بداية رحلة

كان «زنجر» ينظر أمامه في ضيق شديد، وقد تدلَّى لسانه خارجًا من فمه، وأخذ يلهث وهو يشعر بالعطش … ولم يكن أمام «زنجر» شيء يتفرَّج عليه إلا مساحات واسعة شاسعة من اللون الأصفر … فقد كان يقطع الصَّحْراء الغربية راكبًا سيارة «جيب» مع المغامرين الخمسة، والشمس الحامية تصبُّ على الصحراء شُواظًا من نار، والريح ساكنة، ولا صوت يتردَّد في الفضاء الواسع إلا صوت «موتور» السيارة وهي تشقُّ طريقَها بصعوبة على الطرق غير الممهدة.

وبجوار «زنجر» جلست «لوزة» وبعدها «نوسة»، وفي مقابلهم جلس «تختخ» و«محب» و«عاطف» … وكانوا جميعًا في تلك اللحظة يفكِّرون في الشيء نفسه … هذه الرحلة إلى العالم المجهول … عالم «أبو طرطور».

ما الذي دفعهم إلى هذه الرحلة الشاقة، في هذه الصحراء الموحشة، في هذا الجو الحار … في طريقهم إلى «أبو طرطور» بعيدًا عن «القاهرة» بنحو ۸۰۰ كيلومتر؟!

كان السبب دعوة غير جادة من المهندس «نبيه» عم «تختخ»؛ فقد كان في زيارتهم، وأخذ يتحدَّث عن «أبو طرطور» كأنه يتحدَّث عن عالم مسحور مليء بالأسرار … وقال المهندس «نبيه»: دعك من مغامرات المدينة وما فيها من سيارات وعمارات وعصابات، وجرِّبْ مرةً أن تدخل الصحراء بعالمها المثير، وغموضها وأسرارها.

كان المهندس «نبيه» يضحك ويسخر … ولم يظنَّ لحظةً واحدةً أن «تختخ» سوف يقبل هذا التحدي ويصحبه في هذه الرحلة … ولكن «تختخ» قال في هدوء: إنني على استعداد إذا سمحت لي باصطحاب بقية أصدقائي … وأظنهم جميعًا سيسعدون بهذه الرحلة.

كانت مشكلة «تختخ» أن يحصل على موافقة أسرة «محب» و«نوسة»، وأسرة «عاطف» و«لوزة» … ولكن عندما تأكَّدت الأسرتان أنَّ الأولاد سيكونون في رعاية المهندس «نبيه»، وأنهم سيستفيدون من هذه الرحلة معلوماتٍ هامةً عن الحياة في الصحراء والمناجم التي بها، وافقتِ الأسرتان على الرحلة … وعندما انتهت إجازة المهندس «نبيه» واستعدَّتِ القافلةُ للسفر … كان الأصدقاء الخمسة ومعهم «زنجر» يركبون مع بقية أعضاء الرحلة سيارةً إلى «أسيوط» … ومنها أخذوا طريقهم إلى «واحة الخارجة»، التي بدءوا رحلتهم إليها في الصباح الباكر ليقطعوا نحو ۲۰۰ كيلومتر في الصحراء بالسيارات.

نظر «تختخ» إلى ساعته، لقد مضت نحو ثلاث ساعات منذ خرجوا من «أسيوط» … فإذا كانت السيارات تسير بسرعة نحو ٥٠ كيلومترًا في الساعة، فقد قطعوا ثلاثة أرباع الطريق، وبقيت نحو ساعة ويصلون إلى الواحة حيث يقضون الليل … ثم يبدءون الجزء الخطير والمخيف من الرحلة إلى «أبو طرطور».

ولاحظت «لوزة» أن المهندس «نبيه» — الذي كان يجلس بجوار السائق — يدور برأسه ناحيتهم، ويشير مبتسمًا إلى ناحية اليسار. ومدَّت «لوزة» رأسها من السيارة ولفتت نظر الأصدقاء لما يشير إليه المهندس … وكم كانت دهشتهم عندما شاهدوا بُحيرةً من الماء في قلب الصحراء.

أشارت «لوزة» إلى الأصدقاء قائلة: انظروا … بحيرة من الماء في قلب الصحراء … شيء مدهش!

قال «تختخ» مبتسمًا: لو ذهبنا إليها لما وجدنا شيئًا على الإطلاق.

لوزة: لا أفهم … سنجد ماءً طبعًا!

تختخ: أبدًا … إنها مجرد سراب!

لوزة: ما معنى سراب يا «تختخ»؟

تختخ: إنها ظاهرة طبيعية تظهر في الصحراء عندما ترتفع الشمس بزاوية معينة على الرمال فيبدو للناظر من بعيد أنه يرى بحيرةً من الماء … والحقيقة أنه مجرد سراب. وقد خدَعَ هذا السرابُ الكثيرين من رُوَّاد الصحراء فساروا تجاهه، وكلما اقتربوا منه ابتعد … وكثير منهم مات عطشًا.

ابتلع «عاطف» ريقه بحركة مسموعة، وقال: إنني على كل حال أكاد أموت عطشًا بدون سراب. ابتسم الأصدقاء، وقالت «نوسة»: في رحلات الصحراء لا يستطيع الفرد أن يشرب كما يشاء. فكمية الماء مقسمة على مواعيدَ محددةٍ، بحيث تكفي الرحلة حتى الوصول إلى المكان التالي الذي يوجد به الماء وهكذا!

عاطف: ومتى نصل إلى المكان التالي؟

تختخ: لقد كنت أفكِّر مثلك بالضبط … ووجدت أن أمامنا نحو ساعة حتى نصل إلى «الواحة الخارجة» حيث نقضي الليلة، ثم نبدأ غدًا صباحًا رحلتَنا إلى «أبو طرطور». ولن نموت عطشًا طبعًا؛ فقد أكَّد العلماء أن الإنسان يستطيع أن يعيش نحوَ ثلاثةِ أيامٍ بدون ماء! وإذا ظلَّ ساكنًا بلا حركة فقد يعيش فترةً أطول.

وتحسَّس «عاطف» رقبته فضحك «محب» قائلًا: عندما تصل إلى «الواحة الخارجة» تستطيع أن تملأ بطنك بالماء مثل الجمل.

وعاد الصمت يلفُّ الصحراءَ عدا صوت السيارة وهي تقطع طريقها جاهدةً في اتِّجاه الواحة التي أخذوا يقتربون منها تدريجيًّا.

وفي العاشرة كانوا على مشارف الواحة … وفتح الأصدقاء عيونَهم على مشهد الزرع في وسط محيط الرمال الأصفر … كان منظرًا لا يُنسى … النخيل وأشجار الزيتون … وعيون المياه … والجمال … والسيدات المحجبات، كلها مشاهد لم تمرَّ بهم من قبل.

واتَّجهوا إلى استراحة الشركة، حيث اغتسلوا وشربوا الشاي العربي … وتجدَّد نشاطُهم، واستأذنوا المهندس «نبيه» في جولة يقومون بها في الواحة الصغيرة فأذِنَ لهم. فانطلقوا فرِحين إلى شوارع الواحة الضيقة، وبالإضافة إلى ما شاهدوه من معالم الحياة البدوية في الصحراء، تفرَّجوا على كثير من الآثار الفِرْعونية والرُّومانية في الواحة.

وعادوا ساعةَ الغداء وهم في غاية الجوع، فقال لهم المهندس «نبيه» ضاحكًا: لا تأكلوا كثيرًا.

عاطف: إنني ميت من الجوع … وسألتَهِمُ كلَّ ما أجده.

نبيه: ذلك سيُفَوِّت عليك فرصةَ عشاءٍ شهي!

عاطف: أي عشاء؟

نبيه: لقد دعانا أحد أعيان الواحة إلى عشاء في الهواء الطلق، حيث يتم أمامكم شواءُ خروف.

صفَّقت «لوزة» قائلة: ذلك شيء مثير!

نبيه: ولذيذ أيضًا.

عاطف: مع هواء الصحراء، وتعب الرحلة أستطيع أن أتغدى جيدًا، وأن آكل الخروفَ أيضًا.

وبين الأحاديث والنكات تناولوا غداءً خفيفًا استعدادًا للعشاء. وبعد أن ارتاحوا فترةً من الوقت، حضر أحد رجال البدو، ودعاهم لاصطحابه خارج الواحة …

كانت الشمس تغرب … والقمر يصعد … وبدا مشهد الصحراء جليلًا ومهيبًا، حتى إن «نوسة» أحسَّت برعدةٍ لا تدري سببها … ثم مضَوْا سائرين حتى غادروا الواحة، ومضَوْا في طريقٍ كانت تحفُّ به بعض الآثار القديمة. ثم سمعوا صوتَ مزاميرَ يرتفع في اتجاه اليمين … وعندما انتهى الطريق، شاهدوا خيمةً كبيرةً مفتوحةَ الجوانب مقامةً على مساحة كبيرة من الرمال التي فُرِشت بأنواع «الأكلمة» التي تصنعها الواحة … وكانت هناك أكثر من نار مشتعلة، ورائحة الشواء تملأ الجو.

كان المنظرُ فريدًا لا يُنسى … ووقف الأصدقاء لحظات ومعهم بقية رجال الرحلة يتفرجون في إعجاب، ثم اتَّجهوا إلى الخيمة الكبرى حيث كان بعض رجال البدو يشتركون في لُعبة السيف، وقد ارتفع صوت الطبول، والمزامير تحمي وطيس اللعبة التي تحوَّلت بالحماس إلى شبه معركة حقيقية.

وتمنَّى «محب» لو أنَّه أحضرَ آلةَ التصوير في هذه اللحظة ليُصوِّرَ هذا المشهد، ثم أقبل الشيخ الداعي فسلَّم عليهم، ودعاهم للجلوس بجواره أمام الخيمة حتى ينتهيَ الطعام.

هبطت الشمس تمامًا، وارتفع القمر … وزاد لون النيران توهُّجًا واشتدَّ حماسُ اللاعبين، ومالت «لوزة» على «نوسة» قائلةً: شيء مثير جدًّا هذا العالم!

نوسة: فعلًا … بعيد عن السيارات والقطارات ومغامرات المدينة.

لوزة: من يدري؟ لعل هناك لغزًا صحراويًّا في انتظارنا!

ابتسمت «نوسة» وردَّت: هل هناك ألغاز صحراوية أيضًا؟! إنكِ مدهشة يا «لوزة» في تفكيرك.

لوزة: إننا لم نشترك في ألغاز صحراوية!

نوسة: لغز واحد! وكانت مطاردة بيننا وبين خاطف الأميرة الصغيرة … هل تذكرين؟

لوزة: طبعًا في لغز «وادي الذئاب»، ولكن لم يكن هناك لغزٌ صحراويٌّ بالمعنى الصحيح … لقد كان جزءًا من مغامرة!

كان الأصدقاء الخمسة يجلسون بين عدد كبيرٍ من رجالِ البدو الأشدَّاء المسلحين بالخناجر والسيوف، ومعهم أفراد الرحلة من مهندسين وسائقين … وكان المهندس «نبيه» يجلس بجوار الشيخ الذي دعاهم … أما «زنجر» فقد جلس قرب النيران يبحلق في الخروف المشوي، وخياله ينطلق خلف عظمة ساخنة سيفوز بها حتمًا، وربما يكون أكثر من عظمة … قطعة لحم مثلًا.

كان الحفلُ مستمرًّا والأصدقاء غاية في السعادة، عندما دخل شخص الخيمةَ، فنظر حوله ثم اتجه إلى المهندس «نبيه» وصافحه مسرعًا ثم مال عليه وأسرَّ في أذنه ببضع كلمات، فقام المهندس، ولاحظ «تختخ» أنَّ على وجهه علاماتِ انزعاجٍ قوي … وخرج «نبيه» ولم يعد بعد أن أرسل من يعتذر عن غيابه إلى الشيخ …

وُضع لحم الخروف المشوي أمام المدعوِّين … وكان عددُهم قد تناقص بعد أن قام عددٌ منهم ولحِقَ بالمهندس «نبيه» … وأقبل الأصدقاء على الطعام بشهية إلا «تختخ» الذي كان يحسُّ أن الأمور لا تسير على ما يرام، وأن علاماتِ الانزعاج التي شاهدها على وجه عمِّه تعني أشياءَ غيرَ سارَّة.

انتهى العشاء … وفاز «زنجر» بكمية من اللحم لم يحلم بها طول حياته، وعندما كان يسير خلف الأصدقاء في طريق عودتهم إلى الاستراحة تمنَّى أن يبقى في هذا المكان، حيث الخراف المشوية، مدى الحياة.

وبينما كان الأصدقاء يتبادلون الحديث حول هذه السهرة الرائعة، كان «تختخ» يسير مسرعًا … فقد كان يريد أن يصل إلى عمه بأسرع ما يستطيع ليعرف ماذا حدث، ولماذا انصرف عمُّه بدون إكمال السهرة … لم يكن يشكُّ لحظةً أن هناك أسبابًا قوية. فما هذه الأسباب؟ هل هي متعلِّقةٌ بالمغامرين مثلًا، أو بالعمل أو بشيء آخر؟!

ووصلوا الاستراحة … وكم كانت دهشتُهم عندما لم يجدوا المهندس، ولا فريقَ الرجال الذين حضروا معهم من «القاهرة» … ولا السيارات أيضًا … لم تكن هناك سوى سيارة واحدة وسائق واحد، وكانت في انتظارهم مفاجأة محزنة … لقد ترك لهم المهندس «نبيه» ورقةً موجَّهةً إلى «تختخ» وإليهم جميعًا طبعًا. أخذ «تختخ» يقرؤها على الأصدقاء:

ولدي العزيز «توفيق»

لأسبابٍ خطيرةٍ وخاصةٍ بالعمل اضطُررتُ إلى السفر فورًا إلى «أبو طرطور» … فأرجو أن تستمتعوا بالسهرة. وستبقون في «الواحة الخارجة» ثلاثة أيام أخرى، فإذا لم تصلْكم مني رسالةٌ فعودوا إلى «القاهرة» ولا تنتظروا … إني لا أعرف متى سأعود مرة أخرى … فاتصل بمنزلي وأخبر زوجتي بدون أن تُثيرَ قلقَها وإلى اللقاء.

عمك
«نبيه»

سمع الأصدقاء الرسالة صامتين … وعندما انتهى «تختخ» من قراءتها نظروا إليه، ولكن وجهه الهادئ لم يكن يحمل أيَّ تعبير!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤