شارع المستنصر

إن للمدن كما للناس روحًا حيةً ناطقةً ثابتةً، وبكلمة أخرى: إن روح المدينة هي البارزة الممتازة من صفاتها، تلك الصفات التي تبدو في أكثر مظاهر الحياة والعمل، فتَسِمها بوسمها الخاص، وهذه أمثلة من بعض ما عرفت من المدن الكبرى. إن روح نيويورك التبجُّح، فكأنها تقول: كل ما عندي هو مثل هذه ناطحات السحاب، كل شيء ضخم عليٌّ عظيم! وروح لندن الأناقة — كل ما عندي مشمول بالتدبير والترتيب والتنظيم، وروح باريس الزهو والمرح — ومَن مثلي حسنًا وبشرًا وازدهارًا؟ وروح برلين المهماز وخوذة الفولاذ — ألمانيا فوق الجميع! إلا أن في ألمانيا مدينة وادعة جميلة هي ميونيخ، وإن لها من الفنون روحًا سامية. وليس بين المدن الإسبانية مثل إشبيلية المركبة روحها من نقيضين، القداسة والقمار.

أما في هذا الشرق العربي فكل مدينة من المدن الكبيرة أضحت اثنتين: القديمة وهي ذات روح تُعرَف وتُرى، والجديدة لا روح لها تُرى أو تُعرَف، أو أنها مزيج من الشرق والغرب، فللقاهرة مثلًا روح تتجلى في الصحافة وفي ما حول الأزهر من الأحياء، هي روح زغلول والوفد والحَوْقَلة — البلاد وفدية، والحكومة إنكليزية! لا حول ولا قوة إلا بالله، وروح القدْس، داخل السور، هي الأقصى والمبكى والطور — نحن العرب ويلنا من إسرائيل، أنا إسرائيل ويلي من العرب — أنا بريطانيا، خيري في الويلين! أما دمشق فروحها روح المرجة والكتلة — حركة دائمة، ووطنية هائمة، وتمرد لا يزول ما دام الجنود السود يُرون في المرجة، ويَرعون في مروج الوطن. وأما بيروت فلا روح لها اليوم بارزة، على ما فيها من معاهد العلم، غير الخلاعة والخنوع وحب المال — هات الفلوس، وخذ العروس، وعفر وجهك أمام صاحب «الكابوس».

وما هي روح بغداد؟ لا تُقسَّم بغداد اليوم إلى قسمين ظاهرين بالمعنى الذي ذكرتُ. فهي لا تزال مدينة شرقية واحدة، يتخلل بعض أحيائها، شيء من اختلاط الشرق بالغرب. إنما قديمها كثير الأشكال والألوان، فيصح أن نرمز إليه بإله من آلهة الهندوس، روحه تبدو، ولا تتوحد، في رءوسه وفي أيديه المتعددة.

إذن روح بغداد أعجوبة من الأعاجيب. فهي الحوقلة والاستسلام، وهي الشغْب والتمرد، وهي الورع والتقوى، وهي التخنث و«التشلجي»، وهي في هذا الزمان النفط! وقد يصير النفط في المستقبل روحها الكيماوية العظمى، روحَها المركبة في بوتقة هذا الزمان البرَّاق الخنَّاق.

هات شتاتَ هذه الروح نعرضها للبحث، فنتحقق طبيعتها ومنهجها، إلا أنني لا أجزم في ما نؤمل من إدراك واكتناهٍ، فقد لا أوفق لغير العَرْض، فأترك للقارئ الاكتناه. لقد سبق أن ألمحت إلى بعض صفات المدينة، في ما وصفت من أحيائها، ومن شارعها الأكبر الجديد، شارع الرشيد، وسأزيد القارئ علمًا بما هو عريق في القدم، عميق في الجِدة.

إلى جانب شارع الرشيد، بينه وبين دجلة، شارع هادئ وادع، جدير بالطواف والاستكشاف، هو شارع المستنصر الذي ينشأ عند رأس الجسر، فيمتد شمالًا في خط شبه قويم، وينتهي عند شارع المأمون، ذلك الشارع القصير العريض الذي يرضى بقسمته من المدينة، فيصل شارع الرشيد بالجسر الثاني، ويفتح قلبه للسوق المسقوف شمالًا منه الذي يُدعى سوق السراي، وإذا ما وقفت في هذا الشارع القصير العريض ترى نفسك في ظل السلطات المادية؛ أي الحكومة والتجارة، أمامك السراي، ووراءك الجمرك وبيوت التجارة والشركات والبنوك. وهناك إلى يمينك مهد للفن صغير هو المتحف العراقي، وفي السوق المسقوف — سوق السراي — مرجة للأدب خضراء صفراء هي الدكاكين التي تباع فيها الكتب والمجلات.

هو ذا مركز أعصاب المدينة، وإنك لتجد هنا، فوق ما ذكرت — بين الجسرين — أشتاتًا من روح بغداد الاجتماعية والدينية، فإن شارع المستنصر يبدأ بالمقاهي، وينتهي بالمساجد، وبين هذه وتلك وحولها طواحين التجارة والدعارة. أجل، إن بين الجسرين محط رحال قافلة الروح البغدادية، إن بين الجسرين بيت قصيد المدينة …

أظل أرعه نجومل ليل بِسْماي
ولي ناظر يهلل دمع بسماي
ألج بسمه وعيبُن يلج بسماي
أوِن عليه ليه مي وِن عليَّه

وهذه التي ترعى نجوم الليل، وتلهج باسم الحبيب، وتئن عليه، هي إحدى مغنيات بغداد الشهيرات، وأكثرهن يهوديات، تجلس كل ليلة على عرشها في المقهى الذي في الطابق الأعلى، على زاوية شارع المستنصر — بين الرصافة والجسر — وتصيح بأعلى صوتها صيحات منكرات فظيعات: أظل أرعَهْ نجومل ليل بسماي!

figure
شارع المستنصر (تصوير الدورادو).

فتسمعها نجوم الليل في السماء، فتئن منها، ويسمعها أهل بغداد، فيئنون معها ويتأوهون. مسكينات تلك النجوم! كم ينقصها من العلم لتحسن تقدير هذا الغناء البغدادي القديم.

قلت ذلك مرة، وأنا واقف على الجسر، بينما كانت أشعة القمر ترقص على الأمواج، سمعت صوتًا يوبخني قائلًا: وهل تظننا نرقص طربًا؟ أفلا يرقص الطير مذبوحًا من الألم؟ فحتىامَ التهكم منك؟ وإلامَ أنت ماضٍ فيه؟ أَوَليس هذا الغناء صياحًا بصياح؟ بل هو صياحٌ جرَّاح، ونواحٌ فضَّاح! تعالَ ارقص معنا على هذه الأمواج …

عليَّ بعد هذا أن أقول: إن ما أسمعتك من المغنية المشهورة هو من القديم القبيح في الغناء. ولا جديد اليوم في بغداد غير ما يجيء في الفونوغراف من سوريا ومن مصر، إذن دعِ الجالسة على عرشها، بين الرصافة والجسر «ترعى نجومل ليلِ وتوِن.»

وتعال ندخل هذا النزل الإنكليزي الاسم، ونجلس في البستان المشرف على دجلة، تحت شجرة النبق الكبيرة، المعلقة فيها أنوار الكهرباء، هذه المائدة قريبة من الساحة المسحورة، وبعيدة من جوقة الطبالين والزمارين، فاجلسْ ها هنا تسمع قليلًا وترَ كثيرًا.

ولا تسل عن أبناء الليل هؤلاء المعجبين بهذه الشقراء النمساوية، أو بتلك السمراء الفرنسية، أو بالشقيقتين الصغيرتين، اللتين يطويان البطن والساق طيات عجيبات، تحملق لها العيون، وتتضاعف الشجون.

إن هؤلاء الراقصات يُدعين باﻟ «أرتستات» وبينهن وبين الفن بِيْدٌ دونها بِيدُ. أما المعجبون بهن فإن فيهم البغدادي ذا السدارة، وذا العمة، وذا العقال، ومعهم الرفيقات والحبيبات، العابثات بالقلوب والجيوب، وفيهم الإنكليزي والفرنسي والألماني والإيطالي، وهم في النهار من أصحاب الأشغال، وفي الليل من أبناء الوسكي والصودا أو الأبسنت والفرموت.

وما هذا الشيء الذي تعرضه لنا الراقصات العاريات، في طيات واهتزازات، تحت النبقات، واهًا لهن! فقد كانت الليلة من ليالي كانون، وكانت الريح تنفخ في نواعم ذلك العري، فتزيد المسكينة في الهزيز لتبعث الحرارة في جسمها، وكنا نرى البرد، على تلك الرجرجات واللزلزات، يقرص الناعم منهن؛ فيفضح نورُ الكهرباء القشعريرة فيه.

ما هذا الرقص بشيء من الفن الذي يصفق له المتفرج الأوروبي استحسانًا في بلاده، ولكن الأوروبي الهاجر المحروم يتعزى بنظرة فيها إحياء الذكرى، وهو لا يتوقع ممن هي هاجرة محرومة مثله، أن تكون من ربات الفن والشهرة في بلادها، فتجيء بغداد نشرًا لِنِعَمِ عبقريتها، ولا هي تنتظر الإعجاب من مواطنيها. أما من أبناء البلاد فلا ترضى بغير العبادة. كيف لا وهي ربة الفن الفذ — الفريد — القائم بالرجرجة والتجريد!

مسكينات تلك الحمامات اللواتي يتهززن ويترجرجن تحت النبقات! مسكينات تلك الواهمات أن الفن كل الفن في هذه الرجرجات والتلزلزات! وهذا لعمري ما يحسبه البغداديون فنًّا جديدًا، وما هو غير الفن الرَّجرَج، بل هو مثل ذلك القبيح من الغناء القديم — وأقبح منه.

على أن في شارع المستنصر، بالقرب من الجسر، غير هذا العري الفضاح، وذلك الصوت الصياح. إن هناك بضعة نزل إنكليزية الاسم، وإنكليزية النزعة تخيم عليها السكينة والطمأنينة، تنعم في الليل لأصحاب الذوق الرفيع، والستر المنيع، فتُجرَّد فيها الصيَّاحة من صياحها، والرجراجة من ترجرجها، فتجري الأمور على هَدْإ تطمئن له القيادة العامة والخاصة في عالم اللذات.

سقيًا لزمن كانت الدور في هذا الشارع من أجمل ما ببغداد وأشرفها مبنى ومعنى! إنما بعد الحرب العظمى تحول بعضها إلى نزل، وبعضها إلى مخازن ومكاتب للتجارة والمال، بيد أنه لا يزال بين الاثنين أثر لذلك الماضي الشريف، يتمثل هنا وهناك في حوش — بيت — عامر بالفضل والكرم. تنبئك البوابة المفتوحة، إذا ما وقفت فيها تشرف على الصحن اللألاء بالآجر الأبيض والأحمر، وبالقيشاني الساكن الحواشي، الصافي الجو، تنبئك بما كان من لطيف العيش الهادئ الأمين على ضفة دجلة في الزمن الغابر.

أما بعد الحرب فقد أسمى الإنكليز هذا الشارع شارع النهر، وفرشته أمانة العاصمة بالأسفلت، ثم غيَّرت اسمه، فصار شارع المستنصر، وما غيَّرت كثيرًا مما آلت إليه الحال في ظلال هذه المدينة الغربية الشرقية، التي تقوم فيها المناقضات جنبًا إلى جنب.

وهاك قرب النزل الكبير، ذي الاسم الشهير، دكاكين صغيرة حقيرة لقوم وصفوا بالوداعة، وعُرفوا بحسن الصناعة، وامتازوا بالمحافظة على ماضيهم القديم، وأصلهم الكريم. فهم في دكاكينهم الزرية، وفي كل منها النار والمنفخ والسندان، مثال القناعة والنزاهة والنشاط، تراهم على الدوام يدأبون، ومن الصناعة الواحدة لا يخرجون. إن هؤلاء الصُّبَّة — الصابئة — وصناعتهم الواحدة الفضية، وبراعتهم فيها، والوداعة في سلوكهم والاستقامة في تجارتهم، إنهم في كل ذلك لأشرف مظهر من مظاهر الحياة في شارع المستنصر، ولمِن أجمل ما رأيت من أقوام بغداد.

وبين دكاكين الصبة بيوت التجارة والشركات الإنكليزية والأوروبية، وفيها النظام والاجتهاد، والمطامع المستغلة لضعف العباد. إن فيها المال والسيطرة، وليس فيها شيء من الوداعة والقناعة، وليس فيها من اللطف غير المكتسب، ابنِ التعمد والاجتهاد، وهو من لوازم النجاح في المعاملات التجارية وفي المشاريع الاقتصادية والمالية.

هي ذي بعض المناقضات، ومنها كذلك المخازن والمستودعات التي كانت «أحواشًا» في الماضي. فإنك لترى فيها البغداديين، على اختلاف أديانهم وعناصرهم، وكلهم واحد في القناعة والاحتراس، وقل في التقاعد والنعاس، لا يبالون، جاء أم لم يجئ الزبون.

إن شارع المستنصر، خلاف شارع الرشيد، ساكن الطرف، بالرغم عما أسلفت من وصف إحدى نواحيه، قليل الضوضاء، فقلما تجد فيه غير العربة يجرها الخيل، وبعض السيارات، وإن فيه، بما أنه على النهر، الحمامات للرجال والنساء.

وقفت أمام باب مفتوح مهجور، فغرني حب الاستكشاف، فنزلت الدرج، فسمعت قهقهات أنثويةً فعدت أدراجي، فإذا بولَيْد يعدو إليَّ ويقول: ممنوع، ممنوع! فقلت: ومن أنت؟ فقال: أنا الحارس، والحريم تحت في الحمام.

أما حمامات الرجال فهي كذلك تحت مستوى الشارع — وقد تكون سراديبها تحت مستوى قعر دجلة، بيد أن القسم الأعلى منها بادٍ للعيان، فالباب مفتوح، والستر مكشوف، والقيم والخدامون في جيئة وروحة حاملين المناشف والقباقيب.

أطللتُ على واحد من هذه الحمامات فإذا بغرفة الاستقبال تحت قبة مستوى سطحها يعدل مستوى الشارع — قبة تحت الأرض! — وكل ما تحتها زاهي الألوان، منعش للأرواح والأبدان … طابت حِمَّتُكَ يا شوق الزينات. طابت حِمتكِ يا فتنة القلوب …

إنه ليصعب على المرء المشغوف بباهر ذلك الزمان الغابر، أن يجول في هذه المدينة، دون أن يستسلم إلى طيف من أطياف الأساطير أو التاريخ، وينعم بشيء من الخيال الذي تتجلى فيه عرائس الإنس وأبطال الجن، فإن في هذا الشارع الكثير المباغتات أزقة قصيرة، هي «الدربونات» التي تفضي بك إلى النهر، وقد استهوتني إحداها، فسرت بين «أحواش» أبوابها عريضة فخمة دكناء، لبعضها خوخات، ولجميعها مطارق من حديد تنوعت أشكالها، وجوِّدت صنعتها.

ومع أن أكثر هذه الدور أمست مستودعات للخشب الذي تجلبه بغداد من الموصل ومن الهند فما زال الإنس فيها يكنسون، والجن يزمزمون، خصوصًا عند الضفة بين الدارين المشرفتين على النهر، وقفت هناك أتأمل تلك الرواشن القائمة بعضها فوق بعض، وما كان وما يكون من باطن أمرها. هي الحياة في حقائقها الرائعة المروعة، وفي أحلامها الباهرة المبهجة. هي الحياة في الأمس، وهي الحياة اليوم وغدًا، أحوال تحول، وآمال لا تزول. قلوب تذوب، وأشواق تذهب وتَئوب.

إن هذه الأحواش إسلامية البناء أو بالحري عربية، فقد رأيت في جدة وفي الحديدة مثل هذه الرواشن، ومثل هذا الاضطراد في هندستها. إنما هي تمتاز في بغداد بما يجاورها ويهيمن تحتها.

لقد شغفتني الدار القائمة على دجلة. شغفتني حبًّا؛ لأنها في آخر الزقاق، فلا تتقيد بكل ما فيه من مضايق وظلمات؛ ولأنها على طريق النهر، فيستطيع من فيها الفرار، في ضوء القمر أو في نور الشمس، دون أن يراهم الحارس أو الشرطي أو أحد من الجيران؛ ولأنها كثيرة الرواشن، فترحب في الأقل بالهواء وبالنور؛ ولأنها مقفلة الأبواب والنوافذ، ساكنة مستسِرَّة، كأنها قصر لبنات الجان، أو مركز لأرباب الجن.

وهي رحبة ذات ثلاث طبقات، الثانية منها تبرز فوق الأولى برواشنها الممتدة على طول البناء، وللثالثة رواشن فوق رواشن الثانية، وكلها من الخشب الهندي النادر جودةً وصنعًا. وهناك من الحواجز للشبابيك ما يبعث على الظن أن أهل الدار الأولين كانوا متشائمين بالحياة، متحذرين من بوادرها، ومن إغارات بدوها، فهذا الزجاج، وهذه شعريات الخشب، وهذه قضبان الحديد، حواجز ثلاثة لا يخترقها غير الجن.

فليطمئن بال الخاتون، ولتطمئن الحوريات المكنونات. إن ها هنا الأمن والسلام، والسجن! وإن شئتِ التنزه يا سيدتي، كان لك ذلك في الروشن المعلَّق فوق دجلة، تجلسين هناك، وتسرحين النظر في ما تحتك، فترين الأسماك ترقص في المياه الجارية، وإذا أخذتكن نزعة الحرية أيتها الحسان، وشئتن الفرار من سجنكن في الليلة المقمرة، فالزورق عند الدرج والنوتي حاضر مطيع، وإن جرى هذا الزورق من هذا المكان في الرصافة جريًا قويمًا كان مرساه في الكرخ عند درج آخر، أسفله في الماء، وأعلاه أمام بوابة السفارة البريطانية …

وهذه سيارة براقة خضراء تملأ الحي بصوت بوقها، فتقف أمام بوابة وسط الجادة، فتنزل الخاتون ذات العباءة السوداء والقناع، وتختفي قبل أن يقفل السائق الباب — تعود إلى سجنها المحبوب. ويعود السائق إلى مكانه وراء الدولاب، فيسوق متقهقرًا إلى شارع المستنصر.

هو ذا القديم والجديد في الجادة الواحدة، وسيمسي هذا الجديد قديمًا وسيزول ذلك القديم، وقد يتداعى الدرج فتذهب حجارته في النهر، وتسقط الرواشن فتحملها الأمواج، ويظل النهر يجري جريه الأبدي إلى البحر، صورة من الجديد وأخرى من القديم، تنعمان ثم تفنيان أمام دجلة الخالدة.

وفي شارع المستنصر إلى جانب القديم جديد من غير الغرب، فيا يُجدَّد صرح للشرع الشريف، فهاكم جامع المحكمة، وليس فيه ما يستوقف البصر غير المأذنة الخضراء الصفراء البيضاء. بل فيه ما يستغرب مما لا يلتئم وجمال المأذنة، وما يستنكر في مكانه، فيه صحن خالٍ خاوٍ، ومصطبة للصلاة مفروشة بحصير، ومرحاض، تراه وأنت واقف في الباب، قديمٌ جد قديم!

بيد أن الأرض قبالة الجامع تنبئ بالخير الحديث. هي وقف إحدى الخواتين — زاد الله سجونهن نورًا وحبورًا — على ما فيه إقامة الحق وإزهاق الباطل، فقد كانت المحكمة الشرعية القديمة في هذا المكان، فهُدمت لتقام، بين ما تبقى من بواسق النخيل ووارفات النبق، المحكمة الجديدة، وهذه الأتن البيضاء عشرات منها تحمل التراب من أمكنة الحفر، وتعود إليها بأحمال من الآجر، والبناءون شارعون بالبناء، صرح منيف، للشرع الحنيف.

وغدًا يجلس قضاة الشرع في دارهم الجديدة، فيسمعون وهم يقضون صوت المؤذن يتموج خلال النبق والنخيل، فيذكرهم كل يوم بوجوب إقامة الحق وإزهاق الباطل. إن ذلك في الأحكام لمن القديم، الذي يبقى جديدًا، بل هو مثل نور الشمس جديد كل يوم، ولا خوف عليه من عَدْو الزمان.

•••

ها نحن في التطواف شمالًا ندنو من آخر الشارع الذي عرضت لك بعض ما فيه، صورًا متحركة، فلا تستبدلها، وقد فاتني أن أعلمك أن أمانة العاصمة أطلقت اسم المستنصر عليه، تذكارًا للمدرسة المستنصرية التي كانت في جواره.

إن جزءًا من الماضي في بغداد هو أمامنا في قيافات الناس وأشكالها وألوانها، فضلًا عما يبدو منه في الوجوه ويخفق في الصدور وفي العقول. إن هذا الماضي مقيم في يومنا كما في أمسه، هو على ما يظهر صنو الزمان، بل هو الأثر الحي القديم الجديد ببغداد، تسوقه إليك الليالي في أشكاله المتموجة تموجَ دجلة، على نحو بطء هادئ، وفي ألوانه التي تذكر في مجموعها بذنب الطاووس.

وللجماعات في بغداد صفة تختلف باختلاف المكان. فهي ساكنة في الكوخ، مسرعة على الجسر، مصطخبة في شارع الرشيد، فلا تستطيع مراقبتها، وتمييز صفاتها الظاهرة والباطنة، إلا إذا كانت في غير هذه الحالات الثلاث، إلا إذا كانت متمهلة في سيرها، جامعة في قيافاتها.

وإنك لتشاهدها في هذه الحال في مكان واحد هو شارع المأمون عند مدخل شارع السراي، قف هناك هنيهةً ترَ معرضًا من الناس عجيبًا، أو اجلس في دكان أحد التجار، بشارع السراي الظليل، وراقب الموكب المستمر في سيره، فتنطبع في ذهنك شتى الصور، وتدرك إذا استعنت بالتساؤل معناها ومغزاها.

تعالَ نستعرض قيافات البغداديين، وهي اليوم في مجملها كما كانت على ما أظن في زمن الرشيد والمأمون، سنبدأ بالرأس، أو بما يزينه من عمارة، في شكل عمة أو عقال أو سدارة، قد تظن أن العمة عمة، والعقال عقال في كل حال، وهذا خطأ، فإن لأشكالها وألوانها وكيفية لبسها معاني ومغازي تخفى على السائح العربي، فضلًا عن الأوروبي.

وأول ما يستوقف البصر العقال الصوف الضخم الطية، البني أو الأسود اللون، هو عقال أهل البصرة والزبَير، ويندر أن يلبسه في بغداد غير الشيوخ المسنين. يلبسونه فوق غطرة «كوفية» ملونة ولا فارق في اللون، أما في الجنوب فإن النجدي والزبيري يمتاز بغطرته الحمراء عن البصراوي ذي الغطرة الزرقاء؛ ولهذا العقال في بغداد صفات أخرى. فإن كان ذا لفتين سُمي «طيتين» وذا ثلاث أو أربع طيات عُرف باللَّف، أما العقال الأسود البسيط فيدعى قحطانيًّا.

ولا عقال بلا غطرة؛ أي كوفية، وللغطرة ما للعقال من الأشكال والمعاني، فالزرقاء التي تُدعى «يَشْماق» تُلبس في شكل عمة ملفوفة لفتين أو ثلاث لفات، ومشدودة على الرأس في انحراف إلى الأمام أو إلى الوراء، وفقًا لمزاج صاحبها، فالذين يرفعونها فوق الجبين هم «القبضايات» أو الفتيان المشهورون في العراق بالشقاوة، فهم المثيرون «للعركات»، الضاربون القاتلون، في سبيل الشرف ومن أجل من شاء ممن له ثأر، وعنده المال بدل الشجاعة.

وبما أن لهؤلاء «الفتيان» شهرة محلية تُذكر بشيء من الإعجاب فالمتهافتون على المهنة والمتطفلون كثيرون، وليس في القانون ما يمنعهم من أن يلفوا الغطرة لفتين أو ثلاث لفات، ويرفعونها فوق الجبين عالية. فلا يغرنك إذن كل من لفها ثلاث لفات، ولا تخشَ جانب كل من رفعها فوق الجبين!

والغطرة كيفما وضِعت على الرأس بدل العقال تُسمى جُرَّاويَّة، أما إذا لفها صاحبها على الرأس وحول الوجه؛ أي تلثَّم بها، فتدعى إذ ذاك يَشْمَقين، وأكثر من يلبسونها ملفوفةً لفةً واحدة بتأدب واتضاع هم من أصحاب الصناعات.

أما العمم، فالشاب المتدين إذا كان طالب علم، يلفها رقيقة فوق الطربوش. والتاجر أو الوجيه الشيعي يجعلها كذلك فوق الطربوش، إنما من الحرير المقصب، فتُسمَّى إذ ذاك كشِيْدَة، وهناك الخضراء للشريف كما في سوريا ومصر، والسوداء للسيد، والبيضاء للعلماء.

ننتقل من الرأس إلى العباءة، فهي سوداء مطرزة بالأسود أو بالفضة أو بالذهب، وهي بيضاء صيفية، وهي من اللون البني أنواع، فالعباءات السوداء المفضضة والمذهبة تصنع في بغداد من قماش أوروبي، والباقي يصنع في إيران وفي الحساء. فالعباءة الحسوية، التي هي من الوبر، يلبسها مشايخ العشائر خصوصًا في كربلاء والنجف، والعباءة الإيرانية التي هي من الصوف البني اللون على نوعين، الكوبائي والنائيني، يلبسها التاجر والعالم وغيرهما.

أما ما تحت العباءة فهو كذلك من الملابس العربية الشائعة، فلا تميز البغدادي عن السوري، الذي لا يزال يلبس القنباز، من قطن أو حرير، ويتمنطق بمنطقة من نوعه، أو أنه يلبس الدشداشة «جلباب» ويشدها بحزام من جلد أو قماش. أضف إلى ما تقدم القيافة الفرجية بالسدارة الفيصلية، وهي قلما ترى في غير المدن. تلك هي الأوليات في علم القيافة العراقي، احفظها إذا شئت أن تحسن التمييز بين أبناء التقوى وأبناء الشقاوة في بغداد.

وإذا ما وقفت في شارع السراي تشاهد الموكب جميعه وفيه من كل طبقات الناس. فالشاب في القنباز والعباءة السوداء المفضضة، والعقال الأسود، والغطرة الزرقاء، الحامل في رجله حذاءً أسود أو أصفر، هو من الفتيان الذين لم يمعنوا بعد في الحرفة، فما اشتهروا بخيرهم ولا بشرهم. إن قيافتهم تخبر بانحراف فيهم إلى الشقاوة، وقد تحول الأيام دون تحقيق رغباتهم الفتوية، فيبقى ذكرهم مضمخًا ومنعمًا بالخمول. مثل هذا الرجل في الغطرة الزرقاء والعقال البني والعباءة والقنباز فهو من الطبقة الوسطى التي لا تعرف من خمول الذكر غير القطن والصوف. وإذا لبس أحد رجالها السرماية أو ما يسمونه اليمني، فهو من كعب الطبقة. إذا لبس الساكو الفرنجية بين القنباز والعباءة والحذاء الفرنجي فهو من رأس تلك الطبقة — من وجهائها … اتق الله يا حمَّار، يا، يا أبالجُرَّاويَّة، فإنك تحشر حمارك بين عالم معمم، وسياسي «مسدَّر».

وهذا وراء الثلاثة بغدادي في دشداشة وساكو عسكرية، هي من لون العصفر «كاكيه»، وهو من الركبة إلى الأخمصين كما جاء الدنيا الدنية.

وهذا الممنطق بالمنطقة الحمراء، فوق القنباز الأبيض، الحامل كرشًا تحتهما عامرًا، الملفوفة غطرته فوق كوفية صفراء، المزدانة رجلاه بيمانية حمراء، هو من أولئك البغداديين الهائلين — من عشيرة «أبو حمد» (أي القبضاي) — الذين يصيحون بوجه المعتدي عليهم: أنا بغدادي مو عجمي — فك عينك زين.

وفي الموكب ترى الحمالين، في دشداشة وجراوية، يحملون الأكياس والصناديق، والأشجار للغرس، والخشب والحديد. وهم يزاحمون الأفندي اللابس السدارة، والعالم ذا العمة البيضاء، والفقيه والسياسي — نحن بالقرب من السراي والمحاكم العدلية — ومَن في الموكب من النساء.

النساء، وليس فيهن شجر الدر، أو فتنة القلوب، وهذه اليهودية أو المسيحية تلبس العباءة كالمسلمة ولا تلبس الحجاب، مع أن الوجه منهما أحق بالحجب مما حجبت من جسمها، وهذه مسلمة في ثوب إفرنجي قصير، وجوارب من حرير، وحذاء يرفعها قبضةً فوق الأرض التي تشرفها بمشيتها المتكسرة، وهذه منهن أقرب شيء إلى الفتنة. بنت سافرة في عباءة سوداء، من تحتها فوق الجبين غرة من شعرها الذهبي، ووجهها بين طرفي العباءة كالبدر بين غيمتين سوداوين، فنصع البياض فيه، واشتد تورد الخدين.

ومن النساء من يخرجن إلى السوق بالمشاية، ومن المشايات ما ترفع صاحبتها بضع أصابع عن الأرض، ومنها المسحاء وتلك التي لا يظهر منها في الرجل غير رأسها، ومن النساء من يلبسن الحذاء الفرنجي، وجوارب الحرير، ويسدلن من رأس العباءة الحجاب، فلا ترى من محاسنهن غير الأرساغ — هل تصح الاستعارة ولا تُذِل؟ — اللهم إذا كانت دقيقة أنيقة. ومنهن من يلبسن جوارب الحرير فوق الخلاخل الضخمة. فتظن أن في الساق ورمًا، أو جرحًا مضمدًا، ويخفين تحت العباءة السوداء دراعات (فساتين) من الحرير تنم الأطراف عن ألوانها الزاهية، فهل تصدق الظواهر فيهن أم البواطن؟ وقد يكون في القلوب شيء من فضة الخلخال الخفي، وقد يكون فيها القيود الفضية!

ومن النساء في هذا الموكب المتحرك على الدوام الحمالات والمعولات — حمالات اللبن، وحمالات الحطب، واللاتي يحملن أطفالهن على أكتافهن. وجوه صفراء فوق وجوه سمراء، أرجل نحيلة على صدور عليلة، بيد أن هذه الصغيرة وردية الوجه، الضامة يديها على رأس أمها، وتلك الأم الحافية ذات القد الرُّدَيني، تعيدان إليك ما ذهب من أمل وتشعلان ما انطفأ في موقد الحياة.

إن ها هنا أيضًا ما يباغتك في أملك، وينفخ في رماد موقدك، هاك زمرة من الصبيان في أطمار فرنجية، وأسمال بغدادية، يحمل أحدهم طبلًا، وآخر لوحة، ويتقدمهم أبو اللفتين، رافع اليد، جاحظ العين. فيدق حامل الطبل طبله، ويرفع حامل اللوحة لوحته، ثم يرفع الخطيب أبو اللفتين عقيرته: هبوا على السينما الملكي، وشاهدوا أعجب الصور، وأغرب المخلوقات. ثعلب يقتل أسدًا، خروف يأكل ذئبًا، طفل ذو قرنين، وآخر ذو رأسين … عجائب المخلوقات — هذا المساء — في السينما الملكي. هبوا على السينما الملكي: دُبه دُبْ دُبْ، دُبه دُبْ دُبْ!

من الناس من وقفوا ليسمعوا ويتعجبوا. ومنهم من قالوا: عجيب، وهم ماشون، ومنهم رجل يبيع بزر بطيخ مملح، كان واقفًا عند مدخل السوق، وراء فرشه، وهو يسمع ويهز برأسه، هذا الرجل لا يؤمن بما قاله الخطيب، وإذ رآني أنظر إليه قال:

كل من في الحياة يطلب صيدًا
غير أن الأشراك مختلفات

دُبه دُبْ دُبْ! اسمعي يا نيويورك، هل عندك من باعة فستق العبيد مَن ينطق بالشعر؟ دُبه دُبْ دُبْ! اسمعي يا لندن، وأنت يا باريس، هل عندكما مِن باعة السمك أو الضفادع مَن يحسن النطق بالحكمة شعرًا؟

هو ذا الشرق المهذب الوادع القنوع. إن هذا البغدادي لأكبر وأشرف من كل من ينصبون الأشراك للناس. إنه لمن الماضي القديم الجميل، وإنه من هذا الجيل، وهو مع ذلك يرضى بالقليل، ويرى بعينه الثاقبة الظاهر والخفي من الأحابيل.

•••

ليس في القيافات البغدادية التي عرضناها لك قيافة واحدة جامعة تميز البغدادي عن سواه من أهل العراق، أو العراقي عن سواه من العرب، إلا إذا استثنينا السدارة والجرَّاويَّة، ملبوس أقليتين من الأهالي الأفندية والفتيان. أما الأكثرية فإن هي إلا أشتات من الناس، تعلن صفاتها وجنسياتها، ومذاهبها المختلفة، في أشتات من القيافات.

على أن الأقلية العصرية في الملابس الفرنجية تزداد يومًا فيومًا. وكما أنك شاهدت السيارة البراقة في الدربونة المعتمة، فإنك تشاهد في المآدب وفي الحفلات الرسمية ما يدهشك لأول وهلة. وإذا كنت من الزوار المرموقين، وكنت تظن أن بغداد مدينة عربية أو صحراوية، لباسُ أهلها قميصٌ وعباءة، فلا تعجب ولا تجزع عندما تجيئك رقعة مكتوبة على الآلة الكاتبة، أو مطبوعة بماء الذهب، تتضمن دعوة لمأدبة أو حفلة، وفيها، في الزاوية: «اللباس رسمي». أو إذا كانت من البلاط: «اللباس رسمي كامل!»

إني لا أزال أذكر يوم تشرفت للمرة الأولى بمثل هذه الدعوة. ولا بأس، ما دمنا في موضوع الثياب؛ أن أقص قصتي وأشرح محنتي، يوم كنت مقيمًا مع صديقي العزيزين؛ «أمين كسباني» سكرتير الملك فيصل في تلك الأيام، و«حسين أفنان» سكرتير مجلس النظار، في بيت واحد، جاءتني دعوة من البلاط الملكي، وفيها اللباس رسمي كامل.

إن معنى ذلك للضباط والموظفين أن يلبسوا أثوابهم الرسمية، العسكرية أو المدنية، ويزينوا صدورهم بما يحملون من الأوسمة، ومعناه لمثلي ثوب فرنجي أسود ذو ذنب كذنب الحسون، واحَرَّ قلبي! أين لي بثوب نصف رسمي، فضلًا عن الكامل ذي الذنَب الطويل، وأنا قادم، أيها النجيب؛ من رحلة طويلة في البلاد العربية، ولم أتعود أن أحمل، مثل الإنكليز، حتى في البادية، جهاز العروس والعيد؟! فقد كان بيني وبين الثوب الرسمي بحور، عدا البوادي والجبال. هنالك في نيويورك تركت كل ما يُسعد المرء في رحلة عربية، وما أدركت خطئي إلا في بغداد، عندما تلقيت رقعة الدعوة لمأدبة الملك.

وأين في بغداد الثوب الرسمي أحرزه بيوم واحد، بساعة واحدة؟ إن عاصمة العراق لا تزال، في التمدن الحديث، دون تلك المنزلة التي ينعم بأسبابها أولئك الذين يستأجرون أثوابهم الرسمية لليلة من ليالي الدهر، أو إنهم يرهنون ساعاتهم عند صاحب الدكان السعيد، أبي الكرات الثلاث المذهبة ليبتاعوا ثوبًا مخيطًا جاهزًا من صاحب المخزن الآخر ابنِ عم أبي الكرات المذكورة.

ولم نكن في بغداد الرشيد، بغداد السحر والجن، فأفرك خاتم لبيك، فيقول عبدُهُ: «بين يديك»، ويجيئني في الحال بثوب رسمي كامل، يدهش بقماشه وخياطته حتى خياط الملك بلندن. ومع أني كنت أسكن في محلة الشيخ، بجوار مولانا عبد القادر الكيلاني — قدس الله سره — وأنا من الطامعين باليسير من بركته، لما ينور في روضتي الحين بعد الحين من زهيرات التصوف، فما حقق رجائي بزيارة تستكشف حاجتي، فيقضيها كما كان يقضي حاجات المقربين منه في قديم الزمان. ما جاءني يقول: «ما همك، يا أمين؟» فأجيب: «ثوب فرنجي رسمي يا مولانا.» فيهديني إليه، أو يقول: «هاكه»، فأراه بين يدي إذ ينطق بالكلمة المسعدة. لا، وربك، ما كان شيء من هذا.

بيد أن أملي ما خاب، فإن أحد رفيقي يمت بالنسب إلى مولانا عبد القادر؛ لأنه مثله سيد ابن سيد من سلالة الحسين ابن بنت الرسول — عليه السلام — والآخر هو من لبنان، من تلك البلدة التي أنجبت الشميل واليازجي وغيرهما من العلماء. ولكن علم الكسباني أمين لم ينفعني في تلك المحنة، ولا نفعتني ظاهرًا سلالة السيد حسين أفنان.

إنما الأمل، كما قلت، «ما خاب»، وإليك البيان، فقد كنا نحن الفرسان الثلاثة، على ما كان اضطراب الأحوال، نظفر بسويعة واحدة في النهار، بل في الليل، نحسبها دهرًا من النعيم. وفي تلك الساعة كان ينقسم الكون إلى قسمين: العالم، وأنا وخليلي، فيظل العالم خارجًا بعيدًا، ونمسي نحن الثلاثة في حصن حصين، بل في واحة من السحر الحلال، ولم يكن لمولانا عبد القادر يد في هذا السحر أو كلمة. لا، وربك، إنما كان كله من بعقوبة، من فضل رمانها.

تراني أنتقل من قصة إلى قصة، ولا أبالي بما يقطع أو يوصَل منها، مثل شهرزاد، كنا في الثوب الرسمي، فصرنا في بعقوبة. إيهِ بعقوبة جنة العراق. إن فيك يتراجع على الدوام صدى أغاريد الشعراء والأطيار، وهم يتغنون بجمال بساتينك، وطيب ثمارك — بعنبك وهو كالبلور والياقوت، بتمْرك وهو كالعسل من قبلات الشمس، ببرتقالك الذهبي، بخوخك الذي تخجل ألوانه الزمرد والماس الأصفر والأرجوان.

ولكن أميرة بساتينك هي التي استعارها الشعراء ليزيدوا جمال ما في صدر الحسان. هي ذات الفم المدور المهيأ دائمًا للقبلات، هي التي تخبئ في صدورها كنوزًا من لؤلؤ الحب وياقوته، هي أم النهود، وخالة ورد الخدود — هي الرمانة.

وقد كنا نجلس نحن الثلاثة حول طبق من الرمان، من العشر إلى العشرين، في ساعة من الليل تغبطنا عليها الملائكة والجن، ولا ننهض للنوم حتى نكون قد جردنا الأخيرة من ثوبها المصبوغ بذوب الياقوت الأصفر، وظفرنا بكنوزها كلها. وكذلك كل ليلة، قبل أن نصعد إلى الأسرَّة على السطح تحت ستر النجوم، كنا نجلس إلى مليكة قلبنا، ونتبارى نحن الثلاثة في حبها. وكان الكسباني السابق في أكثر الأحيان، يعض الخمسة ويلتهمها، الواحدة تلو الأخرى، قبل أن يكون قد فرغ أفنان من الرابعة. وكنت أنا الأخير دائمًا، الأخير إلا باللذة الهادئة المتأملة. فإذا كنت — أيها القارئ الفهيم! — محبًّا للرمانة مثلنا، فإني أنصح لك أن تجلس إليها في ساعة المساء الأخيرة، قبل أن تولي وجهك شطر السرير، فينعم بعد ذلك نومك، وتثور أحلامك.

عفوًا، قارئي، ما بعدتُ عن المحنة التي كنت فيها إلا لأخبرك كيف قدَّر الله كشفها في حلم من أحلام الزمان. فقد جاءني الكسباني أمين في صباح اليوم المعد للمأدبة، وهو يحمل ثوبه الرسمي، ويقول: أمرت بأن أقدمه لك، ثم جاءني السيد أفنان بثوبه، وهو يظن أن من زاره ليلًا، وأمره بأن يكشف محنتي، هو نسيبه الجليل الذكر مولانا «عبد القادر».

أما ثوب أفنان فقد كان الجسم مرتاحًا فيه أكثر مما يلزم — كان واسعًا عليَّ، فضَّاحًا لأمري. وأما ثوب الكسباني فقد أحسست أني فيه مرزوم رزمًا محكمًا، فيُخيل للناظرين أنه صُنع لي في عهد الشباب. فاخترت من الفضيحتين أصغرهما، وأَحبهما ذكرًا إلي. وبما أن خليليَّ كانا من المدعوين مثلي فقد تعاهدا صباح ذلك اليوم على أن صاحب الثوب الذي اختاره يحرم نفسه أطايب المأدبة وخمورها. فطأطأ الكسباني رأسه للقدر، وأصيب — وفقًا للعهد — بصداع شديد يحرمه شرف الحضور، فأبلغ خبره بالهاتف، فقبل رئيس التشريفات العذر، وغفر الذنبين، ذنبه وذنبي أنا … بعد أن رآني في ثوبه!

كن حكيما إذًا، ولا تنسَ إذا ما زرتَ بغداد ثوبك الرسمي الكامل، فقد لا تتوفق إلى رفيقين مثل الكسباني وأفنان، وقد لا يكونان، إذا توفقت، ممن يسكرون بالرمان، ويحلمون بعد ذلك الأحلام التي يتجلى فيها أولو الكرامات من الأولياء.

•••

أما وقد ذكرت الرمان وبعقوبه — والحديث ذو شجون كما يقال — فإني خاتم هذا الفصل بما لا يخرج عن موضوع التجوال، وإن كان خارج المدينة، فمن شارع المستنصر نذهب بك الآن إلى بعقوبة. وسنُسمعك هناك، في دار صديقنا الأبر «فخر الدين آل جميل»، ما ينسيك ما أسمعناك من صياح تلك التي ترعى على الدوام نجوم الليل «وِتوِن». فقد دعانا للعشاء، ووعدنا — وهو الجميل المحب للجمال — بشيء من محاسن الفن صوتًا وشكلًا. وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.

خرجنا من بغداد، والشمس وراءنا تدنو من الغروب، والأفق أمامنا خطٌّ من ذوب قلبها أصفرُ رقيق، يفصل بين سماء جامدة في زرقتها، وأرض هامدة غبراء. وهذا السهل السوي الفسيح الفارغ هو درب في كل مكان، وهو للسيارة ميدان. لا زرع فيه ولا كلأ، غير بقاع هنا وهناك أخضرها مائل إلى الاصفرار، وأصفرها كالغبار. وهذا قطيع من الغنم يعلل النفس بها. وهاك آخر يجتز ما لصق بين الحصى والتراب منها.

لا شيء جميل حتى في القوافل التي مررنا بها، وهي سائرة إلى بلاد فارس أو قادمة منها. ولا رفيق لنا في الطريق غير الغبار والشمس، أرض بلقع يملُّها الحادي، ويقنط منها حتى القطا، ولا يتحمل مشقتها مشيًا غير الحاج العجمي الذي يجيء زائرًا النجف. بل هو يجتازها فرحًا؛ لأنها مُدْنية إليه مشهدَي علي والحسين.

وها قد هجرتنا الشمس، ولا رفيق لنا غير الغبار. ولكننا بعد قليل وصلنا إلى خان بني سعد، في منتصف الطريق بين بغداد وجسر ديالي، فأوقفنا شرطي المخفر هناك، ورحَّب بنا قائلًا: «لا سفر بعد الغروب، قانون جديد. إما أن تبيتوا هنا، وإما أن ترجعوا.» وقد أكد لنا أن الطريق غير أمين، وأن اللصوص لا يخشون مخفرًا فيه شرطيان لا غير. فأفهمناه أننا مجازفون، وأن الأخطار لذة الأسفار، ثم أعطيناه أسماءنا — العفو — نحن السيد حسين أفنان سكرتير مجلس النظار. فسلَّم ثانية وقال: «بأمان الله.» وقد كان أفنان يحمل بندقية للصيد، والسائق سكينًا، أبرزها ليزيدني اطمئنانًا.

عاد يرافقنا اثنان — الغبار والقمر. وكنا نرتاح إلى ثالث هو صوت السيارة، ثم مررنا بجماعة من الناس، وهم مثلنا متخوفون، متوقعون القدر واللصوص. فبادرونا بالسلام بصوت عالٍ، كأنهم يستنجدون بنا، ولوَّحوا بالأردان. فرددنا السلام بصوت أعلى، وطمأنهم السائق قائلًا: «اللصوص أمامكم.»

وها قد دنونا من العمران. هو ذا جسر ديالى ومخفره، وهو ذا عدو اللصوص يسلم علينا، ثم جابي رسم المرور يلوح لنا بقنديله الأخضر. دفعنا الرسم وسمعناه يشكر ويدعو لنا بالسلامة.

بعد أن عبرنا الجسر سرنا في جادة ضيقة، مضيئة بأنوار ضئيلة من الكاز، أدت بنا إلى السوق — سوق بعقوبة المسقوفة، الحافلة بالمقاهي — وقد اكتظت بالناس. وكان السائق فرحًا فخورًا ببراعته، وسرعة سيره، كأنه لا يزال في الفلاة. وكنا نحن بشجاعته معجبين، وبجنونه راضين، وليس في السوق شرطي يعيده إلى رشده، ويذكرنا بأننا في قلب بعقوبة، لا في البادية.

وما بعقوبة، وما قلب بعقوبة، بلا رمانها؟ كنت أتوقع أن نصطدم بطبق من الرمان، بدل كرسي وخوان. زمر يا رجل، زمر. ما جئنا بعقوبة غازين، ولا نحن من المحتلين. هؤلاء السمَّار إخواننا، ولهذه الأراكيل حق في السوق مثلنا. فقال السائق: «إذا زمرنا يا بك يجيء البوليس.»

وما كاد يفصح عن خوفه حتى بدا أمامنا الشرطي، والعين منه جاحظة، واليد مرفوعة آمرة. ممنوع السير، ممنوعة السيارات. وكيف يمكننا أن ندور لنرجع أدراجنا، إلا إذا دخلت السيارة أحد المقاهي؟ كلَّم السائق الشرطي ملاطفًا، مجاملًا، وصلى على النبي. فصلى الشرطي كذلك على النبي، وما لان. فهمس السائق إذ ذاك قائلًا: السيد حسين أفنان سكرتير إلخ، فحوقل الشرطي، وأشار بيده أن سيروا بأمان الله.

وكانت السوق تزيد ضيقًا وتقل نورًا. وكنا نسمع الناس يستعيذون بالله، ويصلون على رسوله، ويحوقلون. وكنا نراهم يقفون واثبين، والأراكيل أو الكراسي بأيديهم فيلصقون بالجدران، أو يدخلون الخان أو الدكان، لنسير نحن بأمان. يا للفضيحة ويا للعار! إن جملًا هائجًا في مقهى، أو ثورًا ثائرًا في مطعم، لأقل فظاعة منا في سوق بعقوبة. ولكننا نحن والسوق ومن فيها خرجنا من الغمرة سالمين كلنا والحمد لله. وما كان من ذنبنا إلا أننا روعنا البعاقبة. وكدرنا جو سوقهم ساعة السمر.

وكدنا، ونحن متأخرون في الموعد، نكدر عيش مضيفنا، الذي كان في انتظار ضاقت دونه فسحة الصبر والأمل. فبادرنا، بعد السلام، إلى المائدة، وهو يقول: «خفنا عليكم، والله من قطاع الطريق.»

وما كانت المائدة، بزينتها وألوانها وخمرها، بعقوبية أو بغدادية. مائدة لا شرقية ولا غربية، بل جامعة بين محاسن القارتين وكنت أنا في سروري الوارف، أتشوف إلى السرور الأورف في ظلاله ونضارته. كنت أتخيل ما سيتبع الوليمة، وأنا أحسب نفسي، بعدما ذقت من غم المآدب الرسمية، مستحقًّا كل ما تجيء به أريحية الصديق الجميل. ولكني ما رأيت في الإيوان، ولا في من بدوا وتواروا هنا وهناك في الدار، ما يبرر الخيال والأمل. لا وجه من وجوه الحسان، ولا طيف لِقَيْنٍ من القيان. لا، ولا سمعت همس راقصة وراء الستار، ولا خشخشة فستان أو إزار.

انتهى العشاء، وشربنا القهوة، ثم جاءت الأركيلة، ثم شيء من الشراب. وما لبث أن تثاءب السيد حسين أفنان — قدس الله سرَّ أجداده — فقال الأخ فخري — دامت نجابته: «إنكم — ولا شك — تعبون من السفر.» ثم نهض يتقدمنا: «هذي هي غرفتك، يا حسين، وهذي هي غرفتك، يا أمين.» وكان الله محب المحسنين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤