تعريف بالمؤلف

بقلم  محمود محمود
مؤلف هذا الكتاب أولدس ليونارد هكسلي Aldous Leonard Huxley وُلد في إنجلترا عام ١٨٩٤م، ولا يزال حتى اليوم على قيد الحياة، لا يني عن الكتابة والتأليف ولا يفتر. وقد بدأ حياته الأدبية شاعرًا، محتذيًا في ذلك حَذو أكثر الكُتاب المعاصرين. ونشر شعره أول الأمر في مجلة هويلز Wheels، ثُمَّ جمعه في ديوانٍ عنوانه «العجلة المحترقة» The Burning Wheel نشره عام ١٩١٦م. وفي هذه السنة عينها اشترك مع غيره من الأدباء في جمع ديوان «شعر أكسفورد» Oxford Poetry. وقد بَقِي شاعرًا طوال حياته، مخالفًا بذلك الكثيرين من أدباء عصره، الذين انحرفوا من الشعر إلى النثر. وهو الآن شاعرٌ ثائر على العالم الذي يقوم على الأسس العلمية، كما أنه ثائرٌ على ازدياد نفوذ العلم في الحياة. وفي إحدى رواياته يتخيل أن الإنسان سوف يتناسل في المستقبل لا عن طريق الحب والتقاء الرجل بالمرأة، ولكن عن طريق العلم، وتكوين الأطفال بطريقةٍ علمية داخل القوارير. وهكذا يُصوِّر لنا هكسلي العلم في صورةٍ تشمئز منها النفوس وتَقشَعرُّ الأبدان. ولعل هذا التطرُّف في الخيال هو الذي جذب إلى هكسلي كثيرًا من القراء.

وهو حفيد توماس هنري هكسلي العالم الشهير الذي تلقى عليه العلم ﻫ. ج. ولز، وبين الحفيد وجَدِّه شَبهٌ كبير في الصورة والقَسَمات. وينحدر هكسلي من ناحية أمه من أسرة توماس أرنولد ناظر مدرسة رجبي الشهير. ومن بين أقربائه من كان أستاذًا، ومن كان عالمًا، أو شاعرًا، أو روائيًّا. فلو تصورنا هذه المجموعة من الرجال الممتازين حول فراش مولده عام ١٨٩٤م أدركنا ما في دمائه من مواهب. وقد استطاع بقلمه وذكائه أن يرتفع إلى سماء الشهرة.

وهو رجل طويل القامة نحيل القوام، حتى إن أطفال هامستد Hampstead كانوا يَتجمَّعون حوله في شبابه الباكر ويهزءون به. غير أن طول قامته يُخيِّل للناظر إليه أنه يعيش في عالمٍ غير عالمنا، وأنه شامخٌ بعظمته. وما أَبعدَ هذا عن الصواب؛ فإن هكسلي يتحدث إلى كل من يلقاه في سهولة وتواضع. وهو رجلٌ شديد المرح، لا يتصف بالتزمُّت. وهو يستعمل في أحاديثه كثيرًا من غريب اللفظ، لا لأنه يتكلف في الحديث، ولكن لأن الرجل غريبٌ في تفكيره، وهو بحاجةٍ إلى هذه الألفاظ يُعبِّر بها عما يختلج في نفسه. وهو مُولَع بلقاء الشواذِّ من الناس، ومشاهدة الشاذِّ من المناظر؛ لأن به ميلًا نحو الشذوذ.
وقد قاسى كثيرًا وهو في طفولته من ضعف بصره، الذي كاد أن يفقده ويعيش ضريرًا أعمى البصر. وقضى أيامًا كثيرة وحده في غرفةٍ مظلمة لا يستطيع القراءة، ولا تقع عيناه على شيء، فانقلب إلى دخيلة نفسه يُفكِّر فيها ويتأمَّل. وكان لهذه الفترة أثرها الكبير في كل ما كتب فيما بعدُ. وزال الخطر، واسترد الكاتب بصره، ولكنه لا يزال ضعيف النظر. وتَعلَّم في أكسفورد، وفيها نشر بعض قصائده كما قدَّمْت. وبعدما أتم دراسته في الجامعة اشتغل بالصحافة، ونشر عدة مقالاتٍ جمعها في كتابه «على الهامش» On the Margin ثُمَّ جمع بعضًا من قصصه في كتابٍ سمَّاه «السجن Limbo»، وهو فاتحة عهدٍ جديد في حياته الأدبية.
وبعد «السجن» مارس كتابة الرواية الطويلة، مُستوحيًا فيها الكاتب توماس بيكوك Thomas Peacock المعروف بسَعة الاطلاع وبروح التهكُّم. وقد أخذ هكسلي عنه منهجه في الرواية؛ فلم يكن في يوم من الأيام روائيًّا بالمعنى الصحيح، إنما هو رجلٌ واسع الاطلاع متهكِّم من الناس. وله قدرةٌ عظيمة على القصة القصيرة، ولكنه حينما يحاول القصة الطويلة يتخذ من خياله الروائي وسيلةً لِبث آرائه.
وهو كاتبٌ متنوع المواهب متنوع الموضوعات. يقول عنه أخوه جوليان Julian إنه الرجل الوحيد الذي يحمل معه دائرة المعارف البريطانية حينما يقوم برحلةٍ طويلة أو يطوف حول العالم. ولكنه — برغم اطلاعه الواسع — لا يقتصر عند حد النظر، بل يتعداه إلى العمل. يستمتع بالفكر كما يستمتع بالحس. فهو كثير الإدمان في القراءة، ولكنه رجلٌ اجتماعي حي. وقَلَّ من الناس مَن يجمع مثله بين هاتَين الصفتَين.
وفي مجموعة قصصه التي جمعها تحت عنوان «السجن» وفي روايته «الكروم الأصفر» Crome Yellow تَتبيَّن قدرته العظيمة على السخرية من المُتكبِّرين والأدعياء. ورواياته مليئةٌ بالصور الإنسانية التي تتميز بالتهكُّم المرِح، وقد خص بسخريته أبناء الطبقة الراقية، فأثار على نفسه سَخَطهم، ولكنه لم يعبأ بهم ولم يكُفَّ عن الضحك منهم. وفي روايته «الكروم الأصفر» يُعلن تلك المشكلة الكبرى التي حاول أن يحلها في كل ما كتب، جاء في هذه الرواية العبارة الآتية:

يدخل الرجل هذه الدنيا ومعه آراءٌ مُجهَّزة عن كل شيء، وله فلسفةٌ يحاول أن يُخضع لها الحياة. في حين أنه كان من الواجب أن يحيا المرء أولًا، ثُمَّ يحاول بعد ذلك أن يلائم بين فلسفته وبين الحياة كما عرفها … إن الحياة والحقائق والأشياء مُعقَّدة تعقيدًا شديدًا، مع أن الآراء — مهما تعسَّرَت — تخدعنا ببساطتها. كل شيء غامضٌ مضطرب في عالم الحياة، وكل شيء واضحٌ في عالم الآراء. فهل من العجب بعد هذا أن يكون الرجل منا بائسًا في حياته تعسًا؟

ويتبيَّن لنا من هذا أن هكسلي لا يحب أن يتشبث بالمبادئ والأصول وقواعد العلم، وإنما يُقيم وزنًا كبيرًا للمعارف العملية وتجارب الحياة. كان هكسلي من رجال الفكر، وهو يفخر بذلك، ولكنه — برغم هذا — كان قادرًا، بل ومتحمسًا، على أن يستفيد من الخبرة والتجربة.

وصل إلى لندن بعدما أَتمَّ دراسته الجامعية ورأسُه مُفعَم بالنظريات. ثُمَّ أَحَس بشيء من القلق، ولم يطمئن إلى نظرياته كل الاطمئنان، وأدرك أنها لا تعالج مشاكل الحياة الكبرى، فتُتمِّم الرأي بالخبرة، والعلم بالتجربة. أدرك أن حُجرة المُعلِّم لها جمال البساطة، ولكنَّ بالأرض والسماء كنوزًا غنية من المعارف لا تخضع لأي نظامٍ فلسفي، ولا يحلُم بها رجال الفكر. أدرك هكسلي بعد قدومه إلى لندن أن آراءه لا تُقنعه كل الإقناع، واشتغل بالصحافة، ورأى عن كثبٍ سلوك الرجال والنساء، وكيف تسير الأمور، فتَعلَّم ألوف الأشياء التي لم يتطرق إليها منهج الجامعة. فجمع هكسلي بين الثقافة النظرية والخبرة العملية.

وهكسلي من أبناء الطبقة المتوسطة، لا هو بالغني الذي يتوفر له الفراغ، ولا بالمُعدِم الذي يشغل وقته كله بكسب القوت. وقد تأثر بهذا الوضع الاجتماعي في أدبه، فسخِر من أبناء الطبقة الرفيعة، كما عبَّر عن تقزُّزه واشمئزازه من الفقر المُدقِع، وإن كان يعطف على الفقراء. وانتهى هكسلي إلى شيءٍ من اليأس، لا يرى نفعًا في أي شيء.

ثم ملَّ النقد والسخرية، وانصرف إلى التفكير في مستقبل العلم والعلماء، فكتب من بين ما كتب روايته «عالمٌ جريءٌ جديد» Brave New World، وفيها يُعبِّر عن خوفه من سيطرة العلم على حياة الناس. يُصوِّر في هذا الكتاب مدينة العلماء الفاضلة بكل ما فيها من مساوئ، وهو يرى أن العالم الجديد — عالم العقاقير والآلات — تنتفي منه العاطفة والشعر والجمال. في هذا العالم الجديد كل شيءٍ آلي، وكل شيءٍ مرسوم، أو محفوظٌ في قارورة، والصفة الإنسانية تكاد تنعدم. ولعل هكسلي من بين الكُتاب الأحياء جميعًا الكاتب الوحيد الذي يستطيع أن يُصوِّر نتائج العلم بجرأة ووضوح، وهو في هذا الكتاب عالم وشاعر، يرسم لنا صورةً مُدهشةً يَتقزَّز منها القارئ كما تقزز منها الكاتب.
ونقدي لهذا الكتاب — بل ونقدي لأكثرِ ما كتب هكسلي — أنه سلبي؛ أي إن الكاتب يسخر ويَتقزَّز دون أن يُقدِّم لنا جديدًا. فهو يهدم ولا يبني، إذا ذهب إلى السينما شاهد قصصًا يقشعر لها بدنه، والجمهور المحتشد في دار السينما في عينَيه قذِرٌ بليد في جسمه وعقله. آراؤهم سخيفة، وهم مخدوعون في أنفسهم أكبر خداع. وإن قرأ الكتب ألفاها سخيفةً ومليئة بالآراء الوضيعة. وإن رحل إلى بلدٍ جديد ألفى سكانه أغبياءَ بُلهاء، لا يختلفون عن أولئك الذين خلَّفهم وراءه في أرض الوطن. وإن بحث في السياسة وجدها فاسدة، وفي الأخلاق ألفاها دنِسة، وفي الروحية لم يجدْها سوى مجرد «انتقال أفكار» telepathy، وفي مملكة الحيوان رآها تأكل وتتناسل وتتكاثر بغير فهم أو إدراك. وهكذا الأمر فيما يتعلق بالمدينة الفاضلة العلمية؛ فهي ليست إلا خيال فئةٍ من العلماء تمتلئ رءوسهم بالتفكير المادي، وتخلو قلوبهم من شعلة الروح.

ولا يذكر لنا هكسلي في أكثر ما كتب ما مَثلُه الأعلى الذي يرمي إليه. وهو يفعل ذلك إلى درجةٍ ما في كتابه «عالم جريء جديد»؛ فهو هنا ينادي بالعودة إلى البساطة القديمة، وإلى الأمومة الصحيحة، إلى الأطفال ترعاهم أمهاتهم، وإلى الريف الذي لم يُلوَّث بالعلم والمادة، ولم يتعرض هكسلي لبحث المُثل العليا، وإصلاح عيوب المجتمع بصورةٍ جدية إلا في كتابه هذا «الوسائل والغايات» الذي نقدمه اليوم إلى القارئ العربي.

ويتعجب هكسلي لكمية الجهل في العالم، ولضعف النظرة التركيبية عند المُفكِّرين والباحثِين. وهو يريد أن يعرف كل شيء، ويعتقد أنه لا يستطيع أن يصل إلى قرار في شأنٍ من شئون الحياة إلا إن أدرك كل شيء؛ ولذا تراه لا يني عن الدرس والتحصيل. ويميل هكسلي إلى إخضاع المظاهر المختلفة إلى قاعدةٍ واحدة شاملة، وقد يستطيع في مقتبل العمر أن يقود العالم إلى الخير والسعادة.

وفي كتابه هذا «الوسائل والغايات» عرضٌ ونقدٌ وإصلاح لوسائل الحكم والإدارة الحديثة، وللحروب، وفكرة المساواة، والتعليم والدين والمعتقدات والأخلاق. وقد عرضناه على القارئ العربي مُسهبِين حينًا ومُوجزِين أحيانًا. وقد أَوجَزتُ بصفةٍ خاصة في الفصول الأخيرة من الكتاب التي بحث فيها هكسلي المعتقدات والأخلاق؛ لأنه كان فيها هدامًا أكثر منه منشئًا.

وإنا لنرجو أن يجد كل محب في الإصلاح الاجتماعي هدايةً في هذا الكتاب، والله ولي التوفيق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤