الفردية المسئولة

لم يكن بيني وبين زائري معرفة سابقة، فلقد زارني إثر محادثة تليفونية، استأذن فيها أن يتحول الحديث السلكي بيننا إلى مواجهة اللقاء، وما إن بدأ الحديث حين التقينا، حتى أخذ زائري يوجهه وجهة محددة أرادها لنفسه، لعله قد رسمها في ذهنه وهو في طريقه إليَّ.

قال: لقد لبثت تكتب للناس منذ أمد بعيد، فهل لي أن أسأل: أكان لك في كل ما كتبت خط فكري واحد، يمكن تعقبه على مراحل الطريق الطويل؟

أجبته بقولي إن فترة طالت بضع عشرات من السنين، لا نتوقع لها أن تسير على شريط ضيق محصور، اللهم إلا إذا كان السائر جمادًا أو كالجماد، لا تتغير طريقته في الرد على ما حوله من مثيراتٍ وحوافز، إنه ليندر جدًّا أن تجد كاتبًا أو مفكرًا طال به العهد بالكتابة أو التفكير، دون أن تجد سبيله قد دارت به هنا مرة وهناك مرة، لكن هذه التحولات المتعاقبة على طريق السير، كثيرًا ما تخفي سلسلة فقرية واحدة، تحدد للكيان الفكري هيكله ووحدته، ومثل ذلك تمامًا هو ما يحدث للحياة نفسها، إذ قد تتعاور الكائن الحي أطوار وتغيرات، لكنه خلال ذلك كله يظل على هوية واحدة وشخصية واحدة.

نعم، لقد لبثت أكتب للناس منذ أمد بعيد، كتابة كنت أشعر دائمًا أنها إذا انتهت إلى الأسماع مرة، فقد ذهبت مع الريح مائة مرة، ولعل الذي كان ينقصها لكي تسمع هو عملية «التسويق» التي لا أحسن منها شيئًا، وكان الخط الرئيسي عندي، هو إيماني بفردية الإنسان المتميزة عن كل ما عداه، ووجوب المحافظة على تلك الفردية فيه، ثم إيماني بضرورة أن يكون للعقل الإنساني أولوية مطلقة فيما يعرض للإنسان من مشكلات تتطلب الحلول، وذلك لكي يكون كل إنسان مسئولًا عن فعله، فمثل هذه المسئولية لا يكون لها معنًى إذا كانت عواطفنا هي مصدر سلوكنا.

لكن هذه الفردية العاقلة المسئولة، التي أومن بضرورة قيامها، قد تختلف معانيها بعض الاختلاف، كلما تغيرت المعايير الفكرية من عصرٍ إلى عصر، ولهذا الاستدراك أهميته البالغة؛ لأننا بالفعل نعيش اليوم في عصر يحكمه من تلك المعايير الفكرية ما يختلف عن المعايير الفكرية التي كانت تحكم الحياة العقلية عند السابقين، ويكفيني هنا من أوجه ذلك الاختلاف وجه واحد، هو أنه بينما كانت حقيقة الفرد من الناس — بل حقيقة أي شيءٍ من سائر الكائنات — تنحصر في الفرد ذاته، أصبحت حقيقة الفرد من الناس اليوم إنما تتحدد بمجموعة العلاقات التي تربطه بغيره من الأفراد، وفي هذه النقلة من الانحصار في الذات، إلى النظر في الروابط والعلاقات التي تضع تلك الذات في إطارٍ جمعي، أقول إن في هذه النقلة مميِّزًا هامًّا يميز وجهة النظر التي تسود عصرنا، عن وجهات النظر التي سادت عصورًا سلفت، وإنه لمميز لا نراه في البناء الاجتماعي وحده، بل نراه كذلك في صميم النظرة العلمية في هذا العصر الذي نحياه.

الفردية العاقلة المسئولة هي ما أومن به، وهي — فيما أعتقد — ما جاء الإسلام ليدعو إليها، فإمام الإنسان الذي يهديه سواء السبيل هو عقله، الذي يفرق به بين الحق والباطل، والذي على أساسه يريد ما يريده، لكي يكون مسئولًا عما أراده وعما فعله مسئولًا أمام ربه أولًا، وأمام الناس ثانيًا، وكل دعوة تدعوني إلى أن أترك غيري يفكر لي نيابةً عني، وما عليَّ إلا التنفيذ، هي دعوة تدعوني إلى إهدار آدميتي والتفريط في حق نفسي.

وإذا سلمنا بذلك، نتجت لنا عنه نتيجة لا مفر من التسليم بها، وهي أنه لا يجوز لنا أن نطالب، ولا أن نتوقع، بأن يتشابه الأفراد في طريقة النظر، وفي أسلوب العيش، وفي الرأي الذي يبدونه إزاء موقف معين، ولو كان مثل هذا التشابه مفروضًا، لما كان بنا حاجة إلى الشورى.

إن في مصانع الحديد طريقة تُتبَع لتسوية الألواح المعدنية — هكذا سمعت — وهي أن يعدوا سطحًا نموذجيًّا في استوائه، ويطلونه بطلاء ملون، وبعدئذٍ يجيئون بالأسطح الأخرى المراد تسويتها وفق ذلك النموذج، فيضعون الواحد منها فوق السطح النموذجي، ثم يرفعونه، فإذا وجدوا أن بعض أجزائه قد تلونت بلون السطح النموذجي، دون بعضها الآخر، عرفوا أن تلك الأجزاء الملونة هي أجزاء فيها بروز، فيبردونها ليزيلوها لتستقيم مع بقية الأجزاء، وهكذا يكون المجتمع بالنسبة لأفراده، إذا طالبهم بأن يجيئوا جميعًا على صورة نموذجية مفروضة، ومن لم يطاوع ذلك النموذج، بما يكون في طبيعته من تضاريس، أخذ المجتمع في محو تضاريسه تلك لينصب في القالب الذي انصب فيه سائر الأفراد.

وبمثل هذه التسوية بين الأفراد، لا يعود للعقل مكان، إذ فيمَ يفكر العقل، وفيمَ يكون الرأي، إذا كان القالب النموذجي قد أُعِد للجميع على حد سواء؟ وليس من الضروري أن يكون «القالب النموذجي» هذا قالبًا من حديد، بل قد يكون قالبًا قوامه مجموعة من الأفكار، ومجموعة من التقاليد، ثم يقال للناس: تلك هي أفكاركم إذا أردتم فكرًا، وهذه هي طرائق التقاليد المقدسة إذا أردتم سلوكًا، فإذا جاء التفكير عند فرد من الناس مختلفًا، أو إذا جاء سلوكه مغايرًا للوحة المرسومة الجاهزة، أخذوا يزيلون منه مواضع المغايرة والاختلاف على نحو ما يفعل العاملون في مصانع الحديد، حين يريدون لألواح المعدن أن تجيء على غرار نموذج سابق.

لماذا كان الإسلام آخر الديانات؟ عن هذا السؤال يجيب محمد إقبال بقوله: إن ذلك قد كان؛ لأن الإسلام جعل التحكيم للعقل، ولم يجعله لتقاليد الأسلاف، إذ لو كانت التقاليد هي مدار الحكم فيما يجوز وما لا يجوز، لكان الناس بحاجةٍ إلى رسولٍ جديد كلما اقتضت ظروف الحياة الجديدة معايير جديدة غير المعايير التي جسدها الأسلاف في تقاليدهم. أما وقد أصبح الحكم للعقل، فالعقل وحده كفيل بأن يجد الحكم الصحيح لكل ظرفٍ جديد، وإذا قلت إن الأمر موكول للعقل، فكأنما قلت بالتالي إنه ليس من حق أحد أن يقيم لنا النموذج الذي نسوق على غراره أفكارنا وأفعالنا، إلا إذا كان من حق الآخرين كذلك أن يناقشوه، وفي المناقشة قد تتعدد الآراء وتختلف وجهات النظر.

على أن نصرة العقل لا تنفي أن يكون في رحاب الحياة الإنسانية جوانب أخرى متروكة للعواطف، فلا هي تعتدي على ميادين العقل، ولا العقل بحاجةٍ إلى الاعتداء عليها، فلم يقل أحد أن قيسًا أحب ليلاه بعقله بناء على تجارب المعامل وأرقام الإحصاء، ففي طبيعة الإنسان غرف كثيرة، ويراد له أن يسكنها جميعًا، ليؤدي في كل غرفة ما تتطلبه ظروفها، وحتى لو تصورنا أن تلك الغرف الكثيرة مفتوح بعضها على بعض ليتكون منها إنسان واحد، فسوف تظل لكل غرفة ملامحها التي تميزها عن سواها، فإذا كنت في غرفة العقل تناقش موضوعًا من موضوعات العلم أو من موضوعات الحياة العملية، فلا بد من التزام العقل بكل حدوده، ولك بعد ذلك أن تدخل غرفة العواطف لتمرح في رحابها حيث شئت، فيما تكون العاطفة فيه هي الوسيلة أو الهدف.

ويحدث الخلط عندما تكون الدار ذات غرف كثيرة، لكنك لا ترى منها إلا غرفة واحدة، تجعلها للنوم والجلوس والأكل والدراسة! يكون الأمر المعروض للنظر أمرًا عقليًّا، فتقحم فيه العواطف أو التقاليد، أو يكون الأمر المعروض للنظر أمرًا من أمور العاطفة أو العقيدة، فتقحم فيه العقل بمنطقه وعلومه وتجاربه! وانظر إلى هذا السيل الدافق حولنا من كتب تخرجها المطابع كل يوم، يناقش فيها أصحابها الدين بالعلم أو العلم بالدين، فيسيئون إليهما معًا.

لقد عرض مثل هذا الخلط بين الجانبين لأبي العلاء المعري، فاستنكره بطريقته الخاصة، إذ قال ما معناه: إن أهل الأرض أحد رجلين، فإما أن يكون الرجل ذا عقل فلا يكون له دين، وإما أن يكون ذا دين فلا يكون له عقل، ولعله أراد بذلك أن يقول شيئًا كالذي نقوله، وهو أن الوقفة العقلية في مجالها، مستقلة عن الوقفة الدينية في مجالها، وكان الأصوب ألا يقول أبو العلاء إن الناس في ذلك صنفان، بل أن يقول إن كل إنسان هو ذو جانبين في فطرته، كلاهما ضروري، ولكل منهما مجاله، وليس من الخير أن يتداخل المجالان بالقدر الذي يعرقل كل منهما سير الآخر.

قلت لزائري: لقد سألتني عن الخط الفكري الذي تنطوي عليه كتاباتي على اختلاف موضوعاتها، وعلى طول الأمد الذي امتدت خلاله، فأقول إنه الإيمان بأن الفرد الإنساني مسئول عما يفعل، وأن هذه المسئولية لا تعني شيئًا إذا لم يكن العقل وحده هو مدار الحكم في كل المسائل التي نطلب فيها التفرقة بين الصواب والخطأ، أما الموقف الذي تسوده عاطفة، فلا خطأ فيه ولا صواب؛ لأن المرجع فيه إلى القلب، وما ينبض به.

إننا إذ جعلنا شعارنا «العلم والإيمان» قد وقعنا على هذه التفرقة بين الجانبين وقوعًا صحيحًا، فلو كان أحدهما كافيًا لاكتفينا به دون الآخر، ولو كانا مترادفين بمعنًى واحد لما فرقنا بين اللفظين، لكنهما جانبان ضروريان معًا لكل إنسانٍ يريد لنفسه حياة تحقق فطرته السليمة، فالعلم عقل، والإيمان عاطفة، وبالعقل والعاطفة معًا يحيا الإنسان السوي السليم، ولا حاجة بنا إلى هذه المحاولات التي لا تنقطع، والتي يريد بها أصحابها أن يبينوا لنا بأن أحدهما هو الآخر، ولو رأينا في هذه المحاولات كسبًا لأي من الجانبين، لعذرنا أصحابها، لكن لا العلم يكسب شيئًا منها ولا الإيمان.

الفردية العاقلة المسئولة، هي التي آمنت بها وسأظل أومن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤