي في حالة حركة أم في حالة سكون؟ وهل تتلامس مع أي جسد آخر أم لا؟ وهل تتكون من رقم واحد أم من أرقام قليلة أم كثيرة؟ … لكن ذهني لا يشعر بضرورة إدراج مصاحبات أخرى كأن يكون لونها أبيض أو أحمر وطعمها حلوًا أو مُرًّا وصوتها مزعجًا أو صامتًا ورائحتها زكيةً أو منفِّرة. يحتاج العقل أو الخيال لإرشاد من الحواس وإلا فغالبًا ما سيعجز بدونها عن التوصل لمثل تلك الصفات. ومن ثَمَّ أظن أن المذاقات والروائح والألوان وغيرها ليست سوى أسماء عند الحديث عن الأشياء التي ننسبها إليها، وأنها لا تقبع إلا في إدراكنا، فإذا أبعدنا الكائن الحي زالت كل تلك الصفات وفَنِيَتْ.

كان ديموقريطس سيوافق تمامًا على كل هذا (ما لم يَمِل إلى اعتباره سرقة أدبية). وأخيرًا في القرن السابع عشر آن الأوان لتلك الفكرة أن ترى النور إذ قام روبرت بويل (١٦٢٧–١٦٩١م) — وهو أحد علماء الفيزياء والكيمياء الأيرلنديين الذين تبنَّوْا فكر «الفلسفة الذرية بعد أن أصلحها وطهرها من أوهام مخترعيها الأوائل وشططهم» — بوصف المادة من خلال ما سماه بالصفات «الأساسية» و«الثانوية» للأشياء. أما الصفات الأساسية فهي الحجم والشكل والترتيب والقوام والصلابة وحركة الجزيئات؛ فهذه هي الصفات التي يحتاجها العالِم ليفسر أية ظاهرة من ظواهر الطبيعة. ولذلك حاول بويل أن يفسِّر الحرارة والالتحام والسيولة والصلابة واللون وغير ذلك من الصفات في إطار الصفات الأولية لديه، وحقق في ذلك نجاحًا كبيرًا فاق ما حققه ديموقريطس. ثم طوَّر الفيلسوف جون لوك (١٦٣٢–١٧٠٤م) على هذا الأساس نظرية مفصلة بعيدة الأثر بَيَّن فيها خمس صفات أساسية وهي: الحجم والشكل والعدد والصلابة والحالة من حيث الحركة أو السكون، وقال كذلك إن الصفات الثانوية الحسية مثل اللون أو الرائحة «ليست بصفات في الأشياء ذاتها وإنما قوى تخلق فينا أحاسيس متنوعة من خلال الصفات الأساسية.» ولا تزال العلوم الحديثة تحتفظ بفكرة مجموعة الصفات الأساسية القابلة للقياس بدقة والتي يمكن من خلالها تفسير كل شيء (رغم أن قائمة هذه الصفات اليوم تختلف عن قائمتي بويل ولوك). أما مع جاليليو فلا يمكننا أن نتأكد بسرعة من أن الصفات الحسية كالألوان «محض أسماء» تنعدم في حالة غياب من يدركها. ولا يزال الناس مختلفين حول إذا ما كان ذلك قولًا مضللًا.

ثمة شيء واحد اختلف فيه علماء عصرنا مع ديموقريطس — كما اختلف فيه معه من قبل جاليليو وبويل ولوك — وهو أن الحواس «الزائفة» لا تلعب دورًا حقيقيًّا في التعرُّف على العالم. فعلى العكس تمامًا، تدخل الحواس بدرجة كبيرة أو صغيرة في تجميع الأدلة واختبارها في كل النظريات الفيزيائية المحترمة. ولتجنُّب المبالغة في التشبيه بين أفكار الفيزياء الحديثة وأفكار ديموقريطس حَرِّيٌ بنا أن نذكر إلى أي مدى حملت الأدلةُ التجريبيةُ النظرية الذرية الحديثة بعيدًا عن معتنقيها القدماء. إن الذرات التي هي موضع دراستنا في العصر الحديث ليست هي ذاتها الذرات التي تحدث عنها ليوكيبوس وديموقريطس رغم أنها من نسلها. أولًا الذرة الحديثة ليست خالدة أو غير قابلة للتدمير أو صُلبة أو غير قابلة للانقسام، بل إنها تتكون بفعل العمليات الطبيعية، وتتحلل وتتكون في معظمها من مساحة خالية (فهي مجموعات ضخمة من الإلكترونات تحيط بنواة صغيرة وغليظة) ويمكن «شطرها» وإعادتها إلى مكوناتها. وقد خلت كتابات ديموقريطس من أية إشارة لمعظم أهم الصفات والقوى المستخدمة لوصف سلوك الذرات؛ فهو مثلًا لم يعرف شيئًا عن الشحنات الكهربية التي يتناقض سلوكها تمامًا مع ما توقَّعه الإغريق القدماء، مما يزيد الأمر سوءًا؛ ففي عالم الكهرومغناطيسية المتماثلان لا ينجذبان بل يتنافران.

وقد تطول قائمة الاختلافات بين المذهب القديم والحديث ولكنها قد تخدع أيضًا، وعلى المرء إذن أن يحذر من الانخداع باختلافات زائفة ناتجة عن مصادفة في استخدام المصطلحات. على سبيل المثال، دأب مؤرخو العلوم على الإشارة إلى أن الذرة لدى ليوكيبوس وديموقريطس تتميز اصطلاحًا بأنها لا تقبل الانشطار بينما يعلم الجميع الآن أن ما نسميه «ذرة» قد انشطرت ولم تعُد تمثل العنصر الأساسي المُكَوِّن للمادة، فقد أصبح لدينا بدلًا منها جزيئات أساسية أصغر حجمًا تنقسم إلى فئتين: الكوارك واللبتون، ولكن ذلك فيه ضلال كبير ولا يثبت أن الفكرة الرئيسة لدى الذريين القدامى خاطئة. فعندما اتضح أن ما نسميه ﺑ «الذرة» ليس في النهاية هو المكون الرئيس للمواد، لم يعكس هذا سوى استعجال علماء الفيزياء في العصر الحديث بتسمية تلك الجزيئات باسم «الذرة». لقد أطلق علماء القرن التاسع عشر اسم «الذرة» على الجزيئات التي درسوها لأنهم اعتقدوا خطأً (كما اتضح بعد ذلك) أن تلك الجزيئات لا تقبل الانشطار. ولا يمكن دحض نظرية ليوكيبوس وديموقريطس عن النظرية الذرية ما لم يثبت أنه ليس ثمة جسيمات أساسية لا تقبل الانشطار أيًّا كان اسمها، وهو أمر لا يزال قيد البحث. إلا أن أهمية هذا الأمر تصير غير ذات صلة يومًا بعد يوم. فقد عفى الزمن على فكرة الجسيم في الفيزياء الحديثة؛ فلم يَعُدْ له مكان فيها. وقد أصبحت الجسيمات أقرب صلة بالقوى والمجالات، وفي بعض الأحيان لم تعُد تمثل أكثر من محض وسيلة للتعبير. وقد قيل في أحد التفسيرات المعاصرة: «تمثل الجسيمات الأساسية بأنواعها المختلفة حُزَمًا من الطاقة وقوة دافعة لأنواع المجالات المتوافقة معها.»

•••

وتتضح الحداثة غير الناضجة لدى ليوكيبوس وديموقريطس عند النظر في رؤيتهما للكون ككل ومكانة الإنسان فيه، وليس في تفاصيل ما قالاه عن التراكيب الدقيقة للمادة. لقد رأيا كونًا شاسعًا متجردًا غير محدود يختلف تمامًا عن الكون الدافئ والإنساني الذي صوره أفلاطون وأرسطو وأورثاه على مر السبعة عشر قرنًا الأولى من الحقبة المسيحية. وقد كان على الذريين أن يفسروا قيام النظام والحياة من الذرات الفوضوية المتدافعة فطرحوا تَصَوُّرًا لكون لانهائي يقبل العقل أن يتصور قيام كل أنواع العوالم فيه لشدة اتساعه فقالوا:

هناك عوالم بلا شمس ولا قمر، وهناك عوالم يَكبُر الشمس والقمر فيها عن الشمس والقمر في عالمنا، وهناك من العوالم ما فيه العديد من الشموس والأقمار. وتختلف الفترات الزمنية بين كل عالم وآخر، حتى إن هناك أجزاءً تحفل بالكثير من العوالم، وأجزاءً لا تضم إلا القليل. وبعض العوالم لا تزال تنمو، وبعضها بلغ ذروته، وبعضها آخذ في الصغر. وتُدَمَّرُ تلك العوالم عند اصطدام بعضها ببعض. وهناك من العوالم ما لا كائن حيًّا فيه ولا نبات ولا رطوبة.

وبناءً على هذا ما عالمنا إلا واحد من عدة احتمالات أتت به الظروف المناسبة لقيام الحياة (وكلمة «عالم» هنا تعني تقريبًا كوكبًا أو مجموعة كواكب)؛ ذلك أن الذرات كما قال عنها لوكريتيوس:

قد اعتادت منذ الأزل وحتى يومنا هذا الحركة والالتقاء بشتى الطرق وتجربة كل التركيبات وأي شيء يمكنها صنعه من تجمُّعها معًا؛ ولهذا حدث أن تلك الذرات إثر انتشارها بالخارج على مَرِّ الزمن ومحاولتها أن تتجمع وتتحرك بشتى الطرق قد التقت في النهاية، وهذا هو ما صنع بدايات الأشياء الضخمة كالأرض والبحر والسماء وخروج أجيال من الكائنات الحية.

قارن ذلك بكلمات ذُكِرَت في كتاب علمي حديث وهو «الجين الأناني» لريتشارد دوكينز الذي يبدؤه بإقرار شديد الشبه بما قاله لوكريتيوس فيقول: «لا حاجة لنا بعد اليوم إلى اللجوء إلى الخرافات كلما واجهتنا أسئلة معقدة مثل: هل للحياة معنى؟ وما سبب وجودنا؟» ثم يصف كيف أن العلوم «تُبَيِّنُ لنا كيف يمكن أن تتحول البساطة إلى تعقيد، وكيف أمكن للذرات غير المنتظِمة أن تتجمع في أنماط أشد تعقيدًا حتى انتهى بها المطاف إلى تكوين البشر»، ومن ثَمَّ «فلا حاجة بنا إلى التفكير في التصميم أو الغاية أو التوجُّه. وإذا ما استقرت مجموعة من الذرات … في نمط ثابت فإنها ستنزع إلى البقاء على هذا الحال.»

وهكذا كسا العلم الحديث عظام ديموقريطس وأبيقور ولوكريتيوس لحمًا، فهو يقدم سريعًا تفاصيل تحوُّل الفوضى الذرية إلى نظام وحياة تحولًا طبيعيًّا بدون بارئ؛ مما يحقق لهم آمالهم. وقد أمسك داروين بأكبر خيط في لغز الحياة عندما قدَّم تفسيره من خلال نظرية التطور والانتخاب الطبيعي التي رأينا مبادئها الأولية في توقُّعات إمبيدوكليس المبهمة. فلا عجب إذن من أن رواية الذريين عن خلق الإنسان لاقت الرفض والارتياب اللذَيْن لاقاهما داروين بعد ذلك في القرن التاسع عشر؛ فقد قال عنهم أحد المسيحيين المتحيِّرين في القرن الرابع عشر إنهم يعتقدون أن البشر «نشئوا من الأرض مثل الدود، بلا خالق ولا سبب.»

ولم يكتفِ ديموقريطس في قصته بما سماه تنيسون في قصيدة له عن لوكريتيوس «تلك البدايات العمياء التي جعلت مني رجلًا»، بل طفق يقدم تفسيرًا عن تطور الثقافة البشرية ونظريةً عن سعادة البشر ونظامًا متكاملًا للأخلاقيات. ويقول في ذلك إن البشر الأوائل كانوا يتصارعون وحدهم من أجل البقاء في عالم عدواني، ثم بدءوا يتعاونون في مواجهة عدوهم المشترك من الوحوش الضارية، ثم سرعان ما هذَّبوا أصوات الخوار التي كانوا يُصدِرونها وبدءوا يتواصلون من خلال الاتفاق على معانٍ لتقابل أوضح الأصوات التي يصدرونها. وبمرور الوقت علمتهم التجارب تحسين معيشتهم من خلال الإيواء إلى الكهوف وتخزين الطعام. ثم تعلَّموا الكثير بمحاكاة الكائنات الأخرى؛ ولذلك يقول ديموقريطس إن الإنسان تتلمذ على أيدي الحيوانات في أهم شئونه، فمثلًا تعلم الغَزْل والرَّتْق أول ما تعلمه من العناكب، وحاكى البلابل في غنائها، وأتى ببناء البيوت من طائر السنونو. إلا أن أغلى مَلَكَاتِ الإنسان هي ذكاؤه الطبيعي الذي يُمَكِّنُهُ من تعلُّم نظام العالم عن طريق الخبرة. إذن اتضح في النهاية أن المعرفة «الزائفة» التي تقدمها لنا الحواس من الأهمية بمكان.

وحالما انتهى الإنسان من تعلُّم ما يكفيه لتلبية احتياجاته الضرورية بانتظام، استطاع حينها أن يلتفت إلى الهوايات في رَوِيَّةٍ وأولها الموسيقى، كما استطاع أن يكرِّس نفسه للبحث عن السعادة. والسعادة عند ديموقريطس هي نتاج الاعتدال والاتزان وغياب الرغبات المشتَّتة التي تسعى إلى ما لا يمكن الحصول عليه أو إلى ما هو زائل. فإذا اهتز العقل أو الرُّوح بفعل تلك المشاعر المزعجة فقدت ذراته نظامها واستقرارها. وتعكس هذه الفكرة الآراء التقليدية للطب الإغريقي التي تقول إن الصحة الجسدية هي عبارة عن توازن في عناصر الجسم. وبما أن العقل يتكون من ذرَّات مادية كالجسد كما يقول ديموقريطس فإن الصحة العقلية والسعادة تستلزمان مكونات الصحة الجسدية نفسها، ولا بُدَّ لها من الاتزان وغياب الإزعاج الناتج عن الصراع.

ولكي يكون المجتمع صحيًّا فهو يحتاج إلى المكونات نفسها من استقرار واعتدال ونظام. وتعتبر الحضارة — التي تعني المدينة لدى ديموقريطس — نتاجًا إنسانيًّا محفوفًا بالمخاطر يمكن أن ينزلق بسهولة إلى الهمجية مرة أخرى، فإذا ما اختل التناغم والانضباط اللذان تعتمد عليهما الحضارة فسرعان ما ستختفي الفنون والفلسفة بل والسعادة نفسها. ومن الواضح أن ديموقريطس قد أخذ تلك المخاطر على محمل الجِدِّ؛ فقد نادى بتطبيق حكم الإعدام على كل من يهدد بزعزعة استقرار المدينة، فالمجتمع لن يواصل ازدهاره إلا بتوريث الحكمة والسلوكيات المسئولة للأجيال القادمة بعناية فائقة. ويتناول الكثير من الأجزاء المتبقية من كتابات ديموقريطس مسألة التعليم؛ إذ اعتبرها مسئولية ثقيلة فكتب قائلًا إن أسوأ شيء في الوجود هو التهاوُن في تعليم الصغار. ولا أحد يعرف إذا ما كان لديموقريطس أبناء أم لا. وأغلب الظن أنه لم يكُن له أبناء، وإذا كان له أبناء فلا بُدَّ وأنه نَدِمَ على ذلك لاحقًا؛ إذ نجده يقول:

أظن أن المرء الذي يريد أطفالًا خير له أن يأخذ أحد أبناء أصدقائه، عندها يمكنه أن يختار الطفل على الشاكلة التي يريدها، ومن ثَمَّ يمكنه أن يختار ما يهواه عقله من بين الكثير، أما إذا أنجب المرء أطفاله بنفسه فسيواجه عدة مخاطر؛ إذ عليه أن يعيش مع مَن أتى به أيًّا كان.

بالنظر إلى إصراره الشديد على ترسيخ الفضيلة في أذهان الناس ونفوسهم لا بُدَّ وأنه كان يحاول أن يتعايش مع نفسه. ولم تكن القيم التي أراد أن يُعَلِّمَها للناس كالعدالة والرضا بالنصيب والحكمة بقيم ثورية، بل كانت تعكس المُثُلَ التي كانت سائدة في عصره بعد أن عَدَّلَها لتتضمن التفسير الذري للعقل. إن أبرز ما ابتكره ديموقريطس في وعظه هو أنه حَثَّ رفقاءه على اتباع السلوك القويم لا إرضاءً للآلهة أو لضمان حياة يرضون بها في الآخرة، وإنما لأن تلك الفضائل مهدت الطريق الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه ليَصِلَ الإنسان للسعادة على الأرض؛ أي إن اتباع الفضائل مصلحة ذاتية. وقد طوَّر أبيقور ولوكريتيوس لاحقًا تلك الأخلاقيات التي لا تَمُتُّ إلى الدين بصلة، وهو ما شَقَّ على المسيحيين الأوائل.

لقد تسبَّبت فكرة اتباع أخلاقيات من صنع الإنسان في إثارة بعض الأسئلة المقلِقة بين المفكرين من معاصري ديموقريطس. فكيف يمكن للمرء أن يمنع مصلحة الذات الحكيمة من التدنِّي إلى الأنانية اللاأخلاقية؟ تخيل موقف شخص يملك من القوة ما يكفيه لأن يفعل ما يريد ويُفلِت من العقاب، ومن ثَمَّ لن يغرم من تجاهل القواعد الأخلاقية المتفق عليها. وإذا لم يبلغ إثم ذلك الرجل حَدَّ القضاء على استقرار المدينة وجَعَلَه ذلك السلوكُ راضيًا عن نفسه فعلى أي أساس سيدينه ديموقريطس؟

لقد احتدمت مناقشة تلك الأسئلة في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد لدى حركة فكرية بأثينا تُدعى السفسطائية. وقد كان أفلاطون مؤخرًا شديد الهجوم على السفسطائيين ووصفهم بأنهم كانوا محتالِين ساخرين يلوُون فن الحجاج العقلي. ولم يكن أفلاطون الوحيد الذي قام بذلك، بل نجحت تلك الدعاية السلبية؛ حتى إن كلمة «سفسطة» أصبحت تُستَخدَم هي وأشباهها بمعنى المنطق المضلِّل أو المراوغة أو التلاعُب بالألفاظ. وكان هذا هو المعنى الذي يقصده دزرائيلي عندما وصف أحد خصومه السياسيين ويدعى جلادستون ﺑ «خطيب سفسطائي أثملته غزارة إسهابه في الكلام.»

وبغض النظر عن حقيقة جلادستون فإن السفسطائيين الأصليين يستحقون ذكرًا أفضل من ذلك. ومن أبرز آثارهم أنهم أَثْرَوا الحياة الفكرية في أثينا وقادوها نحو ما نعرفه اليوم باسم علوم الإنسانيات. وبينما قام بعض مَن ذكرناهم آنفًا من الفلاسفة بتغيير التفكُّر في الطبيعة إلى بحث عن تفسيرات عقلانية، قام أصحاب العقول الفلسفية من السفسطائيين بالتفكِير في الصراع بين الطبيعة والتقاليد أو القوانين التي وضعها الإنسان. وثمة عدة جوانب لذلك النزاع بين التقاليد والطبيعة؛ فقد توصل السفسطائيون إلى فكرة مشوِّقة عن المطالب المتناقضة لغرائز الإنسان الأنانية من ناحية ومتطلبات العدالة من الناحية الأخرى، وعن المشكلات التي طرأت على فكرة ديموقريطس حول مسألة المعرفة الموضوعية والتي تقول إن جُلَّ ما يدَّعِي الإنسان معرفته ما هو إلا مسألة تقاليد وأعراف. فلنسترجع مقولة ديموقريطس في النظرية الذرية: «جرى العرف بأن يُعَدَّ الشيء حلوًا أو مرًّا أو ساخنًا أو باردًا أو بلون معين، ولكن الحقيقة أن هذا الشيء ليس إلا ذرات وفراغًا.» أما أبرز السفسطائيين فلم يكونوا ليقولوا بذلك، فقد توصلوا إلى استنتاج مختلف عن مدى المعرفة، ولكنهم كانوا سيدركون جيدًا المشكلة التي يعاني منها ديموقريطس؛ ألا وهي التناقض بين الحقيقة الموضوعية والإدراك الذاتي.

يكاد ديموقريطس ينتمي إلى عالم السفسطائيين ولكن ليس بشكل كلي، وما يفصله عنهم ليس الزمن؛ فقد كان السفسطائيون يُدَرِّسُون علومهم عندما كان ديموقريطس في سنوات عمره الأولى، إنما فرقهما اختلاف المصالح المهنية والفكرية. ورغم أن أفكار ديموقريطس قد اتجهت إلى الكثير من القضايا التي تناولوها بالبحث — بل إنه تناول بالفعل بعض أفكارهم في كتاباته — فقد سلك طريقًا غير طريقهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤