الفصل الثالث

الرقص في الظلام

في الصباح التالي، وقف جونزاليس يُلقي نظرةً من نافذته الأمامية، في جنوب حي كابيتول هيل، على المدينة وعلى الخليج. كان يشعر بالتعافي من البيضة بعد أن نام ليلةً كاملة. وفي منتصف المسافة من التل امتد صفٌّ من الأبراج الحديثة الشاهقة، نصف دستة منها غارق في الشبورة، تكسو جدرانها أليافٌ بصرية تضيء بأنماطٍ من الألوان الأحمر والأزرق والأبيض والأصفر.

انبعث من الشاشة الجدارية الموجودة خلفه صوتٌ يقول: «شبكة الفن الرفيع، تَعرض اليوم فقط: «إعلانات روتشيلد الأصلية والمقلدة» الأسطورية، وإنتاج أوروبي/تجاري من مهرجان كان، وتَعرض أيضًا برنامج «بهجة لكيلومترات عديدة» من إنتاج نيبون أوتو.»

قال جونزاليس: «اعرض.» ثم استدار ليُشاهد الشاشة وهي تنقسم إلى عدة نوافذ، تظهر ثماني نوافذ في المرة الواحدة في عمليات بحث عشوائية. في الشاشة الواقعة في الركن الأيمن العلوي عَرضت خدمة عناوين الأخبار ما اعتبرته أخبارًا مهمَّة: تفاقُم التفسُّخ الاجتماعي في إنجلترا، سلسلة أخرى من الانتصارات السياسية-الاقتصادية للكوريتَين. وملخصات عن حالة البيئة: ثقب الأوزون الثاني فوق القطب الشمالي يسير وَفْق منحنى الإصلاح الذاتي المتوقَّع، بينما الثقب الثالث يظلُّ على حالته، ونِسب ثاني أكسيد الكربون غير مستقرة، والأوزون يصل إلى مستويات خطيرة على المخطط البياني، وتقلبات درجة الحرارة تُواصِل مخالفة أفضل التوقعات …

ما الجديد في هذه الأخبار؟ تساءل جونزاليس. حريٌّ بها أن يسمُّوها «أخبارًا قديمة». ربَّاه! تبدو هذه الأمور وكأنها قائمة منذ قديم الأزل.

قال: «ميميكس، ما رأيك في الهجوم؟»

أجابه جهاز «الميميكس»: «أمر خطير. نحن محظوظون أن ظَللنا على قيد الحياة.» بدا أكثرَ خنوعًا بقليل في أعقاب الرحلة داخل البيضة، كما لو أنه هو الآخر كان على مشارف الموت. لم يعلم جونزاليس كيف يشعر بهذه الأمور، نظرًا لقدراته الشعورية المحدودة، حسب ظنه، وعدم قدرته على الشعور بالخوف.

سأله جونزاليس: «ما الذي يحدث في العالم الواقعي؟»

«تركت لك والدتك رسالة. أتريد أن تراها الآن؟»

«ولمَ لا؟»

ظهرت والدته على الشاشة وهي مُستلقية على كرسي حدائق، ووجهها مختفٍ خلفَ قناعٍ يقيها من الشمس، وجسدها الذي لا تُغطيه إلا قطعةُ بكيني واحدة ذات لون بني. جلست وقالت: «ألا تزال في ميانمار يا عزيزي؟ متى ستعود؟ أودُّ الحديث إليك، لكنَّني لن أدفع مثل هذه التكاليف.»

أزاحت القناع الشمسي. كانت بشرتها مُسمرَّة وبِنيتُها طيبة، وكان وجهها خاليًا من التجاعيد تقريبًا، رغم أن جِلدها كان يتَّسم بتلك الرقة المميزة لعُمرها. لم يكن ثدياها متهدلَين كثيرًا، وبدَت من حيث الوجه والجسد كما لو كانت امرأة رياضية في الخمسين من عمرها تعرَّضت كثيرًا للشمس، رغم أنها ستُكمل عامها السابع والثمانين الشهر المقبل.

تُوفِّي والد جونزاليس من جرَّاء تفشٍّ خاطفٍ لوباء الإنفلونزا بينما كان الوالدان يزوران مدينة نابولي، ومنذئذٍ وجَّهت والدتُه طاقتها واهتمامها للحفاظ على صحتها ومظهرها. كانت تقضي نصف عامها في فيلات كوزوميل للتجديد؛ حيث أبقتْها عمليات زراعة الأنسجة وإعادة التشكيل الجينية شابة. أما بقية الوقت فكانت تسكن في طابقٍ كاملٍ بأحد المباني غير المرتفعة بأحد الكمبوندات على شاطئ فلوريدا الذهبي المتدهور، إلى الشمال مباشرة من مدينة ميامي. كانت تدفع مقابلًا باهظًا، لكن كان بمقدورها تحمُّله.

كانت هي ووالده عضوَين مميزَين في جماعة الشيوخ الحاكمة؛ تلك العصبة الدائمة التوسُّع من الأغنياء والعجائز الذين يُنافسون الشباب على موارد المجتمع. كان الشباب يمتلكون القوة والطاقة، بينما امتلك العجائز الثروة والسلطة والدهاء. لا وجه للمنافسة: فالشباب دون سن الثلاثين دائمًا ما يقولون إن هدفهم في الحياة هو «أن أعيش حتى أكون عجوزًا بما يَكفي كي أستمتع بها.»

وضعت والدة جونزاليس رداءً قطنيًّا باللونين الأبيض والأزرق فوق كتفيها وقالت: «اتصل بي. سأكون بالمنزل في غضون أسبوعٍ أو نحو ذلك. دمتَ بخير.»

كانت حواراتهما، ورسائلها المسجَّلة، دائمًا ما تجعلانه يشعر بالحيرة والغضب، لكن اليوم كان انغماسها في الذات أكثر من المعتاد. كان يريد أن يقول لها: «لقد شارفتُ على الموت، لقد كادُوا يَقتلونني يا أمي.»

غير أنه كان بعيدًا عنها، مثلما تبعُد سياتل عن ميامي. «وخطأ مَن هذا؟» هكذا تساءل صوتٌ طفولي في رأسه. لقد اختار المجيء إلى هنا، إلى أبعد مكان عن جنوب فلوريدا لكنه لا يزال داخل الولايات المتحدة. أحيانًا كان يشعر أنه ابتعد أكثرَ مما ينبغي؛ ففي فلوريدا كان الناس يُلطِّفون من حرارة أجسامهم بتناول بالكحوليات والمشروبات المثلجة، أما هنا فكانوا يحتسون القهوة القوية كي يشعروا بالدفء. كثيرًا ما كان جونزاليس يَشعُر بالضياع وسط كآبة الشماليِّين واهتمامهم بصحَّتهم، وبالاشتياق إلى الشهوانية والمشاعر الهسبانية المميزة لجنوب فلوريدا.

ومع ذلك فقد كان يكره العالم الذي ترعرعَ فيه. لقد رأى مُهرِّبي المخدرات ومروِّجيها ولاعبي القمار منذ أن كان طفلًا، ورأى في هؤلاء جميعًا النَّهم الشديد نفسه للمال والأراضي والسلطة، وسمع الأصوات الطفولية نفسَها وهي تريد المزيد والمزيد. وفي الحفلات التي كان يقيمها والداه يذكر الوجوه المسمرَّة لقاطني جنوب فلوريدا، البيض والسود الهسبانيين الذين لفحتهم الشمس، رجال يَرتدون حليًّا ذهبية ثقيلة ويُخلِّفون وراءهم سُحُبًا من العطر الباهظ، ونساء ذوات شعور متيبسة ونهود مرفوعة، كانت ضحكاتهن تُشكِّل حاشيةً رقيقةً لأصواتِ الرجال العالية. وكان يهرب من كل هذا على نحوٍ غريزي مثلما يُبعِد الطفل يده عن النار.

لكنه كان يقف في هذا المكان وتلك اللحظة في أرض غريبة، ولم يكن يشعر أنه في موطنه في هذا الطرف من البلاد أكثر مما كان يشعر في الطرف الأقصى منها.

قال جونزاليس: «لا رد.»

•••

في اليوم التالي جلس جونزاليس في حجرة التشميس؛ حيث اضطجع على الكسوة السوداء وتحت الزجاج المنقوش بينما كانت أفكار الموت تقضُّ مضجعه. ملأ غليونًا برونزيًّا بأوراق القُنَّب الخضراء الصغيرة وغاص في غيمةٍ من الدخان وهو يَحتسي الشاي.

تحوَّل ضوء العصاري المتسلِّل من النوافذ إلى اللون الرمادي، لون المَلل والقنوط التام، وصار شعور الوحدة طاغيًا. كان بحاجة إلى رفقة، هكذا فكَّر، وتساءل عما سيكون عليه الأمر لو امتلَكَ قِطًّا. حينها فكَّر في حقيقة الأمر، كيف أن غيابه سيطول وأن القِطَّ سيلهو بماكينات المنزل. سيقول روبوت التنظيف: «مرحى أيها القط.» وسيرغب جهاز «الميميكس» في برامجَ بيطريةٍ ورابط تشخيصي … اللعنة! بمقدورهم جميعًا العيش من دون قِطٍّ.

بعدها شعر بقرصة الجوع، فقرَّر أن يُعِدَّ بعض التبولة. «أنت لا تُولي العمل اهتمامك.» هكذا قال جهاز «الميميكس» بينما وقف جونزاليس يقطع أوراق النعناع والبصل الأخضر والطماطم، ويعصر الليمون ويقلب البرغل في صبرِ شخصٍ مسطول.

قال جونزاليس: «هذا صحيح. أنا لست في عجلة من أمري.»

«لماذا؟ منذ عوَّدتك من آسيا لم تكن لك أي إنتاجية تُذكَر.»

«سأموت يا صديقي.» تسللت رائحة الليمون والنعناع إليه، فأخذ نفَسًا عميقًا ثم أضاف: «اليوم، أو ذات يوم بالتأكيد … ما زلت أحاول فهْم ما يَعنيه الأمر لي الآن. الإنتاجية أمر طيب، غير أن التأقلم مع فكرة موتي … أعتقد أن هذا أفضل.» اكتملت التبولة. كانت جميلة، وتمنَّى لو استطاع غمس وجهه فيها.

•••

قبل أن يَمضي وقتٌ طويلٌ على انتهاء جونزاليس من تناول الطعام، وصله طردٌ من تايلاند. وداخل طبقات الفوم والشرائط كانت توجد وحدات الذاكرة التي أخدها التايلانديون. وحين أوصلها بجهاز «الميميكس» تبيَّن أنها خالية: أصفار، مستعدَّة للاستخدام من جديد.

وقف جونزاليس ونظر إلى الوحدات المثبتة في حاوية جهاز «الميميكس». «لا أصدِّق ذلك.» هكذا فكَّر في نفسه قائلًا. كان هذا يعني أن كل سجلات التدقيق قد مُحيَت. وأي بيانات يجمعها هو أو أي شخص آخر الآن من فرع سينتراكس في ميانمار ستكون عديمة القيمة؛ فمن المؤكَّد أن جروسباك قد حظيَ بما يَكفي من الوقت كي يُزوِّر البيانات التي يَحتاج إلى تزويرها. الموقف كله يكتنفُه الغموض.

فكَّر جونزاليس في نفسه قائلًا: «جروسباك أيها اللعين. لو كنتَ قد رتَّبت استيلاء التايلانديِّين على الوحدات، فربما تكون أذكى وأحط مما أظن.»

قال جونزاليس: «اللعنة.»

سأله جهاز «الميميكس»: «هل ثَمَّة شيء يُمكنني فعله؟»

«لا أظن ذلك.»

•••

على خلفية من نباتات الأدغال وحوائط الباستيل والمشغولات الفضية الموقَّعة، تعرَّف هاي ميكس على أحدث تجسيدات قاعة الاستقبال بفندق بيفرلي روديو. كان السيد جونز يُفضِّل التباهي، حتى أمام أقرانه.

جلس هاي ميكس على مقعدٍ مُنفرِد مصنوع من الكروم اللامع ومكسو بجِلد بُني في لون الشوكولاتة. كان هاي ميكس يَرتدي البنطال الفضفاض المعتاد وسترةً من القطن الأسود، وقميصًا من الكتان الأبيض المتغضِّن، وكان ذا وجه حليق وشعر قصير.

جلس شخصٌ على نحوٍ مباغتٍ في المقعد المقابل له: يَرتدي سترة رمادية وقميصًا أحمرَ موشًّى بخيوط معدنية كان يسطع تحت الأضواء، ونظارات سوداء الإطار لها عدساتٌ داكنة، وشعر مدهون بالكريم ومصفَّف إلى الوراء، ولحية سوداء قصيرة وشارب.

قال هاي ميكس: «سيد جونز.»

أخذ الشخص الآخر نفَسًا طويلًا بطيئًا من سيجارةٍ بُنيَّة وقال: «هاي ميكس، أي خدمة يُمكنني أن أسديها لك؟»

«إنه جونزاليس. منذ عودتنا من ميانمار وهو خاملٌ تمامًا، لم يهتم بشئون العمل.»

«استجابة تالية على الصدمة، امنحْه بعض الوقت وسيكون بخير.»

«كلا، إنه لا يَحتاج إلى وقتٍ، بل إلى عمل. ألديك شيء؟»

«ربما. لم أُجرِ أي بحث شخصي، وربما لا يُناسبه العمل تمامًا.»

«لا يهمُّ ذلك، امنحه إلى جونزاليس. إنه بحاجة إليه.»

«كما تشاء. ستَسمع خبرًا رسميًّا في وقت لاحق من اليوم.»

تبدَّد العالم من حولهما، وتحوَّل إلى غيمةٍ من الدخان، واختفى شكل السيد جونز وعاد إلى هويته الأصلية بوصفِه مرشد تراينور، بينما عاد هاي ميكس إلى صورته الأصلية بوصفه جهاز «الميميكس» الخاص بجونزاليس.

(لعلَّك تتساءَل عن سبب اختيار هاتَين الماكينتَين لهذا التنكُّر المعقَّد، أو عن سبب عدم معرفة أي شخص بحدوث أمور كهذه. أما بشأن لماذا؟ أو من؟ فلا يوجد جواب. فهؤلاء هم اللاعبون الجدد، وهذه هي لعبتُهم.

مرحبًا بك إذن في الألفية الجديدة.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤