القصة الرهيبة

عندما وصل «تختخ» إلى المقطورة التي يقود منها المهندس «نبيه» العمل وجدها مزدحمة بالمهندسين والعمال الذين اجتمعوا لسماع قصة الدليل «عاشور». وكان «عاشور» جالسًا في مقعد مريح وقد وضعوا أمامه طعامًا لم يمسَّه، ولكن كان يشرب كوبًا من الشاي.

كانت ثيابُه ممزقة، وقد تغطَّى تحت طبقةٍ من الرمال، وتعلَّقت أنظار جميع الموجودين به. ولم يستطع «تختخ» الاقتراب لزحام الرجال حوله، ولكن كان في استطاعته أن يسمع أكثر الحديث الذي كان يقوله.

قال «عاشور» يجيب عن سؤال لم يسمعه «تختخ»: نعم. لقد مات المهندس «علاء»!

وساد الصمت المكان، ونكَّس الرجال رءوسهم … وسمع في الصمت المخيم على الجميع صوت بكاء … وقال المهندس «نبيه» بصوت مُتهدِّج: كيف؟

قال «عاشور» بصوت فيه إعياء: سقط في هوة عميقة، وحاولت الوصول إليه فلم أستطع … عاد «نبيه» يسأل وكأنه غير مُصدِّق: كم كان الارتفاع الذي سقط منه؟

أجاب «عاشور»: نحو عشرين مترًا.

وعاد الصمت يلفُّ المكان وقال أحد الحاضرين: هل تستطيع الوصول إلى المكان الذي سقط فيه؟

عاشور: لا …

ثم صمت قليلًا وابتلع ريقه وعاد يقول: الحكاية طويلة … وهي باختصار أن المهندس «علاء» طلب مني أن نخرج لاستكمال رسوم الجبل، وأخذنا معنا بعض الطعام وكمية من الماء والشاي تكفي اليوم على أن نعود في المساء … وسرنا مسافة طويلة. وكان المهندس «علاء» سعيدًا؛ لأنه عثر على مناطقَ جديدةٍ لخام الفوسفات، فأخذ يتقدَّم بسرعة وأنا معه … وعندما لفت نظره أننا نبتعد كثيرًا في منطقة مجهولة، طمأنني وقال: إننا بالتأكيد سنتمكَّن من العودة.

وسكت «عاشور» ليرشف من كوب الشاي ثم عاد يقول: وابتعدنا كثيرًا وهو منهمك في تسجيل الرسوم وأخذ العينات … وعندما تحوَّلت الشمس إلى ناحية الغرب طلبت منه أن نعود، ولكنه قال إن أمامه ساعة أخرى في العمل فتركته، وكنت متعبًا فنمت في ظلِّ صخرة، وطلبتُ منه أن يوقظَني عندما ينتهي من عمله … وعندما استيقظت من النوم كان الظلام قد هبط. ونظرت حولي فلم أجد المهندس … كان ذلك شيئًا لم يحدث من قبل!

وصمت «عاشور» لحظات، والصمت يلفُّ المكان تمامًا، وقد تزايد عدد المستمعين حتى شمل كل من في المعسكر بما فيهم بقية الأصدقاء الخمسة … وحتى «زنجر» كان يقف بجوار باب المقطورة وكأنه يريد ألا تفوته القصة الحزينة.

ومضى «عاشور» يقول: ناديته فلم أسمع ردًّا … أخذت أسير في اتجاهات مختلفة لعلِّي أعثرُ عليه، فلم أجده … وأخذت أفكر: هل يمكن أن يكون قد عاد إلى المعسكر وحده؟ واستبعدت هذا الخاطر، فليس من المعقول أن يتركَني وحدي ويعود … ماذا حدث إذن؟ وماذا أفعل؟

وسكت «عاشور» كأنه يفكِّر في الإجابة، ثم عاد يقول: لم أستطع ساعتها أن أعرف ماذا حدث، ولكن قلبي حدثني أن شرًّا مستطيرًا قد وقع … وقررت أن أبقى مكاني حتى الصباح … فلم يكن من الممكن البحثُ عنه ليلًا. وظللت ساهرًا حتى الفجر … وبدأتُ البحثَ في كل مكان حولي … لم تكن هناك آثار على الأرض بالطبع، فهي أرض صخرية جافة. وظللت أسير هنا وهناك ولكن الوقت مضى بدون فائدة … وقررت العودة …

كان «تختخ» يتابع القصة كما لم يتابع شيئًا من قبل … فقد كانت قصة مثيرة لأقصى حد. وعندما نظر إلى الأصدقاء الذين كانوا بعيدين عنه استطاع أن يلمح على وجوههم لهفةً لا تقلُّ عن لهفته …

ومضى «عاشور» يقول: وفوجئت بأنني تائه … لقد سرت طويلًا مع المهندس «علاء»، ثم في أثناء البحث عنه سرت في اتجاهات مختلفة ففقدت طريقي تمامًا … وأخذت أجري كالمجنون، ولكن بدون جدوى … وهبط الليل وأنا ما زلت أبحث عن الاتجاه الصحيح، بدون أن أعرفه … ومرة أخرى قضيتُ الليل في مكاني على أمل أن ترسلوا في الصباح بعثاتٍ للبحث عنَّا.

قال المهندس «نبيه»: لقد أرسلنا … وأطلقنا صواريخ إنارة ليلًا …

قال «عاشور»: هذه الصواريخ هي التي أنقذت حياتي!

وعاد يُكمل قصته: وقضيت الليل وحدي، واستسلمت للنوم بعد تعب اليوم الطويل في المشي والجري، وطبعًا الجوع والعطش. وفي اليوم التالي بدأتُ السيرَ مرة أخرى، وفجأة وجدتُ على البعد ورقةً بيضاءَ على طرف صخرة مائلة، فأسرعت إليها وقد انتعشتْ نفسي بالأمل … ولكن عندما وصلت إليها تبدَّد الأمل، وفوجئت بالحقيقة المذهلة … فعندما أمسكت بالورقة عرفت أنها إحدى الخرائط … ونظرت لأرى أين بقية الأوراق فلم أجدها … وصعدت فوق الصخرة وألقيت نظرة، وفي قلب تجويف بين صخرتين استطعت أن أرى على ضوء الشمس القوية، وعلى بعد نحو عشرين مترًا، المهندس «علاء» وقد انطرح مُحطَّمًا على الصخور!

وأحسَّ «تختخ» بقلبه يعتصر، وبرأسه يدور، وسمع المهندس «نبيه» يسأل في صوت عميق كأنه يأتي من مكان سحيق: وكيف تأكدت من شخصيته؟

عاشور: إنني بالطبع لم أستطع الاقتراب منه مطلقًا، فلم يكن من الممكن النزول إليه، ولكني عرفته من ثيابه … قميصه الأبيض والشورت الأصفر … كما أنَّ الأوراق التي كانت معه رأيتها متناثرة حول جثته.

وعاد الصمت وامتدَّ في هذه المرة فترة طويلة، ثم عاد «عاشور» يقول: وقضيت بقية النهار برغم تعبي وجوعي وعطشي أحاول الوصول إليه، ولكن عبثًا … وكان واضحًا أنه كان يسير وسقط بدون أن يشعر، أو أن أوراقه طارت منه فأسرع خلفها وسقط … وفي بداية هذا المساء شاهدت الصواريخ المضيئة التي أطلقتموها … واستطعت الوصول إلى هنا.

انتهت القصة الحزينة، وقال المهندس «نبيه» ﻟ «عاشور»: قم أنت لمقابلة الطبيب، وفي الصباح سوف يكون لنا حديثٌ آخر، فلا بُدَّ من مواصلة البحث عن مكان «علاء»، ومحاولة استعادة الخرائط والمذكرات التي كانت عند «علاء»!

وانفضَّ الاجتماع، وخرج الأصدقاء إلى الصحراء وإلى ضوء القمر، ولو لم يكونوا قد استمعوا إلى قصة «عاشور» المؤلمة، لكان في إمكانهم أن يستمتعوا بليل الصحراء الهادئ … وقمره المضيء. ولكنهم كانوا صامتين … وكلٌّ منهم يفكر في القصة التي سمعها … وكان «زنجر» يسير خلفهم مطأطئ الرأس هو الآخر.

وعندما عادوا إلى الربوة التي كانوا جالسين عليها في المساء قال «تختخ»: لا بُدَّ أن نشترك في البحث عن هذه الخرائط الهامة.

محب: ولكن كيف؟ إن الجبل وعر، ونحن لسنا متمرنين على تسلُّق الجبال …

تختخ: سنأخذ «زنجر» معنا … وبعد أن يشم بعض ثياب المهندس «علاء» سنطلقه إلى المكان الذي يحدِّده «عاشور» لعله يستطيع الوصول إلى مكان جثة «علاء»، وبعدها من الممكن أن ينزل بعض الرجال بالحبال؛ لإحضار الخرائط … إن عمي المهندس «نبيه» مهتم بها جدًّا.

وقام الأصدقاء للنوم … وتخلَّف «تختخ» للذهاب إلى دورة المياه، فسبقه الأصدقاء إلى المقطورة. وعندما خرج «تختخ» من دورة المياه وجد نفسه يسير ناحية العيادة الطبية حيث كان «عاشور» قد ذهب مع الطبيب …

كانت العيادة عبارة عن مقطورة صغيرة، وكانت نافذتها مفتوحة ومُضاءة. وفكَّر «تختخ» قليلًا ثمَّ اقترب بهدوء، ووقف تحت نافذة المقطورة، ووقف يستمع … كان ثمة حديث يدور.

سمع صوتًا غير صوت «عاشور» — كان في الأغلب صوت الطبيب — يقول: من حسن الحظِّ أنك استطعت الحياة كل هذه المدة بلا ماء … شخص غيرك كان لا بُدَّ أن يَسقُطَ إعياءً ولا يتمكَّن من الحركة … ولكن الحياة البدوية وتعوُّدك العطشَ أنقذاك من موت محقق.

وجاء صوت «عاشور»: لقد استخدمت كمية الماء التي كانت معي باقتصاد شديد … فقد كان معي «زمزمية»، وكان مع المرحوم المهندس «علاء» «زمزمية» أخرى … وقررت ألا أشرب إلا عندما أصل إلى أقصى درجات العطش.

الطبيب: سأتركك تنام هنا الليلة، فهذا أفضل لك، والحقن التي أعطيتها لك ستساعدك على استرداد قواك.

وعندما سمع «تختخ» صوت أقدام الطبيب داخل المقطورة أسرع يختفي تحتها … ثم بقيَ في مكانه حتى غادر الطبيب المقطورة، وانتظر فترة طويلة، ثم عاد يستمع تحت النافذة … ولكن لم يكن هناك صوت يُسمع …

كان «تختخ» يتمنى أن يتحدث إلى «عاشور» حديثًا طويلًا … كان في رأسه أسئلة يودُّ أن يطرحَها عليه … ولكن لم يكن هذا موعدًا مناسبًا … وبخاصةٍ بعد رحلةِ الهلاك التي قطعها «عاشور» وعاد بها من الموت إلى الحياة.

وهكذا قرَّر «تختخ» أن يعود للأصدقاء … وأن يُبقيَ الحديثَ مع «عاشور» إلى صباح الغد.

وعاد «تختخ» ووجد الأصدقاء ما زالوا مستيقظين في انتظار عودته … كانت القصة المؤلمة التي سمعوها عن مصرع المهندس «علاء» قد أثَّرت فيهم كثيرًا، وقالت «لوزة» عندما شاهدت «تختخ»: هل سنشترك غدًا في مهمة البحث عن … كانت تريد أن تقول المهندس «علاء»، ولكن نفسها لم تطاوعها … فقد مات. وفهم «تختخ» ما تقصد، فقال: لا أظن أنهم سيسمحون لنا بالاشتراك في البحث … إنها مهمة شاقة في هذا الجبل … ولكني سأحاول الذَّهاب معهم وحدي على أن تنتظروا أنتم هنا!

محب: ألا أستطيع أن آتيَ أنا معك؟

تختخ: لا أدري … دعوا المسألة كلها حتى الصباح وسوف نرى. وأطفأ «تختخ» النور، واستسلم الأصدقاء للرقاد بعد يوم حافل بالتعب والأخبار السيئة … وكذلك فعل «زنجر» الذي اختار مكانًا عند سلالم المقطورة ونام.

عندما استيقظ الأصدقاء في صباح اليوم التالي … كان المعسكر أشبه بخلية نحل … فقد قسم المهندس «نبيه» رجاله إلى ثلاث فرق للبحث، وأسرع «تختخ» إليه وطلب منه أن ينضمَّ إلى إحدى فرق البحث … وحتى يقنعه قال له: إن معي «زنجر» وهو كلب بوليسي مُدَرَّب وله حاسة ممتازة للشم … فإذا جعلته يشم قطعةً من ملابس المهندس «علاء» فقد يستطيع العثور على جثته.

وافق المهندس «نبيه» فقال «تختخ»: هل سيأتي «عاشور» معنا؟ ردَّ المهندس «نبيه»: لا أدري إذا كانت حالته ستسمح بالحضور معنا أم لا … سوف أذهب لرؤيته.

اتَّجه المهندس «نبيه» ناحية العيادة ومعه «تختخ»، وعندما فتحوا الباب لم يجدوا «عاشور»، فقال «نبيه»: إنه استيقظ مبكرًا ولعله عند المطابخ يتناول الشاي. فإن البدو يكثرون من شرب الشاي في كل وقت.

وفعلًا كان «عاشور» عند المطابخ يتناول كوبًا من الشاي، وعندما شاهد المهندس «نبيه» وقف احترامًا له.

فسأله المهندس: هل تأتي معنا؟

عاشور: طبعًا … إنكم لن تستطيعوا الوصول إليه بدوني.

وبعد ساعة كانت فرق البحث مستعدة، وبدءوا تسلُّق الجبل … كانت مهمة شاقة حقًّا، وأحسَّ «تختخ» منذ اللحظة الأولى أنه سيتعب كثيرًا وبخاصة وهو سمين … ولكن رغبته في الاشتراك في البحث جعلته يصمم على الذهاب، وكانوا قد أحضروا معهم قميصًا من قمصان المهندس «علاء»؛ ليشمه «زنجر». وهكذا وقف «محب» و«عاطف» و«نوسة» و«لوزة» يرقبون صديقهم السمين وهو يتأرجح صاعدًا الجبل وخلفه «زنجر» يقفز برشاقة فوق الصخور.

ومضت نحو ساعة، ثم اختفت البعثات الثلاث في الجبل. وعاد الأصدقاء الأربعة يبحثون عن شيء يقطعون به الوقت … ولم يكن هناك شيء في الصحراء القاحلة يمكن عمله … فأخرجت «نوسة» رقعة «الشِّطْرنج»، وسرعان ما اشترك «محب» و«عاطف» في مباراة حامية، وفجأة قالت «لوزة»: هل تعتقدون أنهم سيعثرون على …؟ قالت «نوسة»: أنا لا أعتقد!

محب: لماذا؟

نوسة: لا أدري … ولكني أحس أن مهمة البعثات الثلاث سوف تنتهي بالفشل برغم وجود «زنجر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤