مقدمة

إن الإنسان الذي يَتَّسِم بالنقص والضعف، ويتميز مع ذلك بذكاء استثنائي — أتاح له في نهاية المطاف بسْطَ سيطرته على الأرض — لطالما سعى إلى التعرف على ذاته وتحديد هويته.

وقد بدأ بطبيعة الحال بتحديد هويته نسبةً إلى بقية الكائنات الحية التي تعيش معه على سطح الكوكب مثل «الحيوانات» التي تتشابه سلوكياتها مع سلوكه في العديد من الأمور، على الأقل فيما يتعلق بالسلوكيات الأكثر تعقيدًا. ولكنه اضطُرَّ مؤخرًا إلى مقارنة قدراته بقدرات كائنات اخترعها هو بنفسه بفضل ذكائه، ألا وهي «الآلات»1 التي يزداد تعقيدها أكثر فأكثر، والتي من شأنها أن تتخطاه في بعض المجالات، والتي يدفع تطورها المنتظم إلى الاعتقاد أن أداءها في المستقبل قد يكون أكثر قربًا من أدائه.

هذا هو النهج المزدوج الذي أردنا اتباعه هنا بالمقارنة بين البشر والكيانين المعقَّدَيْن اللذين يُقاسِمانِه حياته من الآن فصاعدًا: الكائنات الحية والكائنات التقنية؛ أي التقنيات، وذلك في الميادين الرئيسية التي تتعلق بإنسانية الإنسان؛ أي قدراته العاطفية أو الفكرية وعلاقاته مع الحيوانات أو مع الآلات، وأخيرًا الخصائص التي يتميز بها.

ومن أجل بلوغ هذه الغاية، فإن هذا العمل وليد تعاون بين عالِمِ أحياء فيلسوفٍ في علم الأحياء وهو جورج شابوتييه، وبين مهندسٍ متخصص في الذكاء الاصطناعي وواجهات الاستخدام التي تُعَدُّ وسيلةً للتواصل بين الإنسان وأجهزة الكمبيوتر، وهو فريدريك كابلن. وجورج شابوتييه هو مدير الأبحاث بالمركز القومي الفرنسي للبحث العلمي ومؤلف العديد من الكتب حول الحيوانات وعلاقاتها بالإنسان. أما فريدريك كابلن، فهو يُشرِف حاليًّا — بعد عشرة أعوام من القيام بأبحاث لصالح شركة سوني — على فريق يصمِّم أجهزة كمبيوتر من طراز جديد، وذلك بكلية الهندسة الفيدرالية بلوزان. وبغية ألَّا يُصبح هذا الكتاب معقدًا ومجردًا، وقع الاختيار على تناول موضوعه عبْرَ سلسلة من الفصول القصيرة واليسيرة الفهْم والمنفصلة التي تتجمع معًا لتكون مرجعًا صغيرًا «لكل ما تَوَدُّون معرفتَه» حول «الإنسان نسبةً إلى الحيوانات والآلات».

ومن الجدير بالذكر قبل البدء في عرض هذا المرجع أن نُعرِّف مصطلحَيْ «حيوان» و«آلة» اللذين سيسمحان لنا على مرِّ الصفحات بفهْم الإنسان وتعريفه.

يُعَدُّ مصطلح «حيوان» غامضًا؛2 لأنه قد ينطبق على الحيوانات باستثناء الإنسان منها أو الحيوانات بما فيها الإنسان. وسوف نرى لاحقًا أن الإنسان حيوان ولكن من نوع خاص. وعلى صعيد الدقة العلمية، ربما يكون أكثر دقة أن نتحدث عن الحيوانات بما فيها الإنسان وعندما نشير إلى النحل أو الشمبانزي، فنحن نتحدث عن حيوانات غير الإنسان. لكننا فضلنا مع ذلك أن نتبع العادة الأكثر شيوعًا ولكن الأقل دقة علمية، ألَا وهي الحديث عن الحيوانات باستثناء الإنسان منها، وذلك ليس تشكيكًا منا بأيِّ حال من الأحوال في النتيجة التي سنتوصل إليها، ألَا وهي أن الإنسان هو عن حقٍّ حيوانٌ! ولكن يرجع ذلك إلى سببين رئيسيين؛ أولُهما: أن ذلك هو المفهوم الشائع للمصطلح الذي يُفرِّق، لأسباب وجيهة، بين الإنسان والحيوانات التي تُجاوره في الممارسات اليومية، ومن الأنسب أن نستخدم اللغة التي يَفهَمها الجميع. وثانيهما: أن القول إن الإنسان حيوان، هو أيضًا نتيجة للبراهين التي سنعرضها في الكتاب؛ فبدا لنا أنه من الأفضل من الناحية العلمية ألَّا نستبق النتائج التي سنتوصل إليها.

أما مصطلح «آلة» فهو يعني جِهازًا صُنع بغرض تلبية أهداف معينة. وقد يقوم شخص بإدارة الآلة، أو قد تعمل من تلقاء نفسها. وقد تحتاج لتشغيلها إلى مصدر للطاقة أو وقود أو كهرباء أو جرٍّ من جانب حيوانات أو طاقة بشرية بواسطة ذراع تدوير، على سبيل المثال. وليس ثمة فارقٌ بين الأداة والآلة إلا بقدْر إمساك الإنسان بها أو دعم آلة أخرى لها. فالمنجل أداةٌ ولكن الحصادة آلة. وسوف نستخدم في هذا الكتاب مصطلح «آلة» بمعناه الواسع مشيرين بذلك أيضًا إلى الآلات الميكانيكية أو الحاسوبية أو الآلات المعتمدة على الهواء المضغوط. ونحن نهتم بصفة خاصة بدرجة الاستقلال الذي قد تصل إليه الآلة، وأيضًا بالطرق المختلفة التي قد تتواصل بها مع الإنسان؛ لذا سوف نستند إلى نتائج حديثة في مجال الذكاء الاصطناعي وواجهات الاستخدام، وسوف نتطرق أيضًا إلى الروبوتات التي تُعَدُّ حالةً خاصة من الآلات المتعددة الاستعمالات والقابلة للبرمجة.

وينقسم كل موضوع يتم مناقشته إلى قسمين يتناولانه على التوازي نسبةً إلى الحيوانات من جهة وإلى الآلات من جهة أخرى. سنناقش أولًا قدرات الحيوانات والآلات على التعلُّم، وعلى امتلاك نوع من الوعي، وعلى الشعور بالألم، وعلى امتلاك ثقافة، وهي كلها طِبَاعٌ اعتقد الناس في بعض فترات التاريخ أنها مقصورة على الإنسان. وسندرس بعد ذلك علاقاتنا بالحيوانات والآلات وروابطنا المشتركة والطرق التي تساعدنا بها على التفكير في أنفسنا، وسنحاول في النهاية الوقوف على ما يُميِّز الإنسان في مواجهة الحيوانات ذات القدرات الكبيرة والآلات فائقة التعقيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤