حنان قليل

كانت تجلس القرفصاء على بلاط الحمَّام البارد، وجسمها الضئيل الضامر ينتفض من البرد، وأسنانها تَصطكُّ …

وأخذت تتلفَّت حولها في الحمَّام الواسع مذهولة! أهذا هو الحمَّام؟! لم تكن تتصوَّر أنه يُمكن أن يكون في العالم حمَّام بهذا الشكل؛ فإن الحمَّام الوحيد الذي رأته في حياتها هو حمَّام العمدة، وقد دخلته مرةً واحدة صُدفة، حينما كانت تلعب «المسَّاكة» مع ابنة العمدة، وابنة شيخ الغفر، ودخلت لِتَختفي في حجرةٍ في آخر الدوَّار، قالت عنها ابنة العمدة إنها الحمَّام، ورأت فيه طشتًا كبيرًا وزيرًا، وفنطاسًا ضخمًا في نهايته صنبور صغير، ولم تكن قد رأت صنبورًا قطُّ في حياتها، أو حمَّامًا، وكان كلُّ ما رأته في دار أبيها طشتًا وكوزًا من الصفيح، تنقلهما أمُّها من قاعةٍ إلى قاعة، كلما رغب فردٌ من أفراد البيت في الاستحمام، وكانت ترى أمها تضع في هذا الطشت نفسه الدقيقَ لتنخله، وفي موسم الحصاد ترى الطشتَ مملوءًا بالشعير، وفي موسم «الذرة» مملوءًا «بالذرة».

وتلفَّتَت حولها في دهشةٍ، ومسحت بطرَف جلبابها عينيها الملتهبتين وأنفها، وأخذت تتأمل ذلك الشيء الأبيض اللامع، الذي يُشبه الحوض الواسع، والذي لو مُلِئ بالماء لغرقت فيه، وتلك الصنابير الفضية الكبيرة التي تعلوه.

ورأت حوضًا آخر صغيرًا معلَّقًا في الحائط، تعلوه أيضًا صنابيرُ كبيرة برَّاقة، ورأت شيئًا عجيبًا أبيض، يُشبه الكرسي وليس بكرسي، وشيئًا آخر يشبه سلطانية الشوربة، ولكنه كبير الحجم جدًّا، يتَّسع لسلق جدْي أو خروف.

وكفكفت دمعها وأخذت تتحسَّس بيديها السمراوين الخشنتَين، أرضَ الحمَّام الملساء الناعمة، في مثل نعومة الصحن المصنوع من الخزف.

– بت يا بهية … يا بهية!

جاءها صوتٌ رفيعٌ حادٌّ من خلال باب الحمَّام المغلق، فانتفضت لسماع اسمها، ووقفت مذعورة حائرة … ماذا تفعل؟

أصبح الصوت الرفيع أكثر حدةً، فارتجفَت بهية وهي تمسك بأكرة الباب البراقة، تُحاول أن تلويها لتفتح الباب، ولكن الأكرة أبَت أن تتحرَّك فألصقت فمها بالباب، وقالت بأعلى صوتها، كما كانت تنادي على أمها في الحقل: ده أنا جوة في اللي اسمه إيه الحمَّام، مش عارفة أطلع.

ووقفَت بهية مشدوهة حينما رأت أكرة الباب تتحرَّك وحدها ثم ينفتح الباب، ورأت أمامها امرأة بضَّة نظيفة، ثم رأت يد المرأة ترتفع إلى أعلى، ثم تهوي على وجهها النحيل في لطمةٍ قوية!

– انتي قاعدة جوة الحمَّام بتعملي إيه؟ مين قالك تدخلي هنا؟

– معلهش يا ستي، والنبي يا ستي، ربنا يخليكي يا ستي، مش انا والنبي، ده الراجل عبده اللي عندكم قال لي اقعدي هنا لغاية ما ستك تنادي عليكي.

وفهمت بهية منذ ذلك اليوم ما يجب في هذا البيت وما لا يجب، وما عليها أن تعمله وما لا تعمله، ما هو محلَّل وما هو محرَّم، وكان يعمل معها في البيت نفسه طباخ اسمه عبده، يَبيت في حجرته فوق السطح، وفتاة أخرى كبيرة تبيت معها على دكةٍ خشبية في أحد أركان المطبخ، وأَنِسَت بهية إلى خديجة، حتى راحت تروي لها كيف قُتل والدها، وهما تتسليان بالحديث قبيل النوم، ولكن خديجة نفرت من الحديث؛ خشيةَ أن يطلع لها عفريت القتيل، وفضَّلت أن تنام، وسرعان ما كان شخيرها يملأ المطبخ.

وظلَّت عينا بهية مفتوحتَين لا يغلبهما النعاس، وراحت تُفكِّر في أمها، وفي أختها الرضيعة زينب، وهمَسَت لنفسها «يا ترى يا امه بتعملي إيه دي الوقت؟»

وعادت إليها صورة أبيها قبل مقتله بدقائق، وهو يُمسك بيدها في السوق، ويضرب بعصاه الأرض في قوةٍ وبأس.

ووقفت عند هذه الصورة لا تجرؤ على الاسترسال في ذكرياتها؛ فلقد بدأت تشعر بالخوف لو أنها استعادت صورة مقتله، وتكوَّرت بجانب خديجة والتصقت بها؛ تريد أن تلتمس من دفئها بعض الطمأنينة والأمن، وأغمَضَت عينَيها لتنام، لكن صورة أمها بثيابها السوداء المتربة وقامتها النحيلة وبشرتها الصفراء تجلس على عتبة الدار وفي حِجْرها أختها زينب، تمتصُّ اللبن من ثديها الهزيل الضامر، ورأت نفسها تجلس إلى جوارها تنبش في التراب، وهي تحسُّ آلام الجوع؛ إذ مضت أيامٌ كثيرة لم تُصِب فيها إلا بعض كسرات من الخبز المقدَّد، وقطعة خيار مخلَّلة عَثرت عليها في قاع «الزلعة».

وانتبَهَت على رجل، أفندي يقف أمام أمِّها، ومعه نفُّوسة تاجرة الفراخ، ولم تَفهَم كل الكلام الذي كانوا يقولونه، ولكنَّها التقطَت كلمة «بهية» من بين كلامهم، فأرهفت السمع لترى ماذا يمكن أن يكون لها من شأن في هذا الحديث الجاد مع هذا الأفندي النظيف.

وسمعت الأفندي يقول: هي سنها كام؟

فأجابت أمها: عشر سنين والنبي.

فقال الرجل: ياه! دي لسة صغيرة قوي!

فأجابت نفوسة: صغيرة إيه يا سي محمد! دي لهلوبة في الشغل تمسَح وتغسل، وتحمِل المحروسة الصغيرة، دي بكرة تعجبك وتبقى عال قوي، قومي يا بت يا بهية، قومي بوسي إيد سيدك.

وقامت بهية، إنها لا تستطيع إلا أن تُطيع بعد أن رأت أمها تُنكِّس رأسها دلالة على الموافَقة.

وأخذها الأفندي معه، وقبل أن تمضي معه استدارت إلى أمِّها الجالسة على عتبة الدار، وفي حِجْرها أختها زينب قائلة: اقعدي بالعافية يا امه، خلي بالك من زينب.

وسمعت أمها تقول: الله يعافيكي يا بهية، خلي بالك من نفسك.

ورأتها تمسح عينيها وأنفها بكمِّها، فاستدارت مسرعة، وسارت في أثر الأفندي، وقلبها ينوء بثقل كبير.

•••

وفتحت بهية عينيها في الصباح الباكر على صوتٍ رفيعٍ حادٍّ يقول: بت يا بهية، إنتي لسة ما صحيتيش؟

فانتفضت بهية في فزع، وفتحت عينيها، وحينما رأت المطبخ الواسع، وموقد الغاز، والثلاجة الكبيرة عرفت أنها في مصر، في بيت سيدها محمد أفندي الشهدي، وليس في دارها بقرية كفر خناش، وردَّت: حاضر يا ستي، أنا صاحية.

وانطلقت بهية إلى سيدتها، فوجدتها مضطجعة على سريرها الوثير، تَحتضِن طفلتها، وتُرضعها من ثدي بض سمين.

– إنتي يا بت لسة نايمة؟

– لا يا ستي أنا صاحية من الصبح.

– خُدي اللفف دي اغسليها في الحمَّام، وانشريها في البلكونة، وبعدين تعالي بسرعة علشان تحملي نوسة.

– حاضر يا ستي.

وفي لمح البصر طارت بهية لتفعل ما أمرتها به سيدتها، ثم حملت الطفلة الصغيرة على ذراعيها، ووقفت تهدهدها.

– بس يا ستي نوسة بس، بس يا ستي نوسة بس، بس …

وكفَّت الطفلة عن البكاء، وأخذت بهية تتأمَّل وجهها وعينيها وشفتيها، فرأت أنها تشبه أختها زينب شَبهًا غريبًا، وخُيِّل لها أنها هي، فاحتضنتها بحنانٍ وقوة إلى صدرها، وقبَّلتها.

ولم تكد ترفع وجهها عن الطفلة، حتى انتفضت على الصوت الرفيع الحاد يقول غاضبًا: إنتي بتبوسيها يا بت يا بهية؟ عمى في عينك، إياك تاني مرة تبوسيها، وللا تقربي وشك من وشها كدة … فاهمة؟

وقبل أن تنطق بهية بحرفٍ أحست بيدٍ تهوي على وجهها في صفعةٍ قوية.

– حاضر يا ستي، معلهش يا ستي، والنبي يا ستي حرَّمت.

وابتعَدَت اليد عنها فهدأت دقات قلبها، وانتظمت أنفاسها، وحملت الطفلة بين ذراعيها، وهي تُحاول أن تُبعد وجهها عنها بقدْر ما تستطيع.

وتأمَّلت وجه الطفلة مرة أخرى، فلم ترَ فيها أيَّ شبهٍ بينها وبين أختها زينب، ورأت في عينَي الطفلة استعلاءً وقسوة يشبهان الاستعلاء والقسوة في عينَي أمِّها، وشعرت أنها تكره هذه الطفلة وتحقد عليها.

أهكذا يكون جزاؤها؟ إنها لم تفعل شيئًا، لم تخطئ، لم تكسر كوبًا أو طبقًا، لقد قبَّلت الطفلة فحسب، وقبَّلَتها لأنها تحبها وتحنو عليها، أهكذا يكون جزاء الحب والحنان؟

وأشاحت بوجهها بعيدًا عن الطفلة، وأخذت تُهدهدها بآليةٍ ليست فيها عاطفة، وتذكَّرت أختها زينب، تُرى مَن يُهدهِدُها؟ كثيرًا ما كانت تسمع بكاءها وهي نائمة على الأرض في صحن الدار، وقد تعرَّى رِدفاها، وغشي التراب أنفَها وفمها، فتَجري إليها، وتَمسَح وجهها، وتُهدهِدُها وتُقبِّلها، وترعاها حتى تعود أمُّها من الحقل.

ترى مَن يجري إليها الآن؟ ترى مَن يمسح لها التراب من فوق أنفها وفمها؟

ونظرت بهية إلى وجه الطفلة التي تَحملها، وجه ناعم نظيف بلا تراب، وهي تهدهدها، وتلاعبها كلما همَّت بالبكاء، أليسَت أختها زينب مثل هذه الطفلة؟ ألا تَستحقُّ أختها هذا الحنان؟

ويصفعونها بعد كل ذلك لأنَّ في قلبها حنانًا!

وأحسَّت بهية، طفلة العاشرة، بثورةٍ عارمة تضطرم في أعماقها، ولم تَشعُر إلا وهي تضع الطفلة على السرير، وقد غمرها شعور بأنها لا تريد أن تحملها بين ذراعيها، ووقَفَت بجوار الطفلة كالتمثال تنظر إليها في كراهية!

وبكت الطفلة تريد أن تُحمَل.

وكانت أمُّها في الحمَّام، فنادت على بهية بأعلى صوتها: نوسة بتعيَّط ليه يا بت يا بهية؟

ولم تردَّ بهيَّة، واقتربت من الطفلة، وأخذت تربِّت عليها لِتكفَّ عن البكاء، لكن الطفلة التي كانت قد تعوَّدت أن تُحمل ظلت تبكي وتصرخ، وجاءها الصوت الرفيع الحاد الغاضب: نوسة بتعيَّط ليه يا بت؟

واغتاظت بهية … ممَّن؟ لم تكن تدري، أمن الأم القاسية، التي تُناديها غاضبة، أم من الطفلة المدللة التي تُريد أن تُحمل؟ ولم تعرف تمامًا ماذا فعلَت، لكنها رفعت يدها في الهواء وهوت بها على وجه الطفلة في لطمةٍ قوية، ثم جرَت إلى باب الشقة وفتحتْه، وانطلقت في الشارع تعدو.

ولم تهدأ بهية إلا بعد أن ابتعدت عن بيت سيدها كثيرًا.

ورأت رجلًا تبدو على ملامحه الطيبة، فسألته عن «الكافوري» الذي يُمكِن أن يوصلها إلى قرية كفر خناش، وكان الرجل طيبًا فدَّلها على الطريق، وأعطاها بعض القروش.

وجلسَت بهية على أرض «الكافوري»؛ فقد أبى الكمساري أن يَمنحها كرسيًّا لتجلس عليه؛ لأن القروش التي كانت معها لم تكفِ لتَصرفَ بها نصف تذكرة، وتبرَّع لها الكمساري بحيِّزٍ صغير من أرض العربة حتى تصل إلى قريتها.

ووقفت العربة في «كفر خناش».

وانتفضت بهية واقفةً على قدميها، وقفزت من العربة، ووضعت ذيل جلبابها بين أسنانها، وأطلقَت ساقَيها للريح.

ووجدت باب الدار مفتوحًا كعادته دائمًا، فاندفعت داخلةً متلهفة، وقبل أن تصل إلى صحن الدار، سمعت صوت أختها زينب تبكي بحرقة، فجَرَت إليها، ورأتها كما كانت تراها دائمًا عارية الردفين، والتراب يَغشى أنفها وشفتيها.

– يا حبيبتي يا زينب!

وأخذتها بين ذراعيها، وراحت تغمر وجهها بالقبلات، وتنهَّدت بهية في سعادة؛ إنها تستطيع أن تحبَّ زينب كما تريد، وتحنو عليها كما تريد، وتُقبِّلها كما تريد، لن يَنهرها أحد ولن تتلقَّى عن ذلك صفعات أو شتائم.

وضمَّت بهية أختها إلى صدرها أكثر وأكثر، وحينما رأت أمها تدخل من باب الدار قالت لها: ماهانتش عليَّ زينب يا امه، قلت اجي اشيلها.

وأجابت أمها والدموع في عينيها: بركة يا بنتي اللي جيتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤