الفصل الأول

تشغيل تجريبي

«امتد مشهد طبيعي مُتجمِّد مكسو باللون الأبيض، ثم أخذ يتلاشى ببطء ليظهر مشهد ربيعي، فذاب الثلج مُظهرًا أفرع الشجر الجرداء، ثم ظهرت أشجار الكرز المُورقة، المتبرعِمة، المزهِرة؛ فكانت الأزهار الوردية الرقيقة تتدلَّى دون حركة، وكل ورقة من أوراق الشجر وكل نصْل عُشبي أسفلها يتحوَّل إلى شيء حقيقي، مقنع تمامًا …»

ثم أطلقت ديانا هايوود صيحة طويلة مرتعشة: «آآآآآه»، صيحة حادة مليئة بالألم، وكررتها: «آآآآآه»، وكانت الأصوات تخرج منها بمشقة …

سمعت تشارلي هيوز يقول: «إغلاق.»

وعلى الشاشة الموجودة في نهاية الغرفة قالت الصورة التجسيدية لألِف: «الدكتورة هايوود، لا يُمكننا المواصلة أكثر من ذلك مع حالة وعيك هذه.»

قالت: «لا بأس. إن كان هذا ضروريًّا.» كانت قد ضغطت عليهم كي يأخذوها إلى أبعدِ حدٍّ مُمكن من دون إخضاعها لتخدير كلي؛ إذ كانت تكرهه، وتبغض أن تكون كالحيوان الخامل الذي يتلقَّى العلاج.

مرةً أخرى كانت مُستلقية على وجهها على طاولة الفحص، وقد أزال تشارلي رقعتَي الجِلد اللتين تُغطيان المقبسين، وامتد كابلان عصبيان من مؤخِّرة عنقِها إلى الجانب السُّفلي من الطاولة.

وقفت ليزي جوردان عند رأسها وربَّتت على وجنتها للحظة، بينما وقف جونزاليس عند الطرف الآخر للطاولة وعيناه لا تزالان مثبتتَين على الصورة الهولوجرامية فوقها؛ حيث كان المشهد الذي دفع وعيها إلى حالة الحِمل الزائد لا يزال معروضًا في مثالية هولوجرامية. وقف توشي إيتو عند رأس الطاولة، واضعًا يدَه على كتفها. أما إريك تشو وتشارلي فوقَفا أمام لوحة الشاشات، يُناقشان بصوتٍ خفيض تجربة تغيير الإدراك الأخيرة.

قال جونزاليس: «أأنتِ بخير؟»

قالت: «سأكون بخير.» ثم أدارت وجهها كي تَنظر إليه وابتسمت، لكنها كانت تشعر بتصلُّب عضلات وجهها وعلمت أن الابتسامة ستبدو مريعة.

وضع تُوشي يده على كتفه وقال: «مَن ذا الذي يريد أن يعرف؟» فضحكت ديانا، بينما بدت الحيرة على جونزاليس.

فرك تشارلي شعره بيده، جاعلًا إياه ناتئًا أكثر من المعتاد، وقال: «سأُجهِّزها.» ثم نظر إلى جونزاليس وتوشي وليزي وقال: «الأشخاص المطلوب وجودهم فقط.»

قال جونزاليس: «صحيح.» ثم انحنى فوق ديانا وأمسك يدها للحظة وقال: «حظ طيب.»

قبَّلت ليزي ديانا على وجنتِها.

وقالت ديانا: «اسمحوا لتوشي بالبقاء.»

قال تشارلي: «بالتأكيد.»

قالت ليزي: «هيا بنا يا جونزاليس.»

•••

بينما أخذ تشارلي يَحقن المخدر في القسطرة الوريدية، شعرت ديانا كما لو أنها تَختنِق، ثم احتشدت رائحة معدنية قوية داخلها. كانت واعية لكل أنبوب وجهاز مغروس في جسدها — من القسطرة الوريدية إلى القسطرة المهبلية والأنبوب البلعومي — وكانت كلها تُمثِّل انتهاكات بشعة وعديمة المعنى لجسدها … لم تكن تشعر بالراحة مع أيٍّ منها، كم من الوقت يُمكن أن يستمرَّ هذا الأمر؟

تردَّد صوت نغمة موسيقية.

كان اللحن بسيطًا ومتكرِّرًا، سريعًا بدرجة معتدلة وبه تأخير نبْر بسيط، وبدا فارغًا كما لو كان صادرًا من صندوق موسيقي للأطفال. بعد ذلك جاء الجزء الخاص بالأغنية، وبينما كانت النغمات تُعزَف، تذكرتها ديانا، وحين عادت النغمة الأساسية كانت مألوفة لها هي الأخرى، وأخذت تدندن معها، وتتذكَّر حين كانت فتاةً صغيرة تَسمع الأغنية من جدة جدتها، التي ظهر وجهها فجأة، أصغر عمرًا مما كانت تتذكرها ديانا عادة، وكانت حية على نحوٍ مستحيل أمام عينيها، ثم غاصَت في الظلام.

شذرات من الذاكرة.

كان ذراعا والدتها ملتفَّتين حولها بقوة، وكانت ديانا تَنتحِب …

كان والدها يمسك سمكة في ضوء الشمس، وكان جسدها الفضي يَتلألأ، وقد انعكس عليه ضوء قوس قُزَح …

كانت ثَمَّة فتاة ترتدي فستانًا ورديًّا مُلطَّخًا بالطين تصرخ فيها غاضبة …

وكان ثَمَّة صبيٌّ صغير أنزل بنطاله كي يُظهر قضيبه …

وهكذا تَداعى إلى ذاكرتها عدد من الشخصيات الآتية من ذكرياتها البعيدة، ذكريات عن عائلة ماتت منذ زمن بعيد، وأصدقاء طفولة نسيتَهم منذ وقت طويل، أو نادرًا ما تتذكرهم … وكل شذرة تمر بسرعة كبيرة بحيث يستحيل التعرُّف عليها وتمييزها، تاركةً وراءها تأثيرًا قويًّا وحسب بتجدُّد ذكرى قديمة، مذاق الماضي وهو يخرج من جديد من مستودعه اللاواعي؛ حيث لا تَسري قوانين الزمن والتغيير الثابتة؛ ومِن ثَمَّ يعيش كل شيء في حالة من التألق.

بعد ذلك سرى في جسدها كل شعور جسدي سبق أن خالَجها من قبل، كل الوقت ذاته، بصورة مُستحيلة. شعرت بحكَّة وباحتراق، وشعرت بالبرد والحر، وشعرت بضوء الشمس وبماء المطر وبالنَّسيم البارد، وبالسكِّين البارد وهو يشقُّ إبهامها … شعرت بلمسة شخص آخر على نهدها، وبين ساقيها، وشعرت بنَشوة الجماع …

بعد ذلك عاشت مجدَّدًا يومًا كانت تخال أنه ولَّى وانقضى، فيما عدا كونه مادةً لأسوأ كوابيسها:

في يوم الأحد ذاك في المتنزَّه، كان الناس يَنتشرون في كل مكان؛ أسر وأحباء شباب في جميع الأرجاء، وكان الجو عامرًا بصخب الأطفال وبالرومانسية المبكِّرة. بث ضوء الشمس الدفء في العشب وجعل ألوان النهار ساطعة. استلقَت ديانا على بطانيتها تشاهد كل هذا وهي تشعر بالحبور لمعرفتها أن أطروحتها جرَت الموافَقة عليها وأنها قريبًا ستحصل على درجة الدكتوراه في النُّظُم العامة من جامعة ستانفورد. والليلة كانت ستَتناول العشاء مع أصدقاء قدامى، احتفالًا بنهاية تلك العمَلية الطويلة الشاقة.

قرأت لبعض الوقت جزءًا من روايةٍ تَنتمي إلى أدب الخيال البديل كتبها مؤلِّفون مُتعدِّدون في أوائل القرن الحادي والعشرين عنوانها «بيان سايبورج»، ثم وضعت الكتاب جانبًا واستلقَت مُغمِضةً عينيها، وهي تستمع إلى إحدى مقطوعات البيانو لموتسارت من سماعات الأذن الخاصة بها. مع مرور الوقت بدأت الأسر في المغادَرة، بينما ظل الكثير من الأحباء الشباب — العديد منهم كانوا مُستلقِين على بطاطين — متعانِقِين. أخذت مجموعة من الشباب الذين يَرتدُون عصابات رأس حريرية تُبيِّن انتماءهم لنادٍ معيَّن يُوجِّهون طائرات ورقية روبوتية كانت تتقاتَل بالأعلى، وكانت بأشكالها التي تُشبه التنانين وألوانها القرمزية والخضراء والصفراء تعلو وتَنخفِض وهي تهدر. تَغيَّر اتجاه الرياح وبدا أنها آتية من المحيط الآن، وكانت مُنعِشة وبارِدة. حان وقت الرحيل.

مرت بصوبة لأزهار الأوركيد، ورأت أن الباب لا يزال مفتوحًا؛ لذا قررت المرور عبْرها، كي تَنعم بالهواء الرطب الدافئ وتشم روائحها الجميلة القوية. وما إن عبرت من الباب حتى أمسكها رجل من ذراعها وألقاها نحو طاولة قُدور خشبية. تدحرجت عن الطاولة وهي تشعر بالذهول وحاولت الزحف بعيدًا بينما أغلق هو الباب بالمزلاج.

أمسك بها وأدارها بحيث صارت على ظهرها، ولكمها في وجهها وجسدها، وأخذ يضرب صدرها وبطنها بقبضتَيه، وهو يُتمتم بكلام غير مفهوم في معظمه طوال الوقت. هاجمته بأصابعها وحاوَلت وخْذ عينَيه، لكنه أمسك ذراعَيها، وحاولت أن تضربه بركبتها في مُنفرجه لكنه رفع ساقه وصد ضربتها. اقترب وجهه من وجهها، وكان أحمر ومشوَّهًا. وتردَّد صوت لهاث الاثنين طلبًا للهواء وانعكس صداه عن السقف الزجاجي.

نزع عنها ملابسها بأقصى ما يستطيع، فمزَّق بلوزتها إلى أن صارت تتدلَّى وحسب من كُمٍّ واحد ممزَّق من خصرها، وضربها بغضب حين لم يستطِع تمزيق بنطالها، وتعيَّن عليه أن يَخلعه عنها. أمسك بطرفي ساقي بنطالها وجذبها على الأرض الترابية، وحين انخلع البنطال سقطت وتدحرجت وارتطم وجهها بطرَفٍ ناتئ لعارضة. شعرت بمذاق التراب في فمها.

قال لها بصوت يملؤه الغضب المحتقِن والخوف والتوتُّر الشديد: «لو حاولتِ أن تُؤذيني سأقتلكِ.»

قلبَها على ظهرها مجدَّدًا ونزع عنها سروالها الداخلي حتى وصل إلى عقبَيها. حاولت التركيز على وجهه، كي تُسجِّل صورته في ذاكرتها؛ لأنها أرادت التعرُّف عليه لو ظلَّت حية. غمرتْها رائحة عَرقه ثم شعرت بشيء مُرتخٍ بين فخذَيها. كان يقول: «أيتها العاهرة.» مرارًا وتكرارًا، علاوةً على كلماتٍ أخرى لم تَستطِع فهمها — كان يُتمتِم بكلمات مُتكرِّرة كالمعتوه — وحين وصَل أخيرًا إلى ما يُشبه الانتِصاب، صاح وأخذ يَضربها على وجهها بإحدى يدَيه، بينما يُحاوِل أن يدفع قضيبه داخلها باليد الأخرى. وعلمت أنه قضى وطرَه حين شعرت بتدفُّق المني على ساقها.

وقف فوقها وصاح: «لا، لا، لا، لا، لا.» ورأته يَحمل قطعة خشبية قصيرة وأخذ يضربها بها بينما وضعت ذراعيها حول رأسها في محاولة لحماية نفسها.

أفاقت في عنبر الحالات الحرجة في مُستشفى سان فرانسيسكو العام، وهي غارقة في ظلام دامس مليء بالألم. كان من شأن الألم والارتباك أن يزولا، غير أن الظلام بدا لها بلا نهاية. لقد ترَكها المُغتصِب بين الحياة والموت، تُعاني من كسور عدة بالجمجمة ونزيفًا بالمخ، ورغم أن الجراحين تمكَّنُوا من تقليل الأذى الذي أصاب دماغها، فقد تضرَّر عصبها البصري على نحوٍ يَستحيل إصلاحه؛ صارت عمياء.

للحظة من الوقت أدركت ديانا مكانها وزمنها. فقالت بصوتٍ غير مسموع داخل البيضة: «رجاءً، لا مزيد!» تغيَّر شيءٌ ما بعدها، وتحرَّكت شذرات الذكريات على نحوٍ أسرع، أسرع مما تستطيع متابعته. ومع ذلك فقد كانت تعلم القصة التي ترويها:

تحت تأثير عملية استدعاء للذكريات مُستحثَّة عن طريق العقاقير، تمكَّنت ديانا من تقديم وصف دقيق للرجل، وأدَّى هذا الوصف، علاوة على تطابق الحمض النووي المأخوذ من بقايا المنيِّ الموجودة على ساقيها، إلى تحديد هوية الرجل، وهو شخص يُدعى رونالد ميريل كان قد أتى إلى كاليفورنيا من فلوريدا، التي كان قد أُدين فيها بالاغتِصاب والاعتداء. كان وحشًا مُثيرًا للشفقة، هكذا أخبروها، مخبولًا مصابًا باضطراب الشخصية الحدِّي، تعرَّض في طفولته لاعتداء بدني وجنسي عنيف، وكان يتمتَّع كذلك بقوة بدنية كبيرة. بعدها بأسابيع أُلقي القبض عليه في متنزَّه جولدن جيت بارك — في أثناء بحثه عن ضحية جديدة حسب اعتقاد الشرطة — وبعدها بأقل من ثلاثة أشهرٍ حُكِم عليه. ونتيجة لارتكابه جريمتَي اغتصاب همجيتَين، تلقَّى عقوبة شديدة تمثَّلت في الإخصاء الكيميائي والسجن مدى الحياة، دون إمكانية لإطلاق السراح المشروط.

وهكذا انتهى ذلك الفصل من حياتها.

غير أن فترة النقاهة أخذت وقتًا أطول كثيرًا من هذا، وأخذت مسارًا دقيقًا مُتذبذبًا. وحتى باستخدام العلاجات التي قلَّلت من أثر الصدمة على المدى البعيد عبْر مزيج من عمليات التعديل السُّلوكي والكيميائي؛ فقد ظلَّ غضبها وخوفُها ملازمَين لها خلال الشهور التي كانت تتعافَى فيها وتتلقَّى دروسًا عن الحياة كعمياء.

ومع ذلك، فما إن اكتسبَت القدرة الأساسية على العيش بمفردها حتى صارت شديدة النشاط، ومختلفة تمامًا عما كانت عليه من قبل. وتحديدًا، لم تَعُد تهتمُّ بما يُريده الآخرون منها. فمنذ سنواتها المدرسية المبكِّرة في كروكيت، تلك المدينة الواقعة في الطرف الشرقي لتجمُّع إيست باي السكني، كانت على الدوام طالبة استثنائية بطريقة متحفِّظة؛ ألمعية ومطيعة لأوامر الآخرين، وتُوجِّه نفسها لإرضائهم. والآن صارت فتاةً عمياء في الثامنة والعشرين، حاصلةً على الدكتوراه، وكلُّ شيء سعَت إلى تحقيقه — ويشمل ذلك درجتها الجامعية — بدا عديمَ المعنى تافهًا؛ لم تَستطِع أن تَتصوَّر لماذا كانت تَكترِث بأيٍّ من ذلك من الأساس.

قرَّرت أن تُصبح طبيبة. كانت تمتلك الخلفية الكافية، وكانت تعلم أن بمساعدة قوانين تكافؤ الفرص يُمكنها إجبار إحدى الكليات على قبولها. وبمجرَّد قبولها، ستفعل كل ما هو ضروري؛ فمن المُمكن تدريب الروبوت المساعد الذي وفَّرته لها الدولة على القيام بما لا تَستطيع هي القيام به. ستَمضي فيما تريد، وتكمله، وتكتشف سبيلًا كي ترى مجددًا.

كان الأمر بهذا القدْر من السهولة، وبهذا القدْر من الصعوبة …

توقف سيل الذكريات، وسُمح لها بالنوم. وفي وقتٍ لاحق، حين بدأت تستيقظ، تساءلت: «لماذا؟ لماذا جعلتموني أُعاود معايشة هذه الأمور؟» وجاء الجواب: «لأنه كان من الضروري أن أعرف.» وتذكَّرت ديانا إلى أي مدًى كانت ألِف تتَّسم بالفضول، وبالإلحاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤