لن تجديه يا ليلى

الشخصيات

  • أسامة محمود: مهندس ناجح، في الخامسة والثلاثين من عمره.
  • ليلى زوجته: مدرسة لغة عربية، في الثلاثين من عمرها.

المنظر

(صالة أنيقة في منزل المهندس أسامة محمود، يجلس أسامة على أحد الكراسي الكبيرة، يبدو عليه الشرود والتفكير العميق، يُمسِك رأسه بين يديه، تدخل زوجتُه ليلى ومعها حقيبة، وقد ارتدت ملابس الخروج، وحينما يسمع وقْع قدميها يرفع رأسه، ويقول لها بصوتٍ حزين):

أسامة : هل أنت جادَّة فيما قلت؟
ليلى : ألم نتَّفق على كل شيء؟ وكتبتُ لك تنازلًا عن كل شيء؟
أسامة : ولكن بقي شيء لم نتَّفق عليه بعد!
ليلى : ما هو؟
أسامة : الجنين.
ليلى (ساخرة) : الجنين! إنه داخلي أنا بكل أسف، وأنا حرة فيه، أبقيه أو لا أبقيه!
أسامة (غاضبًا) : أنا أبوه ومن حقي أن أمنعك.

(ليلى تنظر إليه ولا ترد.)

أسامة (مستعطفًا) : ليلى، اسمعيني، لا تكوني حمقاء، إنك لا تُحبينني ولا تُريدين الحياة معي، هذا من شأنك، ولكن هذا الطفل ابني أنا.
ليلى : ولكن ألا ترى أنه من الأصلح لثلاثتنا، أنا وأنت والطفل، ألا يُولد الطفل أبدًا؟ كيف تكون حياته حينما يَكبُر ويعلم أن أمه وأباه لا يعيشان معًا؟
أسامة : ولماذا أمه وأبوه لا يَعيشان معًا؟
ليلى : لأن أباه لا يفهم أمه.
أسامة : ولكنه يُحبها!
ليلى : إنه يحب نفسه.
أسامة : ألأنَّني أريد أن أوفِّر لك الراحة؟ ماذا تأخذين من هذا الجري والتعب كل يوم؟ عشرين جنيهًا كل شهر؟ سأُعطيكِ هذه العشرين جنيهًا في يدك كل شهر، ولا داعي أبدًا لأنْ تكون زوجتي موظفة حكومية، تلهَث وراء الأتوبيس كل صباح.
ليلى : إنك لا تفهمني، أنا لا أعمل من أجل العشرين جنيهًا، إنني أحب عملي.
أسامة : عملك؟ إن عملك الأساسي في الحياة هو بيتك، هو زوجك، هو أنا!
ليلى : أنت؟
أسامة : نعم أنا! ألا أكفيك؟!
ليلى : ولكنك لا تُحقِّق ذاتي، إنك تُحقِّق ذاتك أنت، وما أنا إلا وعاء يَحمِل أطفالك، الذين تُسمِّيهم باسمك، ويَصنع أكلك الذي تهضمه وتُحوِّله إلى فضلات، إنني أعيش من أجل وجودك. إن وجودي أنا لا وجود له.
أسامة : كيف ذلك؟ أنت زوجتي، حرم المهندس أسامة محمود!
ليلى : حرم المهندس أسامة محمود! حتى اسمي تُلغيه وتضع اسمك على غلافي، يا لك من أناني! (ثائرة) لا أريد هذا، لا أريد هذه الحياة، لست في حاجةٍ إليها، أستطيع أن أعيش وحدي، وأنفق على نفسي، صحيح أنه لن يكون بيتًا كبيرًا كهذا، ولكنه سيكون بيتي أنا، أضع عليه اسمي: «ليلى صادق»، سيكون بيتًا صغيرًا بسيطًا، ولكني سأحبه؛ لأنه سيكون ملكي، وسأعيش فيه كما أريد. سأكون حرة، لستُ تابعة لأحد، سأحقق ذاتي، وأشعر بفرديتي، ويمكنني أن أستأجر «خادمة» صغيرة، تغسل ملابسي وتصنع طعامي، وتقوم مقام الزوجة — كما يراها الرجال — وتتولَّى هذه الأعمال التافهة الجامدة، التي لا يُمكن لأي إنسانٍ ذكي أن يجعلها حياته.
أسامة : لقد أفسدك التعليم والعمل، لو لم تتعلَّمي وتتوظَّفي، لما كان في إمكانك أن تتركي هذا البيت، ولعشتِ معي راضيةً قانعة. لا يُمكن أن تسير الحياة وقد أصبحت النساء رجالًا.
ليلى (ساخرة) : النساء رجالًا! ومَن قال إن المرأة تصبح رجلًا إذا تعلَّمت، وعملَت وأصبحت إنسانًا له كيانه واسمه؟ هل خُلِقت المرأة لتطبخ وتغسل؟
أسامة : خُلقت لتكون أمًّا. الرجل لا يُمكنه أن يلد أو يُرضِع الأطفال. إن الطبيعة خلقت للمرأة رحمًا ليَحمِل داخله الجنين، وخلقت لها ثديين ليرضع منهما. لماذا لا تحاكمين الطبيعة لأنها خلقتك امرأةً ولم تَخلقْكِ رجلًا؟
ليلى : إنني لا أريد أن أكون رجلًا؛ لقد خُلقت امرأة ولا أشعر بأي نقصٍ في طبيعتي. إن الرجل هو الذي أدخل في نفس المرأة أنها أقل منه، وأضعف منه، وقال لها إن في داخلك رحمًا، والطبيعة أرادت هذا النقص فيك. ولكن الطبيعة بريئة، هذا الاختلاف لا يعني أن المرأة أضعف من الرجل، وأقل منه، وأن له الحق في أن يفرض عليها سيطرته وحمايته. الطبيعة تنطق بأن المرأة إنسان كالرجل، لها رأس مثل رأسه، ومخ مثل مخه، ويدان مثل يديه، ورِجلان مثل رجليه، وكتفان مثل كتفيه، وقلب مثل قلبه، وكبد مثل كبده. وإن الحمل والولاة وظيفة واحدة من وظائفَ كثيرة، يقوم بها جسم المرأة. لماذا تتَّهم المرأة بالضعف، حينما يُخرِج رحمُها محتواه، ولا تتَّهم الرجل بالضعف، حينما تُخرِج أمعاؤه محتوياتها مثلًا؟ إن الفلَّاحة تلد طفلها في العراء، وتضعه على رأسها في القفة، وتُواصِل عملها في الحقل، تمامًا كما ينتحي زوجها وراء شجرة ليَقضي حاجتَه، ثم يعود إلى مواصَلة عمله. لماذا إذن يستعبد الرجل المرأة، ويُلغي ذاتها لتُصبح تابعةً له طول العمر؟
أسامة : إنَّ منطقكِ عجيب! لم أسمع في حياتي امرأة تتكلم كما تتكلمين. إن المرأة ضعيفة، حتى ولو لم تحمل وتلد، إنها امرأة. جسمها ضعيف، وعواطفها متقلِّبة تطغى على تفكيرها، إغراؤها سهل. إنها في حاجةٍ إلى رجل يقودها، إلى رجل تتبعه، ومَن تتبع المرأة إذا لم تَتبعْ رجلها؟
ليلى : وهل لا بد للمرأة أن تكون تابعةً لأحد؟ ألا يمكن أن تكون مستقلة؟ إن منطقك يُشبه منطق الإنجليز حينما احتلوا مصر، قالوا إنها ضعيفة وتحتاج إلى حماية، ولكن حمايتها ضد مَن، وهم الذين يعتدون عليها؟ حمايتها ضد أنفسهم؟ إن المرأة ليست ضعيفة كما تقول، عواطفها لا تغلب تفكيرها، وإغراؤها ليس سهلًا. إن المرأة تعرف كيف تحكم عواطفها وغرائزها طوال حياتها. بعض النساء يَعِشن في عذريةٍ دائمةٍ ولا يتكلَّمن، وبعض النساء يَطوين قلوبهن على مشاعرَ لا تجد طريقًا إلى النور، والمرأة تقاوم الرجل دائمًا، والرجل يلهث وراء المرأة دائمًا، وتقول إن المرأة ضعيفة لأنَّ إغراءها سهل! ما بالك إذن بالرجل الذي في غير حاجةٍ إلى إغراء على الإطلاق! إنَّ الرجل هو الذي في حاجة إلى حماية!
أسامة : ولكن القوانين كلها تفرض حماية الرجل للمرأة؛ فهو الذي يختارها، وهو الذي يتزوَّجها، وهو الذي يُطلِّقُها، وهو الوصيُّ عليها لا يُمكن أن تُخالفه. هذه هي القوانين التي وضعتها الطبيعة، وتسير عليها كل النساء.
ليلى : الطبيعة لم تضع قوانين، الرجل هو الذي شرعها كما يهوى، هو الذي شرع سيادته.
أسامة : ولكن المرأة تحبُّ من الرجل أن يكون سيدها، إنها تعشق وضعها عند قدميه.
ليلى : المرأة لا تَعشَق ذلك، لقد ربَّوها على أن الرجل هو السيد، ولقَّنُوها وهي طفلة أنها أقل من أخيها الولد، وأن أمَّها أقل من أبيها، وقتَلُوا شخصيتها، وفرديتها، وأعدُّوها لمُتعة الرجال! ماذا تنتظر من امرأةٍ تتربى هذه التربية غير أن تتزين وتتعطر، وتدلِّك ساقيها، وتزحَف إلى قدمي الرجل؟
أسامة : إن المرأة الطبيعية هي التي تفعل ذلك. ما قيمة المرأة في الحياة، إذا لم تجذب الرَّجل إليها؟ وما قيمتها إذا لم تتزَّين وتتعطر؟ أم أنك تريدين أن يتزيَّن الرجل للمرأة؟
ليلى : وهل من الضروري أن يتزين أحدهما؟ لماذا لا يكون كلٌّ منهما على طبيعته؟ لا أدري لماذا تضع المرأة على وجهها تلك المساحيق البيضاء، والحمراء، والخضراء! إنها تفسد ملامح الوجه، وتُخفي لون البشرة الطبيعي الذي يعكس النفس والروح. إنني أرى وجوه النساء في الشارع، فيُخيَّل إليَّ أنه وجه واحد مكرر، كلهن مُتشابهات، كأنهن يلبسن وجوهًا صناعية في حفلةٍ تنكرية! إنني لا أنتمي إلى هؤلاء النساء، أنا لست منهن!
أسامة : بالطبع لستِ منهنَّ؛ فأنت لست امرأة، ولكن إذا لم تكوني امرأة فماذا تكونين … رجلًا؟
ليلى : لستُ رجلًا، ولستُ امرأة، كتلك التي تُسمِّيها أنت امرأة، إنني لا أعترف بتسميتك؛ لأنني امرأة في أعماقي، ولكني من نوعٍ لا تعرفه، ولا تستطيع أن تعرفه؛ إنه يبدو لك غريبًا شاذًّا كأنه جنس ثالث.
أسامة : امرأة! إنني لم أرَ في حياتي امرأةً ولا رجلًا مسترجلًا مثلك، وبالطبع الرجل هو الذي يحكم على أنوثة المرأة.
ليلى (ساخرة) : أعتقد أن أمامكَ خمسين سنة من القراءة والفهْم، حتى تتمكَّن من أن تحكم على أنوثتي وتفهمها.
أسامة : ها … ها … مَن قال إن الأنوثة في الكتب؟ إنها إحساس فطري، يشعر به الرجل نحو المرأة.
ليلى : كل إحساس فطري يحتاج إلى التهذيب، والدراسة والتطور. إنَّ الرجل الذي يعيش في الغابة، يفهم أنوثة المرأة فهْمًا، يختلف عن الرجل الذي يعيش في نيويورك. إن الأنوثة منذ خمسين عامًا، كانت تختلف تمامًا عن الأنوثة في هذه الأيام، ثم دعني أسألك أولًا: ما هي الأنوثة؟
أسامة : الأنوثة هي الجمال.
ليلى : الجمال! أي جمال؟
أسامة : جمال المرأة.
ليلى : أي شيء في المرأة؟
أسامة : جسمها، ووجهها …
ليلى : جسمها ووجهها! هل هذا هو الجمال؟ إن جسم المرأة ووجهها ليسا إلا جلدها الخارجي، تستطيع أن تُغيِّره كالحرباء، مرة خضراء على العشب، وأخرى صفراء على الرمال. إنَّ الجَمال في رأيك يوجد في علبٍ أنيقة في الصيدليات، ومحلات الخردوات، ويُستورَد لنا من ماكس فاكتور وكريستيان ديور…
أسامة : أين يوجد الجمال إذن؟
ليلى : تحت الجلد، في الدم، الدم يجري في كل كيان المرأة، ويغذي قلبها ومخَّها. الدم يَرسُم رُوح الجسم، ويحدِّد تعبيره وأحاسيسه، ومفاهيمه، وملامحه …
أسامة : وإذا كانت الملامح قبيحة؟
ليلى : القُبح ليس في الملامح، القُبح في الدم. تصوَّر امرأة عيناها واسعتان برَّاقتان، ولكن نظراتها تُشعُّ الكراهية أو الغيرة أو التكلُّف أو البرود، هل تقول إن عينيها جميلتان؟ إنَّ جمال العينين يكمن في جمال النظرة، النظرة التي تعبِّر عن المعنى الجميل؛ كالحنان، أو الحب، أو الرقة، أو التسامح … النظرة الدافئة الطبيعية التي تشعركَ أنك أمام عينين نابضتين بالحياة يجري فيهما دمٌ ينفعل ويتأثَّر ويَعكِس صورَ الحياة كلها، وليستا عينين متشنجتين تروحان وتجيئان كقطعتي زجاج.
أسامة : الواقع أنني لم أدرس علم النفس، ولا علم الأرواح، إنَّني أحكم على الناس بمظهرهم، ليس لديَّ وقتٌ لأنْ أغوص في الأعماق، إني أُضيِّع حياتي لو أنني فعلت ذلك.
ليلى : بل إنك تضيع حياتك؛ لأنك لا تفعل ذلك.
أسامة : اسمعي يا ليلى، لقد ضقتُ ذرعًا بهذه المناقشة، إنني أحبك لكنك تعمَلين على القضاء على هذا الحب.
ليلى : حب؟ إنك لم تحبَّني قط! لقد أحببتَ امرأة غيري تلبس جلدي.
أسامة : أنا لا أفهم هذه الألغاز، أنا رجل مهندس، لا أفهم إلا في الهندسة، ولكني لا أمانع في أن تكون هوايتك اعتناق هذه الألغاز، على ألا تتعدَّى حدود النظريات، أتعرفين؟ لا تتعدَّى الكلام. والآن ماذا تنوين عمله؟ هل ما زلتِ مُصرة على الطلاق؟
ليلى : طلاق؟ تلك الورقة التي يكتبها المأذون لنصبح غرباء! ولكن ألم تَشعُر أننا كنا غرباء، ونحن في سريرٍ واحد؟
أسامة (يشير إلى بطنها) : ولكن هذا الجنين يشهد على أننا لم نكن غرباء.
ليلى : الجنين لا يشهد على شيء إلا على الزواج، إنني أحس أنه ليس طفلي.
أسامة : ليس طفلك؟ ماذا تقولين؟
ليلى : لستُ إلا وعاءً يَحملُه ويُغذيه، إنه قطعة غريبة عني!
أسامة : لقد فقدت عقلك بلا شك، أنت في حاجةٍ إلى طبيب.

(ليلى تُمسِك رأسها بين يدَيها وتنتحب، أسامة يقترب منها ببطء ويضع يده على كتفها، ليلى تستمر في النشيج.)

أسامة : ليلى … ليلى، ما الذي أصابك هذا الصباح؟ لمَ كل هذه الثرثرة؟ لأنني طلبت منك أن تتركي العمل؟ كفى، كفى، لا تبكي، اذهبي إلى العمل، ولا داعي لكل هذه الثرثرة.
ليلى (ترفع رأسها وتنظر إليه في دهشة) : ولكنني …
أسامة (ساخرًا) : لا تُحبينني! ولكنني أحبك.
ليلى : كيف؟
أسامة : إنني أحبك ولا أطلب منك أن تُحبيني، ويكفيني أنك لا تحبين أحدًا غيري.
ليلى : ولكني قد أحب أحدًا غيرك.
أسامة : لا أظن.
ليلى : لماذا؟
أسامة : لأنك لن تجديه، لن تجديه يا ليلى.

(يَقترب منها، ويأخذ الحقيبة من جوارها، ويتجه إلى داخل البيت. تبقى ليلى وحدها في الصالة، تضع رأسها بين يديها وتبكي.)

(يُسدل الستار.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤