الفصل التاسع

الأخلاق

(١) هل تمتلك الحيوانات أخلاقًا؟

كما رأينا للتوِّ في الفصل السابق، توجد ثقافات «أولية» لدى الحيوانات، وفي الإطار ذاته توجد أيضًا أخلاق «أولية». وسنناقش هنا هذه المسألة الخاصة المتعلقة بالأخلاق.

ولقد اطَّلعنا أيضًا فيما سبق على الأبحاث النموذجية التي قام بها فرانس دي وال وزملاؤه حول قطعان الشمبانزي. وتسمح بعض أجزاء هذه الأعمال المُستخرَجة من العديد من كتب دي وال بالإجابة عن هذا السؤال.

(١-١) أخلاق الشمبانزي

يذكر دي وال أن الشمبانزي قادر على التحلي بالعديد من السلوكيات التي قد نَصِفُها نحن البشر بأنها «أخلاقية» كإبداء التعاطف أو التعلق بالآخر أو مساعدة المعاقين أو الجرحى. وبصفة عامة، يمتلك الشمبانزي سلوكيات اجتماعية تسمح بأن يعمل القطيع بصورة متناسقة، ومن بين هذه السلوكيات نجد التفاوض والتعزية والتعاون والعقاب والمصالحة. ويلاحظ دي وال1 أنه يترتب على ذلك «أن الإيثار ليس حكرًا على جنسنا البشري». فتظهر إذن الأنظمة الأخلاقية، أو الأخلاقية الأولية، التي تضمن حياة متناسقة بداخل مجموعة اجتماعية، في أعقاب «التعارض بين المصالح الفردية والمصالح الجماعية».2 وبداخل هذه السلوكيات أو الأنظمة الأخلاقية (الأولية) اهتمَّ دي وال بدراسة الآليات الاجتماعية للمصالحة، التي تتفق مع ما نسميه في الأخلاق الإنسانية «العفْو». ولنقرأ من جديد الاستنتاج الذي توصل إليه:3 «إن العفو ليس […] فكرة غامضة وعظيمة تعود إلى آلاف السنين قبل ظهور الديانتين اليهودية والمسيحية […] فإن امتلاك القِرَدة والقِرَدة العليا والإنسان لسلوكيات المصالحة يعني أن العفو ربما يوجد منذ أكثر من ثلاثين مليون عام، وأنه يسبق الانفصال الذي حدث في تطور رتبة الرئيسات من الثدييات.»

(١-٢) الأسس الطبيعية للأخلاق

في إطار هذه السلوكيات «الأخلاقية الأولية»، ينبغي أيضًا ملاحظة أنه بغضِّ النظر عن الشمبانزي فثمة اهتمامات أخلاقية تُعتبر «إنسانية» مثل الاهتمام الخاص بالأطفال، وتَنتُج هذه الاهتمامات، لأسباب تطورية واضحة، عن احتياجات طبيعية للفصيل لحماية صغاره. ويجب أن نلاحظ أيضًا أن «هذا الاهتمام الخاص بالأطفال» يوجد بالطبع لدى العديد من الفصائل الحيوانية الفقارية سواء أكانت اجتماعية أم لا. وباتباع فكرة فلاك ودي وال4 وتطبيقها على كل الفقاريات، نلاحظ أنه يوجد لدى رتبة الرئيسات بأكملها، وبلا شك لدى غالبية الفقاريات، ما يسميه المؤلفون ﺑ «كتلة بناء قاعدية» للأخلاق تتعلق في آنٍ واحد بالقدرة على الاهتمام ببعض القواعد الاجتماعية الكبرى، وبوجود هذه القواعد في حد ذاتها، وهي «كتلة بناء»، قد نكون نحن أيضًا مرتبطين بها.

فتوجد إذن «أسس طبيعية للخُلُق» تتأصل في مملكة الحيوانات، ولا سيما لدى الحيوانات التي تعيش في جماعات والتي ينحدر منها الإنسان، ولكنها لا تقتصر على هذه الفئة دون غيرها. ولا تستبعد هذه الأسس الطبيعية بالطبع معاملة إنسانية بحتة واستدلالية للأخلاق تقوم على اللغة والتفكير المجرد وهما سمتان من سمات جنسنا البشري. وتُعتبر هذه الأخلاق الاستدلالية، شأنها شأن الأخلاق الدينية أو أخلاق كانط، مميِّزةً للجنس البشري، فحتى بعض الحيوانات شديدة الذكاء مثل الشمبانزي لا تستطيع ابتكار هذه «الأخلاق الاستدلالية».

إلا أن دي وال قد استنتج في هذا الصدد ملاحظة طريفة جدًّا وقد تكون في آنٍ واحد بمنزلة استنتاج وتساؤل: «لا تُعَدُّ الحيوانات بالطبع فلاسفة في الأخلاق، ولكن كم عددُ البشر الذين يمكن إطلاق هذا اللقب عليهم؟»5

(٢) هل يمكن للآلات أن تكون لديها أخلاق؟

(٢-١) بعض مصمِّمي الروبوت يتبعون إسحاق أسيموف حرفيًّا

عندما ألَّف الكاتب إسحاق أسيموف سلسلته الروائية الشهيرة عن «الروبوتات»، اهتم بشدة بالابتعاد عن القصص التقليدية للمخلوقات التي تنقلب على خالقها. وكان استدلالُه هو التالي: «لقد اعتدْنا على العيش بجانب أشياء قد تكون خطيرة ولكننا دائمًا ما استطعنا ملاءمتها مع استخداماتنا؛ فللسكاكين مقبض وللدَّرَج درابزين.» وبهذه الطريقة تخيل القوانين الثلاثة لتصميم الروبوتات، وهي قوانين دقيقة ومنطقية وواضحة، ومن المفترض أنها تتحكم في سلوكيات أي روبوت يُصمِّمه الإنسان، وهو خُلُق فطري يمكن أن تُزوَّد به أيُّ آلة.

القانون الأول: لا يستطيع الروبوت إلحاق الضرر بإنسان، ولا السماح بإلحاق ضرر به بالامتناع عن التصرف.

القانون الثاني: يجب أن يطيع الروبوت أوامر الإنسان، إلا إذا تعارضت هذه الأوامر مع القانون الأول.

القانون الثالث: يجب أن يدافع الروبوت عن بقائه لأطول فترة ممكنة بصورة لا تتعارض مع القانونين الأول والثاني.

وبفضل هذه الحبكة الروائية الفعالة، ألَّف أسيموف سلسلة من القصص التي كان أبطالُها من الروبوتات التي تبدو للوهلة الأولى كأنها تتصرف في تعارض مع هذه القوانين، إلا أنها تتبعها مفسرة إياها كلٌّ بطريقته.

وقد تساءل عدد من المهندسين الذين قرءوا روايات أسيموف في اندهاش حول إمكانية فرض هذه القوانين على روبوتات حقيقية، وفي بعض الحالات وضعوا قواعد لسلوكيات مشابهة يعتقدون أنه يجب تزويد الآلات المستقبلية بها. ولا تصعب ملاحظة أن تطبيق هذه الفكرة ليس واردًا. فما هو الإنسان؟ وما هو الإيذاء؟ لا توجد أي طريقة لتعريف هذين المصطلحين بصورة واضحة بما يكفي لكي نفكر في فرضها على آلة ما. فتكمن الطريقة الوحيدة للاحتماء من الأضرار المحتملة للآلات المستقلة في مجرد التأكد من أنها مَهْمَا فعلتْ فلن تستطيع الإيذاء. وبالإضافة إلى ذلك، تنطبق التشريعات التي تنظم تسويق المنتجات الإلكترونية على مثل هذا السياق بصورة جيدة، فالروبوتات التي تُباع حاليًّا صغيرة ومزودة بآليات أمانٍ تُبطِل مُحرِّكَها بمجرد الشعورِ بمقاومة قوية. ويُعتبر هذا النوع من «صمام الأمان» أكثر أمانًا من القوانين التي تخيلها أسيموف (انظر الفصل الرابع عشر).

(٢-٢) يمكننا تزويد الآلات بدوافع «أخلاقية» خارجية

ومع ذلك فإن المسألة المتمثلة في إمكانية برمجة شكل من الأخلاقيات في آلة ما تظل مطلقة. وتكمن الطريقة الأولى في التفكير حول أنظمة القيم (انظر الفصلين الثاني والسادس) التي قد تؤدي بصورة غير مباشرة إلى سلوكيات نريد وصفها بأنها «أخلاقية». ومن الممكن برمجة نظام قيم يقود آلة إلى «الاعتناء» بآلة أخرى أو مجموعة من الآلات تستطيع تحديدها بلا غموض. ومن الممكن أيضًا برمجة آليات شبيهة بعمليات البصمة البيولوجية لكي تنمي الآلة سلوكًا خاصًّا في مواجهة عوامل مثيرة في بدايات حياتها.6 وربما ترتبط بعض السلوكيات الأخلاقية لدى الحيوانات بهذا النوع من الاقتران بين سلوك ما (للحماية أو الاعتناء أو التعاطف أو حتى المصالحة) ووجود عوامل مثيرة خارجية من نوع خاص سواء أكانت هذه العوامل فطرية أم مكتسبة.

(٢-٣) يمكننا تزويد الآلات بدوافع «أخلاقية» داخلية

تمزج الدوافع الخارجية بين أشياء خارجية خاصة وردود فعل نمطية، وتسمح بتقليد سلوكيات أخلاقية بشرية، ولكنها لا تمنح الآلات مبادئ أخلاقية لتوجيه سلوكها. لذا يتعين إعداد أنظمة قيم داخلية، أي مستقلة عن أي عوامل مثيرة خاصة فتشبه إذن ما كنا قد ذكرناه فيما يتعلق بالفضول الاصطناعي (انظر الفصل الخامس). وينص مبدأ مهمٌّ استكشفه مؤخرًا آدم إبيندال وزملاؤه7 على النحو التالي: «لا تفعل ما لا يمكنك إعادتُه إلى حالته الأصلية من جديد.»

إن الانعكاسية، أي قدرة الآلة على القيام بحركة ثم عكسها والعودة إلى الوضع الأولي ذاته، تُعَدُّ شرطًا أساسيًّا لأي تحكم آلي. ومن الحركات غير القابلة للانعكاس نجد حركة تؤدي إلى تصادم يضر بالآلة، أو حركة تدفع الروبوت إلى الوقوع في حفرة لا يستطيع الخروج منها، أو إلغاء بيانات مهمة على قرص صلب. وإذا كان الهدف من آلة ما هو الحفاظ على سلامتها الجسدية واستقلال عملها، فإن غالبية الحركات غير القابلة للانعكاس تُعتبر حركات ضارة أو على الأقل خطيرة. وكما تستطيع الآلة تعلم التنبؤ بنتائج حركاتها (انظر الفصل الثاني) يمكنها أيضًا تعلم استباق انعكاسية حركاتها، مما يسمح لها باختيار حركات مفضلة يمكنها التنبؤ بانعكاساتها بأفضل طريقة ممكنة. وقد أظهرت بعض التجارب أن الروبوت المزود بهذا الدافع الداخلي يستطيع على سبيل المثال أن يتعلم تلقائيًّا تجنب الاصطدامات، وهو سلوك يَنتُج ببساطة عن هذا المبدأ المجرد. ولكن هل يُعَدُّ مبدأ الانعكاسية مع ذلك مبدأ أخلاقيًّا؟ إنه في كل الأحوال مثال على «مدونة لحسن السلوك» تنطبق على عدد كبير من المواقف المختلفة.

(٢-٤) هل يمكن أن تَظهَر سلوكيات جماعية «أخلاقية» بين الآلات؟

فلنختم هذا الاستعراض السريع لوجهات النظر بشأن أخلاقيات الآلات بأن نذكر إمكانية ظهور أخلاق بصورة تلقائية بين الآلات المتعلمة. فلقد رأينا أن بعض الآلات قادرة على إنتاج ظواهر ثقافية تنتمي لها؛ أيْ ذاكرة جماعية بين الأجيال (انظر الفصل الثامن). ولا نقصد هنا بالضرورة بكلمة «الأخلاق» اتباع مبادئ أخلاقية شبيهة بمبادئ الجماعات الإنسانية أو الحيوانية، بل نقصد ظهور عدد من القواعد السلوكية المشتركة بين أكبر عدد ممكن من هذه الآلات.

وقد أثبتت عدة دراسات في إطار نظرية الألعاب أنه في بعض الحالات قد تظهر بعض الاستراتيجيات وتدوم بين مجموعة من العوامل الاصطناعية.8 وينطبق هذا النوع من الاستراتيجيات على سلوكيات معينة لا يمكن أن تُستبدل بها استراتيجيات بديلة ظهرت في مرحلة تالية، وذلك بمجرد أن يتبناها بصورة جماعية غالبية الفاعلين في جماعة معينة. فتنتشر هذه السلوكيات من جيل إلى جيل، ويمكن وصفها في بعض الحالات بتعاونية أو إيثارية.9 ولكن ما يهمنا في هذه الدراسات هو أن بعض الديناميكيات الجماعية المعقدة قد تُفسِّر إلى حدٍّ ما ظهور سلوكيات أخلاقية، وبذلك يمكن تخيل ظهور مثل هذه السلوكيات بداخل مجموعات كبيرة من الآلات. ولكن حتى لو حدث ذلك فهل سنستطيع الاعتراف بها؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤