أمام العرش

١

انعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدسة في قاعة العدل، بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية، وسقفها المُذهَّب، تسبح في سمائه أحلام البشر. أوزوريس في الصدر على عرشه الذهبي، إلى يمينه إيزيس على عرشها، وإلى يساره حورس على عرشه، وعلى مبعدة يسيرة من قدمَيه تربَّع تحوت كاتب الآلهة، مُسنِدًا إلى ساقَيه المشتبكتَين الكتاب الجامع، وعلى جانبَي القاعة صُفَّت الكراسي المكسوَّة بقشرة من الذهب الخالص، تنتظر مَن سيكتب لهم الخلاص من القادمين.

وقال أوزوريس: قُضي على البشر منذ قديم بأن تمضي حياتهم على الأرض معهم عند عبور عتبة الموت، كالظل تتبعهم حاملةً الأفعالَ والنوايا، وتتجسد فوق أجسامهم العارية. وعقب حوار طويل اتفقَتِ الكلمة على أن هذه الساعة هي الساعة الفاصلة، وها هي المحكمة تنعقد من أجل سياحة طويلة في الزمن.

وأومأ أوزوريس إلى حورس، فصاح الشاب بصوت جهوري: الملك مينا.

ودخل من الباب في أقصى القاعة رجل متلفعًا بكفنه، عاري الرأس، حافي القدمَين، وأخذ يقترب من العرش بجسمه القوي، وملامحه الواضحة، حتى وقف على بُعد ثلاثة أذرع منه في خشوع كامل.

وأومأ أوزوريس إلى تحوت كاتب الآلهة، فراح يقرأ من الكتاب: أعظم ملوك الأسرة الأولى، حارب الليبيِّين، وانتصر عليهم، وهاجم مصر السفلى، وضمها إلى مملكته الجنوبية، وأعلن نفسه ملكًا على مصر كلها، وتوج رأسه بتاج مزدوج، حوَّل مجرى النيل، وأنشأ مدينة منف في الفراغ المتخلف عن ذلك.

وقال أوزوريس مخاطبًا مينا: هاتِ ما عندك.

فقال الملك مينا: لخَّصَ تحوت كاتب الآلهة حياتي في كلمات، فما أسهل الكلام وأشق العمل!

فقال أوزوريس: لنا رؤيتنا في تقييم الرجال والأفعال، فلا تبدِّد الوقت في الثناء على نفسك.

فقال الملك مينا: ورثت مملكة الجنوب عن أسرتي، وورثت معها حلمًا كبيرًا طالما راود رجالها ونساءها، وهو تطهير البلاد من الغرباء، وخلق وحدة أبدية؛ تضم بين جناحَيها مملكتَي الجنوب والشمال. وكان صوت عمتي أوز أقوى محرِّك لإشعال ذلك الحلم الكبير، كانت ترمقني بإشفاق وتقول: أتقضي عمرك في الأكل والشرب والصيد؟

أو تقول بكبرياء: لم يُعلِّمنا أوزوريس الزراعة لتكون مناسبة للاقتتال حول توزيع ماء الفيضان!

وقلت لزوجتي المحبوبة: إنني أشعر بجذوة تستعر في صدري، ولن تبرد حتى أحقق الحلم، ووجدتها زوجة ملكية رائعة، فقالت لي بحماس: لا تدَعِ الليبيِّين يُهدِّدون عاصمتك، ولا تدَعِ الناس يُمزِّقون الأرض التي وحَّدَها النيل.

وانكببتُ على تدريب الرجال الأشداء، وصلَّيتُ للآلهة مستوهبًا الرضا والنصر، حتى تحققَ على يديَّ الحلم الذي طالما راود آبائي وأجدادي.

فقال أوزوريس: أزهقتَ من أرواح الليبيين مائة ألف!

– كانوا المعتدين يا مولاي.

– ومن أرواح المصريين شماليين وجنوبيين مائتَي ألف.

– راحوا فدية للوحدة .. ثم حلَّ الأمن والسلام وتوقفَ نزيف الدم الموسمي من جرَّاء النزاع حول مياه النيل!

فسأله أوزوريس: لِم لَم تُقنع قومك بالكلمة قبل اللجوء إلى السيف؟

– فعلتُ ذلك مع جيراني، وانضم بعضهم دون قتال، ثم حقق السيف في أعوام ما لَم تكن تُحقِّقه الكلمة في أجيال.

– يُقدِّم كثيرون هذا المنطق مداراةً؛ لإيمانهم بالعنف.

فقال مينا بحرارة: استحوذَ على مشاعري مجدُ مصر وأمنُها.

– ومجدك الشخصي أيضًا.

فقال الملك مينا بتسليم: لا أنكر ذلك، ولكن الخير عمَّ البلاد.

– وكان لأسرتك وأعوانك أوفى نصيب منه، وللفلاحين الحد الأدنى.

– مضى أكثر عهدي في القتال والبناء، لم أنعم بحياة القصور، ولم أهنأ بلذيذ الطعام والشراب، ولم أمسَّ من النساء إلا زوجتي، وكان لا بد من مكافأة الأعوان على قدر أعمالهم!

وطلبَت إيزيس الكلمة، ثم قالت: مولاي يحاكم بشرًا لا آلهة، وحسب هذا الرجل الشجاع أنه زهد في النعيم والكسل، فطهَّر البلاد من الدخلاء، ووحَّد مصر، فأطلق قوتها الكامنة، وكشف عن خيراتها المطمورة، ووفَّر للفلاحين الأمن والسلام، إنه ابن أعتز ببنوَّته.

وصمت أوزوريس قليلًا، ثم قال: أيها الملك، اتخذ مجلسك على أول كرسي في الجناح الأيمن.

فمضى الملك مينا إلى كرسيِّه مُدرِكًا أنه أصبح من أهل النعيم في العالَم الآخَر.

٢

وصاح حورس: الملك زوسر ووزيره أمحتب.

وجاء من الباب في أقصى القاعة رجلان في تتابُع، المتقدِّم منهما ربعة، متين البنيان، والمتأخر نحيل، أميَلُ إلى القِصَر، كلاهما متلفِّع بكفنه، عاري الرأس، حافي القدمَين، مَضَيَا نحو العرش حتى مَثَلا بين يدَي أوزوريس على الوضع الذي سارا عليه.

وقال أوزوريس مخاطبًا أمحتب: تقدَّمْ وقِفْ في حذاء الملك؛ فلا فرق في هذا المكان بين ملك ورعية.

فصدَعَ أمحتب بما أُمِر، وراح تحوت يقرأ صفحة جديدة.

– الملك زوسر؛ أسَّس الأسرة الثالثة، غزا النوبة، اكتشف مناجم النحاس في الصحراء الشرقية، بنى الهرم المدرَّج.

الوزير أمحتب؛ حكيم حفظَتِ الأجيال حِكَمه، برع في الطب والفلك والسحر والهندسة، وقدَّس الناسُ ذِكره بعد وفاته بمئات السنين.

ودعا أوزوريس الملك زوسر للكلام، فقال: ورثتُ مملكة موحَّدة، مترامية الحدود، جمة الخيرات، تحب السلام، ولكن يطمع فيها المحدقون بها .. فابتكرتُ سياسة لنفسي، ولمَن يجيء بعدي، تقوم على أن الدفاع عن مصر يقتضي غزو القائمين وراء حدودها، ولمَّا كانت النوبة هي أكثر البلاد تسلُّلًا إلى وطني؛ فقد قررتُ توسيع الحدود الجنوبية بغزو النوبة الشمالية، وإقامة معبد للإله فيها، وعرف أمحتب بعلمه وسحره الكنوز المخبوءة في الصحراء الشرقية؛ فأرسلتُ البعثات لاستكشاف بطن الأرض فجوزينا على ذلك بالعثور على مناجم النحاس الذي وجدنا فيه منافع قيمة في السلم والحرب، وتكاثرَ الخير؛ فشيَّدتُ الهرم المدرَّج، كما شجعتُ العلوم ومكافأة النابغين فيها، ومضَتِ الأيام في عهدي حاملةً لمصر التقدُّم والقوة.

ودعا أوزوريس أمحتب للكلام، فقال: نشأتُ محِبًّا للعلم والمعرفة، ودرستُ على كهنة منف العظام؛ فحصلتُ على أقصى الدرجات في الطب، والهندسة، والفلك، والسحر، والحكمة، ولما عَلِمَ الملك بتفوُّقي دعاني إلى العمل في حاشيته، رغم انتمائي إلى الشعب الفقير، فأثبتُّ جدارتي في كل ما كلَّفني به، عالجت بنجاح الملكة من مرضٍ من أمراض الخماسين، وأنقذت بالسحر كُبرى الأميرات من روح شريرة، وعين حاسدة؛ فولَّاني الملك الوزارة، وعهدَ إليَّ ببناء الهرم، فكان تحفةَ البناء في عصره، وما بلغتُ ما بلغتُ من شأوٍ في العلم والعمل إلا بتأييد رع وإلهامه!

وقال أوزوريس للملك زوسر: لقد غزوتَ النوبة دون أن تبدر منها أيُّ بادرةِ اعتداء على حدود مملكتك؟

فقال الملك زوسر: قلت يا مولاي إنني اهتديت إلى فكرة الدفاع عن الحدود بغزو القائمين وراءها.

– نظرية لا تصدر إلا عن قويٍّ يُضمر العدوان!

– كان واجبي الأول أن أدفع عن بلادي أيَّ أذى محتمَل!

– وشيدتَ معبدًا للإله، وأوقفتَ عليه أراضٍ كان ينتفع بها الفقراءُ.

– ولكنَّ للمعابد حقوقًا فوق كل حقوق.

– كلام لا يُقبل دون مراعاة للظروف والملابسات.

ولاذَ الملك بالصمت، فقال أوزوريس: ولم توفِّر لعمال المناجم الرعاية الكافية؛ فهلكَ منهم كثيرون!

فقال الملك: لا يُنجَز عمل كبير بلا تضحية وضحايا.

ووجَّه أوزوريس الخطاب إلى الوزير أمحتب قائلًا: حدِّثني عن موقفك من سياسة الملك!

فقال الوزير أمحتب: كان رأيي أن العلاقات التجارية أنجع من الغزو في تأمين الحدود، وأن نفقات المعبد يجب أن تُؤخَذ من مصر، ويُعفى منها أهالي النوبة الفقراء، كما رجوتُ ألا نرسل البعثات إلى الصحراء الشرقية حتى نوفِّر لها الرعاية الطبية، والتموين الكافي، ولكنَّ مولاي كان متلهِّفًا على دعم أسباب الأمان والرخاء لمصر وأهلها!

فقال له أوزوريس: سعيدٌ مَن يُوفَّق في الدفاع عن نفسه أمامنا، فلا تحاول الدفاع عن غيرك، والآلهة لم تُقصِّر في تربيتكم، فلقَّنتكم مبادئ الزراعة، والقتال، والأخلاق معًا.

وطلبت إيزيس الكلمة ثم قالت: زوسر ملك عظيم رغم هفواته، وأمحتب ابنٌ عزيز تتشرف به أمه!

وهنا قال أوزوريس: أيها الملك، سأكتفي بلومك، فاجلس أنت ووزيرك بين الخالدين.

فجلس زوسر إلى يمين مينا، كما جلس أمحتب إلى يمين زوسر.

٣

ونادى حورس: الملك خوفو.

فجاء الملك بقامته المتينة المائلة للطول، عاري الرأس، حافي القدمَين، متلفِّعًا بكفنه حتى مثَلَ أمام العرش بخشوع.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: الملك خوفو، رأس الأسرة الرابعة، صاحب الهرم الأكبر، نظَّم الإدارة تنظيمًا لم تعرفه من قبل ولا من بعد، وفي عصره فاضت الأرض بالخيرات، وعمرت الأسواق، وبلغت الزراعة والصناعة والفنون أقصى درجات الرفعة، وانفجرت هيبة فرعون في الآفاق كالشمس؛ فهابتها القبائل، فشمل السلامُ الربوعَ والأنفُسَ.

ودعا أوزوريس الملك للكلام فقال: فُتِنتُ منذ صغري بالدقة والنظام، آمنتُ بأنه يجب أن يكون لكل نشاط قوانينه وتقاليده، لا فرق في ذلك بين الشرطة والنحت أو العمارة أو الحياة الزوجية، فنَفَذَت شخصيتي إلى كلِّ قرية متمثِّلة في الموظفين ورجال الأمن والمعابد، وأصبحت مصر مجموعة من التقاليد السامية والنظم الدقيقة، وهو ما أعانني على تشييد أعظم بناء عرفه الإنسان، اشتركَتْ فيه الألوف المُؤلَّفة على مدى عشرين عامًا، فلم يتسلَّل إليه اضطراب أو إهمال، ولم يُحرَم أحد من العاملين فيه من العناية والرعاية، ولم يغب في الوقت نفسه عن عين الرقابة الساهرة، هكذا خاض قومي تجربة فذَّة بنجاح مثالي؛ وأثبتوا قدرتهم الفائقة على خدمة الإله والفوز برضاه وبركاته.

فسأله أوزوريس: هل سخَّرتَ أُمَّتك لبناء قبر لك؟

فقال الملك خوفو: لو أردتُ قبرًا لحفرته في الجبل بعيدًا عن الأعين الطامعة، ولكني شيدتُ رمزًا للخلود الإلهي، يحوي من الأسرار ما لا يحيط به عقل بشر، وتنافس الناس في العمل به؛ حتى أقمتُ لهم مدينة كاملة وسعيدة ومقدسة، حيث يُبذل الجهد فيها من أجل الإله وحده .. كان عملًا يليق بالأحرار لا العبيد!

والتفت أوزوريس إلى الجالسين إلى يمينه ممَّن كُتب لهم الخلود السعيد في العالَم الآخَر وقال: يُسمَح الكلام لمَن يشاء.

فقال الملك مينا: عمل مجيد يذكِّرني ببناء منف العظيمة التي لم يُمهِلني العمر لأتمها.

وقال الملك زوسر: كان الأوفق توجيه القوة المتاحة للغزو وتأمين الحدود.

فقال الملك خوفو: كانت خيرات البلاد المُتاخِمة تأتيني بلا قتال، وكان حرصي على أرواح رعيتي لا يقل عن حرصي على المجد والخلود.

فقال له أوزوريس: ولكنك أزهقتَ روحًا بريئة عندما تنبَّأ لك رجل بأن طفلًا سيرث عرشك.

– على الملك أن يدافع عن عرشه دفاعه عن وحدة أمته، وفي سبيل ذلك يصيب ويخطئ.

– ألم يكن في ذلك تحدٍّ لإرادة الإله؟

– نحن نفعل ما نراه واجبًا، ويفعل الإله ما يشاء.

فقال أوزوريس: وذاعت أقاويل عن احتراف كبرى بناتك الدعارة.

فقال خوفو بأسى: قد يُصاب أنبَلُ الناس في عِرضه بغير علمه.

– بل قيل إنك باركتَ سقوطها؛ لتواجه عسرًا ألمَّ بك؟

– محض افتراء، ولا يجوز الخداع في هذه القاعة المقدسة!

وطلبت إيزيس الكلمة، ثم قالت: هذا ملك منير مثل الشمس في سماء العروش، وكم من إمبراطوريات تلاشت وبقيَ هرمُه شامخًا، وطالما كانت عظمته مثار حسد لدى العاجزين من بني وطنه والغرباء.

وعند ذلك قال أوزوريس: اجلس أيها الملك على كرسيك بين الخالدين.

٤

وهتف حورس: الحكيم بتاح حتب.

فدخل رجل صغير الجسم نحيله، لم يُقلِّل عُري رأسه وقدمَيه من وقاره، وتقدَّم على مهل حتى مثَلَ في أدبٍ أمام العرش.

ومضى تحوت كاتب الآلهة يقرأ: الحكيم بتاح حتب، عاش مائة وعشرة، عمل وزيرًا للملك أسيسي أحد ملوك الأسرة الخامسة، له وصايا قيمة ذائعة الصيت.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: تلقيتُ العلم في معبد بتاح، تجلَّى تفوُّقي منذ صباي، وعملتُ كاهنًا ردحًا من الزمن حتى اختارني الملك وزيرًا له، وكانت أيام العظمة والمجد قد ولَّت، وكأنها لم تكن، ووليَ العرشَ ملوكٌ لا قوة لهم ولا حكمة؛ شُغلوا بأهوائهم عن البناء والتدبير وتحقيق الأهداف؛ فقويَ نفوذ الكهنة، وطمع حكام الأقاليم في السلطة ونيل المآرب، وانتشر الفساد بين الموظفين؛ فناءَ الفلاحون بالظلم والهوان، وارتفعت أنَّات الشكاوى، حتى انعقدت دخانًا في السماوات، ودأبتُ على تأمل الأحوال بمرارة، وأذهلتني العلاقة المبهمة بين الآلهة والناس، ولم أقصِّر في إبداء المشورة، ولكنها تلاشت في تضاعيف التسيُّب والأنانية، ولما بلغتُ العاشرة بعد المائة استدعاني الملك وأمرني أن أضع كتابًا أجمع فيه مختارات من وصاياي ففعلتُ.

فقال له أوزوريس: أسمِعْنا بعضًا من وصاياك.

فقال بتاح حتب: إذا دعاك كبيرٌ إلى طعام فاقبل ما يُقدِّمه لك، ولا تتكلم إلا عندما يسألك.

– ما سر اهتمامك بآداب المائدة؟

– قصدتُ في الظاهر آداب المائدة، ولكني عرَّضتُ في الحقيقة بجشع الكهنة الذين كانوا يطالبون بالمزيد من الأوقاف، ويتخمون بالمآكل والمشارب!

فقال أوزوريس: أسمِعْنا مزيدًا من وصاياك.

فقال بتاح حتب: لا تخن من ائتمنك؛ لتزداد شرفًا ويعمر بيتك. وعنيتُ بها حكَّام الأقاليم الذين دأبوا على بسط نفوذهم مُتَحَدِّين وحدة المملكة.

وهنا تساءل الملك مينا: هل نسوا الدماء التي سُفِكَت في سبيل الوحدة؟

فقال الملك خوفو: وكيف استهانوا بالتقاليد والأخلاق التي تقدَّسَت في عهدي؟

وأشار أوزوريس إلى الحكيم بتاح حتب؛ ليواصل حديثه فقال: قلت أيضًا: «إذا دخلتَ منزل غيرك فاحذر أن توجِّه ذهنك إلى خِدر نسائه؛ فكم هلكَ أناس من جرَّاء ذلك.» وقد أعلنتُ ذلك بِناءً على ما ذاع عمَّا يجري في حريم القصر؟

فسأله أوزوريس: ألم يكن الملك يُسيء معاملة حريمه؟

– من أجل ذلك قلت أيضًا: «إذا كنتَ عاقلًا فدبِّر منزلك، وأحِبَّ زوجتك، شريكتك في حياتك، وقَدِّم لها الطعام والملابس، وأحضِر لها العطور، وأدخِل عليها السرور، ولا تكن شديدًا معها، فباللِّينِ تملك قلبها، وأدِّ مطالبها الحقة؛ ليدوم معها صفاؤك، ويستمر هناؤك.»

فقال أوزوريس: أسمِعْنا وصية مُوجَّهة للجميع.

– لا تترك التحلي بحلية العلم ودماثة الأخلاق.

فقال الملك مينا: لم يكن في عصري حكماء ولكنَّ الرجال حرروا أرضهم من الدخلاء، ووحَّدوا مملكتهم، وها هو عصر انحلال وفساد لم يتمخَّض عن فعل قِيَم، ولكنه ترك بعض الكلمات الجميلة، فما جدوى الحكمة؟!

فاعترض خوفو قائلًا: الحكمة تعيش كالهرم وأكثر.

وقالت إيزيس: لا تقلِّلوا من قيمة ابني الحكيم؛ نحن نحتاج إلى الحكيم في عصور التدهور كما نحتاج إلى الطبيب في أيام الأوبئة، وسيظل للكلمة الطيبة أريجها على الدوام.

وأخيرًا قال أوزوريس: اذهب أيها الحكيم إلى كرسيك بين الخالدين.

٥

وصاح حورس بصوته الجهوري: ثوَّار فترة الظلام الممتدة ما بين سقوط الدولة القديمة وقيام الدولة الوسطى.

تدخل جماعة متباينة الأشكال والأحجام، مضَتْ في أكفانها، عارية الرءوس، حافية الأقدام، حتى مثَلَت في صف واحد أمام العرش.

وتلا تحوت كاتب الآلهة صفحة جديدة: هؤلاء هم رءوس الثورة، قادوا الجماهير الغاضبة في ثورة دموية مخرِّبة، ثم حكموا البلاد عهدًا طويلًا، امتدَّ ما بين سقوط الدولة القديمة وقيام الدولة الوسطى، ولم يتركوا وراءهم أثرًا يدل عليهم إلا المعابد المهدَّمة، والقبور المنهوبة، والذكريات المرعبة.

فقال أوزوريس: رشحوا مَن يمثلكم عند اقتضاء الكلام.

فأشاروا إلى رجل نحيل طويل، كأنما قُدَّ وجهُه من صخر، وقالوا: أبنوم؛ فهو أول من دعا إلى العصيان والقتال.

فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال أبنوم: تجاهلَ التاريخ أسماءنا وأفعالنا؛ فهو تاريخ يدوِّنه الخاصة، ونحن من عامة الفلاحين والصنَّاع والصيادين، ومن عدالة هذه القاعة المقدسة أنها لا تغفل من الخلق أحدًا، وقد تحمَّلنا من الآلام فوق ما يتحمل البشر، ولما انصبَّ غضبُنا الكاسر على عفن الظلم والظلمة نعتوا ثورتنا بالفوضى، ونعتونا باللصوص، وما كانت إلا ثورة على الطغيان باركتها الآلهة!

فسأل خوفو: كيف تبارك الآلهة العدوان على المقدسات؟

فقال أبنوم: بدأت المأساة بضعف الملك بيبي الثاني؛ لعجزه، وطعونه في السن، وذهوله عما يجري حوله، وتسليمه بأكاذيب المنافقين من حوله؛ فاستقلَّ حكام الأقاليم بأقاليمهم واستبدوا بالأهالي، فَرَضوا المكوس الجائرة، ونهبوا الأقوات، وأهملوا أي إصلاح للري والأرض، وانضم إليهم الكهنة؛ حرصًا على أوقافهم، يبيحون لهم بفتاواهم الكاذبة كلَّ منكر، غير مبالين بأنَّات الفقراء، وما يعانون من قهر وذل وجوع، وكلما قصدهم مظلوم طالبوه بالطاعة والصبر، ووعدوه بحسن الجزاء في العالَم الآخَر، وبلغ منا اليأس غايته، فلا حاكم يعدل، ولا قانون يسود، ولا رحمة تهبط، فانطلقتُ بين قومي أدعوهم إلى العصيان ومحاربة الظلم بالقوة، وسرعان ما استجابوا إلى النداء، فحطموا حاجز الخوف والتقاليد البالية، ووجَّهوا ضرباتهم القاتلة إلى الطغاة والظالمين، وسَرَتِ النار المقدسة إلى جميع البلاد، وانطلقت قذائف الغضب الأحمر على الحكام، والموظفين، ورجال الدين، والمقابر، ثم استولينا على مقاليد الحكم.

فقال أوزوريس: أما قرأت أشعار إيبور الحكيم وهو يرثي المقدسات وما حلَّ بالصفوة وضياع القِيَم؟

فقال أبنوم: كان إيبور شاعرًا حقًّا، ولكنه كان ينتمي إلى السادة الظالمين؛ ففاضت دموعه حزنًا على أبناء وبنات الطغاة، وهالَهُ أن يحلَّ محلهم أبناء الشعب!

فقال الحكيم بتاح حتب: إنك تتحدث يا أبنوم من منطلق حقد أسود، وهو إثم كبير.

فقال أبنوم: إنه الحقد الذي زرعه في صدورنا السادة الظالمون.

فقال الملك زوسر: عجيب ما أسمع وحقِّ الآلهة! .. ما مصر إلا مركب من تقاليد مقدسة، إذا اختلَّ منه عنصر تطاير البناء وتفتَّتْ، ففرعون هو الإله المجسَّد، والصفوة نوَّابه الذين يعكسون نوره، والموظفون خَدَمُه وأتباعُه المبلِّغون رسالته، فكيف يحل مكان هؤلاء قوم من الفلاحين والصناع والصيادين؟

فقال أبنوم: لقد حلوا محلهم بالفعل، وأثبتوا أنهم خير منهم، وأن الآلهة تتجسَّد فيمَن يرفع راية العدل والرحمة أيًّا يكون!

فهتف الملك زوسر: يا لك من وقح!

فالتفت أوزوريس إليه قائلًا: لا أسمح بتجاوز الأدب في الخطاب، اعتذر.

فقال زوسر في خشوع: أُقدِّم المعذرة والأسف.

فقال أوزوريس مخاطبًا الجالسين على كراسي الخلود: تسمح تقاليد المحاكمة لكم بالمناقشة ولكن في حدود الأدب، وتذكَّروا جيدًا أنكم قد تناقشون أناسًا من ديانات أخرى جدَّتْ بعد دينكم!

ثم التفت إلى أبنوم وقال: كان عهدكم عهد ظلام فلم يخلِّف وراءه أثرًا ولا وثيقة؟

فقال أبنوم: ذاك من فعل المؤرخين؛ لقد أقام الفلاحون حكومة من أبنائهم، حكمَتِ البلاد فاستتبَّ الأمن، وانتشر العدل، وامتدَّ ظلُّ الرحمة، شبع الفقراء وتلقوا العلم والمعرفة وتولوا أكبر المناصب، قامت دولة لا تقل في عظمتها عن دولة الملك خوفو، ولكنها لم تبدِّد المال في بناء الأهرامات ولا في الحروب، وأنفقته في النهوض بالزراعة والصناعة والفنون وتجديد القرى والمدن، ولما رجعت مصر بعدنا إلى عصر الملوك أحرقوا وثائق البردي المسجلة لأعمالنا.

فقال الملك خوفو: غابت عنك حكمة بناء الهرم.

وقال الملك زوسر: وغابت عنك حكمة إعلان حرب لغزو بلد على الحدود.

فقال أبنوم: كان شعارنا إنَّ تربية فلاح خير من بناء معبد.

فقال الحكيم بتاح حتب: نطقتَ بالكفر!

فقال أبنوم: ليس الإله بحاجة إلى معبد، ولكن الفلَّاح بحاجة إلى التربية، من أجل ذلك باركَتْنا الآلهة فحكمنا مئات السنين في سلام ورخاء.

فسأله الملك زوسر: إذن فلماذا تقوَّضَت مملكتكم؟

– تقوضت عندما نسيَ الحكام أصلهم الذي نبتوا فيه، وتوهَّموا من جديد أنهم منحَدِرون من صلب رع فأصابهم الكبر، وتسلل إليهم الظلم فحاقَ بهم ما حاق بكل ظالم.

فقال أوزوريس: تخلَّلَ ثورتكم ارتكابُ جرائم فاضحة لا يُقرِّها دين أو خلق أو قانون.

فقال أبنوم: أشهد أمام عدالتكم بأنني لم آمُرْ بها ولم يبلغني خبر عنها!

وهنا قالت إيزيس: أقرُّ لهذا الابن بأنه من أحكم أبنائي وأنبلهم، سعدَتْ بلادي في عهده سعادة لم تذقها من قبله ولا بعده، وأن إيمانه يشهد له بالصدق والتقوى، أما ما ارتكب من جرائم في ثورته فلا تخلو الجماهير الثائرة من مجرمين يندسون في جموعها؛ إشباعًا لنزواتهم.

وتَفكَّرَ أوزوريس وقتًا ثم قال: اذهبوا يا سادة إلى مجالسكم بين الخالدين.

٦

وصاح حورس: أمنمحعت الأول.

وجاء رجل متوسط الطول، قوي البنيان، بالحال التي يجيء عليها القادمون، فمثَلَ بين يدي العرش.

وراح تحوت كاتب الآلهة يقرأ: رأس المملكة الوسطى، طهَّر البلاد من بعض الدخلاء، قضى على المنازعات الداخلية، وساسَ حكام الأقاليم بالحكمة، وغزا بلاد النوبة.

ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: كنت أحد حكام الأقاليم، وكانت السلطة المركزية في غاية من الضعف والفساد، وكانت الحروب لا تهدأ بين حكام الأقاليم حتى غزا البدو بعض أطراف المملكة، وأحزنني جدًّا ما آلَ إليه حال بلدي؛ فصممتُ على إنقاذها، فرضتُ على نفسي وأسرتي التقشُّف، ودرَّبتُ الرجال؛ ثم غزوت ما حولي من أقاليم، وأعلنت نفسي ملكًا، وطالبت الحكام بالولاء، ورضيت في سبيل ذلك بالنزول لهم عن بعض الامتيازات، واتخذت من أبنائهم حاشية لي، ثم زحفت بجيش قوي على المتسللين، فطهرتُ البلاد منهم، ونظَّمتُ الإدارة، وأصلحت المعابد، ونشرت الأمن والعدل في الريف، ثم غزوت النوبة؛ لأقيم معبدًا للإله الذي أيَّدَني بنصره.

فقال أوزوريس: كدتَ تُقتل في مؤامرة دبَّرَتها حاشيتك، فما تعليلك لذلك؟

– أرادتِ امرأة أن تغتصب العرش لابنها، وضمَّت إليها بعض رجال النوبة.

– النوبة بلاد فقيرة لا تحتمل اغتصاب بعض أراضيها لوقفها على المعابد.

– تُصادفنا ضرورات لا مفرَّ منها.

وهنا تكلَّم الثائر أبنوم قائلًا: كان عليك أن تُعيد الحكم للفلاحين، ولكنك نسيتَ أصلك، وأرجعت البناء الظالم القديم إلى أصله.

– كان حكام الأقاليم قد نسوا أصلهم، وإرجاع الحكم للفلاحين كان يعني حربًا أهلية.

فقال له الملك خوفو: لقد أعدت إلى مصر تراثها المقدس.

وقالت إيزيس: لقد أنقذ مصر من الفوضى، وأجلسها على عرش المجد من جديد، ولم يكن في وسعه أن يفعل خيرًا مما فعل.

ونطق أوزوريس بالحكم قائلًا: خذ مجلسك بين الخالدين.

٧

وهتف حورس: الملك أمنمحعت الثاني.

ومضى تحوت كاتب الآلهة يقرأ.

– اتَّبعَ سياسة والده.

فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: أحطتُ خبرًا بكل سياسة أبي، ولم أجِدْ من سبيل خيرًا من أن أتبعها بكل دقة وأمانة.

فقال الثائر أبنوم: ولكن مَن لا يتقدم خطوة يتأخر خطوتَين.

فقال أمنمحعت الثاني: لقد وطدتُ علاقة مصر بالنوبة، وأنشأتُ علاقات جديدة مع بلاد بنت جلبت لنا العطور والبخور.

فوجه أبنوم سؤالًا إلى أوزوريس قائلًا: مولاي، هل يتساوى جميع الخالدين في العالم الآخَر؟

فقال أوزوريس بجفاء: يجب أن تعلم أنك لم تعُد ثائرًا يا أبنوم، ولكن لا بأس من أن أشرح لكم المصير، فاعلموا أن محكمتي تفضي إلى ثلاثة مقامات، مقام الجنة، ومقام الجحيم، ومقام بينهما للتافهين غير المذنبين ممَّن لا يستحقون الجنة ولا النار، وفضلًا عن ذلك فإن الجنة مراتب، ففيها ملوك وفيها خدم كلٌّ بحسب عمله في الدنيا.

وقالت إيزيس: حسبه أن البلاد نعمت في عهده بما نعمت به في عهد أبيه من أمان ورخاء غير منكور.

فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين.

٨

وصاح حورس: أمنمحعت الثالث.

فدخل رجل عملاق، سار بكفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: تمتعَتِ الدولة في عهده بالاستقرار والأمان والقوة، وجَّهَ هِمَّته لاستخراج المعادن من الصحراء، جدَّد وسائل الري، زادت المحاصيل وعمَّ الرخاء.

ودعاه أوزوريس للكلام، فقال: ورثتُ ملكًا مستقرًّا فزدتُه استقرارًا ببناء جيش قوي، ودام حكمي خمسين عامًا، فأُتيحَت لي فرصة طيبة لإرسال الحملات إلى الصحراء واستخراج المعادن، وجدَّدتُ وسائل الري، ففاض الخير، وارتقى الأدب والفن كما لم يرتقيا من قبلُ، وقد تغنَّى الناس بعهدي مترنِّمين:

يكسو القطرَين حلَّة خضراء
هو الغذاء وفي فمه الخير

فقال أوزوريس: ترك لك جدك وصية تقول: «واجبك يُحتِّم عليك استعمال الشدة مع مرءوسيك؛ فالناس تحترم كلَّ مَن يُخيفهم ويفزعهم، لا تتخذ منهم أخًا ولا رفيقًا ولا صاحبًا، كلُّ مَن أكل خبزي قام ضدي، وكلُّ مَن ائتمنتُه خانني» فكيف انتفعتَ بها؟

فأجاب أمنمحعت الثالث: لا أنكر أني تأثرت بها أول عهدي بالحكم، وجميع أفراد أسرتي زلزلتهم المؤامرة التي كادت تودي بحياة جدي العظيم الطيب، حتى الذين لم يعاصروها، ونصحني بعض المستشارين بألا أغدق الخير على شعبي؛ أن يتمرد ويطغى، ولكن القلب لا يستجيب في المعاملة إلا إلى إلهامه الذاتي، وقد وجدتُه يحثني على حب الناس وفِعل الخير، فلم أتردَّد في إطاعته ولم أندم على ذلك أبدًا.

فقال أمنمحعت الأول: لقد أخطأتَ يا بنيَّ، ولولا حسن حظك لهلكتَ.

فقال الحكيم أمحتب وزير الملك زوسر: بل أصبتَ السداد والرشاد؛ فإن القلب إنْ نطقَ عن الخير فإنما عن إلهامِ إلهٍ ينطق.

فقال الثائر أبنوم بمرارة: وا أسفاه! كان الشعب يحكم، فأصبح الإحسان إليه موضع جدل!

وهنا قالت إيزيس: هذا الابن الطيب العظيم تتفتح له أبواب السماء بلا دفاع.

فقال أوزوريس: اذهب إلى مجلسك بين الخالدين.

٩

ونادى حورس قائلًا: الملوك سبكمساف، نفر حوتب، حاتحور، نفر خارع، أنتف، تبمايوس.

فدخل الستة في أكفانهم وساروا عراة الرءوس، حفاة الأقدام، حتى مثَلُوا بين يدَي العرش، قرأ تحوت كاتب الآلهة: حكموا مُدَدًا قصيرة، اشتهرت بالضعف، والفساد، والتناحُر على العرش، فقويَ حكام الأقاليم والكهنة، وطغى الموظفون، وجاع الشعب، وطمع في مصر لصوصُ الأمم، حتى احتلها الهكسوس فأذاقوها الهوان.

فدعاهم أوزوريس إلى الكلام فقال سبكمساف: عشتُ مُهدَّدًا من أسرتي والحاشية، فعجزتُ عن مواجهة التحديات.

وقال الآخَرون مثل قوله ثم غشيهم الصمت.

فقال أبنوم: واضحٌ أنه لم يوجد في مصر كلها رجل ينبض قلبه بالإخلاص، وما أشبه تلك الحال بالحال التي كانت عليها البلاد يوم دعوتُ الفلاحين للثورة.

فقال أمنمحعت الأول: إنك لا تفكر إلا في الثورة، وقد كنت حاكمًا لإقليم، ووجدت البلاد تغرق في الفوضى فلم أدعُ إلى فوضى أشدَّ، ولكني درَّبتُ الرجال، واستوليت على العرش؛ فأنقذت الأرض والناس دون عدوان على الأوضاع المقدسة، ودون إهدار للأرواح والأعراض!

وقالت إيزيس: كانوا ضعافًا ولا حيلة لضعيف.

فقال أوزوريس: لقد ارتكبتم في حق وطنكم جريمة لا تُغتفَر، ولم يكن الضعف ذنبكم الوحيد، ولكن خلَتْ قلوبكم من النُّبل والنوايا الطيبة، فاذهبوا إلى الباب الغربي المفضي إلى الجحيم!

١٠

وهتف حورس: الملك سيكننرع.

دخل رجل نحيل القامة مع ميل إلى الطول، فتقدم في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش، وقرأ تحوت كاتب الآلهة: كان أمير طيبة، وحاكم الجنوب الأقصى، وهو الإقليم الذي لم يخضع لحكم الهكسوس، وإن اضطُرَّ إلى دفع الجزية لهم، وتحرَّش به الهكسوس؛ تمهيدًا لضم إقليمه إلى سيادتهم المباشرة، مدعين أن خوار أفراس البحر في بحيرة قصره تنفي النوم عن أجفان ملكهم، ولكنه أبى التسليم، وتقدَّم على رأس جيشه لمواجهة التحدي، وقد أبلى بلاءً حسنًا، وسقط في المعركة قتيلًا بإصابات عديدة في رأسه ووجهه.

فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: إني أنتمي إلى الأسرة التي قاومت الغزو، وتحصَّنت في الجنوب حتى ملَّ العدو محاربتها؛ فأعلنت الهدنة، وترك الجنوب الأقصى تحت حكم أسرتي نظير جزية سنوية، واستمر الحال على ذلك أكثر من مائة عام، حتى وليتُ الحكم، ولم أكن أنأى عن التفكير في العدو الغاصب، ولا في الاستعداد لمناجزته إذا سوَّلَت له نفسه الزحف جنوبًا، وكانت إمكاناتي في العدة والعدد محدودة؛ فضممتُ النوبة إلى إقليمي، وعاملتُها معاملة الند للند، وقوَّيتُ جيشي بتجنيد بعض رجالها، ولمَّا تحداني العدو تضاربت الآراء من حولي، فدعَتْ قلةٌ إلى الدفاع، وحذَّرَتِ الكثرةُ من سوء العاقبة، ولكني شجَّعتُ الخائفين، وأيقظت الهِمَم بالدين والحِكَم والأمثال، حتى صحَّت العزيمة على القتال، وقد قاتل جيشي قتالًا مريرًا استردَّ به بعض ثقته بنفسه، وفي إحدى المعارك أحاط بي الأعداء، فقتلتُ منهم ثلاثة، ثم انهالت عليَّ الحِراب والبلط.

فسأله الحكيم بتاح حتب: هل استنفدتَ جميع الوسائل السياسية قبل الدخول في معركة غير متكافئة؟

فقال سيكننرع: قد فعلتُ؛ إذ كانت تلزمني ثلاث سنوات؛ استعدادًا للتاريخ الذي وقَّتُّه بدءًا للمعركة، ولكني علمتُ بأنهم حشدوا جبهتهم قبل إرسال إنذارهم.

فقال أبنوم: عشتَ بطلًا ومتَّ بطلًا.

فقالت إيزيس: أكرِّر ما قال ابني أبنوم من أنك عشتَ بطلًا ومتَّ بطلًا.

وعند ذلك قال أوزوريس: إلى كرسيك بين الخالدين.

١١

ونادى حورس: الملك كاموس.

فجاء رجل متوسط القامة، متين البنيان، فمضى إلى موقفه أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: تولى الإمارة في نفس اليوم الذي قُتل فيه أبوه؛ حتى لا تهون العزائم، وألقى نفسه في المعركة دون تردُّد، وظلَّت الحرب سجالًا وهو صامد على رأس جيشه حتى مات.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: وجدتُ نفسي مطالَبًا من بادئ الأمر بالمحافظة على روح القتال بين جنودي، الذين هزَّهم مصرع قائدهم؛ فانقضضتُ على مقدمة العدو، ولم أترك لجنديٍّ من جنودي فرصة للتردُّد، ولم تغِب عن تقديري قوة العدو وتفوُّقه؛ فتحصَّنتُ في موقع ضيِّق بين النيل والجبل، واتخذتُ موقف الدفاع؛ حتى أسترد الأنفاس، وأجمع الشمل، وفي الوقت نفسه واصلتُ التجنيد والتدريب، وفارقتُ الحياة بعد أن أعياني الجهد والسهر!

فقال الملك مينا: عاش كلانا مدة حكمه في ميدان القتال.

وقال أبنوم: جميع الملوك مدينون بجاههم لمصر، إلا هذه الأسرة؛ فإن مصر مدينة لها!

وقالت إيزيس: ليس الرجل في حاجة إلى دفاع.

فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين.

١٢

وصاح حورس: الملك أحمس.

فدخل رجل طويل ممشوق القامة، فمضى بكفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حلَّ محل أبيه عقب وفاته، ولم يكُفَّ عن مناجزة العدو، واستكمل في أثناء ذلك استعداده؛ فتحول من الدفاع إلى الهجوم، وأثبتَ مهارة في القيادة تضاهي شجاعته الشخصية، فانتقل من نصر إلى نصر، حتى حاصر هواريس عاصمة الهكسوس واقتحمها، ثم طاردَ العدو في آسيا حتى مزَّقَه وشتَّت فصائله.

فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: الحق أنني جنيت ثمرة استعداد أسرتي الطويل، وأعانني في الكفاح ابنٌ من أبناء الشعب، هو القائد أحمس بن إبانا، وكلما ظفرنا في موقعة ارتفعت روح القتال في جنودي، وتخاذلت بين جنود العدو، فلم نعُد نتصور أنه يمكن أن ننهزم، ولم يعُد يتصور أنه يمكن أن ينتصر، وبسقوط عاصمته، انتهى حكم الهكسوس وتحررت مصر، ولم يهدأ لي بال حتى طاردتهم خارج الحدود الشرقية؛ كيلا تقوم لهم قائمة مرة أخرى أو يفكروا في الانتقام، وأمضيت بقية عمري في تطهير البلاد من آثارهم وأعوانهم، وفي تنظيم الإدارة وإصلاح الري والأرض، وانتهى عهدي ومصر تستقبل جيلًا جديدًا من أبنائها، يزهو بالبطولة، ويحلم بالغزو، ويضطرم بروح الاقتحام.

فقال خوفو: تلك طبيعة جديدة.

فقال زوسر: وهي رائعة أيضًا.

فقال الحكيم بتاح حتب: لعلها لا تخلو من شر.

فقال سيكننرع: لا سبيل إلى حياة كريمة وسط متوحشين إلا بها.

وهنا قالت إيزيس: فلنبارك هذا الابن الذي حرَّر أرضنا.

فقال أوزوريس: إلى كرسيك بين الخالدين.

١٣

ونادى حورس: الملك أمنحتب الأول.

ودخل رجل ربعة، عريض المنكبَين، فمضى متلفِّعًا بكفنه إلى العرش، ومثَلَ في خشوع.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: في أول عهده زحف الليبيون على الغرب، فطردهم بعد أن كبدهم خسائر فادحة، كما مدَّ حدود مصر الجنوبية، ثم غزا جانبًا كبيرًا من سوريا.

ودعاه أوزوريس إلى الكلام، فقال: وليتُ العرش فوجدت أن ذكريات الماضي البعيد والقريب لا تبرح الأذهان، فالشيوخ لا ينسون أشباح الهكسوس وإذلالهم لهم، والشبان ينتشون بانتصارات أحمس ويطالبون بالمزيد منها؛ فعكفتُ أولًا على تنظيم الإدارة ونشر مظلة القانون والأمن، ومراقبة الموظفين، وحدثَ أن تعرَّضَت الحدود الغربية لزحف ليبي، فتصديتُ له بسرعة فاقت تقدير العدو، وأنزلت به هزيمة مُنكَرة، ولفحَتْني نار الحماس المؤجَّجة في قلوب القُوَّاد والضباط؛ فقمتُ بغزوة موفَّقة في مجاهل النوبة، ثم أبلغتني العيون أن فلول الهكسوس تتجمع طمعًا في استرداد ما فقدَتْه في بلادنا؛ فسِرتُ على رأس حملة؛ فأعلنَت فلسطين الولاء دون قتال، ثم هجمتُ على تجمعات الهكسوس في غرب سوريا، فمزقت شملهم وقضيت على البقية الباقية منهم، وأمرتُ بتشييد معبد لآمون، ثم رجعت بالأسرى والغنائم، وتعهَّدَت جميع البلاد المغزوة بدفع الجزية فازدادت موارد البلاد وعمرت الأسواق.

فقال أحمس: أحسنت بما فعلت كلَّ الإحسان، فحدود مصر الجنوبية لا تأمن إلا بامتلاك النوبة، ومركز الدفاع عن حدودنا الشرقية يقع في سوريا.

فقال الحكيم بتاح حتب: هذا يعني أن أمان مصر لا يوجد حقًّا إلا بخلق أعداء موتورين خارج حدودنا!

فقال أحمس: علمتني الحياة أنها صراع مستمر لا راحة فيه لإنسان، ومَن يتهاون في إعداد قوَّته يقدِّم ذاته فريسة سهلة لوحوش لا تعرف الرحمة.

فقال أمنحتب الأول: ولم أضنَّ بغالٍ من القرابين على المعابد، استجلابًا لبركة الآلهة، ففي ساحتها المقدسة الضمان الأول والأخير لنجاة مصر!

فقالت إيزيس: أعمال هذا الابن خير شهادة له.

فقال أوزوريس: امضِ إلى مجلسك بين الخالدين.

١٤

وهتف حورس: الملك تحتمس الأول.

فدخل رجل متوسط القامة، رشيق القدِّ، وتقدَّم في كفنه حتى مثَلَ بين يدَي العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: استقرَّت الأحوال في الداخل في عهده، قام بغزوة في النوبة، وأخمدَ ثورة في سوريا، واقترب من حدود ما بين النهرَين، وعمل على جلب الأخشاب من لبنان، فأدخلها في بناء المعابد.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: كانت أمي امرأةً من الشعب، فلم يكن دمي الملَكيُّ خالصًا، فتزوجتُ من الأميرة أحعموس، وأصبحَتْ بذلك ولايتي للعرش ولايةً شرعية، وجذبَني التطلُّع إلى المجهول إلى التوغُّل في بلاد النوبة؛ لعلِّي أصِل إلى النبع المقدس الذي يتسلل منه النيل، وسددتُ سهمي إلى قائد العدو، فأرديتُه قتيلًا، فتمزق شمل جيشه، وكنا أول مَن بلغ الشلال الثالث، ونصبتُ هناك خمسة أحجار أثرية سجَّلَتِ انتصاراتي، كما شيدتُ قلعةً أقمتُ فيها حامية، ونظَّمتُ الإدارة، فتحسَّنَت أحوال القبائل، وما كدت أرجع إلى طيبة حتى جاءتني أخبار عن ثورة قامت في سوريا، فقُدتُ حملةً إليها وأخمدتُها، وبرجوعي إلى مصر قررتُ أن أخصِّص الجزية للإصلاح والبناء، معتمدًا على عبقرية المهندس أنيني الذي شيَّد صرحَين كبيرَين عند مدخل معبد آمون، وبناء ساحة كبيرة مسقَّفة ذات عمد من خشب الأرز اللبناني، وأسعدني الحظ بإصلاح معبد أوزوريس — معبدكم يا مولاي — بالعرابة المدفونة، وزودته بالأثاث الجميل والأواني الذهبية والفضية، وأوقفتُ عليه الأوقاف.

فسأله أحمس: ما سبب قيام الثورة في سوريا؟

– التخلُّص من دفع الجزية.

فسأله أمنحتب الأول: ألم تترك حامية بها كما فعلت في بلاد النوبة؟

– كلا، فقد أشفقتُ من تمزيق قواتي وأبقيتُ عليها درعًا للطوارئ.

فقال الحكيم بتاح حتب: هكذا نحصد ما زرعنا!

أما الثائر أبنوم فقال: بلغ بك الهوان أن تضطر إلى الزواج من أميرة؛ لإضفاء الشرعية على ولايتك، لا لذنبٍ سوى أن أمك كانت من نساء الشعب؟ ولولا أنكم تبرأتم من ثورة الشعب المجيدة، وحكمه العظيم، وأسدلتم عليها ستار الظلمات، لما عرَّضتم كرامتكم لذلك الهوان.

فقال خوفو مخاطبًا أوزوريس: نشكو إليك أيها الإله هذا المشاغب الغريب بيننا.

فقال أوزوريس: لقد احتلَّ موضعه بموجب حكم إلهي عادل!

وقالت إيزيس مشيرة إلى تحتمس الأول: لا يحتاج هذا الابن إلى دفاع.

فقال أوزوريس: إلى كرسيك بين الخالدين.

١٥

ونادى حورس بصوته الجهوري: الملك تحتمس الثاني.

فدخل رجل نحيل، بادي الضعف، وذهب إلى موقفه أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: قضى على تمرُّد قام في الجنوب، وآخَر في آسيا، وكان ضعيفًا عليلًا؛ فحكم فترةً قصيرة وانتقل إلى العالَم الآخَر.

ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: عقب وفاة أبي طمع الأبناء في العرش، واستند كلٌّ إلى حزب يؤيده، وقد رشَّحني أبي للعرش، ولكن أختي حتشبسوت اغتصبته، وتزوجت من أخي؛ لتغطِّي به أنوثتها، غير أن حزبي تمكَّن من رد حقي إليَّ؛ فوليتُ العرش دون عنف أو سفك دماء، حتى الانتقام لم ألجأ إليه، ورغم سوء صحتي فإنني لم أتردَّد عن ضرب التمرُّد الذي قام في الجنوب، والآخَر الذي قام في آسيا، وتعذر عليَّ الاستمتاع بالحياة، وعجزتُ عن الاستمرار فيها إلا بضعة أعوام.

فقال الملك مينا: كان يجب أن تنزل عن حقك لضعفك، فما ينبغي أن يتصدى للحكم ضعيف!

فقال تحتمس الثاني: رغم ذلك فقد انتصرتُ.

فقال مينا: بفضل الحظ، ورغم ضعفك!

فقالت إيزيس: لقد بذل ما في وسعه، واقترن عمله بالفلاح.

فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين.

١٦

ونادى حورس: الملكة حتشبسوت.

فدخلت امرأة متوسطة القامة، مليئة البناء، فمضت في كفنها حتى مثَلَت أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: مضى عصرها في سلام ورخاء، وقد شيَّدت معبد الدير البحري، وأحيَت الصِّلات ببلاد بنت، وأحضرت منها شجر المرِّ؛ وغرسَتْه في ساحة المعبد، وانهالت عليها الجزية؛ فتفشى الثراء ورضي الناس.

ودعاها أوزوريس إلى الكلام فقالت: كنتُ الوحيدة المستحقة للعرش؛ فأنا آخِر مَن بقِيَ من ذرية الملكة أحعموس، ودمائي مَلكِية إلهية، بخلاف أخي تحتمس الثاني، الذي كان ابنًا لزوجة غير شرعية تُدعى موت نفرت، وأخي تحتمس الثالث الذي كان ابنًا لمحظية تُدعى إيزيس، وقد اضطُرِرتُ للزواج من تحتمس الثالث؛ احترامًا لتقاليد بالية تستهجن حكم النساء، وقد عمل كاهنًا في معبد آمون، ولم يكُفَّ عن المَكايد للوصول إلى العرش، وعاوَنه على ذلك كهنة آمون، وقد انتزعَ المُلك منا، وتولى أخي تحتمس الثاني بفضل تنظيم حزبه، ولما مات؛ عاد الحكم إليَّ، ومعي تحتمس الثالث، وقد فرضنا من الرقابة حصارًا حوله، فأبطَلْنا مكائده، وانزوى في الظلِّ كشيء لا قيمة له، واستعنتُ برجال يُعتبرون من أعظم الرجال، مثل سنموت، وسن من، وحابوسنب، ووهبتُ للناس عصرًا ذهبيًّا من السلام والرخاء، حتى آمنوا بالمرأة وقدرتها على الحكم!

فقال أبنوم: في عهدنا الذي دفنتموه في الظلام حكمَت ملكتان عظيمتان!

وسألها الحكيم أمحتب: ولِم لَم تدعمي عرشك بإشراك أخيكِ في الحكم؟

فقالت حتشبسوت: لم يكن مثلي من سلالة الشمس، وكانت سابِقَتُه في حَبْك المكائد توجب الحذر منه، وقد أشاروا عليَّ باغتياله، ولكنني كرهتُ الغدر وسفك الدماء.

فسألها الحكيم بتاح حتب: هل يُفهم من كلامك أن العلاقة الزوجية بينكما كانت مجرد علاقة رسمية؟!

فأجابت قائلة: نعم.

فعاد يسألها: وهل أفنيتِ عمرك عذراء؟

فقال أوزوريس: لا حق لك في طرح هذا السؤال، والملكة في حِلٍّ من تجاهله.

وقالت إيزيس: ابنة تفخر بها أيُّ أم وليست في حاجة إلى دفاع.

وقال أوزوريس: إلى كرسيك بين الخالدين.

١٧

ونادى حورس: الملك تحتمس الثالث.

ودخل رجل قصير القامة، متين البنيان، تنطق معالِم وجهه بالجلال، فتقدَّم متلفِّعًا بكفنه حتى مثَلَ في خشوع أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: تولى العرش عقب وفاة حتشبسوت؛ فطهَّر الإدارة من خصومه، وقبض على النظام بيد من حديد، أكرمَ كهنة آمون وبوَّأهم منزلة السيادة على كهنة القطرَين، وأعدَّ جيشًا وأسطولًا لم تعرف البلاد لهما نظيرًا من قبلُ، وخاض غمار حروب عديدة، تمخَّضَت عن إنشاء أكبر إمبراطورية شهدَها العالَم القديم حتى وقته، دانت بسلطانها آسيا الصغرى، وأعالي الفرات وجُزر البحر، ومستنقعات بابل، وليبيا، وواحات الصحراء، وهضاب الصومال، وشلالات النيل العليا؛ فأصبحت مصر ملتقى الأجناس من جميع الأمم ومستودع الخيرات والسلع، وأقام المعابد والحصون والمسلات في مصر وجميع البلاد التابعة لها، وترك وراءه وطنًا يتربَّع فوق قمة العظمة والحضارة.

فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: ذقتُ في مطلع حياتي الظلم كما لم يذُقه ملك، كنت أحقَّ إخوتي بالعرش؛ نظرًا لما أودعت الآلهة فيَّ من قوة، ولما حصَّلتُه من علوم الدنيا والدين، ولكني حُرمتُ من حقي بسببٍ تافِه هو أصل أمي، ولم أصِل إلى حقي بمكيدة كما قيل، ولكن الإله آمون وهو يستعرض الكهنة في عيده توقَّف أمامي وأنا ماثِل بين الكهنة مُعلِنًا عن ترشيحه لي للعرش، فسجدتُ بين يدَيه متقبِّلًا نعمته، ولكن حزب الملكة ضربَ حولي حصارًا معتمِدًا على القوة؛ فتعطَّلَتْ كافة صلاحياتي، وعشتُ في الظلِّ كرجلٍ لا وزن له، ولما قبضتُ على مقاليد السلطة بعد موت الملكة، أنزلتُ العقاب بالرجال الذين اغتصبوا سلطتي الشرعية، ودنَّسوا فراش زوجيَّتي، وأثمرَ حُكم المرأة ما كان خليقًا أن يثمره من ضعف؛ فتفكَّك الجيش، وتفشى العصيان في الولايات الخارجية، وتلاشَت هيبة مصر وإلهها آمون العظيم، وكانت الإمبراطورية حلمي الأكبر، لا حبًّا في القتال أو طمعًا في الثراء، ولكن دفعًا لشعاع الحضارة المصرية؛ كي يعمَّ نوره ما حولنا من أقوام، وكي يحتلَّ آمون مكانته الرفيعة بين جميع الآلهة.

فقال أحمس: أشهد بأنك حقَّقتَ أحلامنا جميعًا، وحسبك أنك عرفتَ النصر عشرات المرات، ولم تعرف الهزيمة مرةً واحدة.

وسأله أبنوم: ماذا قدَّمتَ للفلاحين؟

فأجاب تحتمس الثالث: كان منهم جنودي وضباطي وقُوادي، وقد أصلحتُ وسائل الري، وأشبعتُ احتياجاتهم، فقتلتُ الفقر في ربوعهم، وتحوَّل منهم جمع غفير للعمل في المدن في شتى الصناعات والحِرَف والتجارة.

فقال الحكيم بتاح حتب: لقد قامت إمبراطوريتك على الآلاف المؤلَّفة من جماجم المصريين والأمم!

فقال تحتمس الثالث: الموت لا مفر منه، ولَأنْ يموتَ الإنسان وهو يبني المجد خيرٌ من أن يهلك في وباء أو بسبب لدغة ثعبان، والحق أنني لم أكن جبارًا ولا محبًّا لسفك الدماء، ورسمتُ خططي على أساسٍ من المفاجأة والإتقان؛ لأحصل على أسرع نصر بأقل تكلفة من الأرواح، وعقب حصار مجدُّو وقع في يدي جميع أعدائي من الجنود والملوك والأمراء، فاستوهبوني حياتهم، فرَقَّ قلبي لهم ووهبتهم الحياة، وأرسلتُ أبناءهم إلى طيبة ليتلقوا العلم والحضارة، وليتأهلوا لحكم بلادهم مكان الحكام المصريين، وهي سياسة إنسانية حكيمة لم تُعرف قبلي.

فقالت الملكة حتشبسوت: لولا الثراء الذي تركتُه لك ما استطعتَ أن تحشد حملة واحدة من حملاتك العديدة على آسيا.

فقال تحتمس الثالث: حقًّا لقد أورثتِني ثراء في المال، ولكنَّكِ تركتِ الجيش على حالٍ تستحق الرثاء، وسرى الفساد بين رجالك المُقرَّبين!

فقالت حتشبسوت: ما زلتَ حاقدًا، سيئ الظن، فاسد الطوية، وما زلتَ مُصِرًّا على اتهامي في شرفي دون دليل!

فقال أوزوريس: حسبكما تبادل للكلمات الجارحة.

وهنا سألته إيزيس: أكنت تُحبها يا بنيَّ؟

فقال تحتمس الثالث: كانت تسخر من قِصَر قامتي التي سجدَت أمامها ملوكُ جميع الأمم!

فقالت إيزيس: هذا الابن العظيم جدير بأن تفخر به مصر على مدى الزمان.

فقال أوزوريس: اذهب إلى مجلسك بين الخالدين.

١٨

وصاح حورس: الملك أمنحتب الثاني.

فدخل رجل عملاق، تطفح الهيبة من طوله وعرضه، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: لم يعرف العرشُ رجلًا في قوته البدنية، وكان عهده عهد سلام، فعكف على البناء والتعمير.

ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: كنت قويًّا؛ فخافني جميع القريبين مني، والتزم كلٌّ بواجبه وكأن عيني تراقبه، وكان لي قوس لا يستطيع جذب وَتَره سواي، ودعاني الاستقرار المستتِبُّ إلى تركيز همتي على البناء والتعمير، ففعلتُ.

وسأله الحكيم أمحتب: ماذا كان موقفك حيال عظمة سلفك؟

فأجاب أمنحتب الثاني: كان مَثَلي الأعلى، ولكني كنت أشعر أحيانًا بضآلتي بالقياس إليه؛ فتعتريني كآبة شديدة!

فقالت إيزيس: على أي حالٍ لقد حكمتَ فعمَّرتَ، ولم يطالبك زمانك بأكثر مما قدَّمتَ!

فقال أوزوريس: إلى مجلسك بين الخالدين.

١٩

ونادى حورس: الملك تحتمس الرابع.

فدخل رجل طويل، نحيل، تقدَّم حتى مثَلَ بين يدَي العرش، وراح تحوت كاتب الآلهة يقرأ: تولى العرش بسبب وفاة ولي العهد، وقام تمرُّد في الأملاك الآسيوية؛ فأدَّب المتمردين، وتزوَّج من موت أويا، ابنة ملك ميتاني.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: لم أكن مرشحًا للعرش، وذات يوم قمتُ برحلة إلى أبي الهول، وجلست في ظله أستريح، وداعبني شبه نعاس، فسمعت صوته يطالبني بإزالة الرمال من حوله، واعدًا إياي — إذا فعلتُ — بالعرش، وفي الحال دعوتُ العمال وأمرتُهم بإزالة الرمال، متحمِّلًا عبء ذلك كله، وحدث ما لم يتوقعه أحد، فماتَ ولي العهد، ووجدتني على العرش دون منافس، ومن أول يوم أدركتُ أن واجبي ينحصر في المحافظة على العظمة الموروثة؛ فتعقَّبتُ المتمردين، ولتوثيق العلاقات مع الأمم تزوجتُ من ابنة ملك ميتاني.

فقالت الملكة حتشبسوت: إنها خطوة تشي بشيء من الضعف!

فقال تحتمس الرابع: اعتبرتها سياسة حكيمة!

فقال خوفو: اختيار ملكة من الخارج أمر لا يخلو من خطورة!

فقال الحكيم بتاح حتب: أوافق الملك على أنها سياسة حكيمة.

فقال تحتمس الرابع: وفضلًا عن ذلك، فالحريم الملكيُّ لا يخلو أبدًا من نساء الأمم!

فقالت إيزيس: قام هذا الابن بواجبه في الداخل والخارج.

فقال أوزوريس: إلى كرسيك بين الخالدين.

٢٠

ونادى حورس: الملك أمنحتب الثالث والملكة تيي.

ودخل الزوجان الملكيان وتقدَّما في كفنهما حتى مثَلَا أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: دُعيت الملكة تيي مع الملك لمشاركتها في الحكم، وكان عهد هذا الملك عهد رخاء وعزٍّ لم يسبق له مثيل؛ إذ استقبلَت مصر خيرات الأمم وأموالها، وسهر على إمبراطوريته بيقظة وكفاءة؛ فأدَّب أي متمرِّد، أيًّا كان موقعه، واستمتع بالحياة كما لم يستمتع مَلِك من قبلُ، فشيَّد القصور والمعابد، وعشق الطعام والشراب والنساء، وفي آخِر أيامه تزوَّج من ابنة ملك ميتاني في سن حَفَدته؛ فعجَّلت بوفاته.

ودعاه الملك للكلام فقال: ورثتُ عن جدي العظيم تحتمس الثالث إمبراطوريته؛ فعقدتُ العزم على أن أرِثَ عظمته أيضًا، ولم يكن ثمة مجال لتوسيع الإمبراطورية؛ فقوَّيتُ دعائمها، وأدَّبتُ متمرِّديها، ثم مارستُ العظمة في البناء والتعمير، وتوفير الرخاء لشعبي، وتحدَّيت التقاليد، فتزوَّجتُ فتاة من الشعب، كانت خير شريك لي في مُلكي، بما أوتيَتْ من فطنة وحكمة، وخلَّفتُ ورائي عهدًا سيظل رمزًا للسعادة والرخاء.

فقالت الملكة حتشبسوت: سرَّتني شهادتك للملكة بالجدارة؛ فهي شهادة للمرأة، وفيها رد بليغ على أعدائها.

فقال أمنحتب الثالث: تيي ملكة عظيمة بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء.

فقال أبنوم: ولكنكَ جازيتها أسوأ الجزاء بولعك النهم بالنساء.

فقال أمنحتب الثالث: لكل ملك حريمه، وتلك الأهواء العابرة لا تنال من مكانة الملكة العظيمة!

– وتتزوج في شيخوختك بنتًا في سن حفيدتك؟

فقال الملك: أردتُ أن أوثِّق علاقة مصر بميتاني.

فقال أوزوريس: لا يجوز الكذب في هذه القاعة المقدسة.

فقال أمنحتب الثالث بنبرة المعتذِر: الحق أني سمعتُ عن جمالها الفائق، وكنت مجنونًا بالجمال، ورغم الشيخوخة والمرض أفرطتُ في الحب حتى قُضيَ عليَّ.

فسأله الحكيم بتاح حتب: أكانت تلك ذروة حكمة العمر؟

فقال أمنحتب الثالث: ميتة الحب أفضل من ميتة المرض.

•••

ودعا أوزوريس الملكة تيي للكلام، فقالت: اختارني الملك زوجةً عن حُب، وانجذبتُ إليه مبهورة بالحب وأبَّهة المُلك، وربطَ الحُب بيننا حتى آخِر العمر.

وقد استشارني ذات مرة فيما يعرض له من شئون الملك، فأرضاه رأيي غاية الرضى، وقال لي: «إنكِ يا تيي امرأة حكيمة بقدر ما أنت أنثى محبوبة.»

ومن يومها لم يعقد أمرًا حتى يستمع إلى رأيي، وجعلنا نستقبل الوزراء والمسئولين معًا، وأشارك برؤيتي في المسائل المطروحة على بساط البحث، وكل مسئول في المملكة اعترفَ بقَدْري وحكمتي. وهرع إليَّ الكهنة في إبَّان الأزمة الدينية التي استفحلَ أمرها بسبب دعوة ابني إخناتون، وقد بذلتُ أقصى جهدي لتجنُّب الكارثة، ومنع الحرب الأهلية.

أما عن ولع زوجي بالنساء فقد كان لكل فرعون حريمه، ولم تطمح زوجة إلى الاستئثار بالملك، بل لم أجد بأسًا في انتقاء الجميلات له؛ حتى تصفو نفسه وينهض بأمانته على خير وجه، قاهرة بقوة إرادتي غيرة المرأة الطبيعية، مُقنعة نفسي بأن الملكة ليست امرأة عادية، وأنها مسئولة عن مزاج زوجها، كما أنها مسئولة عن سياسته!

فسألتها حتشبسوت: ألم تنهزم الملكة ولو مرةً أمام المرأة؟

فقالت تيي: لم أعرف الهزيمة إلا أمام ابني!

فقال الحكيم بتاح حتب: ولكن المرأة هي المرأة!

فقالت تيي: ولكن تيي مثال وحدها لا يتكرر!

فقالت إيزيس: أثبتت هذه السيدة جدارة المرأة بالحكم أكثر من حتشبسوت نفسها، وكان زوجها ملكًا عظيمًا، وهيهات أن ينقص من قدره ولَعُه بالنساء ولذة العيش، وقد تقلَّبَ في النعيم بعد أن يسَّرَه لعامة شعبه، فتقلَّب معه في النعيم؛ فليهنأ قلبي بهذا الابن وهذه الابنة.

فقال أوزوريس: إلى مجلسكما بين الخالدين.

٢١

وهتف حورس: الملك إخناتون والملكة نفرتيتي.

فدخل رجل تختلط الذكورة والأنوثة في قسمات وجهه، وامرأة جميلة، فتقدما في كفنيهما حتى مثلا أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: ورثا العرش والحكم شريكين في القيام بالأمانة، فجَّر ثورة دينية فدعا إلى عبادة إله جديد واحد، وألغى الدين القديم وآلهته، وبشَّر بالحب والسلام والمساواة بين البشر، تعرَّضَت البلاد في الداخل للانحلال والفساد، كما تعرَّضَت الإمبراطورية للتمزُّق والضياع، ومضَتِ الأرض إلى حافة الحرب الأهلية؛ فسقط الملك، وقضَت ثورة مضادة على ثورته، ومحقَ المؤرخون والملوك عهده من التاريخ، واعتبروه شرَّ عهد انقضَّ على حضارة مصر، فأوشك أن يبيدها!

ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال إخناتون: منذ الصغر وأنا مواظب على ملء روحي بالمعرفة والحكمة الإلهية؛ حتى هبط على قلبي وحي السماء بنور الإله الواحد والدعوة إلى عبادته، وكرَّستُ حياتي لذلك، ثم كرَّستُ عرشي — لمَّا وليت العرش — لخدمة نفس الهدف، وسرعان ما قام صراع وحشي بين دعوتي النورانية وبين ظلمات الجهل والتقاليد، وأطماع الكهنة والحكام الظامئين إلى الجاه واستعباد الفلاحين ورعايا أمم الإمبراطورية، ولم يتسلل الضعف قطُّ إلى جهادي الروحي، ولم أرضَ باستعمال العنف أو القهر، وذقتُ النصر أعوامًا، فنشر الخيرُ جناحَيه، ولكن انعقدَت سحب المكائد والدسائس، وزحفَت جيوش الظلام حتى حاصرَتْني من جميع الجهات؛ فتهاويتُ بلا حول، وحلَّت بي الهزيمة ولكن ثقتي في النصر النهائي لم تتزعزع قطُّ، فلم يعرف ملِك حياة أسمى من حياتي، ولا مني بنهاية أتعس من نهايتي!

وقالت الملكة نفرتيتي: صدق يا مولاي فيما قال، لقد جاهدنا جهاد الأبطال، حتى اجتاحتنا قوى الشر فتقوَّض البنيان السامق وتداعت أركانه!

وكان الحكيم أمحتب أول المعلِّقين فقال: لقد كنا نحدس قوة إلهية واحدة تربض وراء آمون ورع وبتاح وسائر الآلهة، ولكنا لمسنا تعلُّق الناس بالرموز المجسدة يلتفون حولها في كل إقليم يستمدون منها القوة والعزاء؛ فتركنا الأمور تجري مع ما جرَت عليه رحمةً بالقلوب المؤمنة، وحفظًا لها من الضياع!

فقال إخناتون: وجدتُ الناس في ضلال، وأنه آنَ لهم أن يواجهوا الحقيقة بكل أبعادها!

فقال الحكيم بتاح حتب: معاملة الناس فن عسير أيها الملك، ومَن لا يحسنه فقد تخذله نواياه الطيبة فيقتل مَن يحب وهو ساعٍ إلى إنقاذه.

فقال إخناتون: لولا المغرضون لتم الخلاص لمَن نحب.

فسأله أبنوم: وماذا فعلتَ بالمغرضين؟

– عاهدت نفسي منذ البدء على التعامل بالحُسنى ونبْذِ الإيذاء والقهر.

فهتف أبنوم: ليس للأشرار إلا العصا والسيف!

فقال إخناتون: آمنتُ بالحب للعدوِّ والصديق.

فقال أبنوم: لقد ضيَّعتَ رسالتك بسذاجتك، وليس رجل الخير إلا مقاتلًا!

فقال تحتمس الثالث: لقد تركتُ لك أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ، فكيف ضاعت في عهدك، وتحت إمرتك جيش لا مثيل لقوَّته؟

فقال إخناتون: كان مبدئي الحب والسلام!

– زدني شرحًا من فضلك.

– كنت أدعو لإله واحد هو الأب والأم لجميع البشر، فكلهم يتساوون تحت مظلته، وكنتُ أدعو إلى أن يحل الحب محل السيف بين الناس!

فقال تحتمس الثالث بغضب: طبيعي أن تضيع الإمبراطورية نتيجة لهذا الأسلوب من التفكير، ما أنت إلا مجنون!

فقال أوزوريس: لا أسمح بتجاوز حدود الأدب في الخطاب، اعتذِر.

فقال تحتمس الثالث: معذرة، ولكني أسجِّل أسفي على ضياع عمري هدرًا!

وقال الملك مينا: لقد قامت وحدة مصر على السيف وتلٍّ من الجماجم، وعلى نفس الأساس كان يجب أن تقوم وحدة الإمبراطورية، ولكن سوء الحظ سلَّط علينا عدوًّا اسمه الأفكار، فغزانا من الداخل وعبثَ بمجدنا أيما عبث!

فقال إخناتون: لا جدوى من مناقشتكم، فالمسألة بكل بساطة أنني سمعتُ صوت الإله، وأن تلك النعمة الإلهية لم تحلَّ بكم.

وقالت الملكة نفرتيتي: طالما طاردتنا هذه الآراء من أعداء وأصدقاء، وقد حطَّمَتْنا الدنيا بجبروتها، ولكننا اليوم نقف بين يدَي إله عادل.

وعند ذلك سألَتها الملكة حتشبسوت: إذن لماذا هجرتِ زوجك في قمة الأزمة؟

فأجابت نفرتيتي: لَم يداخلني شك فيه، ولكنني توهَّمتُ أنني بهجره قد أُنقِذه من القتل.

وهنا قالت إيزيس: هذا الابن آمَنَ برسالةٍ أراد أن ينقذ بها البشر، ولكن لم يكن أحد مستعدًّا لفهمه أو التفاهُم معه؛ فكانت المأساة، وسوف أظل فخورة به إلى الأبد.

وقال أوزوريس: اجلس أنت وزوجك بين الخالدين.

٢٢

ونادى حورس: الملك ساكرع، الملك توت عنخ آمون، الملك آي.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حكمَ ساكرع أربعة أعوام، وتوت عنخ آمون ستة أعوام، وآي أربعة أعوام، وكانت عصورهم عصور اضطراب وفساد؛ وعجزوا جميعًا عن مواجهة الأزمة.

ودعاهم أوزوريس للكلام، فقال ساكرع: بدأتُ حكمي شريكًا لإخناتون ولم أستطع أن أعيد للعرش هيبته.

وقال توت عنخ آمون: كانت السلطة الحقيقية بيد كهنة آمون.

وقال آي: وازداد نفوذ الكهنة في عهدي وكنتُ طاعنًا في السن؛ فعجزتُ عن الإصلاح!

وسأل إخناتون آي: كيف تخلَّيتَ عني وقد كنت أقرب المقربين إليَّ، كما كنت والد زوجتي؟

فقال آي: تخليتُ عنك؛ لأجنِّب البلاد شر الحرب الأهلية.

فقال إخناتون: وكفرتَ بالإله الواحد بعد أن أعلنتَ إيمانك به بين يديَّ.

فلاذ آي بالصمت.

وقالت إيزيس: كان أبنائي الثلاثة غير أكفاء للعرش، ولولا قانون الوراثة الأعمى ما جلس أحدهم عليه، ولكنهم يستحقون الرحمة.

فقال أوزوريس: إلى الباب الشمالي المفضي إلى مقام التافهين.

٢٣

وصاح حورس: الملك حور محب.

فدخل رجل متوسط القامة، متين البنيان، صلب الملامح، فسار متلفعًا في كفنه حتى مَثَل أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: وليَ العرش رغم عدم انتمائه إلى الأسرة المالكة، وتزوَّج من موت نجمت؛ لكي يُضفي الشرعية على ولايته، بالرغم من تقدُّمها في السن، وانبرى بقوة للقضاء على الفوضى والفساد والتسيُّب وإصلاح ما تخرب من معابد على عهد إخناتون، وبفضله استتبَّ الأمن والنظام في داخل البلاد، أما الإمبراطورية فقد أصبحَتْ — باستثناء القليل — في خبر كان.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: حقًّا لم أكن من الأسرة المالكة، ولكني أنتمي إلى أسرة عريقة من أسر الشمال، وقد نشأتُ نشأة عسكرية وأدَّيتُ خدمات ناجحة على عهد الملك أمنحتب الثالث، ولما وليَ إخناتون العرش قرَّبَني إليه، ومنحَني ثقته ولكنه للأسف لم يأخذ برأيي في وجوب معاقبة المفسدين في الداخل، وإرسال حملات لتأديب المتمردين في أنحاء الإمبراطورية، ولما بلغَت الأزمة أشدها، وتخايلت في الأفق نذر الحرب الأهلية، تفاهمت مع كهنة آمون على التصفية النهائية لحكم إخناتون، مُؤْثرًا المصلحة العامة على عواطفي الشخصية. وكان الرأي متفقًا على أهليتي لمواجهة الفوضى الضاربة في أنحاء البلاد، ولكن رُئِيَ أن يُحترَم القانون أولًا، فتولى الملوك الثلاثة ساكرع وتوت عنخ آمون وآي، وعقب وفاة آي قامت ثورة ونُهبت المقابر، فلم نجد مفرًّا من تحمُّل الأمانة، وقد تزوجت من موت نجمت أخت نفرتيتي؛ لأنها كانت مِن أوائل مَن كفر بإخناتون، ورأت الانضمام إلى الكهنة لإنقاذ البلاد، ووجدت أمامي مهمة ثقيلة ومتشعِّبة ولكن لم تكن تعوزني القوة أو العزيمة؛ فأخمدتُ الثورة، ونظَّمتُ الجيش والشرطة والإدارة، وراقبت الموظفين ولم أرحم منحرفًا، ثم جدَّدتُ المعابد ونظمت الأوقاف، وحميت الضعفاء من الأقوياء، ولو امتدَّ بي العمر أكثر مما امتدَّ لاسترددتُ ما ضاع من إمبراطورية العظيم تحتمس الثالث.

وتكلم الملك خوفو فقال: قمت بعمل مجيد أيها الملك.

فقال أبنوم: عمل مجيد حقًّا، ولا لوم عليك لعدم إرجاع السلطة إلى الشعب بما أنك من سلالة أسرة عريقة، وترجمتها الأمينة عندي أسرة عريقة في النهب والسلب!

فقال أوزوريس: لا أوافق على هذا الأسلوب في الخطاب، اعتذِر.

فقال أبنوم متجهِّمًا: معذرة.

وقال تحتمس الثالث بأسف: كنت خليقًا بإرجاع الإمبراطورية إلى مجدها الأول.

فقال حور محب: كانت البلاد ممزقة وعلى حال من الفساد والفوضى تفوق الخيال.

وتكلم إخناتون فقال: لم أحب أحدًا من أتباعي كما أحببتك يا حور محب، ولم أكرم أحدًا منهم كما أكرمتك، وكان جزائي أن خُنتَني وانضممتَ إلى أعداء الشعب وأعدائي، ثم هدمت مدينتي ومعبدي ومحوتَ اسمي وصببت عليَّ اللعنات.

فقال حور محب: لا أنكر مما قلت شيئًا، وقد أحببتك أكثر من أي رجل عرفته، ولكني أحببت مصر أكثر.

– وشاركت في محو عبادة الواحد الأحد، وإرجاع الآلهة الزائفة إلى عروشها!

فقال حور محب: لم يكن في وسعي تجاهل ما تنبض به قلوب الملايين.

وهنا قالت له نفرتيتي: لقد أحببتني يا حور محب ولمَّا تزوجت من إخناتون أضمرت له الحقد.

فقال حور محب: أقول أيتها الملكة في هذه القاعة التي لا يجوز فيها الكذب إن المرأة لم تشغل من قلبي إلا أتفه جزء فيه، وإن معركتي معكم كانت معركة وطنية لا معركة غرامية!

وهنا قالت إيزيس: ابني هذا أقوى من أن يحتاج إلى دفاع.

فقال أوزوريس: إلى مجلسك بين الخالدين.

٢٤

وصاح حورس: الملك رمسيس الأول.

فدخل رجل طاعن في السن، طويل القامة، فمضى في كفنه حتى مثَلَ بين يدَي العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: وليَ العرش على كِبَر، شرعَ في بناء بَهْو الأعمدة بمعبد الكرنك، ثم أدركه الموت قبل أن يتمه.

فدعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: بوفاة حور محب لم يجد العرش وريثًا شرعيًّا، وكنت كاهن التراتيل بمعبد آمون، معروفًا بالحكمة وسداد الرأي والورع؛ فرشَّحني الإله للعرش، ولم تكن الإمبراطورية تغيب عن ذهني، ولكن حالة البلد لم تسمح بشنِّ حرب طويلة؛ فأمرت بالعناية بالأرض ووسائل الري لزيادة الثروة، وشرعتُ في بناء بَهْو الأعمدة، ولم يكن في العمر زيادة لمواصلة البناء!

فقالت إيزيس: لعل الاختيار لم يكن مُوفَّقًا، ولكن مصر لم تجد وقتها الرجل المناسب، أما هذا الابن فقد بذل أقصى جهده ولا ملامة عليه.

فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين.

٢٥

وهتف حورس: الملك سيتي الأول.

فدخل رجل طويل القامة، قوي البنيان، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: تولى العرش عقب وفاة أبيه، غزا النوبة، استرد فلسطين، ثم ركز على البناء والتعمير.

ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: عملت من أول يوم تبعًا لخطة مرسومة؛ فحفظت النظام في الداخل، ثم غزوت الجنوب حتى أقصى حدوده، واسترددت فلسطين منتصرًا على الحيثيين ثم عقدت معهم معاهدة صلح، وأتممت بعد ذلك قاعة الأعمدة بمعبد الكرنك، وأصلحت المعابد التي لم تمتد إليها يد الإصلاح، وفي عهدي استتبَّ الأمن والنظام والعدل وانتشر الرخاء، وازدهر الفن والأدب وقضيت حياة طيبة لولا ما شاب آخرها من قيام نزاع بين ولي العهد وأخيه.

فسأله تحتمس الثالث: لِم لَم تستمر في محاربة الحيثيين؟

فقال سيتي الأول: شعرت بأن جيشي قد أُنهِكَت قواه، بالإضافة إلى أن الحيثيين كانوا قومًا أشداء في القتال!

فقال تحتمس الثالث: المعاملة الوحيدة المجدية مع عدو قوي هي القضاء عليه، لا عَقْد معاهدة صلح معه!

فقال سيتي الأول: معاهدة الصلح بديل معقول عن حرب غير مجدية.

فتساءل إخناتون: ولِم لا تجرِّبون القانون الإلهي، قانون الحب والسلام؟!

فقال حور محب بحدة: هو الذي أضاع الإمبراطورية بلا دفاع!

فسأله خوفو: وهل أوصلت أسبابك بالسلالة الإلهية؛ لتصير حقًّا من صلب الإله؟

فقال سيتي الأول: تم ذلك لزوجتي في معبد آمون تبعًا للطقوس المتبعة.

فقالت إيزيس: إني سعيدة بهذا الابن عالي الهمة!

فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين.

٢٦

وهتف حورس: الملك رمسيس الثاني.

فدخل رجل طويل القامة، رشيق القد، تقدَّم في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: تولى الملك عقب وفاة أبيه، وطَّد نفوذ مصر في النوبة وآسيا، حارب الحيثيين ثم عقد معهم معاهدة سلام، ثم كرَّس حياته المديدة للبناء بصورة لم تعرفها البلاد من قبل، وكان عصره عصر تعمير وازدهار للفن والأدب والرخاء، وقد طال عمره حتى قارب المائة، واستمتع بالحياة طولًا وعرضًا، وأنجب من الأبناء ما يقارب الثلاثمائة.

ودعاه أوزوريس إلى الكلام، فقال: الحق أنني اغتصبتُ العرش من أخي ولي العهد؛ ليقيني بأن الساعة تطلَّبَتْ ما أوتيت به من قوة، وأن ضعف أخي سيكون طامة على البلاد لو وليَ العرش، وكنت طَموحًا مقدامًا؛ فصمَّمتُ على أن أوفِّر لوطني في داخله أقصى درجات الأمان والنظام والعدل والرفاهية، وأن أرجع الإمبراطورية لسابق عهدها المجيد؛ فوطَّدتُ نفوذي في الجنوب، ثم قدتها إلى فلسطين وسوريا ولبنان، وهرع إليَّ الحكام والأمراء يُقدِّمون فروض الطاعة، ثم توجَّهتُ بجيوشي إلى قادش؛ لأنزل الضربة القاضية بعدوي القوي وهو ملك الحيثيين، وقد أوقعني سوء الحظ فيما يشبه الحصار، فأحاط بي العدو، وبقية جيشي بعيدة عني في الجنوب، وثار بي الغضب، وخفتُ على كرامة مصر التي باتت أمانة بين يدي، وصلَّيتُ إلى إلهي طويلًا، مذكِّرًا إياه بأنني ما غادرتُ بلادي إلا لرفعة اسمه وتوطيد جلاله، ثم هجمت على العدو وحولي شرذمة من الحرس، وانقضضتُ عليهم كالصاعقة فشتَّتَ نور جلالتي قلوبهم، وتوالت مصارعهم تحت ضرباتي؛ فشققتُ بينهم ثغرة نفذت منها إلى جيشي، ثم كررنا عليهم فسحقناهم سحقًا، حتى رموا بأنفسهم في مياه النهر، وتم لنا النصر، وحاصرت قادش فاقترح الملك معاهدة صلح وسلام لم أجد بها بأسًا، خاصة بعد أن استرددتُ الإمبراطورية عدا أجزاء لا يُعتَد بها، ثم رأيت أن أكرِّس حياتي للبناء؛ فتزوجت من ابنة ملك الحيثيين دعمًا للسلام، ورفعت من الأبنية ما لم يرفعه فرعون قبلي، وهيأت من السعادة لأهل مصر ما لم يعهدوه من قبل، ولا أحسب أنهم عرفوه من بعد.

وكان سيتي الأول أول المتكلمين فقال: ولكنك بدأت حياتك باغتصاب حق أخيك ولي العهد الشرعي!

فقال رمسيس الثاني: إني لا أحترم قانونًا يورث عرشًا لعاجز لا يستحقه.

فقال إخناتون: من أين لك معرفة الغيب؟ لقد قيل عني يومًا مثلما تقول عن أخيك، ولكني كنت أول ملك يقيم للإله الواحد مملكة مقدسة فوق الأرض.

فقال رمسيس الثاني: بل كانت كارثة حلَّت بالوطن والإمبراطورية!

وسأله تحتمس الثالث: خبِّرني كيف رضيَ قائدٌ مُظفَّر بأن يعقد معاهدة سلام مع عدوه ثم يتزوج من ابنته؟

– هو الذي طلبها، ووجدتها مفيدة للطرفَين.

– كيف وقعتَ في الحصار أيها الملك؟

– وقع في يدنا جاسوسان للعدو اعترفا كذبًا بأن العدو مرابط شمال قادش؛ فأسرعتُ بالفرقة الأولى؛ لأحتل جنوب قادش، ولكن العدو كان كامنًا في الشرق؛ فاخترق مؤخرة الجيش وضرب حصاره.

– لقد تسرعتَ، وكان يجب أن تنتظر جيشك القادم من الجنوب، إنك شجاع — ما في ذلك شك — ولكنك قائد غير مُحنَّك.

– لقد حطَّمتُ الحصار ثم كررت على العدو ببقية جيشي؛ فوقعَ في المصيدة التي نصبها لي فمزقته شرَّ ممزق، وأحرزت نصرًا حاسمًا.

فقال تحتمس الثالث مواصلًا مناقشته: لم يكن هدفك كسب معركة، ولكن واضح أنك أردتَ الاستيلاء على قادش كما فعلت أنا؛ باعتبارها مفتاحًا لجميع الطرق، فلا حق لك في ادِّعاء النصر إلا بتحقيق الهدف من الحملة.

فسأله رمسيس الثاني: وماذا تقول في قضائي على جيش العدو؟

فأجاب تحتمس الثالث: أقول إنك كسبت معركة ولكنك خسرت الحرب، وعدوك خسر معركة وكسب الحرب، وقد استدرجك إلى السلام؛ لينظِّم صفوفه، ورحَّب بمصاهرتك؛ ليأمن مواجهتك قبل أن يعوض خسائره، قانعًا بالفوز بقادش؛ ليهدِّد منها أيَّ موقع في إمبراطوريتك في المستقبل.

فقال رمسيس الثاني: طوال حكمي الطويل لم يختلَّ الأمنُ ساعةً واحدة في الداخل، أو تقُمْ معركة تمرُّد واحدة في الإمبراطورية المترامية، أو يفكر عدو في استراقِ النظر إلى الحدود.

فقال تحتمس الثالث: لا أنكر فضلك، لقد أعدتَ إلى مصر الجزء الأكبر من إمبراطوريتها، كما تميَّزتَ بشجاعة شخصية فائقة، كانت خليقة بأن تُلقي الرعب في القلوب.

– ولا تنسَ أن عصري كان عصر التعمير الأعظم.

فسأله خوفو: هل بنيتَ هرمًا؟

فأجاب: كلا؛ ولكن ليس بالهرم وحده يعمر الإنسان، ما من إقليم في مصر خلا من معبد أو مسلة أو تمثال لي.

فقال إخناتون: لقد استوليتَ على عُمُد معبدي المُهدَّم، وشيَّدتَ بها معبدك الجنائزي، وتكرَّرَ سطوك على آثار السابقين، كما حفرتَ اسمك على آثار غيرك بغير حق، وقلَّلتَ من شأن كلِّ عظيم سبقك، كأن الآلهة لم تخلق سواك.

فقال رمسيس الثاني: في هذه القاعة المقدسة لا أنكرُ خطأً ولا أدافع عن نزوة، ولكن دعْ غيرك يوجِّه إليَّ الاتهام يكون مُبرَّأً من الكفر والاستهتار.

فقال أوزوريس: لا تنسَ أيها الملك أنك تخاطب رجلًا تمَّتْ محاكمته واستحق الخلود. اعتذِر.

فتمتم رمسيس الثاني بهدوء: معذرة!

وعند ذلك سألته الملكة حتشبسوت: وما قصتك مع النساء؟ .. وهل وجدت وقتًا لملاطفة أبنائك الثلاثمائة؟!

فقال رمسيس الثاني: لم يتمتع أحد بالسعادة كما تمتعتُ؛ وهبَتْني الآلهة عمرًا مديدًا، وصحة كاملة، وقدرة بلا حدود على الحب، ولم تهُنْ قوتي حتى آخِر العمر، رغم ما خصصتُ به زوجتي الملكة نفرتاري من احترام ومودة، أما أبنائي فما عرفتُ إلا أقلهم!

فسأله أمنحتب الثالث: هل استعنتَ بالسحر في الاحتفاظ بحيويتك الهائلة؟

– كنت أصنع سحري بيدي، فكنت أقف في القاعة الكبرى وأنا في التسعين من عمري، وتدخلُ صفوف العجلات الحربية، تقود كلُّ عربة امرأة عارية، وترقد داخلها جارية أخرى عارية، فتظل تدور من حولي حتى تتدفق في العروق الفانية دماء الشباب!

فسأله الحكيم بتاح حتب: أكانت نفس العجلات التي أحرزتَ بها انتصاراتك؟

فأجاب رمسيس الثاني: كلا، كانت عجلات الحب مُطعَّمة بالذهب الخالص، مُعبَّقة بروائح النساء!

فقال أبنوم: حياتك أيها الملك جامعة بين الجدية بكل معانيها، وبين العبث بكل نزواته، فلعل الحكم عليك يجمع بين الإنصاف والردع!

فنظر أوزوريس نحوه وقال: المحكمة في غِنى عن إرشادك، وما أراك إلا تحنُّ إلى إشعال ثورة جديدة في عالم الخلود؛ فلا تتجاوز منزلتك واعتذِر.

فقال أبنوم: معذرة يا سيدي العظيم.

وقالت إيزيس: أعاد هذا الابن مصر إلى مجدها السابق، وعمَّ الرخاء في عهده القصور والبيوت والأكواخ، وإذا قسنا هفواته بطول عمره تبدَّت تافهة.

وقال أوزوريس: اذهب إلى كرسيك بين الخالدين.

٢٧

وصاح حورس: الملك منفتاح.

ودخل رجل طويل القامة، كَهْل، فمضى على هيئته المعلومة إلى موقفه أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: قضى مدة حكمه — وهي عشرة أعوام — في الدفاع عن الإمبراطورية، فلم يمسها سوء.

ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: طال عُمر أبي؛ فلم يدَعْ لأحد من أبنائه أملًا في اعتلاء العرش، وقد توفي لي عشرات الإخوة بين الشباب والكهولة حتى حُقَّت لي ولاية العهد، ولمَّا وليت العرش كنت قد نيَّفتُ على الستين، وباختفاء الكبار تحركت رءوس الفتنة؛ فنهضتُ شاهرًا سيفي رغم كهولتي، انتصرتُ على متمرِّدي آسيا، ومزَّقتُ شملَ غزوةٍ غادرة من الغرب، وقبضت على زمام الأمور في الداخل بالحزم والعزم؛ فاستتبَّ الأمن وانتشر الأمان.

فقال إخناتون: لقد اعتديت على الآثار لتشيِّد بأحجارها بعض القصور والمعابد مترسِّمًا سيرة أبيك؟

فقال منفتاح: قضيت عمري في ميادين القتال فلم يتسع الوقت للبناء.

فقال تحتمس الثالث: أشهد بأنك قائد ماهر.

وقالت إيزيس: شكرًا لك يا بني على بطولتك وإخلاصك!

وقال أوزوريس: إلى مجلسك بين الخالدين.

٢٨

وهتف حورس: الملك أمنمسس والملك سبتاح والملك سيتي.

فدخل الثلاثة وتقدموا في أكفانهم حتى مثَلُوا أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: شُغِلوا بمنازعاتهم على العرش؛ فسادَ الفسادُ والانتهازية، وتمزَّقَت وحدة البلاد، وانتشر القتل والسلب والنهب.

ودعاهم أوزوريس إلى الكلام، فقال أمنمسس: كنت الأحق بالعرش، ولكن أحاطت بي الدسائس؛ فسقطت بعد عام واحد.

وقال سبتاح: بل كنت أنا الأحق بالعرش ولكنه اغتُصِب مني؛ لخلافٍ قامَ بيني وبين منفتاح في أواخر حكمه، وشُغِلتُ عن واجبات الحكم بمطاردة الدسائس حتى اضطُرِرتُ للتخلي عن العرش.

وقال سيتي: كنت أملك من القوة ما أستطيع بها أن أحكم حكمًا طيبًا، ولكن الفساد كان قد استشرى، فاجتاحنا الانحلال.

فقال الحكيم أمحتب وزير الملك زوسر: ما أسرع أن يحل الفساد محل المجد، وأن ينعكس ضعف حاكم واحد على حضارة متكاملة!

فقال تحتمس الثالث: لعل المشكلة تتلخص في كيف تعثر على الرجل القوي المناسب في الوقت المناسب.

فقال حور محب: لم يكن في الأسرة رجل قوي كفء، ولكن هل خلَتِ البلاد من ذلك الرجل؟

فقالت إيزيس: قضى القانون بأن يُرشَّح الموجود، لا أن يتجشم العناء في البحث عن المطلوب، ولم يكن في وسع هؤلاء أن يفعلوا خيرًا مما فعلوا!

فقال أوزوريس: اذهبوا إلى مقام التافهين.

٢٩

ونادى حورس: الملك ستنخت.

فدخل رجل قصير القامة، قوي البنية، فمضى في كفنه حتى مثل أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: أعاد للقانون سيادته.

ودعاه أوزوريس للكلام، فقال: عشتُ في زمن الفوضى، تعرَّضتُ للقتل مرةً وأنا مسافر في النيل ونجوت بأعجوبة، وكنت ذا قرابة بعيدة بالملك منفتاح؛ فسعيت إلى العرش بمعاونة الكهنة، ولم يعترف بي أحد من حكام الأقاليم الفاسدين، ولم أكن أملك القوة لإخضاعهم، ولكن لم تُعْوِزْني الشجاعة، فانقضضتُ على إقليم أخنوم، وهو من أشد الأقاليم مناعةً، ومحَقتُ المتمردين ومثَّلتُ بهم، ومنه زحفتُ على طيبة، وسرعان ما تسابقَ الجبناء إلى تقديم فروض الطاعة؛ فنظَّمتُ الجيش والشرطة، وبذلت جهدًا مضنيًا حتى أرجعتُ إلى القانون سيادته؛ فأمنَ الفلاح في أرضه، واستأنف نشاطه، وللأسف فارقتُ الحياة قبل أن أُشعِرَ رعايانا في الإمبراطورية بقوة مصر.

فقال الملك خوفو: كان عملك الذي يمكن تلخيصه في كلمتَين، أشق من تشييد الهرم الأكبر.

وقال له الملك مينا: لقد أعدتَ إلى قلبي نبضه.

وقالت إيزيس: ابن عظيم، سجَّلَ عزيمته في الأرواح لا في الأحجار.

وقال أوزوريس: اجلس بين الخالدين.

٣٠

ونادى حورس: الملك رمسيس الثالث.

فدخل رجل طويل القامة، ذو عملقة بادية، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: انتصر على الأعداء في آسيا والغرب والوافدين من البحر، ونشر في البلاد الأمن والأمان.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: نتيجة للمعاناة في الداخل؛ تمرَّد الأمراء في آسيا، وطمع الليبيون في الغزو، ثم دهمنا من بحر الشمال أقوام بنسائهم وأطفالهم يرومون الاستيطان، وفي الحال نهضتُ للقتال دون هوادة فطردتُ الليبيين، وقضيتُ على الشماليين وأسرتُ نساءهم وأطفالهم، ثم قُدتُ حملةً إلى آسيا ففتكت بالعصاة دون رحمة، وحظيَتِ البلاد في عهدي بالأمان والاستقرار، فشيَّدتُ العديد من القصور والمعابد، ومن سوء الحظ أنني تعرَّضتُ في شيخوختي لمؤامرة في الحريم لاغتصاب العرش، ونجوتُ من الموت بأعجوبة، ثم شكَّلتُ محكمة عليا لمحاكمة المذنبين، وأمرتُ بالعدل بحيث لا ينجو مُجرِم ولا يُؤخَذ بريء، ومن المؤسف أن قاضيَين سقطا بإغراء بعض نساء الحريم ولما انكشف أمرهما انتحرا.

فقال تحتمس الثالث: مواقعك تشهد لك بأنك من القُوَّاد الأفذاذ.

فقال رمسيس الثالث: لقد ترسَّمتُ خطاك في غزوتي الآسيوية.

فقال إخناتون: إن معاملتك للمتآمِرين عليك، وتقديمهم للمحكمة بدلًا من أن تبطش بهم، وحثك المحكمة على تحرِّي العدل وحده، كل أولئك يقطع بتقديسك للقانون وشغفك بمكارم الأخلاق، كأنما كنتَ من عباد الإله الواحد!

فقال رمسيس الثالث: كنت من عباد مكارم الأخلاق، وهي تربية ينشأ في أحضانها المؤمن بالآلهة!

فقال بتاح حتب: إنه كيد النساء، كاد يفتك بملك عظيم، وأهلك قاضيَين!

فقالت الملكة نفرتيتي: لقد خلق الإله الواحد النساء؛ ليكشفن معادن الرجال، الثمين منها والخسيس!

فقالت إيزيس: تحية لهذا الابن الجامع بين العظمة والنبل.

فقال أوزوريس: اذهب إلى مجلسك بين الخالدين.

٣١

ونادى حورس: الملوك رمسيس الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، والثامن، والتاسع، والعاشر، والحادي عشر، والثاني عشر.

ودخل تسعة رجال، من مختلفي الأحجام فمضوا في أكفانهم حتى مثَلُوا صفًّا أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حكموا بالتتابُع مُددًا قصيرة، ولم يكن لأحد منهم إلا المحافظة على مركزه وممارسة شهواته؛ فاضطربت الأحوال، وتفشَّى الفساد حتى استقلَّ الوجه البحري في عهد آخرهم، ودعاهم أوزوريس للكلام فلاذوا بالصمت.

وتكلَّم رمسيس الثاني فسأل رمسيس الرابع: لمَ اتخذتَ اسمي اسمًا لك، ألك بي قرابة؟

فأجاب رمسيس الرابع: اتخذناه على سبيل التبرُّك والفخر!

فقال رمسيس الثاني: ولكنكم لم تعرفوا قدره، ولم تُوفُوه حقه.

فقالت إيزيس: لا يسعني أن أطالب لهم بالعفو، ولكنني أسأل لهم الرحمة!

فقال أوزوريس: اذهبوا إلى مقام التافهين.

٣٢

ونادى حورس: الحاكم بسو با نبدد.

فدخل رجل بدين، متوسِّط الطول، فمضى حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: استقلَّ بحكم الوجه البحري في عهد رمسيس الثاني عشر؛ فازدادت الأحوال اضطرابًا في الداخل، وتقلَّص نفوذ مصر في الخارج.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: كنتُ من أعيان تانيس، وساءني ما تتردَّى فيه مصر من فوضى وانحلال، ولم يكن في وسعي أن أستولي على العرش، فاستقللتُ بالوجه البحري بأمل أن أحقِّق له الأمن والأمان، وقد بذلتُ من أجل ذلك غاية جهدي.

فقال أبنوم: إني خير مَن يفهم لغة الأعيان، حقًّا أنهم يتوقون لتحقيق الأمن والأمان، ولكن لأنفسهم على حساب الفلاحين والتعساء.

وقال الملك مينا: قضيتَ بفعلتك على وحدة الوطن التي أنفقتُ حياتي لتحقيقها.

وقال الحكيم بتاع حتب: وا أسفي على عامة الناس الذين عاصروك!

وقالت إيزيس: لا أدري كيف أدافع عن هذا الابن.

فقال أوزوريس: إلى الباب المفضي إلى الجحيم.

٣٣

وأشار أوزوريس إلى تحوت كاتب الآلهة فراح يقرأ: قضت إرادة الآلهة أن تغزو ليبيا مصر وتكوِّن أسرة حاكمة، وفي نهاية حكمها تطايرت وحدة مصر، فاستقلت الأقاليم ورجعت إلى العهد الذي كانت عليه قبل الملك مينا، ثم غزاها الآشوريون وتتابعت الأحزان.

٣٤

ونادى حورس: الملك بسماتيك.

فدخل رجل نحيل، مائل للطول، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: أعلنَ نفسه ملكًا على مصر، وأعاد إليها وحدتها، وثبَّت دعائم النظام. وكوَّن جيشًا قويًّا من المرتزقة الأجانب، استرد به نفوذ مصر في فلسطين.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: إني أنحدر في الأصل من ستنخت، وكنت أحد اثنَي عشر أميرًا يحكمون الوجه البحري تحت نفوذ الآشوريين، وتقلَّص نفوذ الآشوريين لأسباب خارجية؛ فعقدتُ العزم على توحيد مصر وإعلان استقلاله، وقضيت على سلطة الأمراء في سلسلة من الغزوات، وأعلنت نفسي ملكًا على مصر، وعيَّنتُ أختي نيتقريس سيدة لكهنة طيبة؛ لأهيمن على الكهنة؛ فعادت الوحدة وعاد النظام، وركزتُ على تحسين الحال الاقتصادية، وألَّفتُ جيشًا من يونانيين وكاريين وسوريين وليبيين، ونعِمَ الشعب بالأمان وحسن المآل، واندفعوا اندفاعًا ذاتيًّا نحو عهدهم القديم في الذوق والتقاليد وطقوس العبادة، فلم أجد في ذلك من بأس، واسترددتُ الحكم المصري في فلسطين فرجعَت مصر إلى قريب مما كانت عليه منذ خمسمائة عام على أيام رمسيس الثالث.

فقال الحكيم أمحتب وزير الملك زوسر: عمل جليل مشكور.

وقال الملك خوفو: وما أجمل أن توجِّه الشعب نحو تراثه القديم!

فتساءل إخناتون: إني أعتبرها حركة رجعية، فما تفسيرك لها أيها الملك؟

فقال بسماتيك: كابدَ الشعب ما كابدَ من مذلة تحت حكم الأجانب؛ فثار ثورة سلمية على تقاليدهم المستوردة، ومن ثَم لاذَ بعراقته الأصيلة وسلفه الصالح.

فقال تحتمس الثالث: وسرتَ أنت في اتجاه مضاد، فألَّفتَ جيشك من مرتزقة الأجانب!

فقال بسماتيك: كانت مصر مُهدَّدة من الشرق والغرب والجنوب، وكان المصريون قد فقدوا طموحهم العسكري، واستكانوا للهزيمة؛ فأنقذتُ الموقف بالمتاح من الوسائل.

وعند ذلك قالت إيزيس: انظروا إلى ما قدَّم إلى وطنه من خدمات في ظروف بالغة السوء.

فقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين.

٣٥

وهتف حورس: الملك نيخاو.

فدخل رجل ذو طول، وضخامة، فتقدم متلفِّعًا في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: امتدَّ سلطانه إلى سوريا، وانتصر على آشور ويهوذا، ولكن صادف ذلك ظهور بابل؛ فاستولت على سوريا وفلسطين، فقوَّى حصون الحدود للدفاع، وعمل على تحسين التجارة، كما أرسل بعثة من الفينيقيين؛ لاكتشاف سواحل أفريقيا.

فدعاه أوزوريس للكلام فقال: لم أتقاعس عن واجبي أبدًا، فصادفني الحظ في مطلع حياتي، وحلَّت بي الهزائم في نهايتها، ولكن الداخل حظِيَ بالأمن والأمان والازدهار.

وتكلَّم تحتمس الثالث فقال: كان يجب أن تعرف أن الأمم الفتية لا تقف أطماعها عند حدٍّ، وأن تعمل على إعداد شعبك للقتال.

فقال نيخاو: للأسف كان الشعب قد فقد روحه.

فقال الحكيم بتاح حتب: لقد فقدتَ أنت روحك، فوضعتَ ثقتك في الجنود الأجانب!

فقالت إيزيس: لم يتوانَ عن الكفاح، سواء في ميدان القتال أو فوق الأرض الخضراء.

فقال أوزوريس: اتخذ مجلسك بين الخالدين.

٣٦

ونادى حورس: بسماتيك الثاني.

فدخل رجل ذو ميل للبدانة والقِصَر، فمضى حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: وطَّد النظام في الداخل، ومن أجل ذلك عيَّن ابنته أتحنس رع رئيسة لكهنة آمون، مكان عمته المُسِنَّة نيتقريس، ووثَّق علاقته باليونان.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: ليس عندي ما أضيفه سوى أن عهدي مضى في أمان وسلام.

فقال له تحتمس الثالث: كأنك نسيت أن مصر كانت إمبراطورية ذات يوم!

فقال بسماتيك الثاني: ما جدوى تذكُّر الشباب الذي ولَّى؟

فقال رمسيس الثاني: ونسيت أن بابل رابضة على الحدود؟

فسأله الملك أحمس: ماذا صنعتَ لبعث روح القتال في الشعب؟

ولمَّا لم ينبس بكلمة، قالت إيزيس: مضى عهده في أمان وسلام!

فقال أوزوريس: مقامك بين التافهين.

٣٧

ونادى حورس: الملك أبريس.

فدخل رجل ربعة، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حرَّض إسرائيل على بابل، واشترك في القتال فغزا بأسطوله فينيقيا ولكن حلَّت به الهزيمة، وشقَّ عصا طاعته الأمير أمازيس فقام بينهما نزاع قُتِل في أثنائه.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: كانت بابل شغلي الشاغل، ورسمتُ خطة تتلخَّص في تحريض إسرائيل عليها، على أن أغزو فينيقيا في أثناء القتال، وألتفُّ وراء البابليين، ولكن الخطة فشلت، وحلَّت بنا الهزيمة.

فقال تحتمس الثالث: خطة لا بأس بها، ولكن أَعْوَزتْها الأيدي المنفِّذة.

فقالت إيزيس: أطلب الرأفة.

فقال أوزوريس: إلى مقام التافهين.

٣٨

ونادى حورس: الملك أمازيس.

فدخل رجل طويل، نحيل، مضى في طريقه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: وطَّد النظام في الداخل، وغالى في اعتماده على اليونانيين، وشغف بالولائم والعربدة، وفي عهده ظهرت دولة الفرس؛ فسعى إلى إقامة حلف من مصر وبابل واليونان لصدها، ولكنها اجتاحت بابل.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: اعتبرت الملك أبريس مسئولًا عن هزيمته أمام بابل، وقدَّرتُ أنه أضعف من أن يواجه الموقف المُعقَّد؛ فخرجتُ عن طاعته، واستوليت على العرش، وقد أقمتُ حلفًا؛ لصدِّ الفرس، ولكن الفرس اجتاحت أقوى جناح فيه؛ فتفرغتُ للإصلاح في الداخل.

فسألَتْه الملكة حتشبسوت: ماذا فعلتَ للداخل؟

فأجاب أمازيس: عمَّ بلادي رخاء ملحوظ، وأصلحتُ القانون المدني، وحسبي أن أذكر المادة التي ألزمت كلَّ غني بأن يُبيِّن لرئيس مدينته مصادر ثروته.

فسأله تحتمس الثالث: ماذا فعلت لإعداد قوم لمواجهة الطامعين الجدد؟

– لم يعُد قومي يُبالون إلا بالفلاحة وحياتهم الخاصة.

فقال له رمسيس الثاني: وكنت قدوتهم في ذلك بشغفك بالولائم والعربدة، وأنا لست ضد الولائم والعربدة إذا جاءت في إطار العظمة!

فقالت إيزيس: إصلاحاته لا يُستهان بها، وكانت له خطة حكيمة لولا الفشل.

وتنكَّر أوزوريس قليلًا ثم قال: تمكث في مقام التافهين ألف سنة، ثم تُنقَل إلى الجنة في درجة متواضعة تناسبك.

٣٩

وهتف حورس: بسماتيك الثالث.

فدخل رجل متوسط القامة، قوي البنية، سار في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حكمَ ثلاثة أشهر، ثم تصدى بجيشه للدفاع عن مصر أمام جيش قمبيز ملك الفرس، وانهزم جيشه ووقع في الأسر، وقتله قمبيز واستولى على البلد.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: توليتُ العرش والجيوش الفارسية تتوغل في آسيا، وتتجه نحو مصر؛ فاستعددت بقواتي اليونانية، وجنَّدتُ على عجل جيشًا صغيرًا من المصريين، ولاقيتُ العدو في معركة حامية؛ فدارت الدائرة علينا، ووقعتُ في الأسر، وقد أراد قمبيز أن أتولى العرش بوصفي تابعًا له، ولكني عملتُ في الخفاء على مقاومة الغزاة؛ فانكشف أمري ودفعت حياتي ثمنًا لذلك.

وتكلم تحتمس الثالث فقال: حدِّثني عن مقاومة اليونانيين والمصريين في المعركة.

فقال بسماتيك الثالث: لا شك أن مقاومة المصريين كانت أشد بما لا يُقاس.

فقال تحتمس الثالث: توقعتُ أن أسمع ذلك، وربما لو كان جيشك كله مصريًّا لتغيَّرَ مصير المعركة، ولكنكم أهملتم شعبكم واعتمدتم كلَّ الاعتماد على الأجانب؛ وبذلك انتهى تاريخ مصر المستقلة على يدكم.

فقال سيكننرع: لا يجوز أن ننسى أنه رفض العرش في ظلِّ الحكم الأجنبي، وبنفسه ضحَّى في سبيل ذلك، وشاركني نفس المصير!

فقالت إيزيس: أمامكم ابنٌ سيئ الحظ، حاربَ بشجاعة، ولو كان هدفه أن يحكم بأيِّ ثمن لدانَ له الحكم، ولكنه قُتِل عزيزًا شريفًا.

وقال أوزوريس: خذ مجلسك بين الخالدين.

٤٠

وقال أوزوريس: أيها السادة، لقد انتهت مصر الفرعونية، وليس من اختصاص هذه المحكمة أن تحاسب الحكام الأجانب، وهي تعتبرهم جميعًا أجانب ملعونين، وإن اختلفوا في الدرجة بين حاكِم مُصلِح وحاكِم مُفسِد، وسوف نواصل محاسبة المصريين، مَن اكتسب مصريته بالوراثة أو مَن اكتسبها بالإقامة والقلب، وسيكون حكمنا غير نهائي في حالة اعتناق المصري دينًا جديدًا مثل المسيحية أو الإسلام فيكون حكمنا نوعًا من التقدير التاريخي، نرجو أن يوضع في الاعتبار عندما يحاكم المواطن أمام محكمته الدينية في عالم الأبدية، والآن أترك الكلمة لتحوت كاتب الآلهة:

فقرأ تحوت كاتب الآلهة: انتهت مصر الآلهة والأهرامات والمعابد والضمائر المنيرة، وأصبح الفرس ملوكًا على العرش الذهبي، عبدوا آلهتنا وتمسَّحوا بتقاليدنا، ولكن المصريين مقَتوهم مَقتًا، ثاروا وتحرَّروا، وهُزموا واستُعبِدوا، وجاءنا الإسكندر غازيًا ومحرِّرًا، ثم ورث مصر أحد قُوَّاده، فأنشأ لأسرته دولة وحضارة، واستأثر الأجانب بالنشاط الجوهري، على حين عاش المصريون في الظل يفلحون الأرض ويقنعون بالدرجة الدنيا، باستثناء الكهنة الذين بقيت لهم الشئون الدينية. وقد انفجرت حركات مقاومة في صورة هجرات جماعية، وأُخمِدت بقسوة، وأُريقَت دماء غزيرة، وانتهى حكم الأسرة اليونانية في عهد الملكة كليوباطرة، ودخلت مصر تحت حكم أجنبي جديد هو الحكم الروماني، فاعتُبرت ضيعة لإمداد روما بالغلال، وازداد وضع المصريين سوءًا، وكلما ثاروا على الظلم أُخمِدت ثورتهم، وسُفِكت دماؤهم، وفي عهد الحاكم الروماني نيرون دخلت المسيحية مصر؛ فأقبل فريق من المصريين يُغيِّرون دينهم، ولم يكن دينًا نابعًا في مصر كما حدث على عهد إخناتون، ولكنه كان واردًا من الخارج، وغلب الزهد على معتنقي الدين الجديد؛ فاعتصم كثيرون منهم بكهوف الصحراء؛ فرارًا من ظلم الحكام وفساد الدنيا، وقد قاومت الحكومة الرومانية الدين الجديد، وانهالت بحِرابها على معتنقيه، حتى عُرف عصر الإمبراطور دقلديانوس بعصر الشهداء، وفي عصر تيودوسيس حتَّم الإمبراطور اعتناق المسيحية على رعاياه، فكان للديانة القديمة شهداؤها كذلك، ولكن الأغلبية اعتنقت المسيحية، واستقلوا فيها بمذهب خاص بهم، وامتزجت الروح الدينية بالروح الوطنية، وعملا معًا على الثورة والاستقلال، فتعرضوا لمذابح وعذابات لا حصر لها، واتخذ الصراع صورة معركة دينية بين الكنيسة المصرية وكنيسة الدولة الرومانية، واستمر النزاع مصحوبًا بأشد أنواع الاضطهاد.

•••

وفي الصمت الثقيل الذي صاحب كلام تحوت وأعقبه أشار أوزوريس إلى حورس، فصاح حورس: المقوقس حاكم مصر.

فدخل رجل بدين، مائل إلى القِصَر، فمضى متلفِّعًا في كفنه حتى وقف أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: حاكم مصر من قِبَل الإمبراطور الروماني، اعتبره الأقباط مصريًّا، وفي عهده غزا العربُ مصر، وقد اتفق مع العرب تخلُّصًا من الرومان، وبذلك دخلت مصر في عهد جديد تحت حكم العرب.

فدعاه أوزوريس للكلام فقال: وليت حكم مصر من قِبَل الإمبراطور، ورغم أَصْلي اليوناني، فقد اعتنقتُ المذهب اليعقوبي المصري، فرضي عني الأقباط واعتبروني واحدًا منهم، وقد رأيتُ الاتفاق مع العرب تخلُّصًا من الرومان، وحصلتُ بذلك على شروط حسنة.

فسأله أبنوم: كيف أمنتَ للاتفاق مع الغزاة؟

فأجاب المقوقس: أشهد أنهم كانوا غزاة شرفاء، وقد قسَّم قائدهم عمرو بن العاص القطر إلى أعمال، وضعَ على رأس كلٍّ منها حاكمًا قبطيًّا؛ فشعر الأهالي براحة لم يعرفوها منذ مئات السنين، وحرَّر العبادة من كل قيد، فعبد الأقباطُ ربهم بالطريقة التي آمنوا بها!

فسأله رمسيس الثاني: ولِم جشَّموا أنفسهم مشقة الغزو إذَن؟

فقال المقوقس: كانت الجزية تُحمل إلى بلادهم الأصلية، أما الهدف الأساسي للغزو فيما بدا لنا فكان الدعوة إلى دين جديد بشَّروا به، يُدعى الإسلام.

فقال أبنوم: واستقبلت مصر عصر الشهداء من جديد؟

فقال المقوقس: كانوا يدعون إلى دينهم دون إكراه، ومن يشَأِ الثبات على دينه يدفع الجزية.

فسأله خوفو: ما وجه الخلاف بين هذا الدين وديننا القديم؟

– كانوا يؤكدون على وحدانية الإله!

فصاح إخناتون: هذا ديني وهذا إلهي، طالما آمنتُ بأنني سأنتصر في النهاية، خبِّرني كيف استقبل الناسُ هذا الدين؟

– لم يعتنقه في حياتي إلا قلة لا وزن لها!

فقال أبنوم: دعونا من الشجار حول الآلهة، وحدِّثني عما أفاده الفلاحون الكادحون؟

– لقد ألغى عمرو بن العاص كثيرًا من المكوس التعسُّفية؛ فتحسَّنت أحوال الفقراء.

فقالت إيزيس: عادت سياسة هذا الرجل على أبنائي بخيرٍ غير منكور.

فقال أوزوريس: يُمنح شهادة تزكية، لعلها تنفعه أمام محكمته الدينية.

٤١

وهتف حورس: البطريرك بنيامين.

يدخل رجل نحيل، متوسط القامة، يتقدم حتى يمثُل أمام العرش.

وقرأ تحوت كاتب الآلهة: بطريرك الأقباط، حمله الاضطهاد على الانعزال في الصحراء، أفرج عنه عمرو بن العاص بإعلانه حرية العبادة وطرده للرومان.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: العقيدة هي شرف الإنسان، وكرامته، وعزته، وطريقه إلى الله، وقد تحمَّلتُ ما تحمَّلتُ من اضطهادٍ روماني، فلم أتزعزع عن عقيدتي، ثم أويت إلى الدير محتجًّا على السقوط البشري في هاوية الظلم والفساد، وقضى الله أن تقع مصر في أيدي بني إسماعيل، وأن يهيئوا للناس حرية العبادة؛ فرجعت إلى كرسي البابوية بالإسكندرية ومارستُ الزعامة الروحية للأقباط.

فقال تحتمس الثالث: أصبح غاية ما يرتجيه المصري أن يفوز بغازٍ أجنبي عادل!

فقال البطريرك بنيامين: مضى على شعبنا العاكِف في قُراه زهاءُ ألفِ عام وهو خاضع لأسرات أجنبية تحكمه بقوة السلاح.

فسأله أبنوم: ألم تستغل سلطتك الروحية لإيقاظ الشعب؟

فقال البطريرك: عاصرتُ غازيًا جديدًا أتاح لنا حرية العقيدة وخفَّف الأعباء عن الفقراء، ولم يحاول إكراهنا على اعتناق دينه، فلم يكن الوقت مناسبًا لبث روح التمرُّد.

فقالت إيزيس: لا لوم على الرجل؛ فقد عاش في زمن كان هواه مع غيرنا.

فقال أوزوريس: ليس لدى محكمتنا ما تؤاخذك عليه.

٤٢

ونادى حورس: المصري أثناسيوس.

فدخل رجل نحيل، متوسط القامة، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقال أوزوريس: قامت هذه المحكمة لمحاسبة الحكام المصريين، وليس هذا الرجل حاكمًا ولكنه يُمثِّل عودة المصريين إلى الحكومة، فلا تخلو شهادته من قيمة تاريخية.

ودعا أثناسيوس إلى الكلام فقال: عملتُ مترجمًا من القبطية إلى العربية، حين كانت القبطية هي لغة الدواوين، وقد عاشت مصر في سلام وأمان حتى كان عهد الخليفة عثمان الذي انقسم المسلمون حول سياسته، وخاضوا نزاعًا انتهى بقتله، وانقسم العرب في مصر تبعًا لذلك إلى فريقَين، مؤيدين لعثمان ومعارضين له، ونشبت بين الفريقين حروبٌ عانى منها المصريون الذين جرَتْ في بلادهم، واشتد الأمر عندما قامت حروب بين العرب حول الخلافة، حتى آلت إلى خليفة يُدعى معاوية، وتولى أمر مصر حكام من أتباعه، وبصفة عامة لم نحظَ بحاكم أرفق بنا من عمرو بن العاص، وفي عهد الحاكم عبد العزيز بن مروان أحدث بعض الإصلاحات، ولكنه فرض ضريبة دينار على الكهنة بعد أن كانوا مُعفَيْن من الضرائب، كما ضرب على البطاركة ثلاثة آلاف دينار سنويًّا.

فسأله الحكيم أمحتب: وكيف كانت ردة الفعل عند الكهنة والبطاركة؟

– كانت ردة فعل مسيحية قوامها الحب والسلام والتعالي عن مطالب الدنيا.

فقال إخناتون: لم يدبِّروا ثورة كما فعل أجدادهم معي!

فقال أثناسيوس: رغم ذلك كانت الأحوال تُعتبَر حسنة إذا قورنت بما كانت عليه أيام الرومان، ولكنا نحن الأقباط تكدَّرنا عندما علمنا بدخول أفراد منا في الدين الجديد، وتراءى لنا أنهم كفروا تفاديًا من أداء الجزية، أما هم فزعموا أن الإسلام ما هو إلا مذهب من المسيحية، وأن مُعتنِقه ليس بكافر.

فقال الملك خوفو: لقد مهَّدتم لهم الطريق بتغيير دينكم الأول، فكرَّستم سُنة اللعب بالعقيدة!

فقال إخناتون: لا يُلام الإنسان على تغيير دينه إذا كان دافعه القُربى من ذي الجلال والنور، ولكني أعجب كيف اهتدى العرب إلى إلهي، بَيْنا نبذَهُ قومي جيلًا بعد جيل!

وقالت إيزيس: لا أجد ما يوجب الدفاع عن هذا الابن، طالما أن أحدًا لم يوجِّه إليه تهمة ما.

فقال أوزوريس: نحن نرجو لك يا أثناسيوس حسن الختام أمام محكمتك المسيحية!

٤٣

وهتف حورس: المعلم أنتناش.

فدخل رجل ربعة، ومضى حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: توليتُ أمر الكتابة بالقبطية لتبحُّري فيها، وفي حكم عبد الله أخي الخليفة الوليد بن عبد الملك صدر قرار بإحلال اللغة العربية مكان اللغة القبطية؛ فعُزلت من وظيفتي وتولاها رجل من حمص، وعُرف عن حاكمنا بأنه يقبل الرشوة رغم تحريم دينه لها، وتولى بعده قرة بن شريك وكان جائرًا ظالمًا؛ فاحتقر عقائدنا حتى كان يقتحم الكنائس أحيانًا ويوقف الصلاة.

فتساءل أبنوم: وأين ذهب اتفاق عمرو بن العاص؟

فقال أنتناش: ما أسرع أن ينسى الحكام دينهم!

فسأله أبنوم: وماذا فعل الشعب؟

– لم يكن لنا قدرة على مقاومة السلطة الحاكمة.

فقال رمسيس الثاني: أسفي على حكم الفراعين!

فقال له أبنوم: الأسف حقًّا على حكم الشعب في الفترة التي كشَطْتُموها من التاريخ، أما الفراعين فكثرتهم كانت أقسى على الشعب من الأجانب!

فقال رمسيس الثاني: أنا لا أسمح.

ولكن أوزوريس قاطعه قائلًا: أنا الذي أسمح أو لا أسمح.

وساد صمت مدةً غير قصيرة، ثم قال أوزوريس مخاطبًا أنتناش: فليصحبك التوفيق أمام المحكمة المسيحية.

٤٤

وهتف حورس: دميانة السويفية.

فدخلت امرأة متوسطة القامة، وتقدمت حتى مثَلَت أمام العرش.

ودعاها أوزوريس للكلام فقالت: فلاحة من بني سويف، ترمَّلتُ وأنا أمٌّ لولد صغير، وكان متولِّي الخراج أسامة بن يزيد، وقد اشتُهِر بالظلم والعسف، وقد أمر أن يلبس كلُّ كاهن خاتمًا من حديد في إصبعه محفورًا عليه اسمه، يأخذه من جابي الخراج إشارة إلى خلوِّ طرفه، وهدَّد مَن يخالف ذلك بقطع اليد، وفرض أيضًا ضريبة عشرة دنانير على كلِّ مَن يركب النيل، وقد اضطرتني ظروف المعيشة للسفر في مركب شراعي، وحدث أن تدلَّى ابني ليشرب، فخطفه تمساح ومعه تذكرة السفر، وعند محط الوصول طالبوني بالتذكرة، ولم يُفرَج عني رغم شهادة الشهود حتى بعتُ ما بين يديَّ!

فقال الحكيم بتاح حتب: الدين إسلامي والحكم روماني.

فقال أبنوم: فيما عدا فترة الظلام لم يعرف الفلاح إلا الظلم، بصرف النظر عن اسم الظالم وجنسيته!

قالت دميانة: ونفد صبر الناس فتجمهروا ثائرين، واستمرَّت الثورة حتى مات الخليفة في دمشق؛ فهدأت الأحوال على أمل تغيير السياسة.

فقال أبنوم: لتبارككِ الآلهة على أول خبرٍ سار نسمعه.

وقال أوزوريس: أرجو أن تحظَيْ بالإنصاف في ساحة محكمتك.

٤٥

ونادى حورس: الحاج أحمد المنياوي.

فدخل رجل طويل القامة، قوي البنيان، وتقدَّم حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: في الأصل من أسرة ميخائيل المنياوي، هداني الله إلى الإسلام فأسلمتُ، وتعلَّمتُ اللغة العربية، وحفظت القرآن الكريم، واشتغلت بالتدريس، ثم مكَّنني الله من أداء فريضة الحج، وفي أيامي تولَّى الخلافةَ عمرُ بن عبد العزيز، وكان من الخلفاء الراشدين، مثل خلفاء المسلمين الأوائل فشكا الأقباط أسامة بن يزيد إليه؛ فأمر بعزله ثم قبض عليه، وحُمِل إلى الخليفة مُكبَّلًا، ومات في الطريق، وتولى مكانه أيوب بن شرحبيل وكان ورعًا؛ فعوَّض الأقباط عما حاقَ بهم من ظلم.

وسأله إخناتون: لِم اعتنقتَ الإسلام؟

– الإيمان ينفجر في القلب دون مقدمات.

فقال إخناتون: صدقتَ، ولن يصدقك مثل خبير، ولكن ألَم تكن لأناشيدي دخل في ذلك؟

فقال أوزوريس: لم يُعرَف اسمك إلا بعد أيامه بألف عام.

فقال الملك خوفو مخاطبًا أحمد: لعلك رغبت في التخلُّص من الجزية!

فقال أحمد: أبدًا، لقد كان قائد الجيش حيان بن شريح يطالب الداخلين في الإسلام بالجزية، ولما بلغ ذلك الخليفة أمره برفعها، كما أمرَ بضربه عشرين سوطًا، وقال له إن الله بعث محمدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا!

فقال أوزوريس: ليصحبك التوفيق أمام محكمتك الإسلامية.

٤٦

ونادى حورس: سمعان الجرجاوي.

فدخل رجل ربعة، وتقدَّم حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: حدَّاد من أسرة حدَّادين، وفي أول خلافة هشام بن عبد الملك قام الأقباط بثورة، واشتركتُ فيها، وفقدت حياتي في إحدى معاركها، وكان يتولى أمرنا حنظلة بن صفوان، وكان ظالمًا غشومًا، ولم يكتفِ بالضرائب المفروضة على الإنسان؛ ففرض ضرائب على الحيوان، وقد عُزل بسبب ذلك بعد إخماد الثورة.

فقال أبنوم: أُحيِّيك كثائرٍ من أبناء شعبنا، ولكني أتساءل عما يُحبِط الثورات؟!

فأجاب سمعان الجرجاوي: قوة الخلافة لا تُقهَر، وكنا شعبًا أعزل قد فقد روحه القتالية، كما فقدنا مشاركة إخواننا الذين اعتنقوا الإسلام وأخلصوا قلوبهم للخلافة!

فقال أبنوم: هذا غزو من الداخل لم يحدث من قبلُ.

وقال أوزوريس: اذهب إلى محكمتك المسيحية مصحوبًا بتزكيتنا وبركاتنا.

٤٧

ونادى حورس: حليم الأسواني.

فدخل رجل طويل، نحيل، مضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: تاجِر غِلال من أسرة كبيرة، اعتنق نصفها الإسلام، وحدث أن انتقلت الخلافة إلى أسرة جديدة، عاصرتُ منها خليفة يُدعى أبا جعفر المنصور، وتتابع الولاة على مصر، لا يمكث أحدهم إلا عامًا أو بعض عام، ولا يجد فرصة للتفكير في الإصلاح؛ فساءت الأحوال، وثار الأقباط في سخا، واشتدت الحال سوءًا؛ فعمَّ البلاء والجوع حتى أكل الناس الكلاب والآدميين.

فسأله الحكيم أمحتب وزير الملك زوسر: وكيف كان حال المسلمين؟

– عانوا مثلنا، وبلغ بهم السخط غايته، واتهموا الولاة بالخروج على الشريعة، واتَّحدت مشاعرنا رغم اختلاف الدين ولكن القوة الحاكمة كانت أقوى من الجميع. فقال إخناتون: لو اعتنقتم جميعًا ديانة الإله الواحد لبادرَ إلى إنقاذكم.

فقال أبنوم: كانت مشكلة خبز لا مشكلة لاهوتية.

فقال أوزوريس: لعلك تجد الحكم العادل في محكمتك.

٤٨

ونادى حورس: سليمان تادرس.

فدخل رجل متوسط القامة، بدين، مضى حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: نقَّاش ماهر، عاصرتُ أربعة خلفاء، هم المهدي والهادي والرشيد والمأمون، وعشرات من الولاة المتتابعين، غلب على أكثرهم الفسق والرشوة والظلم، وفي أيامهم قامت انتفاضات كثيرة، وفي بعضها قام الأقباط المسيحيون والأقباط المسلمون والعرب، اتحدوا ضد الظلم وتعاونوا على دَفْعه، حتى جاء المأمون بنفسه لتفقُّد الأحوال، فأجرى العدل، وتحسَّنت أحوال الناس على اختلاف أديانهم.

فسأله أبنوم: هل اشتركتَ في ثورة من الثورات؟

– لا، ولكني فقدتُ ابنًا في إحداها!

فقال الحكيم بتاح حتب: يُخيَّل إليَّ أن الأمور مضت في مجرى جديد.

وقال أوزوريس: إنك تستحق عطفنا، فاذهب إلى محكمتك بسلام.

٤٩

وهتف حورس: موسى كاتب سر أحمد بن طولون.

فدخل رجل مديد القامة، ومضى حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: قبطي مسيحي، وهَبَني الرب علمًا ودراية؛ فاختارني الوالي أحمد بن طولون كاتب سره، ولم يكن عربيًّا، وقد آلت إليه الأمور في خلافة المعتمد بن المتوكل؛ فعمل على تثبيت ولايته، وكأن مصر قد عاد إليها استقلالها، بل إنه ضمَّ لحكمه سوريا وأجزاء من آسيا الصغرى، وعكف على الإصلاح والبناء والبر وإقامة العدل حتى انتشرت مظلته فوق المسلمين والمسيحيين واليهود؛ فلهجت الألسنة بالثناء عليه، وكان يجلس يومَين للمظالم مثلما فعل الخلفاء الراشدون، لذلك فعندما اشتدَّ عليه المرض خرج الجميع يدعون له فوق جبل المقطم، المسلمون بقرآنهم والمسيحيون بإنجيلهم واليهود بتوراتهم.

فسأله الحكيم بتاح حتب: هل انتفع الأقباط المسيحيون بمنزلتك عند الوالي؟

فأجاب موسى: لقد كان اختياره لي دليلًا على إيمانه بالمساواة بين الطوائف؛ فاعتنقتُ إيمانه بالمساواة، وحتى عندما رشحتُ له المهندسين المسيحيين لبناء الحصون والمساجد كنت متحرِّيًا الدقة بلا تحيُّز، والحاكم العادل يستخرج من طوايا معاونيه خير ما فيها بما هو قدوة لهم!

وسأله الحكيم أمحتب وزير زوسر: وكيف جرَتِ العلاقات بين الطوائف؟

– على خير ما يكون وكما ينبغي لها أن تجري في ظل حاكم عادل، في عهده أصبحت مصر شعبًا واحدًا ذا أديان ثلاثة، وكان الإسلام قد أخذ ينتشر ويكثر عدد معتنقيه.

واستأذن تحوت كاتب الآلهة في توجيه سؤاله، ولمَّا أذن له قال: لماذا سجن البطريرك ميخائيل بطريق كنيسة الإسكندرية؟

فأجاب موسى: لم يكن الذنب ذنبه، ولكنه كان دسيسة من أسقف حقود يُدعى سكا، زعم لابن طولون أن البطريرك يدَّخر ثروة طائلة لا حاجة له بها؛ فطالبه ابن طولون بالتبرُّع بشيء من ثروته في ظرفٍ كان الوالي يتوثب لدفع جيوش أجنبية، فاعتذر البطريرك بعجزه؛ فسجنه بتهمة الخيانة، ولما ولي ابنه خمارويه بعده تبيَّن له وجه الحقيقة؛ فأطلق سراحه وأرجعه مُكرَّمًا، ولم يكن خلفاء ابن طولون مثله قوةً وحزمًا؛ فدالت دولتهم ورجعت مصر تتطلع إلى الغد بعين حذرة.

فقال أوزوريس: عرضتَ صفحة مشرقة فلتصحبك السلامة.

٥٠

وهتف حورس: علي سندس.

فدخل رجل قوي البنية، متوسط القامة ومضى حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: سقَّاء، عشتُ جُل حياتي في ظل الدولة الإخشيدية، وكانت مصر قد عادت إلى الخلافة العباسية، وتتابع عليها الولاة بالعشرات يصبون المظالم على المصريين غير مُفرِّقين بين مسيحي ومسلم، حتى تولى أمورنا محمد أطفيح، مملوك، من سلالة ملوك فرغانا، فاستقل بمصر، ولقَّب نفسه بالإخشيدي كما جرى عليه العرف بين ملوك فرغانا، وصدَّ عن مصر الطامعين فيها، وكان — لدى كل حملة — يطالب المسيحيين بالمعاونة، ثم آلَ الحكم إلى وزيره الخصيِّ كافور الذي لقَّب نفسه بالإخشيدي، وفي عهده حكمت مصر الحجاز والشام، وطارد الموظفين الفاسدين فتحسَّنت الأحوال في عهده.

وسأله رمسيس الثاني: كيف رضيتم بأن يحكمكم مملوك وخصي؟

فأجاب علي سندس: ما كان يهمنا كمسلمين إلا أن يحكمنا حاكم مسلم عادل، والعبد العادل خير من الأمير الظالم!

فتساءل رمسيس الثاني: ومن أين لعبد أن يتفوَّق على أمير؟

فأجابه إخناتون: بفضل عبادة الإله الواحد، لقد دعوتُ في حياتي للمساواة بين البشر، فرُميتُ بالجنون!

فقال أوزوريس: لتصحبك السلامة إلى محكمتك الإسلامية.

٥١

وهتف حورس: ابن قلاقس.

فدخل رجل قصير القامة، مع مَيْل للبدانة، وسار حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: أنا أبو الفتح نصر الله بن عبد الله، الشهير بابن قلاقس اللخمي الإسكندري، المُلقَّب بالقاضي الأعز.

فقال أوزوريس: إنه اسم يفوق في طوله اسم أي فرعون، ماذا كنت تعمل؟

– مُرسي السفن المُقلِعة من مصر، ولكنني كنت شاعرًا، زرتُ المغرب وصقلية، ومدحت أمراءهما كما مدحت الفاطميين وملوك اليمن، وكانت مصر بلدي والإسلام وطني والمدح رزقي، من ذلك قصيدتي من مدح ياسر بن بلال التي مطلعها:

سافِر إذا ما شئتَ قَدْرا
سار الهلال فصار بدرا
والماءُ يكسبُ ما جرى
طِيبًا ويخبث ما استقرَّا

وأنا القائل أيضًا:

انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة
واعجب لما بعدها من حمرة الشفق

فقال أوزوريس: حدِّثنا عن زمانك، أما الشعر فله محكمة أخرى.

فقال ابن قلاقس: دالت دولة الإخشيد؛ فاستولى الفاطميون على مصر دون حرب، وبنوا القاهرة والأزهر، وحسنت في أيامهم الإدارة، وجرت الأرزاق، ولما جاء المعز لدين الله استقبل صفوة القوم وكان فيهم عبد الله بن طباطبا الأديب العلَّامة فسأل الخليفة: «إلى مَن ينتسب مولانا؟» فسلَّ الخليفة نصف سيفه وقال: «هذا نسبي.» ونثر عليهم الذهب وقال: «وهذا حسبي.» فقالوا جميعًا سمعنا وأطعنا.

فسأله أبنوم: لماذا لم تستقلوا ببلدكم عقب انهيار دولة الإخشيد؟

فأجاب ابن قلاقس: ولِم نستقل على حين يوجد أكثر من خليفة مسلم؟ .. المسلم لا يهمه الاستقلال، وما يريد إلا حاكمًا مسلمًا قويًّا عادلًا، وقد وجدناه عند الفاطميين.

– وبايعتم على الطاعة أمام السيف والذهب؟

– وهل تقوم دولة إلا عليهما؟! وقد حفل عهد الفاطميين بالعِلم والفن والبناء، وحظِيَ المسيحيون بالثقة والأمان، ولكن عهد الحاكم بأمر الله لا يُنسى؛ فقد تلاطمت فيه المتناقضات، مرةً يُنصف المسلمين ويضطهد الأقباط، وأخرى يُنصف الأقباط ويضطهد المسلمين، وثالثة يضطهد الجميع، ثم ختم عهدهم بمجاعة ضاربة عفت المهابة والمجد وأصابت الناس بالمِحَن!

فقال أوزوريس: اذهب بسلام إلى محكمتك.

٥٢

ونادى حورس: الوزير قراقوش.

فدخل رجل ربعة، ومضى حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: دالت دولة الفاطميين؛ فجاء صلاح الدين الأيوبي إلى مصر؛ ليُنشئ دولة جديدة هي الدولة الأيوبية، وعملتُ تحت جناحه وزيرًا، وشهدت إصلاحاته الداخلية من تنظيمٍ للإدارة وتخفيفٍ للمكوس، وإقامة العدل، كما شهدتُ إنجازاته الخارجية مثل توحيده العرب، ومحاربة المسيحيين الأجانب والانتصار عليهم، واستوائه بين الفرسان مثالًا للشجاعة والشهامة والمروءة والعظمة، وقد تحريتُ في كل أعمالي الصلاح والعدل، ولكني اشتهرتُ بالظلم بلا وجه حق؛ وذلك نتيجة لاضطراري إلى إزالة مساكن كثيرين وأنا أبني سور القاهرة، فما عُرِف عادل بالظلم كما عُرِفتُ.

وسأله — بعد استئذان — تحوت كاتب الآلهة: ألَم تعتدِ على أحجار بعض الأهرامات لتبني بها سورك دون احترام للغابرين؟

– انتزعتها من آثار وثنية؛ لأقيم بها مبانيَ في سبيل الله ورسوله!

فقال خوفو: نسيَ الأحفاد دين الأجداد وشُغلوا بحاضرهم.

فقال إخناتون: حسبهم أنهم آمنوا بإلهي.

فقال قراقوش: لم يكن خلفاء صلاح الدين على مستواه، وجاء مسيحيُّو الشمال؛ ليقضوا على مجدهم، فهلكت دمياط، وتعذبت رشيد، وقُتل الرجال، وانتُهكت النساء، ولكنهم في النهاية انهزموا وغادروا البلاد.

فقالت إيزيس: وذهبت دولةٌ بخيرها وشرها.

فقال أوزوريس: اذهب إلى محكمتك مشكورًا.

٥٣

ونادى حورس: الشهاب الخفاجي.

فدخل رجل قصير القامة، مفرط البدانة، وتقدَّم في سَيْره حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام، فقال: وُلدت في سرياقوص، وصرت من رجال اللغة والأدب، فأنا القائل:

حتَّامَ يغزوني صدودُه
والصبر قد كثرَتْ جنودُه
نشوان يعبث بي كما
عبثَتْ بأمالي وعودُه

وقد عاصرتُ زمن المماليك الذين اقتناهم الأيوبيون لجمالهم، ثم ربَّوْهم تربيةً حسنة؛ ليقوموا بخدمتهم؛ فورثوا الملك عنهم، وقد كان منهم سلاطين عظام، حسُن إسلامهم، فأحبُّوا العدل والنظام وشيَّدوا العمائر، وهم الذين صدُّوا التتار، وطهَّرُوا بلاد الإسلام من الصليبيين، ولكن أكثرهم كانوا فاسقين جشعين؛ فعانى الأهالي على أيديهم العذاب والفقر والذل.

فقال تحتمس الثالث: ما كنتُ أتصوَّر أن يكون للمماليك عصر.

وقال الحكيم بتاح حتب: لقد قلتَ في الحب شعرًا، ألَم يحرِّك عذابُ الناس وجدانَك الشِّعري؟

فقال الشهاب الخفاجي: في رسالة لي قلت عن الأهالي: «ذهب أرباب الهمم العالية، ولم يبقَ إلا مَن يفتخر بالرمم البالية، روح الشوم، ونتيجة اللوم، وخليفة البوم، وإن طال التحمُّل والسكوت، فكم بكَتِ السماء أرضًا فقدَتْ حبيبًا، وساعدتها سحب انتحبَتْ نحيبًا، هكذا مرَّ على شعب مصر مئات أعوام من العذاب والذل، ولولا الإسلام لهلكوا وبادوا.»

فسأله أبنوم: وماذا قلت عن المماليك؟

– ما كان في وسعي أن أعرِّض رقبتي لسيوفهم!

فسأله الحكيم أمحتب: ماذا كان دور الإسلام الذي أشرتَ إليه؟

– كان الشجعان من رجال الدين يتصدون أحيانًا للطغاة، دفاعًا عن المظلوين فيُكلَّل مسعاهم بالنجاح، وكان البؤساء يجدون في دينهم العزاء والأمل!

ونظر أوزوريس نحو الخالدين فوق مقاعدهم وقال: أيها السادة، إني أشعر بحزنكم وغضبكم، وأود أن أخبركم بأن المحكمة ستوجه لدى الفراغ من عملها نداء إلى المحكمتين، المسيحية والإسلامية، بإنزال أشد العقوبات بجميع الحكام الظالمين الذين اعتلوا عرش الفراعنة.

ثم نظر إلى الشهاب الخفاجي وقال: اذهب بسلام إلى محكمتك بلا تزكية ولا إدانة منا.

٥٤

وقال تحوت كاتب الآلهة: ولما دالت دولة المماليك سقطت مصر غنيمة في يد الدولة العثمانية، وتتابع عليها مئات الباشوات كولاة، وشاركهم في حكم البلاد الجيش العثماني وبقية المماليك، ولم تعرف البلاد إلا النادر واليسير من الراحة والتقدُّم في فترات عابرة، ثم قام النزاع بين القوى الحاكمة، وتفشَّى الاغتيال والغدر، وغرق الشعب في الهمِّ والذل والجهل، واستمرَّ ذلك بضع مئات أخرى من السنين.

•••

ونادى حورس: علي بك الكبير.

فدخل رجل ذو طول وقوة، ومضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

وقال أوزوريس: إنك أول حاكم أجنبي نستدعيه إلى محكمتنا لما تضمنته سياسته من نزعة مصرية واضحة لم تُلمس من قبلُ، وها أنا أدعوك إلى الكلام.

فقال علي بك الكبير: كنت في الأصل من مماليك إبراهيم كخيا، فميَّزَني لشجاعتي، فصرت أحد البكوات المعدودين، ثم رُقِّيتُ شيخًا للبلد، وعند ذاك فكَّرتُ بالاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية، وتمَّ لي ما أردتُ، وسرعان ما خفَّفتُ المكوس وأقمتُ العدل ونفَّذت بأمانة حكم الإسلام، فنعم بالسلام والأمان أهلُ مصر، مسلمين ومسيحيين ويهودًا، ومددت سلطاني حتى شمل الجزيرة العربية، والشام، والنوبة، ولولا خيانة أبي الذهب — أحد مماليكي المقربين — لكان لمصر مصير غير المصير، ومتُّ كريمًا كما عشتُ كريمًا!

وتكلم إخناتون فسأله: ألا يُعتبر استقلالك بمصر تمزيقًا لوحدة الإسلام دين الإله الواحد؟

فقال علي بك الكبير: كان العثمانيون يمارسون الظلم والفساد تحت شعار إسلام زائف، وهالني ما يلقى أهل مصر من عذاب، فلم أجد من سبيلٍ إلى إسعادهم في ظل إسلام حقيقي إلا بالتحرُّر من ربقة العثمانية.

فقال تحتمس الثالث: وبدأت مشكورًا في استرداد بعض من إمبراطوريتي. وقال أمنمحعت الأول: لم تنتفع بوصيتي التي دوَّنتُها عقب مؤامرة دُبِّرت في قصري بيدِ أقرب المقربين لي وكدتُ أهلك ضحيةً لها!

فقال علي بك الكبير: الحقُّ أني لم أسمع عنها، وقد كان لي في كتاب الله وسنة رسوله ما يكفيني لولا أن الحذر لا ينجي من القدر.

فقال أوزوريس: إنك تستحق عندنا كرسي الخلود وسيُسجَّل ذلك في تزكيتنا لك.

٥٥

وهتف حورس: السيد عمر مكرم.

فدخل رجل دون الطويل وفوق المتوسط، ذو بنيان مستقيم، فمضى في كفنه حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: وُلدتُ في أسيوط، وتلقيت العلم والأخلاق والدين على يد الصفوة، ثم تبوَّأتُ نقابة الأشراف، ودأبت على ردع القوى دفاعًا عن الشعب المُعذَّب، ولما جاء الفرنسيون لغزو بلادنا دعوتُ الشعب للقتال وسرتُ في طليعته، ولكن جيوشنا انهزمت واحتلَّ الفرنسيون القاهرة، وقد اختاروني لعضوية الديوان فرفضتها بإباء، وهاجرتُ إلى سوريا تاركًا أموالي وأملاكي عرضة للنهب، ولما غزا الفرنسيون سوريا أعادني نابليون إلى مصر مُكرَّمًا، ولكني اعتزلتُ في بيتي، ولما ثارت القاهرة كنتُ على رأس ثورتها، فلما أُخمِدَت بقسوة هاجرتُ من مصر ثانية، ولم أعُدْ إلا بعد جلاء الفرنسيين، وتزعَّمتُ الثورة على المماليك وعلى الوالي التركي، وبايعتُ حاكمًا جديدًا لما آنستُ فيه من مَيْل إلى المصريين وجنوح إلى العدل والاستقامة، وحتى ذلك الحاكم قاومتُه لما تناسى تعهُّده لنا؛ فنفاني، وانتهت حياتي في المنفى!

وتكلم أبنوم فقال: إنك فرد من الشعب، كرَّس حياته للدفاع عن الشعب، دعاه للقتال لأول مرة منذ ثورتي المباركة، وثار على الحاكم الأجنبي، وولَّى بقوة الشعب حاكمًا جديدًا، خبِّرني أكان الحاكم الجديد من أبناء الشعب أيضًا؟

فأجاب السيد عمر مكرم: لا، ولكنه كان مسلمًا وبدا لي عادلًا.

– يا للخسارة، ولِم لَم تَستولِ على الحكم؟

– ما كانت الدولة العثمانية توافق على ذلك!

– أقول مرة أخرى يا للخسارة!

فقال إخناتون: لعلك أثرتَ وحدة الإسلام دين الإله الواحد؟

فأجاب السيد عمر مكرم: أجل، ذلك ما أثرته كمؤمن بالله ورسوله.

وقالت إيزيس: على أيِّ حالٍ، فإني سعيدة بهذا الابن.

وقال أوزوريس: إنك تستحق مكانك بين الخالدين وسيُسجَّل ذلك في تزكيتنا لك.

٥٦

ونادى حورس: محمد علي باشا.

فدخل رجل مليء، مستقيم البنيان قويُّه، وتقدَّم حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: وُلدتُ في مدينة قولة، نشأتُ يتيمًا، ولما ترعرعتُ انتظمت في سلك الجندية، وذهبت إلى مصر ضمن حملة لقتال الفرنسيين، ولما جلا الفرنسيون عن مصر جعلتُ أدرس الأحوال، وأفكِّر في المستقبل، تكشف لي ضعف العثمانيين، ووحشية المماليك، وانتبهتُ إلى قوة ثالثة لا يحسب حسابها أحدٌ، هي قوة أهالي البلاد وزعمائهم، فقررتُ أن أوثِّق علاقتي بهم؛ لعلهم يصلحون أساسًا أقيم عليه دولة جديدة، تستعيد من الماضي أمجاده الغابرة، ونجحتُ في ذلك أيما نجاح، حتى خلع الأهالي الوالي التركي وبايعوني حاكمًا محله، واعترف الباب العالي بالأمر الواقع؛ فاستتبَّ لي الأمر، وشرعت في العمل فلم أكفَّ عنه حتى نهاية عمري، تخلَّصتُ من المماليك وهم الشر المقيم، وتلقيتُ من الباب العالي أمرًا بمحاربة الوهابيين في الجزيرة العربية فانتصرت عليهم، وكوَّنتُ جيشًا من المصريين، وفتحتُ السودان، وقُتِل ابني إسماعيل في الحرب فانتقمتُ له بقتل عشرين ألفًا من العدو، وأنشأتُ للجيش مدارس ومصانع، كما أنشأتُ أسطولًا مستعينًا في ذلك كله بالخبراء الفرنسيين، ولم أُغفِلِ الإصلاح؛ فأدخلت زراعات جديدة كالقطن والنيلة والأفيون، وغرست الأشجار والحدائق، كما أنشأت مدارس للطب، وبنيت المستشفيات، وأرسلت البعثات من أبناء البلاد لفرنسا بلد الحضارة الحديثة، ونظَّمتُ الإدارة والأمن، ومن آثاري الكبرى القناطر الخيرية، كما أنشأت أول مطبعة في الشرق وهي مطبعة بولاق، وطلب مني الباب العالي أن أحارب عنه في المورة والشام فحققتُ انتصارات عظيمة حتى حلَّ الرعب في قلب الباب العالي نفسه، فأراد أن يوقفني عند حدي، ولكني حاربته وغزوتُ بلاده، وكدتُ أستولي على عاصمته لولا تدخُّل الدول الأجنبية التي خافت أن تتجدد دولة الإسلام على يدي، وتآلبَتْ عليَّ الدول، واضطرتني للخضوع للباب العالي نظير أن يجعل مصر وراثية في بيتي، واضطُرِرتُ لتصفية الجيش وكثير من المدارس والمصانع، وساءت حال البلاد، ولم أحتمل النهاية ففقدتُ عقلي ثم حياتي!

قال خوفو: كأنها أسرة فرعونية جديدة رغم أصلها الأجنبي.

وقال تحتمس الثالث: لقد أعدتَ إمبراطوريتي، وإني أشهد لقائدك بالبراعة، ولكنك فقدتها في أثناء حياتك فهي أقصر الإمبراطوريات عمرًا في التاريخ، وإني أعجب كيف قتلتَ عشرين ألفًا انتقامًا لابنك، كأنك لم تسمع عن سياستي الحكيمة في الأمم المغزوة؟

فقال محمد علي: لم أسمع عنها، ولم يهتم أحد بآثاركم قبل أن يهتم بها علماء الحملة الفرنسية ويحلون ألغاز لغتها، غير أنني كنت أستلهم حكمتي الخاصة من المعاملة المباشرة للبشر!

فقال تحتمس الثالث: إني أشهد لك بالعظمة، وعلى ضوء ذلك أفهم غرورك، وكان بودِّي أن أتسامح معك لولا النهاية السريعة الأسيفة التي آلَتْ إليها إمبراطوريتك، وهذا يعني أن إدراكك رغم ذكائك كان ناقصًا، لم تدرك أبعاد الموقف الدولي جيدًا، فتحديته وأنت لا تدري، وعرَّضتَ نفسك لقوة لا قِبَل لك بها.

– اعتقدتُ أن فرنسا ستقف إلى جانبي حتى النهاية!

فقال الحكيم بتاح حتب: هذا أيضًا لا يدفع عنك مظنة قِصَر النظر.

فقال محمد علي: كانت ثمة فرصة مواتية لتجديد دولة الإسلام من منطلق مصر الفتية.

فقال إخناتون: إني أدرك ذلك تمامًا؛ وأُحيِّي طموحك لإحياء دولة الواحد الأحد!

فقال الملك خوفو: ليتك وضعتَ عبقريتك وأحلامك في تقوية مصر، وقنعتَ بذلك.

وقال أبنوم: لم يكن إيمانك بالشعب كاملًا، ولا حبك له بالقَدْر الذي يجعلك توظِّف جهدك الحقيقي لإحيائه ودعمه، استخدمتَ الفلَّاح في سبيل الأرض والدولة، وكان الواجب أن توجِّه كل مؤسسة لخدمة الشعب، ولكن لا يفكِّر بهذه الطريقة إلا مَن كان مثلي أنا .. ومهما يكن من أمرٍ فلن أنسى لك فضل دفعك الفلاحين إلى مسرح الإدارة والسياسة والعسكرية والعِلم.

وهنا قالت إيزيس: من أجل ذلك أعتبر هذا الحاكم الأجنبي من أبنائي.

وقال أوزوريس: لو كانت هذه المحكمة هي صاحبة الفصل في تقرير مصيرك لوجهتُ إليك نقدًا قاسيًا، وتوبيخًا جارحًا، ثم حفظتُ لك حقك في مقعدك بين الخالدين، وسنرفع بشأنك تقريرًا إلى محكمتك الإسلامية ينوِّه بأعمالك الجليلة، وسيُعتبَر في جملته تزكية لشخصك من مصر وآلهتها.

٥٧

ونادى حورس: أحمد عرابي.

فدخل رجل مائل للطول والامتلاء، ذو رزانة، ووقار، فتقدَّم حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: حفظت القرآن صغيرًا بقريتي بالشرقية، وانتظمتُ في سلك الجندية في الرابعة عشرة، وصلتُ إلى رتبة قائمقام؛ فكنت أول مصري يصل إلى هذه الرتبة، وكانت الرتب الكبيرة وَقْف على الشراكسة، وكان المصري مُحتقَرًا في وطنه؛ فأقنعتُ بعض الزملاء بالمطالبة بعزل وزير الحربية الشركسي المتحيِّز؛ فقُبض علينا، فثار الجند الوطنيون حتى أُفرِج عنا، ولمستُ ما يعانيه الشعب من ظلم؛ فتحركتُ بالجيش إلى قَصْر عابدين وطالبت الخديوي بإسقاط الوزارة وتشكيل مجلس نواب فقال لي: «أنا ورثتُ مُلك هذه البلاد وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا»، فقلت: «لقد خلقنا الله أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا وعقارًا، فوالله الذي لا إله إلا هو إننا سوف لا نُورث ولا نُستعبَد بعد اليوم» وقد انتصرنا على أعداء الشعب، وتكوَّن مجلس نيابيٌّ ووزارةٌ وطنية، ثم تدخلَتِ الدول الأجنبية لمَنْع المصريين من تولي شئونهم خوفًا على مصالحها، وخانَ الخديوي وبعض الانتهازيين الوطن؛ فاتفقوا مع أعدائنا الإنجليز، ودافعنا عن وطننا بكل ما نملك، ولكننا انهزمنا وحُوكِمنا وحُكم علينا بالنفي المؤبَّد ومُصادَرة أملاكنا.

وتكلَّمَ الملك خوفو فقال: ولكنك تحدَّيتَ الجالس على العرش وخاطَبْتَه بما لا يُخاطَب به الملوك!

فقال أوزوريس: تغيَّرَ الزمان أيها الملك، فلم يعُد الملوك يحكمون نيابةً عن الآلهة ولكن بالمشاركة مع الشعوب.

فقال خوفو: مشاركة الفلاحين في الحكم تعني الفوضى.

فقال أبنوم: بل هي وثبة كبرى في مدارج الخير.

وقال أحمد عرابي: كان الخديوي ورجاله من عنصر أجنبي.

فقال الملك مينا: لقد قامت وحدة مصر على عناصر بشرية متنوعة، اندمجت جميعها في الوطن وأخلصت للعرش.

فقال أحمد عرابي: لم أكافح إلا العناصر التي أبَتْ الاندماج، والدليل على ذلك أن حزبي لم يخلُ من وطنيين من أصل شركسي.

فسأله أبنوم: ولِم لَم تقتل الخديوي وتكوِّن أسرة جديدة من أصل شعبي؟

– كان هدفي تحرير الشعب وإشراكه في حمل المسئولية.

فقال أبنوم: كان قتله أفضل، ولكنك على أي حال صاحب الفضل في الدفاع عن حق الشعب!

وتكلم تحتمس الثالث فقال: كان الموقف يتطلب قيادة عسكرية خارقة في عبقريتها، وللأسف لم يتهيأ لك شيء من ذلك.

فقال أحمد عرابي: بذلتُ أقصى ما لديَّ.

وقال رمسيس الثاني: وكان يجب أن تقاتل حتى الموت بين جندك.

وقال أبنوم: وكان يجب أن تقضي على جميع أعدائك لتقضي على الخيانة في مهدها.

فقال إخناتون: إنك رجل طيب القلب، فجَرَتْ عليك النهاية المُقدَّرة للقلوب الطيبة.

فقال الحكيم بتاح حتب: هكذا ثُرتَ من أجل حرية الشعب، فجرَرْتَ عليه احتلالًا أجنبيًّا!

وهنا قالت إيزيس: هذا ابن مترع القلب بالنوايا الطيبة، وهبَ شعبه ما يملك من حبٍّ غير محدود وقدرات محدودة، وقد تآمَرَ الأعداء على تصفية ثورته، ولكنهم لم يستطيعوا استئصال البذرة التي غرسها في الأرض الطيبة.

وقال أوزوريس: إني أعتبرك نورًا تألَّقَ في الظلمات التي رانت على وطنك، وقد عوقبْتَ في حياتك بما يُعتبَر تكفيرًا عن أخطائك، فعسى أن تحظى بالبركات في ساحة محكمتك، ولن نُقصِّر عن التنويه بفضلك بما أنت أهله.

٥٨

وهتف حورس: مصطفى كامل.

فدخل شاب ممشوق القامة، عذب الملامح، ومضى عاري الرأس، حافي القدمَين، حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: بلغتُ الوعي وأنا تلميذ في عصر الاحتلال البريطاني؛ فكرهتُه وصمَّمتُ على محاربته، وشرعت في ذلك وأنا تلميذ، وزارنا في المدرسة جناب الخديوي عباس الثاني؛ فاستقبلتُه بخطبة وطنية حماسية استجابت لها وطنيته وشبابه، وتوثَّقَتْ بيني وبينه منذ ذلك اليوم علاقة وثيقة؛ فمضى يمدُّني بالتشجيع والمال للتخلُّص من الاحتلال، واستوَتْ علاقتي على نفس النهج مع الخليفة والجمعية الإسلامية، أما قبلتي في جميع الأحوال فكانت استقلال مصر وحريتها، من أجل ذلك تغيَّرَ موقفي من الخديوي عندما اتفق مع الاحتلال، وكانت حال الشعب لا تبعث على الأمل ولكني لم أقصِّر في إيقاظ وَعْيه الوطني بالكلمة في الصحف والخطابة، كما قمت بالدعاية لقضية وطني في الخارج حتى عرفها الأحرار في أوروبا، وخاصة فرنسا، ولما ارتكب الإنجليز جريمتهم الكبرى في دنشواي استنكرتُ أعمالهم الوحشية وندَّدتُ بالأحكام التي أصدرَتْها المحكمة الزائفة على أهل القرية الأبرياء، فزعزعت عرش طاغية الإنجليز في مصر، حتى اضطُرَّت بلاده إلى استدعائه، ثم أسَّستُ الحزب الوطني، وهو أول حزب سياسي مُنظَّم أُنشِئَ في مصر، تضمَّنَ برنامجُه الجلاء والدستور في ظل الدولة العثمانية، وواظبتُ على الجهاد في الداخل والخارج حتى أسلمتُ الروح في عز الشباب!

وتكلم بسماتيك الثالث فسأله: ألم يقتلك الإنجليز؟

– كلا.

– هذا عجيب، لقد عاصرتُ الاحتلال الفارسي مثلما عاصرتَ الاحتلال الإنجليزي، مثلك حاولتُ إيقاظ الوعي الوطني، ولما علم قمبيز بأمري قتلَني دون تردُّد، فكيف تركك الإنجليز دون عقاب؟!

فقال مصطفى كامل: كان الاحتلال قد تمكَّن من دعم سيطرته الكاملة على البلاد؛ فلم يرَ بأسًا من منح معارضيه شيئًا من الحرية، استهانةً بهم في الواقع، وتظاهُرًا أمام العالَم باحترام القِيَم!

– ألم تتعرض لأذى ملموس؟

– أضمر لي الكراهية وحرَّض أصدقاءه على مهاجمتي.

– زمانك وفَّرَ لك من الأمان ما لم يوفِّر لي بعضه، والحق أني لم أعرف مجاهدًا سعيد الحظ مثلك، حظيتَ بتأييد الخديوي والخليفة والجمعية الإسلامية، وهاجمتَ عدوك في الداخل والخارج دون عقاب، واكتسبتَ مجدًا وشهرة دون أن تدفع ثمنًا، لم تُقتَل كما قُتلتُ أنا، ولم تُنفَ كما نُفي أحمد عرابي!

فقال مصطفى كامل: أحمد عرابي خائن جرَّ على بلاده الاحتلال!

فقال له أبنوم: كيف تتهم الرجل بالخيانة، وهو ما ثار ونُفي إلا دفاعًا عن شعبك! وما كان الخائن إلا والد صديقك ومؤيدك ومعينك، وقد خان وطنه بشهادتك كما خان أبوه من قبل.

فقال مصطفى كامل بإصرار: إني أعتبره المسئول الأول عن الاحتلال!

فقال أبنوم: إنك شاب وطني متحمس، صادق النية، سعيد الحظ، عشتَ حياتك في جوٍّ مُعبَّق بأبهة العرش والخلافة والحضارة الفرنسية، لم تشم رائحة العرق الكادح، ولم تكابد آلام الجهاد الحقيقية، ولم تتورع عن النَّيْل من الثائر الحقيقي!

وهنا قالت إيزيس: إنه الابن الذي أيقظَتْ حماسته الوجدان الوطني بعد أن كان الاحتلال يُخمِد أنفاسه.

وقال أوزوريس: لم يكن بوسعك أن تفعل خيرًا مما فعلتَ، ولن يُنسى فضلُ كلماتك، فاذهب إلى محكمتك مصحوبًا بدعواتنا القلبية.

٥٩

وهتف حورس: محمد فريد.

فدخل رجل ربعة، ريان الوجه، وتقدَّم عاري الرأس، حافي القدمَين، حتى وقف أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: انحدرتُ من أسرة عريقة في الأرستقراطية، وشاركت مصطفى كامل في موقفه الوطني منذ بدايته، وبسبب ذلك استقلْتُ من الحكومة؛ متفرِّغًا للقضية الوطنية قبل كل شيء، وتوثقت العلاقة بيني وبين مصطفى؛ فرشَّحَني لخلافته في رئاسة الحزب، وقد سِرتُ على نهجه في الوطنية والخطابة والكتابة حتى قُبِض عليَّ، وزُجَّ بي في السجن، وفي السجن ساوموني كي أخفِّف من عنف موقفي لقاءَ العفو، فرفضتُ أيَّ مساومة، وخرجت من السجن أصلبَ عودًا وأشدَّ مراسًا، وقمت برحلات في البلاد داعيًا للوطنية، فدُبِّرت مؤامرات؛ لإدخالي السجن مع قادة الحزب الكبار، فقرَّ قرارنا على الهجرة ومواصلة الجهاد في الخارج، وأحكمنا التدبير للهرب في الوقت المناسب، ونجحنا في ذلك، وبقدر ما أنجزنا من أعمال في الخارج بقدر ما تعرَّض الحزب في الداخل إلى الضعف والتفكُّك، وكابدنا المُر من الحنين إلى مصر والأهل، وتخلَّى الكثيرون عنا، وقامت في مصر ثورة ١٩١٩، ثورة غير متوقعة، لم تجرِ بي في بالٍ، قامت وأنا في منفى منسي، وآخَرون يتربعون على كراسي الزعامة، وقد أظهرنا رضانا على رجالها، مع اعتقادنا بعدم إخلاص أكثرهم، وهنَّأنا الأمة على ثورتها، وحيَّيْنا ذكرى شهدائها ودعوناها إلى الصمود حتى النهاية، وانتهت حياتنا في المنفى.

وتكلم بساماتيك الثالث فقال: زعامة مقنعة بما تعرَّضتَ له من اضطهاد.

وقال الحكيم بتاح حتب: كان بوسعك أن تنعم بحياة مترفة، وجاهٍ كبير كسائر رجال طبقتك الثرية، ولكنك طرحتَ ذلك كله، واخترت النضال والعذاب في سبيل مصر، إنك رجل عظيم!

أما أبنوم فقال: خبِّرني كيف يترك زعيم أُمَّته في محنة؛ ليجاهد في الخارج؟

فقال محمد فريد: دبروا للزجِّ بنا في السجن.

فقال أبنوم: ولكن الزعيم الحق يعلم أنه خُلِق للسجن أو القتل، لا للجهاد في الخارج!

– كان الجهاد في الخارج ضمن خطتنا الوطنية منذ أيام مصطفى كامل.

فقال أبنوم: قد يُقبل كعمل إضافي؛ لاستكمال العمل الأصلي في الداخل، أما أن تهاجر أنت والقادة تاركين حزبكم بلا قيادة حقيقية، فهو تصرُّف بعيد عن الشجاعة والحكمة معًا، المسألة أنكم من الأعيان الذين قضيتُ عليهم في ثورتي بلا رأفة، إنكم تحبون الزعامة ما ضمنَتْ لكم الجاه والاحترام، ولكن لا قِبَل لكم بالكفاح الصادق، وما يسوق إليه من سجن أو تعذيب أو موت؛ لذلك تخليتَ عن الأمانة في اللحظة الحرجة، مُؤْثرًا الجهاد الآمِن في الخارج، وأصبحتَ بذلك المسئول عما حاقَ بالحركة الوطنية من ضعف وتفكُّك؛ لذلك أيضًا لا أعجب لدهشتك لاشتعال ثورة عامة في الشعب، وأدهشُ في الوقت نفسه لشعورك المتعالي بالظلم لاختيارها زعيمًا غيرك، كأن الزعامة ميراث يتداول في طبقتك كالأرض والمال، حتى بعد الهرب من ميدانها.

فقال محمد فريد: إنك تردِّد ما قاله أعداؤنا!

– لا أنكر وطنيتك، ولكنك أحببتَ مصر على حين انطويتَ في صميمك على احتقار المصريين، ولم يفارقك الشعور بالانتماء إلى أصلٍ أسمى، ولم يكن مفرٌّ من أن تنقلب حياتك إلى مأساة، لأنه لا يمكن أن يتبوأ زعامة شعب إلا رجل من الشعب، ويتميز بالعظمة الإنسانية لا العظمة الأرستقراطية.

وهنا قالت إيزيس: أما أنا فأعتبره من خير أبنائي خلقًا وإخلاصًا ووطنية، ولم يكن في وسعه أن يفعل خيرًا مما فعل مع مراعاة ظروف مولده ونشأته.

وقال أوزوريس: لك منا تزكية يسندها الحب والاحترام؛ فاذهب بسلام إلى محكمتك مع أصدق تمنيات التوفيق.

٦٠

ونادى حورس: سعد زغلول.

فدخل رجل طويل القامة، مهيب الطلعة، قوي القسمات، جذاب الملامح، وتقدَّم في سيره حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: ولدت في إبيانة، درست في الأزهر، تتلمذت على جمال الدين الأفغاني، عملت محرِّرًا بالوقائع المصرية تحت رئاسة وأستاذية محمد عبده، انضممت إلى العرابيين في ثورتهم، وفي أول عهد الاحتلال البريطاني اعتُقِلت كعضو في جمعية الانتقام وفُصلت من وظيفتي، وعملتُ في المحاماة، فالقضاء، اخْتِرت وزيرًا للمعارف، ثم وزيرًا للعدل، وعقب انتهاء الحرب العظمى الأولى وإعلان الهدنة توليتُ زعامة الحركة الوطنية، وأقمتها على أساس متين من الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، وناديت بحق مصر في الحرية والاستقلال؛ فقبضَتْ عليَّ السلطات البريطانية، ونفَتْني إلى جزيرة مالطة، وما إن ذاع الخبر حتى قامت الثورة الشعبية احتجاجًا على نفيي ومطالِبة بالاستقلال، مما اضطرَّ إنجلترا إلى الإفراج عني، وسافرتُ مع أعضاء الوفد إلى باريس؛ لعرض قضيتنا على مؤتمر الصلح، فأغلقَ أبوابه في وجوهنا، ودخلنا في مفاوضات مع الإنجليز دون نتيجة، وحدث انقسام في الوفد، ورجعت إلى مصر، ثم نُفيتُ مرةً أخرى إلى جزر سيشل في المحيط الهندي، ولم يُفرج عني إلا سنة ١٩٢٣، وتوليت الوزارة سنة ١٩٢٤ بعد انتخابات شعبية، ودخلت في المفاوضات التي سرعان ما فشلت، واضطُرِرتُ إلى الاستقالة عقب اغتيال أحد كبار الإنجليز، ثم ائتلفَتِ الأحزاب أمام دكتاتورية الملك، وتوليتُ رئاسة مجلس النواب، تاركًا رئاسة الوزارة للدستوريين، ودارت المفاوضات من جديد ولكني غادرت الدنيا قبل أن أعرف نتائجها.

وتكلم أبنوم فقال: لقد قمتُ أنا بأول ثورة شعبية في نهاية الدولة القديمة، وقمتَ أنت بالثورة الشعبية الثانية بعد آلاف السنين، فأنت أخي وخليفتي وحبيبي.

فقال الملك خوفو: ثمة فرق بين الثورتين يجب أن يُذكر، وهو أن ثورة أبنوم كانت ثورة العامة على الصفوة، أما ثورة سعد زغلول فكانت ثورة شعب مصر كله، فقراء وأغنياء على الاحتلال الأجنبي!

فقال أبنوم: أعتقد أن الأغنياء لا يحبون الثورة.

فقال سعد زغلول: حرصتُ من أول الأمر على الاتحاد كقوةٍ لا غِنى عنها أمام العدو، ولكن ثبت لي أن الأغنياء يكرهون الثورة أكثر مما يكرهون الاحتلال.

فقال أبنوم: كان يجب أن تتخلص منهم.

فقال سعد زغلول: لقد انشقوا عليَّ راسمين لأنفسهم طريقًا إلى الاستقلال يناسب رؤيتهم.

وقال الملك مينا: لقد وحَّدتَ المصريين كما وحَّدتُ أنا مملكتهم، فأنت في ذلك صديقي وخليفتي!

وسأله أمحتب وزير الملك زوسر: رغم ما ثبت لك من زعامة بعد الثورة، فإنك قبلتَ العمل في ظل الاحتلال قبل الثورة، ولم تنضم للحزب الوطني، ما تفسير ذلك؟

فقال سعد زغلول: كان الحزب الوطني يدعو إلى مبادئ خيالية، من ذلك أنه لا مفاوضة إلا بعد الجلاء، مما يعني بقاء الاحتلال إلى الأبد، ومنه مقاطعة الوظائف العامة لهيمنة الإنجليز عليها، ولا يكفي في نظري أن تطالب الناس بسلوك معيَّن، ولكن يجب أن يكون هذا السلوك ممكنًا دون تهاوُن أو إجحاف، وأن يصلح للتطبيق العام، وقد استطاع مصطفى كامل مقاطعة الوظائف بما كان يمده الخديوي وغيره به من مال، واستطاع محمد فريد ذلك لثرائه الواسع، ولكن ماذا يصنع أتباع الحزب؟ .. إن اتبعوا مثل زعامتهم هلكوا، وإن خالفوها مضطرين خانوا العهد، فكيف يدعو أناس إلى ذلك المبدأ المتعالي الذي يعز على التطبيق، ويورث الشعور بالإثم؟ .. ثم كيف نترك الوظائف العامة للأجانب؟ وقد قبلت الحياة الرسمية؛ لأمارس من خلالها ما استطعته من مقاومة، ومن أداء خدمات لوطني كان في أشد الحاجة إليها، وقد اعترف بذلك خصومي قبل أصدقائي!

فقال أوزوريس مخاطبًا الجميع: أعمال هذا الزعيم مُدوَّنة في الكتاب لمَن يريد أن يطَّلع عليها ولكنا في هذه المحكمة لا نناقش إلا الأعمال الفاصلة، ثم خاطب سعد قائلًا: زعم خصومك أن الثورة قامت وأنت في المنفى، وأنك لم تفعل شيئًا لإشعالها، بل إنك دهشتَ لقيامها كحدَثٍ غير متوقع، فما قولك في ذلك؟

فقال سعد زغلول: كانت حال البلاد تدعو لليأس، وأعترف بأنني دهشت لقيام الثورة كما دهش الزعيم السابق لي، وهو محمد فريد، ولكني لم أقصِّر في تهيئة الجو لها بالخطابة لدى كل مناسبة والاجتماع بالناس في بيتي، وفي دعوة الناس في الريف والمدن لتأييدي في موقفي، مما عبأ الشعور القومي، والثورة قامت احتجاجًا على نفيي، فكان شخصي في الواقع هو مُشعِلها المباشر.

فقال أبنوم: الموقف الخطير يتطلب عادة سلوكًا مُعيَّنًا، والزعيم القادر هو مَن يستطيع أن يكون القدوة لهذا السلوك، وقد كان الموقف يحتاج إلى التضحية، فهي أقصى ما يستطيع شعب أعزل أن يقدمه حيال قوة قاهرة، ولما تحدى سعد العدو واضطره إلى نفيه أعطى هذه القدرة المطلوبة، ففعل الشعب مثله، وقامت الثورة، وما يشهد لسعد بالعظمة أنه أقبلَ على التضحية وهو يائس من ثورة تحميه، أو تدافع عنه، فكانت تضحيته كاملة، شجاعة نبيلة لا أمل لها في أي نوع من النجاة، ولو كان يأمل في ثورة لقلَّل ذلك درجة من ضخامة تضحيته!

فقال أوزوريس: وقيل أيضًا إن تعصُّبك لزعامتك هو ما اضطر العقلاء من معاونيك على الانشقاق عليك، فما قولك في ذلك؟

فقال سعد زغلول: المسألة أنني اندمجت في الثورة، وآمنت بها، ووجدت فيها ضالتي التي كنت أبحث عنها طوال حياتي، أما العقلاء فقد كرهوا الثورة وخافوها وقنعوا بالحلول الزائفة، كانوا ذوي مال وخبرة وحنكة، ولكن وطنيتهم لم تكن خالصة، كما كان إيمانهم بالشعب معدومًا!

فقال أوزوريس: وقال بعض أعوانك إنه كان يجب أن تبقى على رأس الثورة، ولا تقبل رياسة الوزارة؟

فقال سعد زغلول: كانت وزارتي امتدادًا للثورة على المستوى الرسمي!

فقال أبنوم: كنت أفضِّل أن تأخذ برأي أولئك الأعوان!

وهنا قالت إيزيس: لتبارك الآلهة هذا الابن العظيم البارَّ، الذي برهن على أن شعب مصر قوة لا تُقهر ولا تموت.

وقال أوزوريس: إنك أول مصري يتولى الحكم منذ العهد الفرعوني، وتوليته بإرادة الشعب، من أجل ذلك أهبك حق الجلوس بين الخالدين من أجدادك حتى تنتهي المحاكمة، ثم تمضي بسلام إلى محكمتك مصحوبًا بتزكيتنا وصادق أمانينا.

واتخذ سعد زغلول مجلسه بين الخالدين في قاعة العدل المقدسة.

٦١

وهتف حورس: مصطفى النحاس.

فدخل رجل قوي الجسم، والوجه مائل للطول، تقدَّم في سَيْره حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: وُلدت في سمنود في أسرة من أبناء الشعب الفقراء، وبفضل اجتهادي أتممتُ تعليمي، ولتفوقي عُيِّنتُ في القضاء، فعُرفت بالعدل والنزاهة، وكنت من أنصار الحزب الوطني الذي زاملتُ رئيسه طالبًا بالمدرسة الخديوية، وعند تأليف الوفد برياسة سعد زغلول اختارني عضوًا فيه، ونُفيت معه إلى سيشل عام ١٩٢١، واشتركت في وزارته الشعبية الثورية، وعقب وفاته انتُخبتُ رئيسًا للوفد، وحملت عبء الجهاد في سبيل الاستقلال والحياة الديمقراطية ربع قرن من الزمان، وقد توليت الوزارة سبع مرات، وأُقِلتُ منها ستَّ مرات لخلافات مع الإنجليز أو الملك، وفي ١٩٣٦ وتحت ضغط التهديد بحرب عالمية قبلت الائتلاف مع الأحزاب، وعقدنا معاهدة مع الإنجليز، اعترفَتْ باستقلال مصر، ووعدَتْ بالجلاء بعد عشرين عامًا، وقامت الحرب العالمية في فترة حكم استبدادي ملكي، واتُّهِم الملك بالاتصال بأعداء الإنجليز، فنشبت أزمة سياسية خطيرة، وفكَّر الإنجليز في خلع الملك، وتقدمتُ لإنقاذ البلاد والعرش، وألَّفتُ وزارة في ظروف عسيرة، ولما انتهت الحرب بانتصار الإنجليز شرعت في المطالبة بالجلاء الفوري، ولكن الملك أقالني، ورجع الملك إلى استبداده، وسارت الأمور من سيئ إلى أسوأ، حتى اضطُرَّ إلى الموافقة على استفتاء الشعب عام ١٩٥٠ فرجعتُ إلى الوزارة، وفاوضتُ الإنجليز من أجل الجلاء، ولمَّا لَم أجِد منهم استجابة ألغيتُ المعاهدة، وأعلنت الجلاء؛ فتآمر عليَّ أعدائي في الداخل والخارج، واستطاع الملك أن يتخلص مني، وقامت ثورة يوليو، واضطُرِرتُ إلى اعتزال السياسة حتى وافاني الأجل.

فقال أوزوريس: يهم الحاضرين أن يعرفوا بعض الإنجازات التي قدَّمتَها في أثناء تولِّيكم الوزارة؟

فقال مصطفى النحاس: بالرغم من أن الشعب لم يحكم إلا ثمانية أعوام نظير تسعة عشر عامًا استبد فيها الملك وأحزاب الأقلية بالسلطة، وبالرغم مما تعرضتُ له من اضطهاد وعسف ومحاولات متكررة لاغتيال حياتي، فقد وفَّقني الله إلى تحقيق خدمات غير قليلة، منها على سبيل المثال، إلغاء الامتيازات الأجنبية، إلغاء صندوق الدَّيْن، تأسيس جامعة الدول العربية، استقلال القضاء، استقلال الجامعة، قانون التوظُّف، منع الأجانب من تملُّك الأراضي الزراعية، التعويض عن إصابات العمل والتأمين الإجباري ضدها، الاعتراف بنقابات العمال، فرض استعمال اللغة العربية في الشركات الأجنبية، الضمان الاجتماعي، ديوان المحاسبة، مجانية التعليم الابتدائي والثانوي والمتوسط، ديوان المحاسبة.

وقال أبنوم: مرحبًا بالثائر الشعبي الثالث في حياة شعبنا، وقد استمدَّ قوته من إيمانه بشعبه وإلهه، واتسمت حياته بالكفاح الطويل والنزاهة، وقد عاش فقيرًا ومات فقيرًا.

وقال الملك إخناتون: تقبَّلْ حُبي أيها الزعيم، إنك مثلي تفانيًا في الإيمان بالإله الواحد، والإخلاص للمبادئ الطاهرة، ومثلي أيضًا في حب البسطاء من الشعب والاختلاط بهم دون حاجز من التعالي أو الكبرياء، ومثلي تعرَّضتَ لعداوة الأوغاد وعُبَّاد السلطة وأسرى الأنانية حيًّا وميتًا، ومثلي أخيرًا فيما حظيتَ به من نشوة النصر، وما ابتُليتَ به من الجحود والهزيمة، ولكن أبشر فالنصر في النهاية لنا.

وهنا قالت إيزيس: وهذا ابن أصيل من أبنائي البررة.

فقال أوزوريس: إني أهبك حق الجلوس مع الخالدين حتى نهاية المحاكمة، ثم تمضي إلى محكمتك مشفوعًا بأكرم تزكية.

٦٢

وهتف حورس: جمال عبد الناصر.

فدخل رجل طويل القامة، واضح الملامح، عظيم الشخصية، ومضى في سيره حتى وقف أمام العرش.

ودعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: أنتمي إلى قرية بني مر من أعمال أسيوط، ونشأتُ في أسرة فقيرة من أبناء الشعب؛ فكابدت مرارة العيش وشظفه، وتخرجت في الكلية الحربية عام ١٩٣٨، واشتركت في حرب فلسطين، وحوصرت مع من حوصر في الفالوجا، وقد هالتني الهزيمة، وهالتني أكثر جذورها الممتدة في أعماق الوطن، فخطر لي أن أنقل المعركة إلى الداخل حيث يكمن أعداء البلاد الحقيقيون، وأنشأتُ في حذر وسرية تنظيم الضباط الأحرار، ورصدت الأحداث انتظارًا للحظة المناسبة؛ للانقضاض على النظام القائم، وقد حققت هدفي في ٢٣ يوليو ١٩٥٢، ثم تتابعَتْ إنجازات الثورة، مثل إلغاء النظام الملكي، واستكمال استقلال البلاد بالجلاء التام، والقضاء على الإقطاع بإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وتمصير الاقتصاد، والتخطيط لإصلاح شامل في الزراعة والصناعة، يستهدف خير الشعب، وتذويب الفروق الطبقية، وبنينا السد العالي، وأنشأنا القطاع العامَّ، متجهين نحو الاشتراكية، وكوَّنا جيشًا حديثًا قويًّا، ونشرنا الدعوة للوحدة العربية، وساندنا كلَّ ثورة عربية أو أفريقية، وأمَّمنا قناة السويس، فكنا منارة وقدوة للعالم الثالث كله في نضاله ضد الاستعمار الخارجي والاستغلال الداخلي، وحظيَ الشعب الكادح في عهدي بعزة وقوة لم يعرفهما من قبل، ولأول مرة يشق طريقه إلى المجالس التشريعية والجامعات، ويشعر بأن الأرض أرضه والوطن وطنه، وقد تربَّصَت بي قوى الاستعمار حتى أنزلَتْ بي هزيمة منكرة في ٥ يونيو ١٩٦٧ فزلزلت العمل العظيم من جذوره، وقضَتْ عليَّ بما يشبه الموت قبل موافاة الأجل بثلاثة أعوام، وقد عشتُ مصريًّا عربيًّا مخلصًا، ومتُّ مصريًّا عربيًّا شهيدًا.

وتكلم الملك رمسيس الثاني فقال: دعني أعرب لك عن عظيم حبي وإعجابي، وما حبي لك إلا امتداد لحبي لذاتي، فما أكثر أوجُه الشبه التي تجمع بيننا، كلانا يشع عظمة تملأ الوطن وتتجاوز حدوده، وكلانا جعل من هزيمته نصرًا فاق كلَّ نصر، وكلانا لم يقنع بأعماله المجيدة الخالدة؛ فأغارَ على أعمال الآخَرين ممَّن سبقوه، وقد ساندني الحظ بأن توليت عرش مصر وهي سيدة الأمم، أما أنت فحكمتها وهي أمة صغيرة وسط عمالقة، وقد وهبَتْني الآلهة طولًا في العمر، وقوة في الروح والجسد، وضنَّت عليك إلا بالقليل فعاجلَكَ الأجَل قبل الأوان!

وتكلم الملك مينا فقال: ولكن اهتمامك بالوحدة العربية فاقَ اهتمامك بالوحدة المصرية، فحتى اسم مصر الخالد شطبتَه بجرة قلم، واضطررت العديد من أبناء مصر إلى الهجرة التي لم يمارسوها إلا في فترات قهر عابرة!

فقال جمال عبد الناصر: ليس الذنب ذنبي إذا توهَّم بعض المصريين أن الوحدة العربية تعني الضياع لهم، وليس الذنب ذنبي إذا تحقَّقَت أعمال مجيدة على يدي بعد أن عجز السابقون عن تحقيقها، فالحق أن تاريخ مصر الحقيقي بدأ مع ٢٣ يوليو ١٩٥٢.

وسرت همهمة بين الجالسين مضت تشتد حتى هتف أوزوريس: النظام والهدوء أيها السادة، أفسحوا صدوركم لأيِّ قول يُقال!

فقال أبنوم: اسمح لي أن أحييك بوصفي أول ثائر من فقراء مصر، وإني لأشهد لك بأن الفقراء لم ينعموا بالأمان والأمل في عهد — بعد عهدي — كما نعموا في عهدكم، ولا مأخذ لي عليك إلا إصرارك على أن تكون ثورتك بيضاء، على حين كان يجب أن تجري الدماء فيها أنهارًا!

فتساءل الملك خوفو مُحتَجًّا: ماذا يقول هذا السفاح؟!

فقال أوزوريس بحدة: تذكَّر أنك لست على عرشك، اعتذر.

فقال خوفو بخشوع: معذرة!

وقال الملك تحتمس الثالث: على الرغم من نشأتك العسكرية فقد أثبتَّ قدرة فائقة في كثير من المجالات إلا العسكرية، بل إنك لم تكن قائدًا ذا شأن بأي حال من الأحوال!

فقال جمال عبد الناصر: تعذَّر عليَّ النصر على جيش متفوق في التسليح، ومؤيَّد بأقوى دولة على سطح الأرض!

فقال أمحتب وزير الملك زوسر: كان واجبك أن تتجنب الحرب، وأن تكف عن استفزاز الدول الكبرى!

فقال جمال عبد الناصر: كان ذلك يتناقض مع أهدافي، وقد خُدِعتُ أكثر من مرة.

فقال الحكيم بتاح حتب: إنه عذر أقبح من الذنب.

وقال سعد زغلول: لقد حاولت أن تمحو اسمي من الوجود، كما محوت اسم مصر، وقلتَ عني إنني اعتليت الموجة الثورية عام ١٩١٩، فدعني أحدثك عن معنى الزعامة، الزعامة هبة ربانية وغريزة شعبية، لا تلحق بإنسان مصادفة، ولا كضربة حظ أعمى، والزعيم المصري هو الذي يبايعه المصريون على اختلاف أديانهم، وإلا لم يكن زعيمًا مصريًّا أبدًا، وإن جاز أن يكون زعيمًا عربيًّا أو إسلاميًّا، بيد أنني رغم ذلك لم أضمر لك الرفض، واعتبرتُ تجنِّيك عليَّ نزوة شباب يمكن التسامح معها نظير ما قدمت من خدمات جليلة، لقد قامت الثورة العرابية فناضلتْ نضالًا كريمًا وأُحبِطتْ إحباطًا أليمًا، وقامت ثورة ١٩١٩ فحقَّقتْ من المآثر ما شهد به التاريخ، ولكن تكاثر أعداؤها حتى اجتاحها حريق القاهرة، ثم جاءت ثورتك؛ فتخلَّصتْ من الأعداء، وأتمت رسالة الثورتين السابقتين، وبالرغم من أنها بدأت كانقلاب عسكري، إلا أن الشعب باركها ومنحها تأييده، وكان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها، وأن تقيم حكمًا ديمقراطيًّا رشيدًا، ولكن اندفاعك المضلل في الطريق الاستبدادي هو المسئول عن جميع ما حلَّ بحكمك من سلبيات ونكبات!

فقال جمال عبد الناصر: كان يلزمنا فترة انتقال لتحقيق الأسس الثورية.

فقال مصطفى النحاس: حجة دكتاتورية واهية، طالما سمعناها من أعداء الأمة، كان بين يديك قاعدة وفدية شعبية، انهلْتَ عليها بدباباتك، وعجزتَ عن إقامة بديل عنها؛ فظلَّتِ البلاد تعاني الفراغ، ومددتَ يدك إلى المنبوذين من الأمة؛ فوقعتَ في تناقُض مؤسِف بين عمل إصلاحي يُعتبر في روحه امتدادًا لروح الوفد، وأسلوب حكم يُعتبر امتدادًا لحكم الملك والأقليات، حتى قضى أسلوب الحكم على جميع النوايا الطيبة!

فقال جمال عبد الناصر: الديمقراطية الحقيقية كانت تعني عندي تحرير المصري من الاستعمار والاستغلال والفقر!

فقال مصطفى النحاس: وأغفلت الحرية وحقوق الإنسان، ولا أنكر أنك كنت أمانًا للفقراء، ولكنك كنتَ وبالًا على أهل الرأي والمثقفين وهم طليعة أبناء الأمة، انهلْتَ عليهم اعتقالًا وسجنًا وشنقًا وقتلًا حتى أذللتَ كرامتهم، وأهنتَ إنسانيتهم، ومحقتَ إيجابيتهم، وخرَّبتَ بناء شخصياتهم، والله وحده يعلم متى يُعاد بناؤها، أولئك الذين جعلَتْ منهم ثورة ١٩١٩ أهل المبادرة والإبداع في شتى المناشط السياسية والاقتصادية والثقافية، بل أفسد الاستبداد عليك أجمل قرارتك، انظر كيف فسد التعليم، وتفسَّخ القطاع العام، وكيف قادك التحدي للقوى العالمية إلى الهزائم المُخجِلة والخسائر الفادحة، ولم تفدْ من الرأي الآخَر، ولم تتعظ بتجربة محمد علي، وماذا كانت النتيجة؟ .. دويٌّ وجلجلة وأساطير فارغة تقوم على تلٍّ من الخرائب!

فقال جمال عبد الناصر: لقد نقلتُ وطني من حالٍ إلى حال، كما نقلت العرب وسائر الأمم المغلوبة على أمرها، وسوف تُعالَج السلبيات حتى تزول وينساها الزمن ويبقى ما ينفع الناس، وعند ذاك يقر الناس بعظمتي الحقيقية!

فقال مصطفى النحاس: ليتك تواضعتَ في طموحك، ليتك عكفت على إصلاح وطنك، وفتح نوافذ التقدُّم له في شتى مجالات الحضارة، إن تنمية القرية المصرية أهم من تبني ثورات العالم، إن تشجيع البحث العلمي أهم من حملة اليمن، ومكافحة الأمية أهم من مكافحة الإمبريالية العالمية، وا أسفاه! لقد ضيعتَ على الوطن فرصة لم تُتح له من قبل، فلأول مرة يحكم ابنٌ وطني من أبناء البلاد دون مناوئ من ملك أو مستعمر، ولكنه بدلًا من مداواة ابن وطنه المريض دفع به إلى مباراة البطولة العالمية وهو ينوء بأمراضه، فكانت النتيجة أن خسر البطولة وخسر نفسه!

وهنا قالت إيزيس: إن فرحتي برجوع العرش إلى أحد أبنائي لا تُقدَّر، وإن أعماله الجليلة لتحتاج إلى جميع جدران المعابد لتسجيلها، أما الأخطاء فلا أدري كيف أدافع عنها!

فقال أوزوريس: لو كانت محكمتنا هي صاحبة الكلمة الأخيرة في الحكم عليك لاقتضانا العدل تأملًا وعناءً طويلين، فقليلون مَن قدموا لبلادهم مثلما قدمتَ من خدمات، وقليلون من أنزلوا بها مثلما أنزلتَ من إساءات، ولكن بالنسبة لأنك أول مَن يجلس على عرشها من أبنائها، وأول مَن يخص الكادحين برعايته، فإننا نسمح لك بالجلوس بين الخالدين لحين انتهاء المحاكمة، وستذهب بعد ذلك إلى محكمتك مؤيدًا بتزكية مناسبة.

٦٣

ونادى حورس: محمد أنور السادات.

فدخل رجل متوسط القامة، رشيق القد، عميق السمرة، مضى في سَيْره حتى مثَلَ أمام العرش.

ودعاه أوزوريس للكلام فقال: ولدت في قرية ميت أبو الكوم، ونشأت في أسرة فقيرة، ووجدت عناء لا يُستهان به كي أستمر في الدراسة، وقد تشبعتُ بروح الوطنية منذ صغري، وشاركت في المظاهرات الوفدية، ثم أمكنَني الالتحاق بالكلية الحربية التي فتحت أبوابها لأمثالي من أبناء الشعب بعد معاهدة ١٩٣٦، ومنذ تخرجي هالني وضع الجيش تحت سلطة البعثة العسكرية الإنجليزية، وخامرتني أفكار للدعوة لثورة مسلحة ضد الإنجليز؛ فأنشأت أول تنظيم سري في الجيش عام ١٩٣٩، وقد اتصلت بالإخوان المسلمين وأُعجِبتُ بنشاطهم، كما حاولت أثناء الحرب الاتصال بالألمان، وعقدت العزم على اغتيال المتعاونين مع الإنجليز من المصريين، وقد قُبِض عليَّ نتيجة لذلك، وحوكمتُ، ولكني نلتُ البراءة، بل ورجعت إلى خدمة الجيش، وفي ذلك الوقت اتصل بي جمال عبد الناصر وضمَّني إلى تنظيمه، وقامت الثورة في يوليو ١٩٥٢، وتتابعت الأحداث حتى وافى الأجل جمال عبد الناصر؛ فخلفتُه في منصبه في ظرفٍ بالِغ الدقة، وكنت على علم بالسلبيات التي نخرَتْ في عظام عهد عبد الناصر فتوثبت لإحداث ثورة جديدة، تنقذ البلاد من الموت الذي تتردى فيه، قضيتُ على مراكز القوى، واتجهتُ على مهل نحو الأمان وسيادة القانون والديمقراطية، وفي ٦ أكتوبر ١٩٧٣ فاجأت العدو المحتل، بل فاجأت العالم بهجوم لم يتوقعه أحد، وحققتُ انتصارًا أنقذ الروح العربية من القنوط، كما انتشل الشرف من الهوان، ثم تسنَّمت بمغامرة أخرى باقتحامي بلد الأعداء داعيًا إلى تصفية الموقف بالكلمة لا بالسلاح، وانتهى سعيي الطويل إلى معاهدة كامب دافيد، وناديت بالانفتاح؛ لإنقاذ الاقتصاد الوطني، وتقدمت في الديمقراطية خطوات جديدة، ولكن اعترضَتْني عقبات غيَّرت من حساباتي، فقد انحرفَتِ المعارضة، وهبَّ التيار الديني يهدِّد البلاد بالعنف، فوقفت من الجميع موقفًا حازمًا لا مفرَّ منه، ولكن الأمور انتهت باغتيالي في ذكرى اليوم الذي حققت فيه لوطني عزة النصر.

وتكلم الملك إخناتون فقال: أحييك كداعية من دعاة السلام، ولا أدهش لاتهام خصومك لك بالخيانة؛ فقد تلقيتُ منهم نفس التهمة لذات السبب.

فقال تحتمس الثالث: يذكرني انتصارك بانتصار رمسيس الثاني الذي كُلِّل بمعاهدة سلام والزواج من ابنة ملك الحيثيين!

فقال رمسيس الثاني: الحاكم مسئول أولًا عن حياة شعبه، ومن هذا المنطلق يقوم على الحرب أو يجنح إلى السلام.

فقال أنور السادات: وقد آمنتُ — بصدقٍ — بعقم الاستمرار في الحرب.

وقال الملك أمنحتب الثالث: ما أشبهك بي أيها الرئيس في حب الرفاهية لشعبك ولنفسك، كلانا عشق الأبهة والنعيم والعظمة والقصور، غير أن زماني سمح لي بأن أنهل من النعيم بلا كدر، أما زمانك فأذاقك الحلو والمُرَّ، دعني أعرب لك عن حبي وعطفي.

وقال الملك حور محب: توليت الحكم في ظروف تشبه في بعض مناحيها الظروف التي تحدتني أول حكمي عقب وفاة الملك العجوز آي، وأعترف بأنك قمت بأعمال جليلة، ووجهت ضربات صادقة، ولكنك تهاونت في معاقبة الفساد والمفسدين حتى أوشكوا أن يحيلوا انتصاراتك إلى هزائم.

فقال أنور السادات: شُغِلتُ بتشجيع العاملين عن الضرب على أيدي المفسدين.

فقال حور محب: لا قيام لدولة إلا على الانضباط والأخلاق.

وسأله جمال عبد الناصر: كيف هان عليك أن تقف من ذكراي ذلك الموقف الغادر؟

فقال أنور السادات: اتخذتُ ذلك الموقف مضطرًّا؛ إذ قامت سياستي في جوهرها على تصحيح الأخطاء التي ورثتُها عن عهدك.

– ولكني عهدتك راضيًا ومشجِّعًا وصديقًا!

– من الظلم أن يُحاسَب إنسان على موقف اتخذه في زمنِ رعبٍ أسود، خاف فيه الأبُ ابنَه، والأخُ أخاه!

– وما النصر الذي أحرزتَه إلا ثمرة استعدادي الطويل له!

فقال أنور السادات: ما كان لمنهزم مثلك أن يحقق انتصارًا، ولكني أرجعتُ للشعب حريته وكرامته، ثم قُدته إلى نصر أكيد.

– ثم نزلتَ عن كل شيء في سبيل سلام مُهين، فطعنتَ وحدة العرب طعنة قاتلة، وقضيت على مصر بالانعزال والغربة!

فقال أنور السادات: لقد ورثتُ عنك وطنًا يترنح على هاوية الفناء، ولم يمد لي العرب يدَ عَوْن صادقة، ووضحَ لي أنهم لا يرغبون في موتنا، كما لا يرغبون في قوتنا؛ كي نظل راكعين تحت رحمتهم، فلم أتردد في اتخاذ قراري!

– واستبدلت بعملاق طالما ساندَنا عملاقًا طالما ناصَبَنا العداء.

– اتجهتُ إلى العملاق الذي بيده الحل، وصدَّقَتِ الحوادث ظنوني!

– واندلقتَ في الانفتاح حتى أغرقتَ البلاد في موجة غلاء وفساد، وبقدر ما كان عهدي أمانًا للفقراء، كان عهدك أمانًا للأغنياء واللصوص.

فقال أنور السادات: لقد عملت لخير مصر، فوثب الانتهازيون من وراء ظهري!

وتكلم مصطفى النحاس فقال: حاولتَ اغتيالي وكدتَ تنجح، لولا العناية الإلهية، ثم فقدتَ حياتك نتيجة للاغتيال، تُرى أما زلتَ تؤمن به؟

فقال أنور السادات: نحتاج لأضعاف عمرنا كي نتعلم الحكمة.

فقال مصطفى النحاس: وسمعتُ عن دعوتك إلى الديمقراطية؛ فدهشت، ثم تبيَّن لي أنك تريد حكمًا ديمقراطيًّا تمارس على رأسه سلطاتك الدكتاتورية!

– أردتُ ديمقراطية ترعى للقرية آدابها وللأبوة حقوقها.

– هذه ديمقراطية قبلية.

فقال سعد زغلول: هذا حق، ولكن الديمقراطية الحقيقية تُؤخَذ ولا تُمنَح؛ فلا تغالِ في لومه!

وقال مصطفى النحاس: واشتدَّتِ الضائقة بالناس، وحدث ما يحدث عادةً في مثل تلك الظروف من أعراض الفتن والتطرف، فتركتَ الأمور تستفحل كأنك لا تبالي، ثم انفجرتَ بغتة فألقيت بالجميع في السجون؛ فأغضبتَ المسلمين والمسيحيين والمتطرفين والمعتدلين، وانتهى الأمر بمأساة المنصة!

فقال أنور السادات: وجدتُ أنه لا مفرَّ من ضربة حاسمة؛ اتقاء لفوضى توشك أن تجر البلاد إلى حرب أهلية.

فقال سعد زغلول: عندما يغتصب الحاكم حقوق شعبه يخلق منه خصمًا، وعند ذاك تُهدَر قوة البلاد الأساسية في صراع داخلي بدلًا من أن تُوجَّه للعمل الصالح.

وهنا قالت إيزيس: بفضل هذا الابن رُدَّت الروح إلى الوطن، واستردَّتْ مصر استقلالها الكامل كما كان قبل الغزو الفارسي، وقد أخطأ كما أخطأ سواه، وأصاب أفضل مما أصاب كثيرون.

فقال أوزوريس: أرحِّب بك بين الخالدين من أبناء مصر، وسوف تمضي بعد ذلك إلى محكمتك الأخرى مُؤيَّدًا بتزكيةٍ مُشرِّفة منا.

٦٤

قلب أوزوريس عينَيه في الخالدين وقال: ها هي حياة مصر قد عُرِضتْ عليكم بكل أفراحها وأحزانها، مُذ وحَّدها مينا، وحتى استردت استقلالها على يد السادات، فلعل لبعضكم رؤية يريد أن ينوه بها؟

وطلب الملك إخناتون الكلمة ثم قال: أدعو للاستمساك بعبادة الإله الواحد باعتباره المعنى والخلود والتحرُّر من أي عبودية أرضية.

وقال الملك مينا: والحرص على وحدة الأرض والشعب؛ فالنكسة لا تجيء إلا نتيجة لخلل يصيب هذه الوحدة.

وقال الملك خوفو: على مصر أن تؤمن بالعمل؛ به شيدتُ الهرم، وبه تواصل البناء.

وقال أمحتب وزير الملك زوسر: وأن تؤمن بالعلم؛ فهو القوة وراء خلودها.

وقال الحكيم بتاح حتب: وأن تؤمن بالحكمة والأدب؛ لتنعم بنضارة الحياة، وتنهل من رحيقها.

وقال أبنوم: وأن تؤمن بالشعب والثورة؛ لتطرد مسيرتها نحو الكمال.

وقال الملك تحتمس الثالث: وأن تؤمن بالقوة التي لا تتحقق حتى تلتحم بجيرانها.

وقال سعد زغلول: وأن يكون الحكم فيها من الشعب بالشعب.

وقال جمال عبد الناصر: وأن تقوم العلاقات بين الناس على أساس العدالة الاجتماعية المطلقة.

وقال أنور السادات: وأن يكون هدفها الحضارة والسلام.

وهنا قالت إيزيس: ليضرع كلٌّ منكم إلى إلهه أن يهب أهل مصر الحكمة والقوة؛ لتبقى على الزمان منارة للهدى والجمال.

فبسط الجميع أكُفَّهم واستغرقوا في الدعاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤