محمود سامي البارودي باشا يحكي رحلته إلى المنفى

إني لما أفضتْ بي غوائل الزمن إلى مفارقة الأهل والوطن، وحقَّت كلمة الوداع وأنصت كل مجيب وداعٍ، سارت بأشياخنا الفلك بتقدير من له الملك، فلما توسطنا لجة اليم، وغشيتنا ضبابة الهم، أخذ البحر يهدر ويموج، والريح تعصف وتروج، والدجن يبرق ويرعد، والموت يقرب ويبعد، والفلك بين صعود وهبوط، والناس بين رجاء وقنوط، فشخصت الأبصار، وغابت الأنصار، وأقبل الفزع، واستولى الجزع، وشغلت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، هنالك دعا ربَّهم الغافلون، وكفته أذيالهم الرافلون، فلا ترى إلا ناكس الطرف لا ينبس بحرف كأنما أظلتهم الرجفة، أو غشيتهم الوجفة، فهم لفرط الحيرة خمود تحسبهم أيقاظًا وهم رقود، فلم يزل يتخبطنا اليم، ويأخذ بأكظامنا الغم، حتى كادت الأنفس تزهق، وأظفار المنية ترهق، ونحن في وعاء لا نملك إلا الدعاء، ولبثنا على ذلك ثلاثًا لا نجد فيها حياة، وكيف لنا بالخلاص ولات حين مناص، فبعد لأي ما سكنت فورة الريح، وهدأت ثورة ابن بريح، وتجلت بنورها السماء، واصطلح الماء والهواء، فقرت الأنفس في الصدور، وتنفس كل مصدور، ولم يبق إلا سوق الحديث من قديم وحديث، والفلك يمخر البجر بجؤجؤه، ونحن في الشهر في دؤدؤه، حتى انتهى بنا الدبيب، ولاحت لأعيننا سرنديب.

منازل لم تألف بها النفس حالفًا
على أن فيها كل ما تشتهي الأنفس
ولا عيب فيها غير أن ليس بها
أنيس وفقد الخل في غربة حبسي
وكيف يطيب العيش في ظل بلدة
خلاء من الأُلاف ليس بها إنسي

فدخلتها مشبوب الأنين، على الأهل والبنين، لا أستطيع لما عراني دفعًا، ولا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعًا، وما ظنك بمن غاب عنه السمير، والتاع بالفرقة منه الضمير، فهو بين هموم ناصبة، وأحزان واصبة، وأشجان يهلك لها الصبر، ومرارة يحلو عندها الصبر، إن نطق بصوت لا يدركه السمع أو نظر فبعين قد ملأها الدمع.

غريب تخطاه الأساة فما له
سوى عبرات المقلتين طبيب
وما أسفي إني غريب عن الحمى
ولكني بين الأنام غريب

فالتفت يمينًا فلم أصب معينًا، فانعطفت شمالًا فلم أجد ثمالًا، فدارت بجثماني الأرض، واشتبه عَلَيَّ الطول والعرض، فبت وحيدًا لا أجد محيدًا، وكانت الليلة شاتية والريح صرصرًا عاتية، والسماء باسرة كاسفة ليس لها من دون الله كاشفة. قد كلح وجهها فاكفهر، ولمح برقها فازمهر، واصطك ركامها فانهال، وصعق رعدها فهال، لو كابدها النابغة لما شعر، ولو سلكها سليك لاقشعر، فلم أزل أمارس هولها حتى ترَّ، وأرقب فجرها حتى افتر، فلما وقعت أنفاس النسيم، وحسر الصبح عن محياه الوسيم، وتنغم العصفور في سماوة عذباته، وتبغم اليعفور في مسارح شذباته، صحت بغلامي كافور، فأقبل يرف كالعصفور، يكاد يخرج من جلدته، ويزفن كأبناء جلدته، فقلت له ما هذا الطرب وقد أودى الأرب، فقال: انظر يا مولاي إلى السماء، والنبت والماء، تجد منظرًا وسمًا، ومسرحًا قسيمًا: أزهار ترف، وغدران تشف، ومربع يغني العقول بروائه، ونسيم يشفي الأسقام بدوائه، فقم لعلك تستريح فقد سكن القطر والريح، فلم يضحك لقوله سني، وعلمت أنه ليس مني، وأين يذهب اللهو بقلب قد عفا رسمه، ولم يبق في الشغاف إلا وسمه، بل كيف يطرب الغريب أو يحق إلى الصبوة الحريب؟ هيهات ما كل شامة خالا، ولا كل حلقة خلخالا، وأين النضار من الصغر؟ والجنة من التلال القفر، تالله ما بعد الوطن دار، ولا في غير الكعبة مدار، ولكن من لم يجد حراكًا سكن، ومن أعجزته الحيلة ركن، وما كانت لتعدم نفسي جلدًا ولكن ثكل أرأمها ولدًا، فلبثت شهرين أطول من دهرين حتى مستني العلة، وأخطأتني التعلة، فدعاني الطبيب إلى ترك الحاضرة والتوغل في بعض الهضاب الناضرة. فعقدت بعد التوكل بندى على المسير إلى كندى، فلما حللت بواديها، وسرت في بواديها، تلاهيت عما أجده من الحرقة، وأتجرعه من مرارة الفرقة.

شعر:

رعيًا لها من بلدة لو أنَّ لي
فيها أخًا يرعى ذمام إخائي
ضنت بها نفسي كما سمحت بها
فانظر لقرب ضنانتي وسخائي
ومن العجائب أنني من غربتي
ونعيمها في شدة ورخاء

فلما اشتدت أوصالي، وحان في العلة فصالي، نهدت ذات يوم غب زيال النوم إلى بعض هاتيك الودائق، لأتنسم أنفاس الحدائق، فإذا أيكة مغنة، وأطيار مرنة، ودوحات تكاد تمس السماء، وتصرف عن أدراجه العماء، والنسيم يتدرج، والعبير يتأرج، والطير بين رنيم وصفير، والريح بين شهيق وزفير.

شعر:

أرض أدار بها الندى أقداحه
بيد النسيم فغصنها مخمور
يترنم الشحرور في عذباتها
ويقيل في أثلاثها اليعفور
خطر الغمام بها فمسحب ذيله
في كل واد جدول مسجور
فإذا نظرت ففي السماء غمامة
تدق الجمان وفي الفضاء غدير
وإذا أصخت فللبلابل نغمة
تشجي الخلي وللحمام هدير
وخمائل أظلالهن لفيفة
ونسائم أنفاسهن عبير
فالقطر دُرٌّ والجداول فضة
والزهر تبرٌ والنبات حرير
فاحلل بها عقد النسيب ولا تخف
إثمًا فربك للذنوب غفور

فلم أزل أتنقل من نجد إلى وهد، وأتوقل من صدر إلى نهد حتى داوني المسير إلى ربوة تدعو الحليم إلى الصبوة، فاشرأبت إلى عين أشد صفاءً من العين، قد انفجرت بسلسال كلسان الصباح، أو كسنان المصباح في بركة تزري بالهالة عند استوائها، وتزهو على الوذيلة بحسن روائها، قد افترت عن ثغر حصبائها، وتكسرت في مهب أصابها، وأحاطت بها أفنان الشجر إحاطة الأهداب بالبصر، وتشعبت منها جداول كذوب اللجين، تتلوى في جريتها تلوي الأين فكأنها مناصل جردتها الكماة، أو قسي وترتها للنزع الرماة، فهي تجري بين غيضة ملتفة، وأشجار مصطفة، إذا لاعبتها أنفاس الشمال مالت إلى اليمين والشمال، وإن عبثت بها ريح الجنوب كادت أن تمس الأرض بالجنوب.

بيد أني لم أجد في تلك المناظر مسلاةً للقلب والناظر، ولا في أغاريد البلابل ما يشفي لوعة البلابل، ولا ألهتني ذات الطوق عما أجده من التوق، ولا أنستني نسمات الأصائل ما انقطع من حرمات الوصائل؛ بل حسبت أن قطرات الحزن دموع أسالتها زفرات الحزن، وتوهمت أن كل نواره نحلة في الرواء سواره، وخيل إلي أن حمرة الجلنار ساطعة في النار، وظننت الأغصان رماحًا تخطر أوصافها تشدخ الهام وتشطر، ورأيت من الجداول أساود تنهش، وفي الأزهار عيونًا تنهش، فكلما تلفت ضقت فتكفت، فقعدت ناحية في تلك الناحية، ثم رفعت طرفي إلى السماء، ودعوت بهذه الأسماء: اللهم يا هادي الضلال في الليل المدلهم، وناصر الهلاك في غمرة اليوم المسلهم، ويا جابر العثرات وكاشف الحسرات ألهمني بفضلك صبرًا يعصمني من الجزع، وألبسني جلباب أمن يقيني حوله الفزع، وقني بلطفك شر نفسي، واجعل يومي خيرًا من أمسي، وحن بإحسانك ديباجي، ولا تجعل إلا إليك حاجتي، فقد أنخت ببابك مطية الرجاء، وتمسكت من حمايتك بإطناب الالتجاء، فلا تصرفني من دعائك خائبًا، فقد جئتك من ذنوبي تائبًا.

ثم قبعت قبعة المقرور، ونفث نفثة المحرور، وأخذت أقلب الآراء، وأسأل زندي ألا يراء حتى فاءت إليَّ نفسي، وراجعني بعد لأي حدسي، وعلمت أن لكل محنة روعة، ولكل مصيبة لوعة، وأن الإنسان رهن الحدثان، ورأيت أن الصبر على الضر أجدر بشيمة الحر، وأي امرئٍ عاهده الدهر، ولم يغدر أو صفا له ثم لم يكدر؟ وكيف لا ينقلب الحال والزمان قلب؟ أم كيف تصدق مخيلته وهي خلَّب: هيهات ما وعد إلا وخلف، ولا وعد إلا وأتلف، ولا أضحك إلا وأبكى، ولا هان إلا وأنكى، وقلَّ من صاحب الدهر فنجا من هوله، أو عانده ولم يصعق من صوله، وكفى بالحوادث لمن تبصر نذيرًا، ولمن خاف عاقبته أمره حذيرًا، والعاقل من تأسى بغيره، وميز بين نفعه وضره، فلا تحزن على ما ذهب إذا استرد الدهر ما وهب، وليست الحياة إلا عارة في هذه الدعارة، فحسب الجاهل أن الأمر بيده فنسي أن يأخذ من يومه لغده، هيهات لا يدرك بعد الفوت، ولا حيلة بعد الموت، فتمسكوا في أعمالكم بالسبب الأقوى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤