تراجم الأعلام

نعم لا بد من الترجمة لأعلامنا، ماضيهم وحاضرهم على السواء، وإلا فمن أين لشبابنا أن يرى الصور التي تكثفت فيها خصائص أمته وملكاتها؟ إنه لكثيرًا ما قيل عن التربية الخلقية إنها تركزت على ركيزتين، هما: «المبدأ» و«المثال»، أما المبدأ فهو الذي تقول به للناس من الوجهة النظرية أنه يجب علينا أن نفعل كذا، وأن نستهدف كيت، كهذا الذي نصبح فيه مع الصحافة والإذاعة، ثم نمسي، ونعود فنصبح مع الدعوة نفسها، ثم نمسي، دون أن تغير الدعوة شيئًا في يومنا عما كان عليه في أمسنا كأن نقول: يجب أن يؤدي كلٌّ منا عمله بما وسعه من أمانة وإتقان مهما كان نوع العمل ومهما كان موقع العاملين فيه، ويجب أن ننظر إلى مال الدولة نظرتنا إلى مالنا، ويجب أن نمكن للأذكى والأمهر والأكفأ من تولي مناصب الرئاسة والريادة، سواء أكان من ذوي القربى أم لم يكن … هذه وأمثالها «مبادئ» نبدي فيها كل يوم ونعيد، وهي على كل حال إحدى الركيزتين اللتين كثيرًا ما قيل عن التربية الخلقية أنها ترتكز عليهما وأمثال هذه المبادئ هي التي نسمعها في موعظة الجمعة من كل أسبوع منذ لا أدري كم مائة من السنين.

وأما الركيزة الثانية — وهي التي كان ينبغي لها أن تكون الأولى والثانية معًا — فهي «المثال»، بمعنى أن تجسد ما تريده من المبادئ في أشخاص حقيقيين، عاشوا تلك المبادئ دون أن يرددوا ألفاظها، بل ربما كانوا لو سُئلوا عنها لما عرفوا بماذا يجيبون؛ لأنهم يحيون الأخلاق حياة فعلية دون أن تكون لهم دراية نظرية بمبادئها.

والطريقة إلى تقديم «المثال» هي أن يضطلع كاتب بترجمة لحياة شخص شهده تاريخنا — القديم أو الحديث — فشهد منه موقفًا عمليًّا كان بمثابة التطبيق الفعلي لما نريد لأنفسنا من طرائق الفكر وقواعد السلوك، والحق أننا لم نغفل أبدًا في أي مرحلة من مراحل تاريخنا الأدبي، عن كتابة التراجم للنوابغ لنحقق ذلك الهدف، إما عن قصد مباشر وإما عن غير قصد، ولك أن تنظر في أدبنا الحديث والمعاصر وحده، لترى كيف انكب كل من حمل فينا القلم، على الترجمة لأبطال الماضي أحيانًا، وللنوابغ المحدثين والمعاصرين أحيانًا، العقاد وعبقرياته الكثيرة، وطه حسين والخلفاء الراشدون الأربعة، هيكل والحكيم وحياة الرسول عليه السلام. إلى آخر السلسلة الطويلة المسرفة في الطول، وعلى اختلاف درجات الكاتبين ودرجات المكتوب عنهم.

إلى هنا والواجب الأدبي قد تأدى على أيدي كبار أدبائنا وأواسطهم والصغار، لكن الشيطان لا يدعني دون أن يوسوس لي؛ ليحملني على السؤال: هل أفلحت تلك التراجم الكثيرة في ترسيخ «المثال» في أذهاننا حيًّا مجسدًا؟ وأخشى أن يكون الجواب بالنفي؛ لأن تلك التراجم الكثيرة لو كانت قد أفلحت، لانصبت المبادئ في عروقنا، ثم نبضت حية في سلوكنا، وما كانت بنا حاجة إلى أن نصبح ونمسي مع الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام فيما يجب وما لا يجب ولا يجوز.

فأين وجه النقص فيما كتبه أدباؤنا في هذا الميدان؟ لماذا وضعوا لنا الدواء في الكئوس فلم تزل العلة، حيث كانت في أبداننا ونفوسنا؟ وها أنا ذا سأحاول الجواب.

وقبل أن أبدأ المحاولة بالنسبة إلى ما كتبه الكبار جادين، يحسن بي أن أزيح عن الطريق فريقًا من الصغار كثر بيننا هذه الأيام، من الصنف الذي أشار إليه الأديب الإنجليزي «إديسون» — في القرن الثامن عشر — حيت قال عن هؤلاء أنهم يترقبون نزول الموت بأصحاب الأسماء اللامعة، حتى إذا ما جاء أحدهم الأجل، وجدت هؤلاء منذ صباح اليوم التالي وكأنهم يحومون حول شواهد القبور؛ ليمسكوا بالجثمان قبل أن تجف عصارته، فيمتصوا عظامه، ثم يلقوا بها وراء ظهورهم؛ ليلتقطها من بعدهم المعلقون في الصحافة الأدبية، ليتأتوا على ما بقي عالقًا فيها، هؤلاء الصغار يترقبون موت العظيم، كما يترقبه حفار القبور، لعله يجد في الكتابة عنه قرشًا أو قرشين.

وموضع التفاهة في هؤلاء الصغار، هو أنهم يسردون تفصيلات الحياة الظاهرة، بل ويحاولون أن يجعلوا ذلك السرد أقرب إلى قفشات الظرفاء في المقاهي، وأما صميم العمل الذي كان العظيم من أجله عظيمًا، فذلك ما ليس يظفر عندهم بجهد؛ لأنه فوق جهودهم، ولا غرابة أن نسمع عن فئة من كبار الأدباء في إنجلترا، أنهم أوصوا قبل موتهم ألا يسمح لأحد بالترجمة لحياته، من هؤلاء كان «سومرست موم» و«جورج أورويل» و«ت. س. إليوت»، ولقد قال قائلٌ منهم في ذلك موجهًا الخطاب إلى هؤلاء الذين يحومون حول شواهد القبور الحديثة العهد بحثًا عن القروش قال القائل في ذلك: اكتبوا ما شئتم عن الأديب الراحل من رسائل جامعية ومن نقد منهجي، ومن تحقيق للنصوص ونشرها، وأما أن تترجموا ﻟ «حياته» فلا.

لماذا كان هذا الحرج من ترجمة «الحياة»، مع أن هذه — كما قلت — هي الوسيلة الوحيدة الفعالة في أن نرسم أمام الشباب صورة لخصائص أمته وملكاتها مجسدة في شخص حيٍّ من لحم ودم؟ مصدر الحرج هو صعوبة التراجم، برغم استخفاف صغار الكاتبين لها، وهي صعبة؛ لأن الكتابة عن «حياة» — كما قال كارلايل — هي في صعوبة «الحياة» نفسها، فكاتب ترجمة الحياة لا بد له من تقمص العظيم الذي يكتب عنه؛ ليستطيع أن يشعر بشعوره، وأن تتحرك فيه عزيمة مثل عزيمته، وفكر يقترب من فكره، إنه كالممثل الجيد على المسرح، يلبس لبوس العظيم — أو غير العظيم — الذي يمثله، بل إنه ليلبس لباسه، ويتشكل بشكله وحركاته ولفتاته ومشيته وطريقة كلامه، وإذن فإذا نحن قلنا عن كاتب صغير القدر أنه قد تصدى لترجمة حياة العظيم، كان في قولنا نفسه تناقض يشبه التناقض الذي يضحكنا عندما نرى على المسرح، أو في السينما عابر طريق قد اضطر إلى الدخول في حلبة المصارعة أو الملاكمة ليصارع أو يلاكم الأبطال.

وبعد أن أزحنا الصغار عن الطريق، نلتفت إلى أدبائنا الكبار الذين رفعوا أمامنا صورًا لأبطال ماضينا — بصفة خاصة — والذين لا شك في أنهم أجادوا التصوير، فلماذا — إذن — لم تترك أعمالهم النبض الحي في نفوس شبابنا؟

الجواب الذي أقترحه لهذا السؤال، هو أنهم كتبوا التراجم وكأنهم يكتبون مؤلفات في «التاريخ»، فكان ما وضعوه أمام القراء أقرب إلى البحوث الأكاديمية إن لم تكن بالفعل بحوثًا أكاديمية قام بها أساتذة جامعيون، ومن شأن البحوث العلمية كلها أن تقدم ﻟ «العقل» مادة مرتبة بمنهج العقل مقدمات وشواهد يتحقق صدقها أولًا، ثم نتائج تتولد منها، فكل ما يسع القارئ عندئذٍ، هو أن يزداد «علمًا» بالشخصية المؤرخ لها، فإذا أخذ على البحث مأخذًا، كان ذلك في ثبوت المقدمات والشواهد، ثم في سلامة استدلال النتائج، كل هذا شيء والتأثر «الوجداني» شيء آخر، ومن لغو القول إن أذكر للقارئ أن تشكيل السلوك الإنساني إنما يأتي عن طريق العوامل المؤثرة في وجدان المتلقي، ومحال أن يأتي عن طريق المعاني العقلية المجردة.

كتابة التراجم على غرار ما يكتب التاريخ ليست مقصورة على أدبائنا وحدهم، بل كانت هي الطريقة الوحيدة — تقريبًا — التي ترد على خاطر الأديب إذا ما همَّ بالكتابة عن عظيم، ابتداءً من كتاب «التراجم» لبلوتارك فنازلًا إلى العصور الحديثة، ولا بد أن يكون القارئ على علم قليل أو كثير بما كتبه المؤلفون العرب الأقدمون من مئات الكتب التي تترجم للإعلام من كل طبقة ومذهب وأدب وعلم، فكان المنهج هو منهج المؤرخ الذي يجمع الوقائع والشواهد والأخبار، ويتثبت من صحتها، ثم يرتبها على النحو الذي يجعلها صورة متماسكة.

ولست أظن أن قارئ ألف كتاب من هذا الطراز يمكن أن يتغير سلوكه في حياته العملية بمثل هذه المادة التاريخية، وإن يكن بالطبع سيزداد بحقائق التاريخ «علمًا».

لكن لكتابة التراجم طريقة أخرى — لعلها حديثة الظهور في تاريخ الأديب العالمي كله — وهي طريقة «القصة»، والفرق بينها وبين قصة الأديب الروائي، هو أن هذه من خلق الخيال، وأما تلك فتلتزم الواقع الذي وقع، فترجمة الحياة مزيج من القصة والتاريخ، فيها من القصة الأدبية طريقتها وفيها من التاريخ صدق الوقائع، وإن شئت فقل إن ترجمة الحياة هي «حياة» بغير نظريات تحمل أحكامًا عقلية عامة ومجردة كتلك التي يسوقها المؤرخ في سياق تاريخه.

مترجم الحياة يقدم لك «شخصًا» فردًا وفريدًا في أفعاله وردود أفعاله، على شرط أن يكون محور التفرد في صميم العظمة منه، لا في تفاهات الظواهر الحركية والكلامية، وأظنه كان «فلوبير» هو الذي قال لمن أراد أن يترجم لحياة أديب — أو غير أديب من العظماء — ألا يهتم بجانب الحوادث الجارية من حياته، بل أن يجعل محور التركيز هو «العمل» الذي جعله عظيمًا، ومن هنا جاءت صعوبة الإبداع في تراجم الحياة، إذ المطلوب من كاتبها أن يحول باطن الرجل إلى ظاهر، أن يجمع بين دقة الباحث وأسلوب العرض بين المؤرخ الصادق والأديب الذي يصوغ مادته في «شكل» يعترف به نقاد الأدب.

وأعود إلى أدبائنا الكبار الذين صوروا لنا «المبادئ» في «مثال» فأقول: إن أعمالهم لم تخترق طريقها إلى القلوب لتكون فعالة في تشكيل السلوك؛ لأنهم كتبوا مؤلفات في التاريخ لا تراجم حياة، ومهمة كاتب التراجم إنما تقتضيه أن يضع أصابعنا على المهد الخفي الذي تولد فيه الأفكار أو تولد فيه العزائم الماضية، أو تولد فيه الصور الفنية، مهمته أن يضع أصابعنا على المهد الخفي الذي تولد فيه هذه الأشياء التي تصنع العظماء، لترى كيف تفرخ في أول نشأتها — لا على سبيل النظريات العلمية — بل على سبيل المثال الجزئي الفرد المتفرد بين سائر عباد الله، وليس من حق كاتب التراجم أن يغفر لمن يترجم له ضعفًا فيغطيه، وإلا قدم لنا شخصًا من صنعه هو لا من صنع الفطرة التي فطر عليها البشر.

إن الأثر الوجداني يزداد في نفوسنا — وبالتالي يغرينا بمحاكاته — إذا جاءت الصورة بشرية لا ملائكية، وفي كل صورة بشرية ما فيها من قوة وضعف، لكننا نقرأ أكثر ما كتبه أدباؤنا عن أبطال الماضي، فنراهم — فوق أنهم نهجوا نهج المؤرخين — قد أقاموا أنفسهم «محامين» يبحثون عما يؤيد القضية المعروضة، ويتسترون على ما يضعفها، فتذهب القراءة وكأنها حرث في الماء، أو نقش على سوافي الرمال، ونظل نحن على ما نحن فيه، نصبح ثم نمسي مع الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام، تدعو وتدعو ثم تدعو، لكن القلوب مغلقة والآذان صماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤