لو كتبت بقلبي

الحمد لله الذي أغناني، ولقد أغناني من وجوهٍ كثيرة، كان أقلها شأنًا أن رزقني أكثر من كفايتي، وهو رزق جاءني من أول قروشه إلى آخر جنيهاته، ثمرة مباشرة للعمل المتصل، وأما أكثرها شأنًا فهو أن الله — سبحانه — قد أغناني بما فطرني عليه من استغناء، حتى حين لم يكن ثمة من غنًى، إذ هو استغناء تولد عندي من قلة الرغبات، على أني مع هذه الرغبات القليلة المحدودة لست زاهدًا بمعنى الزهد المألوف، فما أمكن تحقيقه منها فأهلًا به، وما لم يمكن تحقيقه بالطريقة الطبيعية الميسرة، فإلى الجحيم به غير آسف ولا نادم.

الحمد لله الذي أغناني بهذه القدرة العجيبة على ألَّا أجعل للرغبة سلطانًا يستعبد نفسي، ويسوقها — وهي راغمة — في طريق النفاق والزلفى، وإني لأكون شاكرًا وذاكرًا للفضل، إذا ما ذكَّرني أحد بخطوة واحدة خطوتها — على طول السنين — نحو بشر مثلي ألتمس عنده الرضا، لقد عرفت في حياتي الثقافية الطويلة كبارًا عندما كنت صغيرًا، وصغارًا بعد أن تقدمت بي السنون، فشاء لي الله في كلتا الحالتين أن أكون أنا الضحية لنفع غيري، ذلك لو كان في ميدان العمل الثقافي ضحايا ومستغلون، فاختفيت صغيرًا أمام الكبار، وأخفيت نفسي كبيرًا ليظهر الصغار، ولو كنت أسعى إلى منفعة كما يفهمها الناس، لاستخدمت من الكبار أسماءهم في المرحلة الأولى، ولاستثمرت من الصغار جهودهم في المرحلة الثانية.

وكان من نتائج ذلك أني سلكت من سبل الحياة أشقها وأصعبها؛ لأنني منذ اللحظة الأولى في حياتي العاملة، وإلى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات، لا أعتمد إلا على عمل أؤديه بالفعل؟ فلست أحمل في حقائبي شيئًا من «صكوك الغفران» لأدخل بها الجنة بغير عناء كتلك (الصكوك) التي يروي لنا التاريخ عنها أن رجال الدين في أوروبا العصور الوسطى، كانوا يعطونها لمن شاءُوا، لتضمن لهم الغفران يوم الحساب، حتى ولو لم يكن لهم أعمال حقيقية تشفع لهم يوم القيامة، فإذا كانت هذه هي الحال معي: إما عمل فعلي أو لا شيء، لم يكن غريبًا بعد ذلك أن أرى أنه إذا كانت صفحة واحدة تكفي عند غيري لتلمع أسماؤهم، فلا بد لي — لكي أساويهم في أعين الناس — أن أكتب ألف صفحة، فصفحة واحدة مصحوبة بضرب الدفوف، تساوي ألف صفحة مما يتسلل إلى الناس في هدوء الرهبان.

ولماذا أقول هذا، وليس في العرف أن يتحدث الإنسان عن نفسه إلا بما ينفع الآخرين؟ أقوله لأمهد به إلى قولٍ نافع وفضلًا عن نفعه، فإني أحس أن الضرورة تقتضيه، وهو أني في حياتي الفكرية والأدبية، قد فرقت — عامدًا — بين قلبي وعقلي، فلو كتبت كل ما كتبته مستمعًا إلى وجيب القلب وحده، لسهل عليَّ أن ألتقي في نقاطٍ كثيرةٍ جدًّا مع الآخرين؛ لأننا أمة واحدة، ووحدانية الأمة ترتكز عادة على وحدانية الوجدان، فأيسر شيء على الكاتب أن يقول ما يريد الناس أن يسمعوه، أما العسير فهو أن تكتم أنفاس القلب إذا سمعته وهو ينبض بما ليس يحقق الأهداف.

إنني أفرق في كياني الواحد، بين جانب «الفرد» مني وجانب «المواطن»، وهي تفرقة لا يسهل على الكثيرين اصطناعها في أنفسهم، بل قد لا يسهل على بعضهم أن يدركوها، فجانب الفرد من الإنسان قد يشتهي أشياء لا يرده عنها إلا جانب المواطن منه، إنه لا حدود لما يطمع فيه الفرد — من حيث هو كيان مستقل بذاته — وأما حين تغلب عليه «المواطنة» فعندئذٍ تكتنفه الحدود التي تقيده من كل جهاته، فما الذي يمنع، من جانب فرديتي أن أحصل على أكبر قدرٍ ممكنٍ من المال والجاه والشهرة مقابل أقل قدر ممكن من العمل، بل مقابل لا عمل على الإطلاق؟ المانع هنا هو جانب المواطن، الذي يعي وجود الآخرين وما بينهم وبينه من حياةٍ مشتركة.

وعلى أساس التفرقة بين جانب الفرد وجانب المواطن في كيان الشخص الواحد تنشأ تفرقة أخرى واجبة، بين ما يميل إليه القلب بوجدانه وما يفرضه العقل بمنطقه، وهما جانبان قد لا يتلاقيان في كثيرٍ من الأحيان، فلو كتبت ما يستريح إليه قلبي صادقًا، لما انقطعت يومًا واحدًا عن الكتابة في الحث على التصوف الزاهد؛ لأن مثل هذه الحياة هي حقًّا ما ينبض لها القلب بين ضلوعي كلما قرأت عنها، لكن الذي يحول بيني وبين أن أفعل ذلك هو صوت من العقل يعلو، قائلًا إن تصوف الزاهدين لا يحقق ما نريده لأمتنا العربية من أهداف، إن تصوف الزاهد لا يقيم المصانع ولا يشق الفضاء بقاذفات القنابل ليمحق الأعداء، أم يراد لنا أن تُجعَل الدعوة الكلامية في ناحية، والحياة الفعلية في ناحيةٍ أخرى؟ أهو من الأمانة أن يملأ الكاتب جو السماء بألفاظٍ يردد بها الدعوة إلى تصوف الزاهدين، ثم يسعى من وراء ظهورنا لاهثًا ليجمع من الناشرين ثمنًا غاليًا؟

مرة أخرى أقول إنني أفرق بين ما أريده لنفسي بدعوة من القلب، وما أتمناه لوطني بإملاء من العقل، ولو كتبت ما يستريح إليه قلبي لما انقطعت عن الكتابة يومًا واحدًا، لأطالب الناس بالعودة إلى بساطة العيش، وذلك لأن هذه البساطة هي ما أوثره لنفسي في حياتي الخاصة، وهي ما أحياه بالفعل إلا إذا أرغمتني ظروف على غير ما أريد، لكنني في الوقت نفسه لا أتمنى لوطني أن يعيش تلك البساطة الجميلة في عصرٍ أقيمت هياكله على مركبات ومنظمات ومؤسسات وعلوم وفنون، هي أبعد شيء عن تلك البساطة التي أريدها لنفسي، وإذن فلا خيار لي — إذا طمعت في أن أكون ذا نفع لبلدي — أمام البديلين إذ لا مفر من أن أطوي رغباتي الحقيقية في حشاي، وأكتمها وأحصرها في حدود ذاتي إن أردت، أما إذا كتبت للآخرين، فعندئذٍ أنظر إلى الأهداف القومية، وأبحث لها عمَّا يحققها من وسائل، وتلك هي مهمة العقل بعلومه ودراساته، رضي بها القلب أم سخط.

إنني لأعلم كم هناك من الشعراء والكتَّاب في أوروبا وأمريكا، ممن ضاقت صدورهم بعبء الحياة العلمية والصناعية الحديثة، وراحوا يكتبون عمَّا في صدورهم من ضيق، وليس في ذلك عندهم من حرج؛ لأن تيار الحياة الحديثة دفَّاق هناك لن يوقفه ديوان من الشعر أو قصة أو مسرحية، فمن الخير أن يسمع الناس هناك صوت النذير صادرًا من القلوب الحسَّاسة الشاعرة، ولكن هل من الخير لبلادنا نحن أن نوقف تيارًا لم يتحرك ماؤه بعد إلا بالقدر الضئيل؟ إن أحب شيءٍ لأهل أوروبا وأمريكا أن يشيع في بلادنا نحن ما يدعو الناس إلى الإنصات إلى قلوبهم لعل ذلك يصرفنا عن طلب القوة الكامنة في العلم والصناعة بكل ما فيهما من تركيبٍ وتعقيد، وإلا فلماذا حرص المستعمر أيام سيطرته على أن تضيق دائرة التعليم العلمي في أقل حيزٍ مستطاع، لتظل السيادة عندنا لثقافة الكلام؟ ولماذا حرص ذلك المستعمر أيام سطوته على أن تنحسر الصناعة عندنا وتنكتم أنفاسها، مع أنه كان يعلم حق العلم بأن الصناعة وعلومها هي الباب الواسع الذي يدخل منه العصر إلى حضارته؟ فإذا أحسست بقلبي يدعوني إلى بساطة العيش، فقد أستمع إليه في حياتي الفردية، لكنني أسكته عن الجهر بما يشتهيه، إذا ما كان الأمر خاصًّا بوطن وأهدافه.

لو كتبت بقلبي لبحثت في الماضي عن ركن هادئ ألوذ به، ثم أستوحيه فيما أكتب، فأسعد لحظة عندي هي لحظة أعيش فيها مع شاعر عربي قديم في الفلاة، يعلو به كثيب من الرمل، ويهبط به كثيب، وحتى المتنبي أو أبو العلاء ليس هو الطراز الذي أجد فيه راحة نفسي؛ لأنهم شعراء «حضارة» وشعراء «عقل» إذا صحَّت أمثال هذه الصفات، وأفضِّل عليهم شعراء الجاهلية في بداوتهم، إذا كان الأمر أمر اختياري لركن من الماضي ألوذ به لأستريح، لقد قرأت مرة للأديب الإنجليزي المعاصر «ستيفن سبندر» — إذا صدقت الذاكرة — «يشترط» على الأديب أن يعيش في موقف من حياة السابقين، إن «سبندر» لا يكفيه أن يتأدى الأديب بدافعٍ من مزاجه الخاص إلى الماضي ليعيش إحدى لحظاته، بل إنه «يشترط» عليه ذلك؛ لأنه لا حياة الحاضر، ولا استباق المستقبل — في نظره — من شأن الأديب، وهذا هو نفسه ما أحسه بقلبي، وما أجد فيه المهرب والملاذ، ولو كتبت ما يرضى عنه القلب، لما رفعت قلمي عن نشر هذا الأريج المنعش الذي يفوح به جو الصحراء، إذ أساير شاعرًا من شعرائها وهو في أبسط حالاته، ولكن هل يجد العقل في كلام كهذا رسالة تُؤدَّى لتنفع الناس في عصر حاضر يعيشونه لأهداف معينة نريد لها جميعًا أن تتحقق؟

إن أحلام اليقظة تفضح أصحابها، وتكشف عن حقائق نفوسهم، فماذا يظن القارئ بأحلام يقظتي؟ بل ماذا يظن بأحلامي عامة، يقظة أو نعاسًا؟ إن نسبة ضخمة من هذه الأحلام تنقلني إلى كهوف في الجبل أو إلى أكواخ صغيرة بسيطة في وديان صامتة، أو في سهول لا تعرف لها حدودًا، وإذن فهذا هو ما أميل إليه بقلبي، ولو كتبت ما يستريح له القلب لأعليت من حياةٍ أتمناها ولا أحققها إلا في الحلم، ولكن هل تتحقق بمثل هذه الحياة أهداف أجمعنا على أنها هي الغاية التي ينبغي أن نسعى إلى تحقيقها؟ إننا نريد لكل مواطن أن يأكل، ولكل مواطن أن يتعلم، ولكل مواطن أن يكتسي وأن يسكن، ولكل مواطن أن يعمل، ثم نريد ألا يكون لبلدٍ آخر يد عليا علينا، وليست الرغبات التي يستريح لها قلبي هي ما يحقق شيئًا من هذه الأهداف، وإنما يحققها أن ندعو إلى علم وعمل لا ينقضيان ولا يفتران، فإذا كان للعلم وللعمل صور كثيرة شهدها التاريخ في مراحله الحضارية، فإنما نريد من تلك الصور الكثيرة صورة واحدة بعينها، هي التي سادت عصرنا، وبها تكون السيادة لمن أرادها.

لو كتبت بقلبي لكتبت شيئًا آخر غير الذي أكتبه وأدعو إليه، وأن الله وحده لأعلم بما أعانيه من صراع، كلما رأيتني أستريح بقلبي لشيء، وأدعو بعقلي إلى شيءٍ آخر، لكن هل أرضى عن نفسي لو فعلت، وهل أنفع الناس؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤