الفصل الثاني

هل يُمكنني مساعدتك في شيء؟

مع انقضاء الصباح، أخذت الشمس تَبتعد عن الزجاج الملون، وبدأ الظلام يغمر الغرفة. ظلت أضواء الشاشة وحدَها مضاءة؛ إذ كانت صفوفٌ ثابتةٌ من اللون الأخضر تعلو أعمدةً وامضةً من الأرقام الظاهرة على السطح الأزرق الفاتح للشاشة.

أخذ روبوت التنظيف المنزلي، الشبيه بكيسٍ منتفخٍ في حجم الإوزة، يعمل في صمت عبْر الأرضية، منظِّفًا أركانَ الغرفة، ثم غادرها بينما مجسات الحركة أدناه تُصدِر صوتًا أشبهَ بصوتِ حفيفِ الرياح وهي تهبُّ على عشبٍ جاف.

•••

أخذت شاشةُ مقصورة الطائرة تومض بينما كان كمبيوتر الطائرة يتلقَّى أكواد الهبوط، وبعد ذلك ثُبِّتَت الطائرة في شبكة هبوط مطار بانكوك وبدأت تهبِط في سلاسةٍ عبْر أنبوبٍ غير مرئي. ثم هبطت الطائرة على الأرض بتوجيهٍ من أذرعٍ إلكترونية.

استدار الطيار إلى جونزاليس أثناء هبوط الطائرة وقال: «سيتعين عليَّ الإبلاغ عن الهجوم. لكنك محظوظ؛ فلو أننا هبطنا في ميانمار لأحاط بك المُحقِّقون الحكوميون إحاطةَ السُّوار بالمعصم، وحينها سيتعيَّن عليك أن تنسى فكرة المغادرة لأيام، وربما لأسابيع. أنت بخير الآن؛ فقبل أن يطَّلعوا على التقرير ويطلُبوا من التايلانديين احتجازك، ستكون قد غادرتَ بالفعل.»

في تلك اللحظة كان آخر ما يُريده جونزاليس هو قضاء أيِّ وقت في ميانمار. قال: «سأغادر بأسرع ما أستطيع.»

الآن وقد انتهى كل شيء، كان بإمكانه استشعارُ الخوف وهو يتصاعَد داخله كما لو كان قد تناول للتو عقارًا خطيرًا. وفي محاولةٍ لتهدئة نفسه فكَّر في نفسه قائلًا: «في الواقع لم يحدث شيء، عدا أن هذا الموقف أرعبك بشدة، هذا كل ما في الأمر.»

حين استقرَّت الطائرة على منصة الهبوط، وقف جونزاليس وذهب لأخذ أمتعته من قمرة الأمتعة المفتوحة. جلس الطيار يشاهد بينما أخذت الطائرة تمر بإجراءات الإيقاف الخاصة بها.

افعل شيئًا. هكذا قال جونزاليس لنفسه وهو يَشعر بالذعر يتصاعَد داخله. جذب الحاوية المُحتوية على جهاز «الميميكس» وقال: «أريد نسخةً من سجلات الرحلة.»

«لا أستطيع ذلك.»

«بل تستطيع. أنا أعمل لدى إدارة الشئون الداخلية، وكدتُ ألقى حتفي وأنا على متن طائرتك.»

«وكذلك أنا يا رجل.»

«صحيح. لكنَّني أريد هذه البيانات. في وقتٍ لاحق ستتتبَّع إدارةُ الشئون الداخلية المسارَ الرسمي وتحصل على كل البيانات، لكنني أريد أن أعرف الآن. فقط عملية نقل سريعة للبيانات إلى جهازي هذا، هذا كل ما يتطلَّبه الأمر. سأعطيك ترخيصًا بهذا أقر باستلامها.» قال جونزاليس هذه الكلمات ثم انتظر، مواصلًا الضغط عليه عن طريق نظرته ووقفته اللتين تشيان بالإصرار.

قال الطيار: «حسنًا، من المفترض أن يكفي هذا لحمايتي.»

وضع جونزاليس الحاوية المقاومة للصدمات إلى جوار مقعَد الطيار، وركع إلى جوارها وفتح الغطاء، ثم سأل الطيار: «هل تسجلُّ ما يدور؟»

أومأ الطيار وقال: «دائمًا.»

«هذا ما ظننتُه. حسنًا إذن: لأغراض التوثيق الرسمي، هذا ميخائيل ميخائيلوفيتش جونزاليس، موظَّف أول لدى إدارة الشئون الداخلية بشركة سينتراكس. وسأحصل على السجلات الرسمية لهذه الطائرة كي تعينَني في التحقيق في أحداثٍ بعينها وقعت خلال رحلتها الأخيرة.» ثم نظر إلى الطيار وأضاف: «هذا سيكفي.»

جذب كابل بيانات من الحاوية وأدخله في منفذٍ بلوحِ القيادة. الْتمعَت الأضواء على لوح القيادة بينما بدأت البيانات تتدفَّق إلى الجهاز الساكن. أصدر اللوح أزيزًا خافتًا كي يُشير إلى اكتمال نقل البيانات، فجذَب جونزاليس الكابل وأغلق الحاوية، ثم قال للطيار الذي جلس محدِّقًا خارج المقصورة: «شكرًا.»

وقف جونزاليس وربَّتَ على الحاوية، ثم فكَّر وهو يشعر أن حاله أفضل كثيرًا: «مرحى أيها «الميميكس»، لديَّ مُفاجأة لك حين تستيقظ.»

•••

نقلت مزلجة جونزاليس لِميلٍ أو نحو ذلك عبْر نفقٍ ساطعِ الإضاءة معلَّقة على جدرانه البلاستيكية والجصية الزرقاء الفاتحة لافتاتٌ تحذيريةٌ بلغاتٍ ستٍّ تتوعَّد مَن يقومون بتشويه الجُدران. كانت رسوم جرافيتية حمراء وخضراء تُلطِّخ كل شيء، بما فيها اللافتات، وبينما كان جونزاليس يُشاهد، تغيَّرت الرسائلُ المكتوبة بالتايلاندية والبورمية وظهرت رسوماتٌ كارتونية مُلحَقٌ بها بالونات حوارية مكتوب عليها عبارات لا يفهمها جونزاليس. كانت إحدى العبارات المكتوبة بطلاء أحمر باللغة الإنجليزية تقول: «هيروين ألفا شيطان زهرة.» وميَّزت علب محطَّمة من الألياف السوداء أو نسائل خشنة من الكابلات المتعددة المواضع التي كانت تُوجد فيها الكاميرات.

حجبت مصاريعُ فولاذية رمادية تمتدُّ من الأرضية إلى السقف البوابةَ الضيقة المُفضية إلى مبنى مغادَرةِ ووصول الرحلات الدولية. وعكفت روبوتات فحص شامل عديمة الوجوه — مكعَّبات سوداء اللون مزوَّدة بدرعٍ من ألياف الكربون ومجسات وتبرز منها هوائيات استشعار — على فحص الركاب، وكانت الهوائيات تدور.

كان المسافرون الآسيويون يملئون أرجاء المطار؛ رجالٌ ونساءٌ يرتدون سترات داكنة اللون؛ يابانيون وصينيون وماليزيون وإندونيسيون وتايلانديون. لقد وفدوا من «النمور» الآسيوية، تلك المراكز العالمية للأبحاث والتصنيع، وكانوا يَقبلون هوامش ربح منخفضة ويقدِّمون عروض ترويج مباشر إلى أوروبا والأمريكتين؛ حيث صار الاستهلاك أسلوب حياة. بدا في نظر جونزاليس أنهم موجودون في كل مكان يسافر إليه: أجساد مسلحة بالبراعة الفنية والعلمية ويحرِّكها طموح دءوب.

كان هؤلاء يُمثِّلون الأساس الراسخ لما يشهده العالم من رخاء. كانت الولايات المتحدة والنمور يعيشان في علاقة تكافل متقلقلة: فقد كان لدى الآسيويين مائة طريقة يضمنون من خلالها ألا ينهار الاقتصاد الأمريكي ويُطيح معه بالسوق الاستهلاكية في أمريكا الشمالية. وقد اشترت شركات آسيوية، سواء من اليابان أو الصين أو تايوان أو هونج كونج أو كانت مملوكة لكنديين من أصول صينية، بعضًا من الشركات واندمجت مع البعض الآخر، وانتهى المطاف بالأمريكيِّين بالعمل في شركات جنرال موتورز فانوك أو كرايسلر ميتسوبيشي أو دايو دي إي سي، وأن يشتروا برواتبهم أجهزة البيانات اليابانية أو السيارات الكورية أو الروبوتات الماليزية.

انفتحت المصاريع مصحوبةً بصريرٍ معدني قصير، وخطا جونزاليس إلى الداخل. تفحَّص حارس مصري، يرتدي طاقية بيضاء وعصابة رأس مزركشة باللونين الأبيض والأزرق ويضع شارة الأمم المتحدة الرمادية، هويَّته ثم منحه ابتسامةً سريعة عديمة المعنى — ظهرت خلالها أسنانه البيضاء المثالية من تحت شاربٍ أسود — وأشار إليه بمواصلة المسير.

كانت جمارك عصبة دول جنوب شرق آسيا تنتظر مُمثلة في شخص امرأة تايلاندية ضئيلة الحجم تَرتدي زيًّا بنيًّا وتضع شارةً كُتِبَت عليها طلاسم غير مفهومة على عُجالة. كانت ملامحها دمثة ومُحايِدة، وقد أرجعت شعرها الأسود إلى الوراء وثبَّتته بدبوس شعر بلاستيكي شفاف. وقفت خلف طاولة معدنية رمادية، وعلى الأرضية المُجاوِرة لها كان ثَمَّة ماسح مُتقدِّم متعدِّد الأغراض عرضه متران، وكانت أزرار التحكم الخاصة به وشاشاته وقراءاته كلها مُختفية تحت غطاء قماشي أسود اللون. وعلى الجدران الخضراء القذرة كانت ثَمَّة لافتات بعشرات اللغات معلَّقة على مسافات غير متساوية، تُوضح بالتفاصيل وبخطٍّ دقيق الفئات العديدة للسلع الممنوعة.

أشارت المرأة إليه كي يجلس مُنتصبَ القامة على مقعد مواجه للطاولة، ثم أخبرته بأن يضع حقيبة ملابسه والحاويتَين على الطاولة.

تحدَّثت إليه، وعلى الفور تحدَّث جهاز ترجمة آلي مُثبت إلى وسطها بلغة إنجليزية آلية محايدة قائلًا: «سيجري فحصُكم وإخلاء طرفكم.» ثم وضعت الحقيبة البُنية على أول الحزام الخاص بالماسح، وسحب الجهاز الحقيبة مصدرًا صافرة خافتة. بعد ذلك أعادت المرأة الحقيبة إلى جونزاليس.

تحدثت إليه ثانية، وقال المترجم الآلي: «ضع هاتين الحاويتين من فضلك.» بينما كانت تُشير نحو الحاويتين المقاومتَين للصدمات. مرَّر جونزاليس يده اليسرى على شاشة الولوج الخاصة بكلٍّ منهما ثم أدخل كود الدخول بيده اليُمنى. انفتحت الحاويتان مصدِرتَين صوتًا خافتًا، وفي كلٍّ منهما ظهرت شاشة والتمعت أضواء تشخيصية فوق صفوفٍ من وحدات الذاكرة، كلٌّ منها عبارة عن مكعب ثقيل من البلاستيك الأسود في حجم صندوق الأمانات الصغير.

رأى جونزاليس المرأة وهي تمسك نسخة من استمارة التصريح بالمعلومات التي ملأها جهاز «الميميكس» في ميانمار وسلَّم نسختَين منها لحكومتي ميانمار وتايلاند. نظرت داخل إحدى الحاويتَين وأشارت إلى صفٍّ من وحدات الذاكرة المغلَقة الموضوع عليها شريط أحمر.

ثم قالت، يتبعها المترجم الآلي: «علينا الاحتفاظ بهذه الوحدات كي نتحقَّق من أنها لا تَحتوي على أي معلومات محظور حيازتها.»

«لقد فعلت جمارك ميانمار هذا. إنها سجلات تابعة لشركة سينتراكس.»

«ربما تكون كذلك، لكنَّنا لم نتأكَّد من هذا.»

«يُمكنُني منحك أكواد الدخول لو أردتِ؛ فليس لدي ما أُخفيه، لكن هذه الوحدات مهمة لعملي.»

ابتسمت المرأة وقالت: «ليس لدي المعدات اللازمة هنا. يجب فحصها على يد السلطات في المدينة.» وعكست نبرة المترجم الآلي عدم اكتراثها.

أحسُّ جونزاليس أنه في مستهلِّ مواجهةِ تعنُّتٍّ بيروقراطي؛ فقد قررت هذه المرأة، لأسباب غامضة، أن تحيل حياته إلى جحيم، وكلما حاول أن يضغط أكثر، ساءت الأمور أكثر. عليه بالاستسلام إذن. قال: «أفترض أنها ستعود إليَّ في أسرع وقت ممكن.»

«بالتأكيد. بعد فحص دقيق. غير أنه من غير المرجَّح أن يكتمل الفحص قبل مغادرتك.» ثم أزاحت الحاوية من على الطاولة ووضعتها على الأرض إلى جوارها. كانت تبتسم ثانية، ابتسامةً بيروقراطية متشفية. عادت إلى مكانها الأصلي وقد صارت حالة جونزاليس ضربًا من الماضي بالنسبة إليها. نظرت إليه ولما وجدته لا يزال واقفًا قالت: «هل يُمكنُني مساعدتك في شيء آخر؟»

•••

بدأ عالم الآلة في التبدُّد، متحولًا إلى ضباب، وبينما حدث هذا أضاءت صفوف من الأضواء المنخفِضة الطاقة في أنحاء الغرفة، وبدأت أنماط الأضواء تمرُّ بعدد من التغييرات المتسارعة بينما أُعيد جونزاليس إلى الوعي. ولمدة ساعة من الزمن، كانت الغرفة مضاءة بالكامل عندما اكتملت سلسلة التزامن، وبدأت البيضة تنشق.

داخل البيضة رقد جونزاليس شاحبًا، عاريًا، في حالةٍ أقرب إلى الغيبوبة، ومتصلًا بالآلة: وكأنه سنو وايت الألفية الجديدة. امتدت قسطرةٌ بلون اللحم من قضيبه المنكمِش بفعل المياه، وخراطيم تغذية وريدية من كلتا ذراعَيه. تجمَّع معجون مانع للتسرُّب ومضاهٍ لتهيج الجِلد حول الأنابيب الخارجة من فمه وأنفه، وكانت رائحة الأوزون الآتية من المعجون تغمره بالكامل.

اقتربت نقالة آلية من البيضة وبدأت أيديها، وهي كلَّابات لامعة من الكروم، في فصل الأنابيب والخراطيم. بعد ذلك عملت بالتعاون مع أيدٍ وأذرعٍ سوداءَ مرنةٍ في ثخانة الحبل الغليظ من أجل رفع جونزاليس من البيضة ووضعِه على سطحها.

أفاق جونزاليس في غرفة نومه وبدأ يئنُّ قائلًا: «الأمر على ما يُرام.» وهمس الميميكس عبْر مكبِّر الصوت بالغرفة قائلًا: «الأمر على ما يُرام.»

في وقتٍ لاحقٍ استفاق جونزاليس مجددًا، ورقد في الظلام وتدبَّر حالته. كان يشعر ببعض الغثيان والضَّعف في ساقَيه، لكن لم يكن ثَمَّة فقدان ظاهر في السيطرة على حركته، ولا وجود لتأثيرات باراسيكولوجية مباشرة (ارتباك أو فقدان ذاكرة مؤقَّت أو حِس مواكِب) …

نهض جونزاليس وذهب إلى الحمام، ووقف على البلاط الأبيض ووسط الألومنيوم المصقول والمرايا وقال: «حمام دافئ.» تدفَّق الماء مصدرًا هسيسًا وانفتح باب كابينة الاستحمام. جرى الماء على بشرته مزيلًا العَرَق والمعجون من فوق جسده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤