مقدمة الديوان

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الفقير إلى رحمة الله تعالى محمود البارودي:

اللهم إني أحمدك على ما هديت، وأشكرك على جزيل ما أسديت، وأستعينك على رعاية ما أسبغت من النعم، وأستهديك لشكر ما أثبت من الدعم، وأعوذ بك من عثرات اللسان، وغفلات الجنان، كما أعوذ بك من غدرات الزمان، وبغتات الحدثان، وأسألك اللطف فيما قضيت، والمعونة على ما أمضيت، وأستغفرك من قول يعقبه الندم، أو فعل تزل به القدم، فأنت الثقة لمن توكل عليك، والعصمة لمن فوض أمره إليك، وأشهد أن محمدًا رسولك الأمين، وشفيعك الضمين، الذي بعثته بالنور الباهر، والبرهان القاهر، فقام بالحق صادعا، وللضلالة رادعا، حتى ثبت الدين ووضح اليقين، اللهم فصلِّ عليه ما أشرق النجم، وأورق الشجر والنجم، وعلى آله بدور المحافل، وأصحابه صدور الجحافل، صلاة يهتز لها الفلك، ويتنزل برضوانها الملك، واحشرنا في زمرتهم مع القوم الفائزين، ولا تجعلنا من المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين.

وبعد فإن الشعر لمعة خيالية يتألق وميضها في سماوة الفكر، فتنبعث أشعتها إلى صحيفة القلب، فيفيض بلألائها نورًا يتصل خيطه بأسلة اللسان، فينفث بألوان من الحكمة ينبلج بها الحالك، ويهتدي بدليلها السالك، وخير الكلام ما ائتلفت ألفاظه، وائتلقت معانيه، وكان قريب المأخذ، بعيد المرمى، سليمًا من وصمة التكلف، بريئًا من عشوة التعسف، غنيًّا من مراجعة الفكرة، فهذه صفة الشعر الجيد، فمن آتاه الله منه حظًّا، وكان كريم الشمائل، طاهر النفس، فقد ملك أعنة القلوب، ونال مودة النفوس، وصار بين قومه كالغرة في الجواد الأدهم، والبدر في الظلام الأيهم، ولو لم يكن من حسنات الشعر الحكيم إلا تهذيب النفوس، وتدريب الأفهام، وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق، لكان قد بلغ الغاية التي ليس وراءها لذي رغبة مسرح، وارتبأ الصهوة التي ليس دونها لذي همة مطمح، ومن عجائبه تنافس الناس فيه، وتغاير الطباع عليه، وصغو الأسماع إليه، كأنما هو مخلوق من كل نفس، أو مطبوع في كل قلب، فإنك ترى الأمم على اختلاف ألسنتهم، وتباين أخلاقهم، وتعدد مشاربهم، لهجين به، عاكفين عليه، لا يخلو منه جيل دون جيل، ولا يختص به قبيل دون قبيل، ولا غرو، فإنه معرض الصفات، ومتجر الكمالات، ولقد سمع عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — قول زهير بن أبي سلمى:

فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين، أو نفار، أو جلاء

فجعل يعجب من معرفته بمقاطع الحكمة وتفصيلها.

وللشعر رتبة لا يجهلها إلا من جفا طبعه، ونبا عن قبول الحكمة سمعه، فهو حلية يزدان بجمالها العاطل، وعوذة لا يتطرق إليها الباطل.

ولقد كنت في ريعان الفتوة، واندفاع القريحة بتيار القوة، وألهج به لهج الحمام بهديله، وآنس به أنس العديل بعديله؛ لا تذرعًا إلى وجه أنتويه، ولا تطلعًا إلى غُنم أحتويه، وإنما هي أغراض حركتني، وإباء جمح بي، وغرام سال على قلبي، فلم أتمالك أن أهبت، فحركت به جرسي، أو هتفت فسريت به عن نفسي، كما قلت:

تكلمت كالماضين قبلي بما جرت
به عادة الإنسان أن يتكلما
فلا يعتمدني بالإساءة غافل
فلا بد لابن الأيك أن يترنما

وقد يقف الناظر في ديواني هذا على أبيات قلتها في شكوى الزمان، فيظن بي سوءًا من غير روية يجليها، ولا عذرة يستبينها، فإني إن ذكرت الدهر فإنما أقصد به العالم الأرضي لكونه فيه، من قبيل ذكر الشيء باسم غيره لمجاورته إياه، كقوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ أي أهل القرية، وكما قال أبو كبير عامر بن حليس الهذلي:

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر

فإنه أراد بسعي الدهر سعي أهل الدهر بالنمائيم والوشايات، فلما انقضى ما كان بينهما من الوصل، سكنوا وتركوا السعاية، ولهذا أمثلة كثيرة.

لا أقول ذلك تبرؤًا من الوهم، ولا اعتمادًا على صحة الفهم، فإن المرء وإن كثر إحسانه، لا يسلم من الزلة لسانه، وقل من توغل من حرجات القريض، فنجا قبل أن يغص بالجريض، ولقد ذكرت مرة قول أبي المنهال بن بقيلة الأكبر:

وإنما الشعر لب المرء يعرضه
على المجالس إن كيسًا وإن حمقا
وإن أشعر بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا

ثم عرض لي قول الحطيئة:

الشعر صعب وطويل سلمه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
والشعر لا يسطيعه من يظلمه
يريد أن يعربه فيعجمه

فعزمت على الإفصار قبل الإحصار تفاديًا من خطأ ربما عرض، أو ناقد ربما اعترض، بيد أني راجعت المخيلة، لأسبر هذه الدخيلة، علمًا أن للنفس طفرة، وللوهم عند التوجس نفرة، فأشفقت من هذا العزم، بعد الإصرار والجزم، ولست بأول من عدل عن رأيه، وثاب عن متابعة وأيه، فهذا عمر بن أبي ربيعة، لم يطق أن يغالب الطبيعة، وقد كان ركب من قحمة اليمين عقبة، ألا يلوك بيتًا إلا أعتق رقبة، فلم يلبث أن هاج به الحنين، وعلق بمدارج أنفاسه الأنين، فقال كلمته التي أولها:

تقول وليدتي لما رأتني
طربت، وكنت قد أقصرت حينا

ثم أعتق لكل بيت عبدًا، ولم يجد من المقال بُدًّا، ولا بدع فللإنسان فتون بشعره، وولوع ببنات فكره، ولولا ذلك ما دون الناس أشعارهم، ولا اتخذوا حلية الأدب شعارهم، كيف لا؟ وبقاء الذكرة حياة الأبد، وحب الخلود أطمع لقمان في لبد، وإني وإن لم أكن من فرسان هذه الغارة، ولا من رماة الحدق في مثل هذه القارة، فالتخلق بأخلاق الكرام محمدة، والتعلق بأذيال الخمول مفسدة، ولله در من قال:

عليَّ السعي في طلب المعالي
وليس عَلَيَّ إدراك المرام

والله أسأل أن يلهمني الصواب، ولا يحرمني الثواب، إنه أكرم مسئول وأفضل مأمول، آمين.

محمود سامي البارودي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤