حادث فوق الجبل

لا يدري «تختخ» كم مضى من الوقت وهو في غيبوبته … ولكنه استيقظ على أصوات مختلفة حوله … تبين بينها صوت «لوزة» تسأل في لهفة عنه، وصوت عمه يطمئنها. وعندما فتح عينيه وجد نفسه على فراشه في المقطورة وحوله الأصدقاء والمهندس «نبيه» والطبيب … وقال الطبيب مبتسمًا: لقد أفاق ولم يكن هناك خطر عليه … إنه في حاجة للراحة فقط.

وأخذ يتذكر تدريجيًّا ما حدث له … ونظر إلى الأصدقاء … لم يكن هناك شيء غير عادي على وجوههم عدا الانزعاج عليه … وقال بصوت واهن: ماذا حدث؟

قال المهندس «نبيه»: عثرنا عليك فوق الجبل مُغمًى عليك … وقد أُصِبْتَ في رأسك، ولولا «زنجر» لكان مصيرك مجهولًا!

وأخذ «تختخ» يتذكر ما حدث من السير فوق الجبل … والعينات … والمنديل الملوث بالدم … و«زنجر» … نعم … ثم سقوطه على الصخرة، وبعدها لا شيء، حتى استيقظ الآن.

وقال بصوت واهن: هل عثرتم على مكان «علاء»؟

رد المهندس «نبيه»: لا … وقد قررنا إيقاف البحث عنه، فليس هناك فائدة من إضاعة الوقت … وقد بدأنا العمل مرة أخرى.

ومرت لحظة صمت و«تختخ» يفكر في المنديل … والعينات … ثم قرر ألا يقول شيئًا إلا بعد الحديث إلى المغامرين … وقال المهندس «نبيه»: سأتركك الآن مع أصدقائك وأذهب للعمل … وعليك أن ترتاح تمامًا حسب تعليمات الطبيب.

وعندما أصبح «تختخ» والأصدقاء وحدهم طلب منهم أن يجلسوه في الفراش … فأسرعوا يعاونونه، وأحسَّ بثقل في رأسه، وكأنه لا يستطيع أن يحمله، وأسرعت «نوسة» تُقدِّم له كوبًا من الشاي الساخن.

قال «تختخ»: لا تنزعجوا … إن وجوهكم الجميلة يبدو عليها الذعر.

لوزة: ماذا حدث؟ إنك مصاب في رأسك!

تختخ: نعم أعرف ذلك، ولكني ما زلتُ حيًّا … وقد حصلت على معلومات ربما تكون هامة.

محب: عن أي شيء؟

تختخ: عن المرحوم المهندس «علاء»!

عاطف: لقد كدت تصبح أنت الآخر مرحومًا.

تختخ: إن الرحمة ليست للموت فقط يا أستاذ … إنها للأحياء أيضًا …

محب: سندخل في الفلسفة … المهم ماذا حدث؟ وعلى أي شيء عثرت؟

وروى «تختخ» ما حدث له منذ دخل «زنجر» خيمته ليلًا وأعطاه المنديل الملوث بالدم … ورحلته قرب الفجر في الجبل … وعثوره على العينات الفوسفاتية، ثم طريق العودة وإحساسه أن شيئًا يحدث خلفه، ثم سقوطه وإصابته.

نوسة: هل تظن أن شخصًا كان يتبعك؟

تختخ: في الحقيقة لا أدري بالضبط … لقد كان مجرد إحساس بالخطر، فمن الذي سيتبعني في الجبل في الفجر؟!

ومدَّ «تختخ» يده في جيبه ليُخرج المنديل … والعينات … ولكن لا شيء في الجيب الأول … ووضع يده في الجيب الثاني … لا شيء … ومضى يبحث كالمجنون في كل جيوبه … ولكن لا العينات ولا المنديل كان لهما وجود!

قال «تختخ» بصوت غاضب: لقد استولى شخص ما على ما كان في جيوبي!

محب: لعله الشخص المجهول الذي كان يتبعك في الصحراء.

تختخ: ربما … إنني لست متأكدًا!

نوسة: إنك رأيت المنديل والعينات … فما هي استنتاجاتك حولهما!

وضع «تختخ» يده على رأسه لحظات ثم قال: عندي إحساس بأن المهندس «علاء» لم يسقط وحده من على الجبل.

محب: تقصد أن شخصًا دفعه كي يقع؟

تختخ: أُرجِّح ذلك.

عاطف: ولكن هذه جريمة قتل … وما دام لم يكن معه سوى «عاشور» فإن تهمة القتل تُوَجَّه فورًا إلى «عاشور»!

تختخ: إننا لا نريد أن نقفز إلى هذه النتائج بسرعة … ولكن قصة «عاشور» عن سقوط المهندس «علاء» فيها قدر من الأشياء غير الطبيعية … مثلًا، إن «عاشور» ضلَّ طريقه ذلك شيء نادر الحدوث بالنسبة لدليل يعرف الأماكن جيدًا. ومع ذلك فلنسلم أنه ضلَّ طريقه … كيف حدث أنه استطاع الحياة ثلاثة أيام بماء قليل؟ ومع ذلك مرة ثانية فلنسلم أنه استطاع الحياة هذه المدة بلا ماء … فماذا كان شكله عندما عاد؟ لقد كان يبدو عليه الإجهاد فعلًا … ولكن ليس إجهاد رجل ضلَّ طريقه في الصحراء ثلاثة أيام في الشمس الحارقة وبلا كمية كافية من الماء. ومع ذلك مرة ثالثة لا بأس بذلك، هل ألقيتم نظرة فاحصة إلى نعليه؟ … إن رجلًا يسير ثلاثة أيام لا بُدَّ أن يبدو هذا على ما يلبسه في قدميه … ولكن نعلي «عاشور» كانا في حالة عادية …

عاطف: وماذا تريد أكثر من هذا لتُوَجِّهَ له الاتهام؟

تختخ: ومَن نحن حتى نوجه الاتهام إليه يا «عاطف»؟ ثم ما هي الأدلة التي نملكها حتى نوجه له هذا الاتهام الخطير؟

صمت الأصدقاء جميعًا بعد أن سمعوا حديث «تختخ» … لقد كانت فعلًا هناك شبهات، ولكن لا ترتفع إلى أن تصبح أدلة … ومع ذلك فهناك جريمة ما قد حدثت راح ضحيتها المهندس «علاء» … وهم يشعرون أنهم يستطيعون الكشف عن حقيقة ما حدث!

فجأة عاد «تختخ» إلى الحديث قائلًا: اذهب يا «محب» … وحاول أن تعرف من هو أوَّل من عثر عليَّ في الجبل … حاول ألا تكشف عن غرضك، ثم عد لنا فورًا.

وتحرك «محب» سريعًا وخرج من المقطورة … وانهمك الأصدقاء في الحديث مرة أخرى، فقالت «نوسة»: تعالَوْا نتصور أن المنديل الذي أحضره «زنجر» يخصُّ المهندس «علاء» فماذا يعني هذا؟

لوزة: هذا يعني أنه أصيب أوَّلًا … ثم ربط إصابته بالمنديل … ثم سقط بعد ذلك ومات.

تختخ: هذا كلام معقول جدًّا … ولكن ماذا كان نوع إصابته؟ هل أصيب بطريقة عرضية مثلما قيل … أو أن شخصًا معينًا أصابه؟

عاطف: أيًّا كان الأمر فإن «عاشور» لم يتحدث عن إصابة المهندس «علاء» مطلقًا … ومعنى هذا أن هناك أسرارًا لم نعرفها قبل وفاة المهندس «علاء» … فكيف نقنع «عاشور» بالكلام؟

تختخ: ذلك شيء مستحيل … فإذا كان هو السبب في موت المهندس «علاء» فلن يتحدث مطلقًا … فليس هناك سبب يدفعه إلى اتهام نفسه وخاصة أنه ليس هناك شهود.

نوسة: شيء آخر … العينات التي عثر عليها «تختخ»، ما سبب وجودها هناك؟ تعالوا نتصور مرة أخرى أنها بعض العينات التي حملها المهندس «علاء»، فما سبب وجودها في هذا المكان؟ ذلك يعني أن «علاء» كان هناك، أو أن شخصًا نقلها إلى هذا المكان. فمَن هو هذا الشخص؟

عاطف: مرة أخرى نجد أن أصبع الاتهام تشير إلى «عاشور» … ولكن السؤال المهم فعلًا … لماذا؟

تختخ: نعم … لماذا؟ لماذا أصابه؟ لماذا أسقطه من فوق الصخرة؟ لماذا؟!

لوزة: ليس هناك سوى سببين فقط … أن تكون بينهما خلافات أدت إلى هذه النتيجة … أو أن ﻟ «عاشور» مصلحة في موت المهندس «علاء»!

تختخ: الحقيقة أن علينا أن نفسر كلمة لماذا أوَّلًا وقبل كل شيء، وبعدها قد نصل إلى استنتاجات محددة.

عاطف: نستطيع أن نعرف ما إذا كان بينهما خلاف أم لا … هذا سهل ويمكن معرفته ببعض الأسئلة … ولعل «تختخ» يستطيع أن يعرف بسرعة عن طريق عمه المهندس «نبيه».

تختخ: سأحاول.

ودخل «محب» في هذه اللحظة … وكان واضحًا على وجهه أن المعلومات التي حصل عليها ذات أهمية … وقد اتَّضح ذلك عندما قال كلمة واحدة: «عاشور»!

ونظر الأصدقاء إليه جميعًا … ودارت برءوسهم هذه الفكرة … إن «عاشور» موجود دائمًا في كل ما يتصل بالحادث!

وكان «محب» أسرعهم إلى الحديث: يجب مراقبة «عاشور» جيدًا … يجب أن نراقبه ٢٤ ساعة في اليوم … يجب ألا يغيب عن عيوننا مطلقًا.

تختخ: فعلًا … سنقسم أنفسنا بحيث نراقبه ليلَ نهار … على «لوزة» و«نوسة» أن تراقباه نهارًا، و«محب» و«عاطف» يراقبانه ليلًا، وليكن معكما «زنجر» فإنني أحسَّ أنه يلعب دورًا مهمًّا في هذا اللغز.

خرجت «نوسة» و«لوزة» لتنفيذ المهمة … فاتجهت كل واحدة إلى اتجاه مختلف في المعسكر الذي كان العمل فيه يدور بهمة ونشاط. وعثرت «لوزة» على «عاشور» يجلس في ظل إحدى المقطورات وقد وضع أمامه غلاية الشاي التي لا تفارق أي بدوي في الصحراء … واختفت خلف إحدى المقطورات وجلست تنظر إليه من بعيد … كان يجلس متكاسلًا، ولكن عينيه كانتا تطوفان بالمعسكر، وكأنه يبحث عن شيء.

وفي المقطورة كان «تختخ» و«محب» و«عاطف» يتحدثون، قال «محب»: لقد قلت ضمن حديثك إنك شاهدت آثارًا في الجانب الآخر من الجبل، بعضها قديم وبعضها حديث … لقد نسينا أن نفحص هذه النقطة.

قال «تختخ»: نعم … فعلًا!

محب: ما هو نوع هذه الآثار؟

تختخ: آثار أقدام في الأغلب … والآثار القديمة لعدد من الأشخاص، والآثار الجديدة لشخص واحد.

محب: في المكان نفسه الذي عثرت فيه على العينات؟

تختخ: نعم … وأعتقد أنه المكان نفسه الذي عثر فيه «زنجر» على المنديل الملوث بالدم.

محب: هذا يعني في النهاية … أن «علاء» سقط في هذا المكان!

تختخ: أو يكون قد نُقل إلى هذا المكان بعد إصابته أو موته.

محب: وهذا يثبت أن «عاشور» كاذب تمامًا في روايته عن سقطته بين صخرتين عاليتين … وأنه لا يعرف المكان …

قال «عاطف» مهتاجًا: ألم أقل لكم إنه «عاشور» … إنه القاتل …

تختخ: صبرًا قليلًا يا «عاطف» فمن أول قواعد الاتهام بالقتل على شخص أن تعثر على القتيل … فليس هناك عملية قتل بلا قاتل وقتيل.

وصمت لحظات ثم قال: لقد توصلنا إلى استنتاجات محددة … والمهم الآن أن نجد الأدلة التي تؤيد هذه الاستنتاجات.

في هذه اللحظة دخل المهندس «نبيه» إلى المقطورة وقال ﻟ «تختخ»: كيف حالك الآن؟

تختخ: الحمد لله أحسن.

نبيه: لقد أمرت بإعداد قافلة سيارات لعودتكم … فمن الأفضل أن تستكمل علاجك في «القاهرة».

تختخ: ولكن نحن حضرنا لقضاء أسبوع أو عشرة أيام، ولم نتفرج على شيء، ولم نستفد شيئًا.

نبيه: ليس هناك أكثر مما شاهدتم … الصحراء … والجبل … والرجال يعملون ولا شيء آخر …

تختخ: إننا نريد أن نبقى بضعة أيام أخرى!

نبيه: من الأفضل أن ترحلوا غدًا.

أخذ «تختخ» ينظر إلى المهندس «نبيه» لحظات، ثم قال: إننا نرجو أن تتركنا ثلاثة أيام أخرى فقط.

نبيه: إنني قلق عليك، ومن الأفضل أن تعود.

تختخ: إن بقاءنا سيكون لمصلحة العمل.

نبيه: كيف؟

تختخ: قد نعيد لك الخرائط التي فقدتها!

أخذ المهندس «نبيه» ينظر للأصدقاء مندهشًا، ثم قال: كيف؟ لقد فتشنا الجبل وكنت معنا فلم نعثر على أيِّ أثر للمهندس «علاء» ولا للخرائط!

تختخ: بمنتهى الصراحة لقد عثرنا على أدلة مُشجِّعة يمكن أن تؤديَ إلى معرفة ما حدث بالضبط … ولكن هذه الأدلة فقدناها في ظروف عجيبة!

نبيه: شيء مدهش … هل تقومون بحلِّ الألغاز هنا أيضًا؟

تختخ: طبعًا … وفي أي مكان!

نبيه: وما هي هذه الأدلة؟

وروى «تختخ» لعمه المهندس «نبيه» كلَّ ما حدث … ومضت ساعة وهو يروي له استنتاجات المغامرين الخمسة … وعندما خرج المهندس «نبيه» من المقطورة كان قد وافق على بقاء الأصدقاء … بل وأصبح عنده أمل كبير في استعادة الخرائط التي فقدت … وزاد احترامه وتقديره للمغامرين الخمسة، وخاصة أنهم لم يطلبوا أية مساعدة سوى سؤالهم عن الخلاف بين «عاشور» و«علاء» وقد أكد لهم أنه لم يكن بينهما أي خلاف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤