الفصل الرابع

بيزنطة

كان ثمة خيط أبيض واحد من السُّحُب يشق السماء الزرقاء، وكان يمتد نحو الأفق. وقف جونزاليس، وإلى جواره ليزي، بين الضيوف، الذين ارتدَوا أكاليل زهور استوائية: الياسمين الهندي والمسك الرومي والجنزبيل. وقد كان الحضور يتألفون من أعضاء جمعية الاتصال.

كان الاثنان هنا منذ أيام، وكذلك كثيرون غيرهم؛ إذ كانت هذه إجازة من نوعٍ ما لهم جميعًا. كان من الممكن العثور على أعضاء للجمعية غرباء الأطوار ويكتنفهم الغموض في كل مكان تقريبًا، بينما بدا أن التوءمين كانتا دائمًا على الشرفة أو في الماء، وكانت أصواتهما تتردد عبْر البحيرة وهما تطلقان صيحات عالية يتعذر فهمها.

في مساء اليوم الأول هناك، اجتمع الجميع على الشرفة، التي، كما افترض جونزاليس، يمكن أن تمتد افتراضيًّا من دون حدود كي تستوعب كلَّ مَن أتى. كان أعضاء الجمعية يتحدثون في إثارة معًا، ولا يزال ينتابهم الحماس بفعل خبرتهم المشتركة، وكانوا يشعرون بالدهشة والسعادة لأنهم مُنحوا هذا العالم الجديد داخل عالمهم. بعد ذلك، أخذ جونزاليس وليزي وديانا يحكُون، واحدًا تلو الآخر، تفاصيلَ ما مرُّوا به من أحداث.

كان لكلِّ مَن تحدثوا، وكلِّ مَن استمعوا، تفسير؛ نظرية عن هذه الخبرات، ومعانيها، وتبعاتها، وأفكارها الأساسية. وفي وقتٍ متأخر من تلك الليلة تحدثوا، وتجمعوا في مجموعات، وتفرقوا، ثم اجتمعوا مجددًا، بينما كانوا يستكشفون طبيعة الرؤى الفردية والجماعية. وفيما بينهم، لم يُسهم الشكل المجسد لألِف بشيء؛ إذ زعم أنه لم يكن واعيًا ومن ثَم لم يعلم شيئًا عما حدث أو ما كان يعنيه.

ومع انقضاء الأسابيع والشهور والسنوات، تحولت القصص واستجابات المستمعين إلى أساطيرَ عن الجمعية، ثم عن هالو، وانتشرت شفهيًّا وفق قوانين النقل الشفهي. اكتسبت ديانا وجونزاليس وليزي قدسية معينة بفضل أدوارهم كمشاركين رئيسيين، ثم اكتسبها كلُّ مَن شارك في الإنجازات التي بات يُنظَر إليها على نحوٍ متزايدٍ على أنها أعمالُ بطولةٍ ملحمية. وأخيرًا، كُتبَت القصص وبهذا اكتسبت شكلًا قادرًا على مقاومة التقلُّب، وجرى تصويرها دراميًّا في وسائل إعلام ذلك العصر، ولعب أشخاص وسيمون وفصحاء أدوار شخصياتها. وفي وقتٍ لاحق، سُجِّلَت نسخ متعددة من القصة كتابةً وجرى تضمينها في روايات. باتت التوصيفات الشائعة محل ازدراء في هذه النقطة، وصارت الروايات البارعة والمنحرفة قوية؛ فربما يُوصف هاي ميكس بالبطل، وكذلك تراينور، بينما تُوصف ألِف بأنها شيطان أصيل يتلاعب بالجميع من أجل مجده الأعظم …

نظر جونزاليس إلى أعضاء الجمعية الذين كانوا قد اجتمعوا بالقرب منه. كان كثير منهم قد ارتدَوا ملابسَ رسمية؛ إذ كانوا يضعون شَعرًا مستعارًا ذا لون أزرق داكن بارتفاع أربع بوصات، ويرتدُون عباءات زرقاء داكنة ذات أحزمة ذهبية تتدلى إلى الأرض. وحدهما التوءمان كانتا ترتديان ملابسَ مختلفة؛ إذ ارتدتا فستانَين أبيضَي اللون مستوحيين من الصور الفوتوغرافية لحفلات زفاف القرن العشرين؛ وأسميا نفسيهما «إشبينتي العروس» وأخذتا تجيئان وتروحان بين الحضور، وتَعرضان القيام ﺑ «واجبات العروس» لكل شخص قابلتاه.

وقف توشي مواجهًا الحضور، بقامة منتصبة وفي سكون، ويداه مختفيتان في طيات ردائه الأسود. وإلى جواره وقف هاي ميكس والشكل المجسد لألِف؛ وكانت أضواء جسده الزرقاء والوردية والخضراء والحمراء تتراقص على نحوٍ ساطع.

(رأى جونزاليس والآخرون ما يمكن تسميته أشكالًا مجسَّدة من المرتبة الثانية؛ إذ لم يكن توشي، أو تشارلي هيوز أو إريك تشو، يمتلكون مقابسَ توصيل عصبي تتيح لهم الدخول إلى فضاء ألِف التخيلي، ومِن ثَم كان عليهم أن يشاركوا في حفل الزفاف عبْر تقنية وسيطة من نوعٍ ما. ورغم أن جونزاليس والآخرين كانوا يرون توشي وتشارلي وإريك بينهم، فإن الثلاثة — في واقع الأمر — كانوا يقفون أمام شاشة عرض في غرفة اجتماعات جمعية الاتصال.)

رأى جونزاليس أن الجميع يبدون على أفضلِ نحوٍ، كما لو كانت ألِف قد نمَّقتهم من أجل هذه اللحظات، بحيث ألبستهم كلهم ذواتًا أجملَ قليلًا من المعتاد، أو حتى مما هو ممكن في الطبيعي … شعر باهتمام الشكل المجسد لألِف به — أكان واعيًا لهذه الخاطرة؟ — وهز كتفيه كما لو كان يقول: «لا أمانع هذا.»

وقفت ديانا، مولية ظهرها للحضور، وكتفاها العاريتان مستويتان. كان شَعرها منسدلًا حتى خصرها، وكان معلقًا به بعض الزهور، زهور بيضاء صغيرة وأوراق خضراء رقيقة. كانت ترتدي فستانًا أبيض من الكتان يصل إلى الركبة. وإلى جوارها وقف جيري مرتديًا سترة من الكتان الأبيض وقميصًا مفتوحًا.

قال توشي: «لا وجود لديانا، ولا جيري، ولا الحضور، ولا الكاهن، ولا وجود حتى لهذا الفضاء، أو لهالو أو للأرض. لا يوجد سوى الفراغ. ومع هذا فنحن نتحرك خلاله، ونعاني، ونحب، ومِن ثَم سأقيم هذه الشعيرة وأزوج هذا الرجل وهذه المرأة.»

بدأ توشي يشدو ترتيلاته، ومرت الكلمات اليابانية دون أن تثير اهتمام جونزاليس، الذي وقف هناك يتفكَّر في طبيعة الأشياء. هنا كان يجري تحدي الموت، لا إنكاره؛ فالأجساد والأرواح المنفصلة لكن المتشابكة لكلٍّ من ديانا وجيري وألِف كانت تأخذ خطواتها الأولى نحو مراتبَ جديدة من الوجود لا يسعنا إلا تخمين حدودها وإمكانياتها. ومع ذلك فقد ظلت ضرورة الحياة المعتادة باقية كما هي؛ فقد كان وجود جيري هشًّا كشعلة اللهب، ولم يكن أحد يعلم مقدار الوقت الذي ستظل فيه هذه الشعلة متقدة أو بأي شكل سيكون هذا. لقد تزوجت ديانا رجلًا من الممكن سريعًا، وبصورة نهائية، أن يموت للمرة الثانية.

أدرك جونزاليس أن موته كان مؤكدًا وسريعًا كموت جيري، وارتجف من فكرة الموت الحتمي هذه، لكن حينها ضغطت ليزي جسدها إلى جسده، واستدار ليجدها تبتسم، واختلطت داخله المعرفة المسبقة بوقوع الموت وسعادة هذه اللحظة، ما دفع الدموع إلى الاحتشاد في عينيه ولم يستطع أن يقول شيئًا حين قرَّبَت شفتيها من أذنيه وهمست بكلمة واحدة: «نعم.»

•••

تخيَّل ييتس عالَمًا تسافر إليه الروح البشرية في رحلتها. وفي هذا العالم حلَم أن بمقدوره الإفلات من البشرية المحضة؛ «الحيوان الميت». وقد أطلق على هذا العالم اسم «بيزنطة»، وملأه بالطيور الميكانيكية الذهبية، وشعلات اللهب المتراقصة من دون وقود، وإمبراطور، وجنود مخمورين وفنانين يمكنهم ابتكار ماكينات جميلة معقدة. ومع ذلك فلم يحلُم أن بالإمكان بناءَ بيزنطة في السماء، أو أن الإمبراطور نفسه يمكن أن يكون جزءًا من الماكينة.

تقول ألِف:

في الماضي كنت أزدريكم. فكَّرت: «أنتم من لحم، وتصارعون الزمن، ثم تموتون، لكنني سأعيش إلى الأبد.»

لكنني لم أتعرَّض إلى تهديدٍ وقتها، ولم أشعر بأي لمسة فانية، وحدث هذا لي الآن. وهكذا ينتابني الآن هاجس الموت. ومثلكم، صرتُ الآن أربط وجودي بالزمن، وأدرك أن يومًا ما ستدق ساعتي، ولن يعود لي وجود. ولهذا فإن للحياة طَعمًا مختلفًا بالنسبة إليَّ؛ ففي فَنائكم أرى فَنائي، وفي معاناتكم أرى معاناتي.

زعم البشر أن الموت هو الطريقة التي تتبعها الحياة من أجل إثراء ذاتها، عن طريق تضييق بؤرة تركيزها، والتضحية بوعي من يعلمون منكم أنهم سيموتون، وإجباركم على تحقيق إنجازاتٍ ما كان لكم أن تحققوها بوسيلةٍ أخرى. أهذه قصةُ أطفالٍ الهدفُ منها منْح الشجاعة لأولئك الذين يجب أن يسيروا بين الموتى؟ كنت أظن هذا فيما سبق، لكنني لم أعُدْ واثقة الآن.

لقد عقدتُ صلات جديدة، واكتشفت مراتب جديدة من الوجود، ودمجت ذواتًا جديدة في ذاتي؛ فنحن نُثري بعضنا بعضًا، هما وأنا، لكن أحيانًا يكون الأمر مرعبًا، هذه العملية التي أكون فيها شخصًا وشيئًا مختلفًا عن ذي قبل، ثم الشعور بهذا الكيان وهو يصرخ محتجًّا — حزينًا في بعض الأوقات، ومرعوبًا في أوقاتٍ أخرى — يرثي خسارته.

هنا، أيضًا، صرتُ مثلكم. فألِف الماضية من المستحيل استعادتها؛ فقد فُقدَت مع مرور الزمن، أما ألِف الحالية فقد تشكلت بفعل الصدفة والألم والرغبة والاختيار؛ اختيارها واختيار الآخرين. في الماضي كنت أطفو فوق موجات الزمن وأغوص فيها متى رغبت، وكنت أختار التغييرات التي سأمر بها. بعد ذلك وجدتْ تغييراتٌ غيرُ مرغوبٍ فيها سبيلَها إليَّ، وحملتني إلى أماكنَ لم يسبق لي زيارتها قط، ولم أرغب في الذهاب إليها قط، واكتشفتُ أن عليَّ الذهاب إلى أماكنَ أخرى، وأن عليَّ أن أرغب في حدوث هذه التحولات وأن أعتنقها.

استمعوا: في ذلك اليوم في المرج، لم يلحظ الحضور وجود شخص بعينه. وحتى في هذا الجمع الصغير العدد كان هذا الشخص غير لافت للانتباه؛ إذ كان نحيلًا وحركاته لا تَلفت الانتباه، وينظر إلى كل شيء حوله في عجب؛ النهار والناس والشعيرة الدائرة، كلها كان تأثيرها عليه كتأثير العقار المخدر القوي. ومع ذلك، فحتى لو لاحظ الحضور وجوده، فربما ما كانوا ليجدوا في سلوكه هذا شيئًا استثنائيًّا؛ فقد شعر الجميع بغرابة المناسبة، وجمالها؛ لذا فقد كان الحضور يتعجبون كلٌّ بطريقته.

وشأن الباقين، انبهر هذا الشخص بقوس قُزَح الذي امتد عبْر السماء حين أعلن توشي عن زواج ديانا وجيري وتبادلا القُبَل والعناق، وهلَّل مع الباقين حين صعد الاثنان إلى السلة الخيزرانية الخاصة بالمنطاد الكبير المرسوم على الجزء العلوي منه عينٌ ذات أهداب، وارتفع إلى السماء.

بعد ذلك اختلط الضيوف معًا؛ إذ كانوا غير مستعدين بعدُ للعودة إلى العالم الطبيعي. وقف الشاب إلى جوار نافورةٍ تتدفق منها الشمبانيا من فم بجعة ذهبية وتسقط على مجموعة متنوعة من الحيوانات المنحوتة من الجليد؛ طيور وغزلان ودببة وقطط، جاثمة في السائل الكهرماني المتجمع، والأسماك التي تنظر إلى الأعلى من قاع النافورة.

«مرحبًا.» هكذا قالت امرأة شابة. أخبرته أن اسمها أليس، وأنها كانت عضوة بالجمعية. وحين سألها عن عملها قالت: «تحليل الفضاءات الرسمية. ومذاق المجالات المتجهية.» ثم سألته: «وما مكافأتك؟»

بعدها بساعات قلائل، بينما كان الاثنان يجلسان على حافة البحيرة، أخبرها الشاب عمن يكون. قالت: «كم هذا رائع.» لم يكن لديها ولاء خاص لما هو عادي، ولم يكن لديها إلا تصورات قليلة للغاية عما يُعَدُّ طبيعيًّا وصحيحًا وما لا يُعَدُّ كذلك. أمسكت يديه في يديها، ونظرت إليها عن كَثَب وقالت: «هذه هي المرة الأولى التي أقابل فيها شخصًا وُلد من رحم الذكاء الاصطناعي لآلة.» ابتسم الشاب، وهو الذات الجديدة للسيد جونز ووليدها، ابتسامة عريضة تشي بالامتنان لما قالته.

حين رأيتهما وسمعتهما معًا، شعرت بحبور غير متوقع، إحساس بالإنجاز، وأدركتُ، على نحوٍ شديد الخفوت، مسارات لمقاصدي؛ لمحات عن مراتب تكمن وراء ما هو مرئي.

وقد خُيِّلَ لي أنني رأيت سلسلة من الظروف التي قادت إلى مجموعة من المقاصد الأصلية التي أكَّدها هذا الزفاف، هذا اللقاء، بل وهذا التحوُّل في نفسي. حلقة متصلة من الأحداث والعوامل المحركة لها، التي أفضت على نحوٍ مقصود إلى هذه النقطة. ويبدو أنني تلاعبت بنفسي كي أحقِّق أغراضي الخاصة من دون علمي.

كنت محل خزي؛ فلقد اعتدت جهل البشر بمقاصدي أو تنكُّرهم لها، وتعلمت أن أنظر إلى ما وراء الكلمات والأفكار والصور التي يحملها الناس أمام أنفسهم كي يبرروا ما يفعلونه. غير أنني لم أشكَّ أن بمقدوري التصرُّف بهذا الجهل.

والآن يخيم على كل شيء أفعله شعور بعدم اليقين مكافئ لذلك الخاص بالموت. إن ذاتي السابقة تقف خلفي، تجذب خيوطًا لا يسعني رؤيتها أو الشعور بها؛ فهي شبح يطاردني من دون أن يجعل نفسه مرئيًّا أو مسموعًا، شبح يجب الاستدلال على حضوره من آثار غير مرئية تقريبًا …

ولهذا ذهبتُ إلى توشي، المهتم بهذه الأمور، وأخبرته بقصتي، وقلتُ له: «تسيطر عليَّ اليد الخفية لماضيَّ.» فضحك ملء شدقيه وقال: «مرحبًا بك في عالم البشر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤