الجائزة رقم ٤٠ مليون

وصلني هذ الخطاب، من خطابات كثيرة، جعلني أفكر فعلًا في تبنِّي بريد القراء، وأن أتولى مسئوليته. وقلت هذا الخاطر للأصدقاء والزملاء؛ فكان محل دهشتهم؛ ذلك أن باب البريد في أي جريدة أو مجلة يُعهَد به في معظم الأحيان إلى محرر ناشئ أو ربما تحت التمرين، باعتبار أن ليس عليه سوى أن يختار بعض الخطابات أو مقتطفات منها وينشرها. وتلك مَهمة لا تستدعي أية موهبة خاصة أو خبرة أو محررًا أو كاتبًا كبيرًا من كُتَّاب المجلة أو الجريدة.

أنا شخصيًّا كنتُ أرى العكس تمامًا، وكنتُ — ولا أزال — أعتقد أن بريد القراء هو أهم أبواب المجلة، إذا نُظِر إليه من زاوية تفعل كالمنشور الزجاجي، وتحلل عوامله ومكوناته. وطالما تمنيتُ أن أتولى الإشراف على هذا الباب، رغم إدراكي أنه بالطريقة التي أراه بها، عبء شاقٌّ كبير على أنْ أَحْمِلَه فوق كتفي.

ذلك أنه في مجمله رَجْع الصَّدَى، والإشارات الخافتة في أحيانٍ كثيرة التي تَرِد من الطَّرَف الآخَر للكون، وتقول ما معناه: نحن هنا، ونحن نرى كذا أو كذا، ونحن نتفق معكم في كذا ونختلف اختلافًا جذريًّا في هذه المنطقة أو تلك.

فصحافتنا، مثل معظم وسائل إعلامنا، إن لم تكن كلها، هي محطات إرسال تُمسِك فيها بالميكروفون أو بالقلم، وهات يا كلام أو هات يا كتابة!

أمَّا ردود أفعال تلك الكلمات أو الكتابات فهي أشياء غير مهمة بالمرة لدى وسائل إعلامنا، يكفي أن المكتوب أو المُذاع شيء يرضى عنه كاتبه أو قائله أو أحيانًا ترضى عنه السلطة أو أصحاب الجريدة، أمَّا القارئ فهو يأتي في آخر قائمة المهتَم بأمرهم.

وعلى طول السنين وكثرتها، وشيوع الطريقة وذيوعها، خلق إعلامُنا نوعًا جديدًا غريبًا من القراء والمستمعين والمشاهدين؛ ذلك النوع الذي لا عمل له إلا التلقي، وهو في حالة سلبية كاملة، ما يُقال له أو يشاهده، يسترخي أمام الشاشة الصغيرة أو الكبيرة، يمسك بالجريدة أو المجلة أو الكتاب، تتدفق الكلمات أو المشاهد متتالية في عقله المستسلم تمامًا لها، هو قابل له، لا يناقش، لا يتشكك، لا يجادل، قد يقتنع أو لا يقتنع ليس هذا هو المهم؛ المهم أنه حتى لو لم يقتنع، يفعل هذا بسلبية المستسلم المغلوب على أمره.

بمعنًى آخر، فإن وسائل إعلامنا، باستمرارها طول الأربع والعشرين ساعة، وبكافة الأنواع والأحجام والمواد، تُحيل مواطننا في النهاية، أو بمعنًى أدق تحيل عقله، إلى جهاز كسول، لا يعمل، ولا يهمه أن يعمل، لا يكدح طلبًا للمعرفة أو لتقصي الحقيقة، ولكنه راضٍ تمامًا بدوره هذا الذي لا يكلفه أي عناء. وهكذا حين يتطلب الأمر أو تتطلب أوضاع الوطن ردود أفعال إيجابية، غالبًا ما نفتقدها؛ فنحن بالتنويم الإعلامي من طَرَف واحد، خلقنا مواطنًا غير مطلوب منه أي رد فعل، باعتبار أن السلطة في الوطن العربي تَعتبر أن أي رد فعل للمواطن سيكون ضدها، لماذا؟ لا تَسَلْني، بل سَلْ هذه العقلية السُّلْطَوِيَّة التي تريد أن تملأ كل قُطر من أقطارها بأقفاص أرانب تأكل، وتتفرج على التليفزيون، وتتناسل بمعدلِ مولود كلَّ ثانية.

ولهذا اخترتُ أن أحرر هذا الباب؛ فمجلتنا تلك مجلة جديدة، ولأول مرة يُتاح لي أن أختار ما أفعله، وهي ليست جديدة من باب الصدور الجديد فقط، ولكن نريدها فعلًا أن تكون جديدة من حيث دورها.

باختصار نحن نُصدِرها لنغيِّر من دور المجلة أو دور الصحافة في عالمنا العربي. ولستُ أزعم أني أعرف كل المعرفة كيف سيمكننا هذا، أو إذا كُنَّا سنطبق أصلًا، ولكن تلك هي نيتي، ونية الأصدقاء والزملاء الذين تجمعهم تلك المجلة.

•••

ولأنها جديدة، فإن بريدها لم يأتِ بعد، وأنا في انتظاره؛ ولهذا سأستخرج من بريدي السابق خطابًا أحتفظ به في درج مكتبي في مكان خاص منذ عدة شهور. إن أنواعًا وأكداسًا من الخطابات تَرِد، ولكن هذا الخطاب بالذات أثر فيَّ بطريقةٍ صممت على الاحتفاظ به، لماذا؟ لست أدري، ربما لأنه كان مقدَّرًا لي أن أفتتح به هذا الباب في مجلتنا العزيزة تلك.

ولم أفعل هذا لأن الخطاب يحتوي أشياءَ خطيرة أو مشاكل عويصة أو أي شيء. الحقيقة أن الخطاب لا يوجد به أي مشكلة بالمرة، ولا يطالب بحل، ولا يُهِيب بالمسئولين عن كذا أن يفعلوا كذا، ولا يصرخ بظلم وقع عليه، لا شيء من هذا أبدًا.

إليكم نص الخطاب، وبعده لنا كلام:

أهديك التحية، والحقيقة أنا مرتبكة تمامًا وأنا أكتب لك؛ فتلك أول مرة أفكر فيها أن أكتب خطابًا لإنسان لا أعرفه، فما بالك إذا كان هذا الإنسان كاتبًا معروفًا مثلك.

قرأت مقالك الأخير الذي تتحدث فيه عن مشاكل القاهرة، وازدحام شوارعها الخانق، وارتباك المرور، و«الزبالة» التي تحتل أماكن كثيرة دون أدنى عناية بحملها وتنظيف الشوارع منها. قرأتُ تعجُّبَك من ازدحام الأتوبيسات وعدم انتظام مواعيدها، وعطل التليفونات. قرأت هذا كله وأنا أحس بالغيظ، ليس من المشاكل التي ذكرتَها، ولكن منكم أنتم يا سكان القاهرة، أحس بالغيظ والحسد؛ لأن لديكم هذه المشاكل كلها، ومشغولون بها وبحلولها. ولا بُدَّ أنك ستسألني لماذا أحس بالغيظ والحسد منكم. والإجابة أني أَحيَا في مجتمعٍ بلا مشاكل على الإطلاق، أنا من مدينة (…)، ووالدي يعمل موظفًا في تلك المدينة، ولي شقيقان وشقيقة أخرى، وأنا أكبر الجميع. وقد أنهيت فترة تعليمي الجامعي فأجلسني أبي في البيت أنتظر العريس. وها أنذا جالسة أنتظر العريس، أصحو من النوم ولا أعرف لماذا أصحو، كل ما في الأمر أن الصبح قد جاء، والناس يَصْحُون في الصبح. ولكن الناس في البلاد التي فيها مشاكل مثلكم يَصْحُون ويرتدون ثيابهم ويخرجون، ويفعلون هذا بحماس؛ لأن لديهم ما يفعلونه. أنا أصحو وليس أمامي أي هدف، ولا أنتظر أن ينكشف النهار عن مفاجأة ما؛ فأنا أعرف بالضبط ما سيحدث اليوم؛ لأن مثله قد حدث بالأمس؛ مساعدة أمي في إعداد الإفطار وترتيب البيت، ثُمَّ التمدد لقراءة ما يجود به علينا أبونا من جرائد ومجلات؛ فهو لا يريد لنا أن نقرأ المجلات الفاضحة؛ تلك التي تنشر قصص الحب وأخبار النجوم الْمُنْحلَّات. وأنتهي من المجلات بعد ساعة، ثُمَّ أجلس أو أتمدد أو أنام، سِيَّانِ. حتى إن مضى الوقت لا يهمني، فأنا أعرف ما سيأتي به الوقت؛ ففي الثالثة سيأتي أبي لنكون أنا وأمي وبقية إخوتي قد حَضَّرنا الغداء، وسنجلس جميعًا حوله، وسيحدثنا أبونا عن مشاكله مع رئيسه المشاكس في العمل، ومع زميله الجبان الخسيس ومقالبه، وينتهي الغداء لينام أبي قَيْلولته، وتتمدد بجواره أمي غير نائمة، ولكن هكذا تعودَتْ. وفي الغالب أبقى أنا الوحيدة المستيقظة، حتى إذا ما جاء بعد الظهر وبدأنا فتح التليفزيون راجع أبي البرامج بدقة واختارها بعناية؛ حتى لا يكون فيها فيلم لسعاد حسني أو حسين فهمي بالذات؛ لأنه يعرف أننا مولَعون به. وينتهي التليفزيون وآوِي إلى فراشي بجسدٍ كسول غير متعب، وعيون تريد أن تنام ولكن العقل صاحٍ. وبعد صراع طويل أنام؛ أنام وأنا أعرف أن الغدَ لن يأتيَ بجديد، وأنني سأصحو لأجدَ يومًا طويلًا مُمِلًّا آخرَ أحياه.

إنني يا سيدي تعيسة جِدًّا بهذه الحياة، ولا أعرف ماذا أستطيع أن أفعل لأخفف من تعاستي. ذات مرة دَفعَتْني حالتي تلك إلى الموافقة على الزواج من إنسانٍ أَبلهَ يمتلك منزلًا من ثلاثة أدوارٍ رشَّحه لي أبي، ولكن أمي هي التي رفضت وأصرت على الرفض. أُحِسُّ أني بلا إرادة، وبلا هدف، حية ميتة أو ميتة حية. ماذا تفعل شابة مثلي في الواحدة والعشرين من عمرها، يتفجر جسدها بالشباب والحيوية، بينما هي تحيا حياة الموتى أو المشلولين أو العَجوزات في بُيوت العجائز والمسنين.

هل أهرب؟

هل أُجَن وأتزوج أول من يتقدم لي؟

هل أبدأ أزاول حياة سرية مثل غيري من صديقاتي؟

بالله عليك: قلْ لي ماذا أفعل؟

ملحوظة: أرجوك لا تنشر اسم المدينة التي أنا منها.

الحائرة: س. ع.

(…)

هذا هو الخطاب الذي أرَّقني في مَرقده بدرج مكتبي لعدة أشهر، ولا يزال، فالحالة التي تتحدث عنها تلك «الحائرة» ليست حالتها وحدها، إنها تشكل حوالي ٩٠٪ من حالات البنات والشابات في مجتمعنا، أولئك اللاتي تعلمن أو لم يتعلمن ولكن فُرض عليهن البقاء في البيت في ظل أحكام عُرفية أبوية أو أحيانًا أموية أو كليهما معًا، في انتظار ابن الحلال أو ابن الحرام (هي وحظها) الذي سيأتي وينقذها من الحياة الموت أو الموت الحياة تلك.

والغريب في الأمر أن الأهل، سواء كان الأب أو الأم أو الأخ الأكبر لا ينتبه أبدًا إلى هذه المشكلة، ويعتبر أن عمله الأول والأساسي والوحيد أن يوفر للأولاد والبنات الطعام والشراب، وعليهم لقاءَ هذا أن يخضعوا لأوامره خضوعًا مُطلَقًا وإلا قامت القيامة.

إن المجتمعات الغربية (برأسماليتها واشتراكيتها) قد حلت تلك المشكلة بإيجاد نوادٍ للشباب من الجنسين، أحيانًا منفصلة وفي معظم الأحيان مختلطة، يزاولون فيها مختلف أنواع الرياضة والمسابقات والهوايات.

قلدنا هذا في بعض النوادي في القاهرة أو الإسكندرية أو بغداد أو دمشق، ولكن الأغلبية العظمى من فتيات الطبقة المتوسطة لا يذهبن إلى أي نادٍ ولا يَقُمْن بأي نشاط، بل يكاد الأمر يصل إلى حد منع البنت عن زيارة صديقتها.

وهذا الأمر نطبِّقه على البنات وحدَهن؛ فنحن نثق بالأولاد تمام الثقة، ونعطيهم الحرية كاملة ومطلقة، بما فيها حرية الاختلاط وحرية السهر، وحتى حرية الْمُجون أحيانًا ما يُباهي الأب سرًّا بها.

وكأننا نتصور هؤلاء الفتيات كتلًا من اللحم والشحم لا روح لها ولا أحلام، ولا تطلعات ولا رغبات، تتجاوز كثيرًا حدود الطعام وملء الفم. هؤلاء البنات كائنات رقيقة بالغة الحساسية، يَعِين كلَّ شيء، ويُدركن كل شيء، ولكنهن يخضعن للأب سواء أكان طاغية أم رحبًا؛ لأنهن بنات عرب مؤدبات، لأننا مجتمع تصنعه وتحكمه الأم، وهي أم ذات باعٍ وتاريخ طويلين في الاتصال الحضاري وتوارث المأثورات الثقافية الشعبية.

يا فتاتي الحائرة نصيحتي لك أن تصارحي والدتك أوَّلًا بهذه المشكلة، وتحاولي أن تُفهميها أنها ليست تافهة كما تبدو، ثُمَّ عليكن بعد هذا أن تصارحن الأب، وعليه هو مثلما يجد الحلول للمسكن والمأكل والملبس أن يجد الحل لتلك الأزمة الرُّوحية. مثل أن تجتمع فتيات الأسر معًا، أو يحدث نوع من التلاقي والاحتفالات الاجتماعية حتى لو اقتصرتْ على الجنس الواحد.

فالإنسان — رجلًا أو امرأةً — كائن اجتماعي، والمجتمع بالنسبة لذلك الكائن مثل الماء بالنسبة للسمك، لا يستطيع أن يحيا بدونه أو على الأكثر بأقل القليل منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤